أخلاق غير عادية
ما بين الفقر ومقاومة الفقر , وما بين الحرمان الاستهلاكي ومقاومة الجوع الاستهلاكي , وما بين الشكل وكبت الرغبات , عاشت ليلى سنوات عمرها العشرين , حين تقدم ابن عمها لها , معدم وفقير , طالبا الزواج منها , فرفضته أملا في الزواج بمدرس علمها التاريخ العربي والإسلامي وفشلت في امتحان القبول سنة وراء سنة تقربا له وحبا فيه , وهو يماطل في الوعود , ويكثر من الوعيد, حين يختلي بها وسط الأشجار وبين النخيل , في غابات المدينة الساحلية ذلك الحين ..
ومضت عليها الأيام والأسابيع والشهور على هذا الحال ما بين الأنين والحنين في حب اكتشفت أنه الوهم بعينه حتى استيقظت على يوم تزوج فيها محبوبها اللعين من فتاة بدينة , والدها تاجر معروف في المدينة , فكانت لطمه قاسية وعنيفة أصابت عواطفها في الصميم , وارتج لها عقلها وهي ابنه ذلك الرجل الطيب المكافح الفقير الذي لم يبخل على أولاده بشي في حدود قدراته وإمكانياته المتواضعة , ورغم كل تلك الظروف العصبية التي واجهتها , فقد صممت على النجاح وحققته أملا في دخولها الجامعة , لكن فقر والدها وقف حائلا بينها وبين تحقيق حلمها في التعليم , ولم يكن أمامها سوى اللجوء إلى شقيقها الذي يعمل بوظيفة فنية في إحدى شركات النفط بالخليج العربي لتعمل بوظيفة تتناسب مع مؤهلها البسيط , ترفع من شأنها وتساعد أهلها المكافحين , وتساعدها هي على إيجاد زوج مناسب ومثالي لها في الخليج , حيث يذوب الجميع في قوائم الرواتب والأجور دون تمييز في الطبقات أو في الأخلاقيات , كما قال لها ذلك شقيقها المدرس الكبير: ستجدين هناك الأزياء والعطور والزوج الذي تتمنين .
وبعد شهور من الاستعداد للسفر , والتدريب على الآلة الكاتبة في معهد متوسط لمبادئ السكرتارية , حملت حقيبتها وتوجهت بكل همومها وأثقال سنوات عمرها إلى منطقة النفط العربي , وهي تحاول أن ترسم صورة وردية اللون , مبهجة للنفس عن حياتها القادمة , وما ينتظرها في تلك الحياة من ثراء .. نعم , فكل ما فكرت فيه هو الثراء , ولا شئ غير الثراء وعلى أضعف الإيمان كانت تجوب بأفكارها اتجاه زوج غني وثري , وفي أسوآ الحالات ستبحث عن زوج طرطور وغني يسير معها كيفما تشاء , فالصدمة العاطفية التي تعيشها لم تترك مجالا لأي عاطفة عندما بالبقاء .
عانت كثيرا , وتحملت كثيرا , وصبرت كثيرا وهي تعيش حياتها الجديدة في بيت شقيقها وزوجته المتذمرة دائما والتي تعاملها كما تعامل السيدة , عاملة بيتها , حتى جاءها الفرج بعد ثلاثة شهور من الحياة وحيدة مهمومة بلا عمل يعزز مكانتها ويحقق آمالها , وأعدت أوراقها وشهاداتها استعداد لاختبار عملي ستؤديه على الآلة الكاتبة في شركة للنفط .
وفي اليوم التالي ذهبت إلى شركة النفط بحدية وحماس عملي , وحاولت أن تبدو أنيقة قدر الإمكانيات المتاحة لها , لكنها فشلت في إقناع المسئول عن الاختيارات بشكلها فقد استخف بها ولم يعرها اهتمامه , بل إنه لم يرفع عينيه للنظر إليها , رغم أنه قال لها بعد اكتراث : لقد نجحت في الاختبار و وعليك غدا لكي تستكملي إجراءات تعيينك ...!!
ولم تتسع لها الدنيا كلها على اتساعها من فرحتها , رغم عدم اهتمام المسئول بها فشكرته بصوت متهدج , ولم يرد عليها , منشغلا مع سكرتيرته الحسناء في بعض الأوراق .
كان منظر تلك الحسناء مع ذلك المدير المغرور , أول الأشياء التى داعبت أحلامها الفتية , فكانت تنفق أيامها وراء الآلة الكاتبة تحلم يوما بعد يوم بمكانة تلك السكرتيرة , وبجمالها وأناقتها .. ثابرت على أن تكون لها شخصيتها القوية والمميزة وسط زملائها وزميلاتها بذكاء بدا كأنه البراءة نفسها .
وكان معها في مكتبها ومن نفس مدينتها , " فادي " شاب مهزار , يضحك ويلهو دائما مع السكرتيرة الحسناء , أنه الثغرة الوحيدة أمامها لكي تشعر بذاتها وتستعيد إنسانيتها وطموحاتها , فلماذا لا تبدأ معه علاقة تبعث الحياة في أنوثتها وجمالها ؟ أنها تعلم بأنه ليس الشاب الذي يمكنه إقامة علاقة حب مع مثل تلك السكرتيرة الفاتنة ؟؟ اقتربت منه , ووجدت عنده الكثير من الشحنات العاطفية المكبوتة والمختزنة , فأوهمت نفسها وأوهمته بعبارات الحب والغزل , واكتشفت معه ميزة لم تنتبه إليها وسط البريق اللامع الذي تعيش فيه السكرتيرة الفاتنة , وتلك الميزة في لون عينيها الخضراوتين الواسعتين الساحرتين .. !!
ومضي عليها عام أو أقل قليلا في العمل بالشركة , حيث دعتها زميلتها السكرتيرة إلى حفلة زواجها , وهي تقول لها : استعدي لتأخذي مكاني , فزوجي لا يريدني موظفة في أى شركة غير شركته , ولا يقبل أن أكون سكرتيرة في غير مكتبه .. ولكن كيف تصل إلى مكتب السكرتيرة , ذلك المكان الذي حددته هدفا لها منذ أول يوم عمل في حياتها بشركة النفط , فقد صدر قرار بنقلها إلى مكتب آخر من مكاتب الشركة , لتعمل سكرتيرة مساعدة عند مدير إداري عربي آخر بجانب سكرتيره الهندي الذي لا يجيد غير اللغة الأوربية والإنجليزية .
ضايقها في بداية الأمر , ذاك المدير العربي الجديد , الذي تسبب في عرقلة حلمها بمنصب السكرتارية ولكنها وجدته أليفا وطيبا وودودا , إلا أن ذلك الهندي لن يتزحزح من مكانه أبدا وسوف تبقي هي على الدوام السكرتيرة المساعدة له مهما كان الحال فلم تجد أفضل من أن تتصنع معه الدلال , وتمازحه على الدوام , حتى يطمئن لها , ويفتح أمامها في العمل أسرارا وأسرار , ولم تمنعه من أن يمد يده إلى وجنبتها في بعض الأحيان , فهي ليست بالفتاة المتعصبة , لقد كانت أذكى من أن تكون متسرعة لتتخطى مراحل حياتها دفعة واحدة دون أن تصعد السلم درجة درجة , وبهدوء وتأني الأذكياء .. ولم يكن صعبا عليها أن تتخلص من السكرتير الهندي رغم خبثه ودهائه , وسط اهتمامها الجديد " بياسر " الذي كان يتعامل معها على أنها تلميذة يوجهها وبتشجيع منها وهي تقبل كلمات الغزل , وقصائد الحب وتستمتع إليه بحب .. يبدو على قسمات وجهها واضحا .. بل إنها كانت تقاسمه طعامها بعض الأحيان , تغادر الشركة في نفس السيارة أكثر الأحيان وتشكو له هذا أو ذاك من الذين يحاولون استمالتها بعبارات الغزل والمداعبة , المهم في الأمر أن قلبه تعلق بها , بتشجيع وتحريض منها إلا أنها لم تكن حريصة على هذا التشجيع بعد أن صارحها بحبه فقد قالت له : إنها غير مستعدة لأمر الزواج الآن .
رغم ذلك .. الاستهتار الذي كانت تعيشه حرصت دوما على أن تحفظ لنفسها ولسمعتها الطيبة خط الرجعة دائما بمظهرها المحافظ المتدين وأن تحفظ عذريتها مهما كان استهتارها وتبذلها , ولا تعط فرصة لأي من المقامرين معها لكي يمسك عليها أمرا واحدا يهدد فيه سمعتها , وكلما كان يحاول أحدهم استدام ذلك التهديد معها , كانت تهادنه لفترة من المزمن , متقدمة للناس على أنه يلاحقها وهي ترفض ملاحقته , وتخشى أن يلوث سمعتها بأقاويله عنها , والجميع يصدقها وهي التي تأخذ شكل الإنسانة المحافظة المتدينة في كل تصرف من حياتها المستمر .
كان وحده " ياسر " الذي لم تستطع تفسير الأمور أمامه , حتى أولئك الذين اختلطت بهم كانت قادرة على تفسير تساهلها معهم باللطف أحيانا وبالإقناع والمناقشة أحيانا أخرى بكونها فتاة عاطفية وعصرية ككل الفتيات العصريات , اللاتي لا يجدن في الرقص أو السهر أو القبلات ما يعيب الفتاة العصرية في أخلاقها وسمعتها ..
وسألت نفسها لم لا تجرب مرة ثانية مع " ياسر " المثقف لعله يغفر لها أخطاء الماضي , ويتجاهل كل ما سبق بعين المثقف الواعي الناضج – خاصة وأن زوجته عاقر لم تلد حتى الآن رغم مضي أربعة أعوام زواجه بها وهي تعلم أنه يفكر بالزواج مرة ثانية , هذا ما سهل مهمتها معه , كرجل متزوج سابقا , ويبحث عن زوجة ثانية ..!!
وتحرشت به مرة , واثنتين وثلاثا وهو يعيدها عنها , وأيقظ فيها علامات الحب ورموزه الأولى مع أستاذ التاريخ في المدرسة الثانوية , فتعلقت به أكثر فأكثر , وشعرت بعدم قدرتها على الحياة بعيدة عنه , وصرخت في وجهه : أنك غبي , غبي , وأنا غبية لأني أحبك ..
للمرة الثانية أو الثالثة في حياتها تعترف بحبها لرجل .. كان حبها الأول مع أستاذ التاريخ , وها هو حبها ينضج ويتضح مع " ياسر " بعد سنوات طوال من الشد والجذب .. ولكن " ياسر " الذي أحبها وبصدق طوال السنوات السابقة سألها قائلا :
- وماذا نفعل بالماضي ..؟؟
- فقالت : نلغيه من حياتها ..
- لكني جزء من ماضيك ..؟؟
- هذا دليل حبي إليك منذ سنين ..
- لكنه لم يكن عامرا بالحب ؟؟
- لنقل أن الغيرة والشك سببا في الهجر .
- وما هو دليلك ؟؟
- أو تنكر إنني ابتعدت عنك أو تجاهلتك يوما .
- ولكنك كذلك مع الجميع ..؟
- أنت الوحيد الذي أنبني وجرحني دون الجميع ..
- وهل يكفي هذا دليلا ..؟
- دفاعي عن نفسي أمامك الآن واعترافي بحبي لك ..
- وماذا عن المستقبل ..؟؟
- حب دائم ينسي تجربة الماضي عندي وعندك ..
- وكيف أنسى ..؟؟
- بالحب , سأملأ حياتك حبا .
- أتخاف مني , وكل الأمر في يدك من طلاق وفراق ..!!
- وهل تجديني رجلا مزواجا ..؟؟
- هل ستنكر أنك تزوجت قبلي ..؟؟
- لن تخدعيني ..؟؟
- حاشا لله , لقد وأبحث عن الاستقرار ...
- أخشى أن تتغيري بعد الزواج ..
- هل انهارت صورتي لديك إلى هذا الحد ..
- أكره أن أبدو غبيا أمام الناس ..؟؟
- ثق بأنني لن أكون السبب يوما من الأيام ..
- ونفقات الزواج فأنا رجل مفلس لا أملك المال ..
- سنتدبر أمرنا سويا براتبي وراتبك ..
- وعملك الحالي كسكرتيرة تبتسم للجميع ..!
- ماذا فيه ؟؟
- شرطي الأول والأخير أن تتركي وظيفتك في السكرتارية إلى أي مكتب آخر مهما كان ..
- سأحاول قدر استطاعتي إقناع المدير برغبتك .
- سيكون ذلك الدليل الوحيد على حبك لي ..
- اتفقنا .
- اتفقنا ..