منهج كتابة التاريخ الإسلامى
الجريمة الكبري التى تمت بحق التاريخ الإسلامى أن بعض المؤرخين والمثقفين المعاصرين أخذوا عن تاريخ الطبري واعتبروا مجرد ورود الروايات فيه معناها أن الطبري يعتقد صحتها وهذا غير صحيح حيث نص الطبري فى مقدمة تاريخه على أنه جمع كل الروايات التى أتت إليه وبين إسنادها ومصادرها وترك للمحققين من بعده النظر فى صحتها وتلخيصها
وهذه جريمة تتابعت على مر الزمن لأن التاريخ مثله مثل الحديث النبوى خضع للتحقيق والتصحيح والتضعيف عن طريق تفنيد ونقد المصادر الأولى
ولو أخذنا تاريخ الطبري مثالا وهو المرجع الأم الأكبر فى مجاله فإن مرويات الكذابين من الشيعة الإخباريين أحصاها الدكتور خالد كبير علال فزادت عن ثلاثة آلاف رواية باطلة سندا ومتنا وأصحابها أربعة فقط من رواة الشيعة المطعون فيهم
والمشكلة الكبري أن تلك الروايات تعالج الفترة الأكثر حساسية فى التاريخ الإسلامى وهى الفترة من وفاة النبي عليه الصلاة والسلام إلى استشهاد الإمام الحسين رضي الله عنه "1"
وانتشرت تلك الروايات المغلوطة بين العامة وبين أقلام المثقفين المعاصرين باعتبارها من المسلمات التاريخية رغم أن العلماء قديما وحديثا بينوا مدى بطلانها
وما حدث فى الفتنة يمكن تلخيصه فى الآتى
أولا : أجمع المسلمون بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام على تولية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لسابقته وفضله وولايته أمر الصلاة فى حياة النبي عليه السلام عند مرضه حيث أصر النبي عليه السلام على أن يتولى أبا بكر الصلاة وقال فى ذلك حديثا شهيرا ورد بعدة طرق منها كما فى البخارى
(
يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر)
وقد روى البخارى حادثة السقيفة التى نجمت عنها مبايعة الصديق بالرواية الصحيحة حيث تم الاتفاق على البيعة بلا منغصات وقبلها جميع الصحابة فيما بعد بالشورى حيث أن النبي عليه الصلاة والسلام ترك الأمر فى الحكم والخلافة شورى بين المسلمين وانتهى بذلك عصر النبوة والعصمة
وعليه فالروايات المزيفة التى تروى عن رواة الشيعة كأبي مخنف لوط بن يحيي الأزدى أن هناك خلافا وصراعا دب على السلطة كلها عبارة عن ترهات دسها هؤلاء الإخباريون ولم تثبت قطعا بأى سند صحيح , وقد لجأ المؤرخون لرواية الطبري ونقلها بعضهم وهى رواية منقولة عن الشيعي
أبي مخنف لوط بن يحيي الذى أجمع المحدثون على أنه من أهل الكذب "2"
والرواية الصحيحة الواردة فى البخارى تغنى كل طالب حق عما سواها
وفضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أكبر من أن يسعها مقام الكلام , فيكفيه أنه كان ثانى إثنين إذ هما فى الغار وخصاله وفضائله التى بينها النبي عليه الصلاة والسلام لا تكاد تحصي وقد نصر الله به الإسلام أولا وآخرا , حيث شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بأنه الوحيد الذى لم يكن فى إيمانه تردد ولا تلعثم
ولقبوه الصديق يوم أن كان الذى بادر إلى تصديق النبي عليه الصلاة والسلام فى رحلة الإسراء والمعراج مع إنكار القوم لها ,
وهو الذى دعا أساطين الصحابة فيما بعد للإسلام كما نصر الله به المستضعفين حيث بذل ماله كله فى سبيل الله وفى ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام
(
ما نفعنى مال مثلما نفعنى مال أبي بكر )
وعندما تولى الخلافة وبدأت أحداث الردة وارتجفت الأرض نارا من حول المسلمين ما بين ردة القبائل داخل الجزيرة وبين طمع الروم فى حرب المسلمين أيضا
ولكن كان هناك أبو بكر ,
صاحب العزيمة التى لا تلين والثقة التى لا تنضب فحارب المرتدين فى نفس الوقت الذى نفذ فيه أمر النبي عليه الصلاة والسلام فى إنفاذ جيش أسامة بن زيد إلى حدود الروم وردعهم , رغم ما يعنيه هذا من خطورة عندما تبقي المدينة بلا جيش فى مواجهة المتربصين , وقال فى ذلك كلمة تكتب بماء الذهب
(
والله لو لعبت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين فى المدينة ما تركت أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام )
ثم شكل القيادات والسرايا والبعوث وأخمد نار الفتنة فى الجزيرة ولم يتوان بعدها أو يستريح بل شكل الجيوش الإسلامية لفتح فارس والشام , فكانت البداية التى تواتر عقدها بعد ذلك فى عهد الفاروق
وتوفي رضي الله عنه ودفن إلى جوار النبي عليه الصلاة والسلام طاهرا مطهرا , وقد لعبت الروايات الشيعية دورا فى محاولة تشويه صورته بأسلوب ساذج فأثاروا الشبهات حوله وتكفل العلماء بالرد عليها تفصيلا "3"
ثانيا :
قبيل وفاة أبي بكر رضي الله عنه أوصي بعد استشارة أصحابه على تولية عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة للمسلمين فناقشه فى ذلك بعض الصحابة لما يعرفون من شدة عمر فى الحق فأقنعهم أبو بكر بأنه يترك عليهم خير خلق الله فى زمانه كما هو فى رواية بن سعد فى الطبقات الكبرى "4"
وخرج كتاب البيعة لعمر مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وقرأه على الناس وهم جميعا حاضرون فقبلوه وتولى الفاروق أمر الأمة فكانت أزهى عصور الخلافة
حيث سقطت فى عهده دولتى فارس والروم معا وكانت الجيوش الإسلامية تحارب على الجبهتين معا , فسقطت فارس فى يد كبار مجاهدى الجبهة مثل المثنى بن حارثة وخالد بن الوليد قبل انتقاله لجبهة الشام وأيضا سعد بن أبي وقاص قائد جبهة الفرس فى موقعة القادسية ونهاوند
وسقطت الروم وافتتح بيت المقدس على يد مجموع الجيوش الإسلامية فى الشام بقيادة خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص وزياد بن أبي سفيان ومعاوية شقيقه
أما فى العدل فحدث ولا حرج حيث لا زالت سيرة عمر بن الخطاب تمس الأفق فى عدله وورعه , بل تجاوزت سمعته فى العدل والإنصاف حدود دولة الإسلام إلى الغرب حيث أنصفه الأوربيون فوضعوه ضمن أعظم مائة شخصية فى الإسلام "5"
وفى التنظيم الإدارى قدم للخلافة الدواويين وأنشأ عدة أنظمة إدارية للعطاء والخراج فحقق فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام فى الحديث الصحيح
(
لم أر عبقريا يفري فريه )
وفضائله ومآثره كثيرة جدا وكلها تشي بفرط عدله وحياديته فى الحكم وتبجيله وتوقيره للصحابة رضي الله عنهم ,
ولا ننسي أن نشير إلى رواية غير صحيحة تداولتها كتب التاريخ قديما وحديثا وهى رواية لا تثبت , وهى قصة إسلام عمر بن الخطاب حيث تقول القصة الشهيرة أنه أتى يريد قتل النبي عليه السلام فى دار بن الأرقم فسمع أن أخته فاطمة بنت الخطاب أسلمت وزوجها فحول وجهته إلى بيتها وضربها على وجهها فلما سال الدم رق لها وطلب منها أن يري صحيفة القرآن , وعندما رآها وقرأ ما فيها دخل فى الإسلام
هذه الرواية لا تصح ولم تثبت سندا رغم شهرتها الواسعة لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فى بطحاء مكة عند الكعبة على يد النبي عليه الصلاة والسلام بعد حوار قصير بينهما
ونلفت النظر هنا إلى نقطة هامة للغاية وهى أن الشيعة استغلت هذه الرواية الشهيرة عن ضرب عمر لفاطمة شقيقته لكى تسقط الرواية على فاطمة الزهراء رضي الله عنها فاخترعوا أسطورة أن عمر ضرب الباب على فاطمة رضي الله عنها وكسر ضلعها وذلك لإجبار على بن أبي طالب على البيعة لأبي بكر
وكأن عمر وأبا بكر وغيرهما من الصحابة أعضاء فى حكومة ثورية كالتى يشهدها عالمنا المعاصر !
ونحن لا نحتاج قطعا إلى أن نثبت زيف هذه الأسطورة التى تمثل عارا على جبين الرافضة إلى اليوم حيث أنها أظهرت علىّ رضي الله عنه بصورة العاجز عن الدفاع عن زوجته أمام اعتداء مباشر , !
ومن الملاحظ أن عددا من مراجع الشيعة اليوم مثل محمد حسين فضل الله المرجع الشيعي اللبنانى شعروا بخزى هذه الرواية التى ينشرونها بين عوامهم لمجرد تشويه صورة عمر رضي الله عنه بما لا يقبله العقل ولا يقره النقل فأنكروها إنكارا شديدا
وكما قلنا سابقا أن الحقد الشيعي على عمر متأجج بشكل فادح بسبب دوره فى إسقاط فارس ولهذا لعب الفرس الذين تستروا بالتشيع لعبتهم فى اختلاق هذه الروايات التى تناسب طبيعتهم ومجتمعهم ولكنها تتنافي حتى مع أخلاق العرب فى الجاهلية فضلا عن الإسلام
ثالثا :
بعد اغتيال عمر بن الخطاب واستشهاده رضي الله عنه بيد أبي لؤلؤة المجوسي الفارسي لعنه الله , أوصي قبيل موته بأن يكون الأمر شورى فى الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة , يتداولوا الأمر ويرتضون الخليفة الثالث فيما بينهم
ومن فرط عدله رضي الله أبي أن يدخل فى الشورى صهره سعيد بن زيد رغم أنه من العشرة وذلك تلافيا للمجاملة التى قد تكون نظرا للقرابة بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فتخيلوا أى حيادية وأى عدل كان يمثله الفاروق رضي الله عنه , فرغم أن سعيد بن زيد من العشرة وفضله معروف ويحق له الدخول فى الشورى والاختيار إلا أن مجرد قرابته من عمر وشكه أن الناس قد تجامله لذلك قام باستبعاده على الفور
ومن الإشاعات المغرضة التى روجتها الروايات الباطلة أنه أمر بقتل أصحاب الشورى إذا لم يتفقوا وهذا مما يدل على الغباء فى التزوير قبل أن يدل على خبث الطوية , فكيف يجرؤ عمر رضي الله عنه على هذا الأمر بحق كبراء الصحابة , وما هو هدفه من ذلك وهو على فراش الموت
والرواية الصحيحة الثابتة أنه اختار أهل الشورى وأمرهم أن يجمعوا أمرهم بينهم على خليفة قبل مضي ثلاثة أيام درء للفتنة
وكان أصحاب الشورى ستة هم عثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف , وفى أول اجتماع تنازل عبد الرحمن بن عوف وفضل أن يكون حياديا دون تزكية أحد , فارتضي به الخمسة حكما بينهم
وتنازل طلحة والزبير وسعد لصالح الصحابيين الجليلين عثمان وعلىّ وبقي الخيار بينهما , فقام عبد الرحمن بن عوف بأوسع استفتاء شهدته الخلافة التى ما رأت من قبل انتخاب خليفة على مستوى القاعدة الشعبية بأكملها قبل ذلك , لأن الخلافة كانت تتم بالتشاور بين أهل الحل والعقد فى المدينة ثم تطرح هذه الزمرة الفاضلة ــ التى كانت تشكل مجلسا أشبه بالمجلس التشريعي ـ اسم الخليفة وتعلنه بين العامة فى المدينة وباقي الأمصار فيتولى الخلافة
أما فى أمر أصحاب الشورى فقد جاب عبد الرحمن بن عوف بيوت أهل المدينة جميعا لثلاثة أيام يستفتى الناس ويري اختيارهم فاختاروا عثمان بن عفان رضي الله عنه إجماعا , فكانت بيعته البيعة الأولى من نوعها فى شعبيتها وذلك لأنه ما من أحد اختلف على تقديمه لسابق فضله
وبايع الإمام علىّ مع المبايعين ولا إشكال وعمل كعادته وزيرا مع الخليفة الراشد عثمان كما كان من قبل وزيرا لأبي بكر وعمر وأصبح من المتعارف عليه بين الصحابة والمجتمع الإسلامى أن العشرة المبشرين هم أسياد الصحابة وأفضلهم الأربعة الأوائل بالترتيب ثم يتساوى الستة الباقون ثم يتبعهم فى الفضل أصحاب بدر ثم أصحاب أحد ثم بقية المشاهد ثم يتساوى الميزان مع سائر الصحابة , وفى هذا المعنى قال عبد الله بن مسعود فى رواية السيوطى بتاريخ الخلفاء
(
كنا نفضل الناس بأبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علىّ ثم سائر العشرة ثم أهل المشاهد ثم نترك الناس لا نفاضل بينهم)
وكانت سنوات خلافة عثمان امتدادا للعظمة الراشدة التى أقرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاستمرت الفتوحات شرقا وغربا واتسعت إلى مدى هائل شمل سائر إفريقية وبلغ خراسان
وتوسعت المعيشة وازداد الرغد بسبب تدفق الغنائم , ومضت السنوات على عهد النبي عليه الصلاة والسلام واتسعت دائرة المسلمين فشملت أقواما من العجم فيهم ما فيهم سواء من النفاق أو الصلاح
وافتعل عبد الله بن سبأ وبعض أقرانه من الفرس فتنة عمياء فى مصر والعراق تهتف ضد الخليفة الراشد وتدعو للثورة عليه وخلعه فى مفاهيم كانت جديدة على العالم الإسلامى الذى كان لا يزال يعيش مشكاة النبوة ,
ومارس رواة الشيعة دورهم المعتاد فألفوا عشرات الروايات عن مطاعن تمس عثمان رضي الله عنه وتروى الفتنة بوجهة نظر لم تكن واقعا ملموسا وأثبت المحدثون وعلماء الأخبار كذبها جميعا "6"
ولم تكن الثورة على عثمان ثورة كما صورها هؤلاء المؤرخون بل كانت شغبا قادته شراذم تعد بالعشرات وتتبعها طبقات من الجهلاء والعوام اجتمعوا فى المدينة المنورة وتجمعوا حول دار الخليفة مطالبين بعزله
هنا ثار الصحابة إلى السلاح لتطهير المدينة من تلك العصابات والدفاع عن الخليفة لا سيما وأن شيئا مما عابه الثوار على عثمان لم يكن أثر واقع , ثم تطورت الأمور بعد رحيلهم واستجابتهم لتهديد الصحابة ليعودوا مرة أخرى إلى المدينة زاعمين أن عثمان أرسل لعامله على مصر عبد الله بن سعد بأن يقتل هؤلاء الثوار وأبرزوا كتابا مفترى على عثمان لا أصل له
واتضحت أبعاد المؤامرة عندما سألهم الإمام على بن أبي طالب كيف اجتمعتم مرة أخرى وقد ذهب أهل العراق باتجاه العراق وذهب أهل مصر باتجاه مصر , كيف عرف أهل العراق بحكاية الكتاب حتى يعودوا فى نفس التوقيت مع أهل مصر ؟!
وكان واضحا للجميع أن الأمر مدبرا بليل فلبس الإمام علىّ سلاحه وطلب من عثمان أن يمنحه الإذن بالقتال فأبي عثمان بإصرار شديد تورعا من تبعات الدماء وراجعه جميع الصحابة فأصر على الرفض
ثم طلب عثمان من أولاد الصحابة الذين يبيتون حوله يحرسونه أن يخرجوا إلى منازلهم وأقسم عليهم بطاعته , فاستغل الثوار الفرصة ووثبت شرذمة منهم إلى دار الخليفة فقتلوه وهو يقرأ فى المصحف
وكانت حادثة الاغتيال غير متصورة فى عقول سائر أهل المدينة لكونهم لم يفكروا فى أن الأمر سيصل بهؤلاء إلى مثل تلك الجريمة لكن ما لم يحسبه الصحابة أن قادة الفتنة كانوا قد انتظموا وصارت لهم أتباع بالآلاف وكلهم من الغوغاء
واهتزت المدينة للحادث الجلل وكاد زمام الأمور يفلت لولا أن استجاب الإمام علىّ للبيعة فخرج للمسجد وبايعه الناس وأولهم الصحابة .,
أما الإفك المبين فكان متمثلا فى عدة روايات اختلقها الرواة الشيعة وكلها مطعون فيها بلا جدال , ومنها على سبيل المثال
* أن الصحابة رضي الله عنهم من ثاروا على عثمان لإنكارهم عليه بعض تصرفاته , وهذا من الكذب بلا جدال فلم يكن بين المشاغبين صحابي واحد ولا حتى عامى من أهل المدينة , ومن أكبر الإفك أن من روجوا هذه الشائعة جعلوا سبب ثورة الصحابة أن عثمان رضي الله عنه ساوى بين الصحابة فى العطاء وكان عمر رضي الله عنه قد فرق فى العطاء بين الصحابة القدماء وبين الذين أسلموا بعد الفتح ,
وهذا المطعن يسقط بمجرد النظر إليه لأنه يتنافي وأخلاق الصحابة فى ذلك العهد وهوان شأن الدنيا عليهم إلى الحد الذى جعلهم يبذلون ما يأتى إليهم من أموال فى سبيل الله ولا يحتفظون لأنفسهم بشيئ ! فكيف يثور أمثال هؤلاء على المال ,
هذا بالإضافة لخلو كتب التاريخ الموثقة من أى ذكر صحيح لو برواية واحدة تشير إلى اشتراك الصحابة فى هذا الأمر بل الروايات تجزم بأن من وقف للفتنة دفاعا عن عثمان هم الصحابة أنفسهم وعلى رأسهم على وطلحة والزبير وبن عمر وغيرهما "7"
والفتنة كانت سببها المؤامرات التى قادتها تلك الشراذم بعد أن انتشرت أموال الفتوحات وعاش الناس فى رغد , فاستغل مروجوا الفتنة غوغاء العوام فى تأليبهم على الخليفة تطبيقا للنظرية الواقعية وهى أن انتشار المال يكون سببا فى البطر وعدم الرضا , "8"
وقد روى عن عروة بن الزبير قال :
(
أدركت زمن عثمان وما من نفس مسلمة إلا ولها حق فى مال الله ) "9"
* ومن المطاعن الساذجة أيضا أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ضعيف الشخصية , وهذا قول استغل المرجون له ما اشتهر عن حياء عثمان رضي الله عنه ولم يفرق هؤلاء بين خلق الحياء وبين الضعف ,
والثابت من قراءة تاريخ خلافة عثمان رضي الله عنه أنه كان لا يقل حزما وقدرة عن عمر بن الخطاب
وأول مظاهر حزمه نجاحه فى الوقوف أمام انقلاب الروم والفرس على الولايات التى فتحها المسلمون , فثارت بعض ولايات العراق وكذلك عاد الروم مرة أخرى لمصر بعد أن أخرجهم عمرو بن العاص وتعرضت الخلافة لهزة مشابهة لتلك التى حدثت فى عهد أبي بكر
فقام عثمان رضي الله عنه بتجهيز الجيوش ووجهها لنقاط التمرد وقضي عليها جميعا وأحكم قبضة الخلافة على أراضيها ,
ولم يكتف بذلك بل قام بإنشاء أول أسطول بحري للمسلمين رغم أنهم كعرب كانوا منعدمى الخبر فى قتال البحر وعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالرغم من قوة قلبه لم يتخذ قرار تكوين أسطول بحري للمسلمين وغزو الروم من الحر لخوفه من هلاك الجيوش أمام خبرة الروم
فجاء عثمان وبشجاعة القائد كون الأسطول ووجهه إلى المعركة الشهيرة ( ذات الصوارى ) وكان انتصار المسلمين ساحقا بكل المقاييس
كما أنه كان حازما فى حسابه للولاة والعمال على عكس ما نشره الأفاكون فقد بلغه أن الوليد بن عقبة وهو أحد ولاته شرب الخمر وجاء للشهادة شاهدين فعزله عثمان على الفور وأقام عليه الحد بلا تردد رغم أنه من أقربائه إلا أنه لم يحابيه فى دين الله ,
بالرغم من أن تهمة شربه للخمر لم تثبت أصلا بشاهدين عدل لأن الشاهدين كانا من المطعون فيهما من أهل الكوفة كما بين ذلك القاضي أبو بكر بن العربي فى كتابه الهام ( العواصم من القواصم ) "10"
* ومن أشهر ما اشتهر عن عثمان رضي الله عنه هو موضوع توليته لأقاربه , ورددته الألسنة بغير تحقيق للأمر , فإذا نظرنا إلى أقارب عثمان رضي الله عنه فهم
معاوية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح والوليد بن عقبة وسعيد بن زيد وعبد الله بن عامر
أما بقية ولاة عثمان فهم من باقي الصحابة وبلغ عددهم 17 واليا , بينما أقاربه خمسة ,
فكيف يمكن أن نعمم الإتهام عليه رضي الله عنه ومن تولى من أقاربه خمسة فى مقابل 17 واليا من غيرهم
وحتى هؤلاء الذين ولاهم عثمان رضي الله عنه لم يحابيهم لأنه ببساطة وضعهم فى نفس الأماكن التى وضع فيها النبي عليه الصلاة والسلام وعمر وأبو بكر رضي الله عنهما أمثالهم من بنى أمية لأنهم أهل عزة وكرم وشرف وسؤدد ولم يتول منهم أحد الإمارة إلا أدى حقها
, فلم يبتدع شيئا جديدا وهؤلاء كانوا أكفاء للولاية وسبقه إلى ذلك من سبقه للحكم
هذا فضلا على أن هؤلاء الخمسة لم يولهم عثمان فى وقت واحد بل ولاهم على مراحل وعزل منهم الوليد بن عقبة كما تقدم وعندما توفي عثمان لم يتبق من أقاربه أحد فى سدة الإمارة إلا ثلاثة فقط وهم معاوية وعبد الله بن سعد وعبد الله بن عامر
والثلاثة قاموا بواجب الإمارة على أحق ما يكون , فمعاوية رضي الله استقر له أمر الشام رغم مجاورته للروم وعبد الله بن سعد هو الذى فتح إفريقية
بالإضافة لما هو أهم وهو أن على بن أبي طالب ولى أقاربه أيضا لأنهم استحقوا التولية , ولم يكن بين ولاة على رضي الله عنه من هو أفضل من ولاة عثمان إلا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
وكما سبق أن بينا أن هذا الجيل لم تكن فيهم المحاباة والدليل على ذلك ما فعله عثمان مع الوليد بن عقبة رغم أنه من أقاربه
أما فضل عثمان بن عفان ففيه من السيرة العطرة ما يشرف أى أمة تنتسب إليها مثل الشخصية الفريدة ,
فيكفيه شرفا قول النبي عليه الصلاة والسلام أن عثمان تستحي منه الملائكة كما ثبت فى الصحيح , ويكفيه أنه كان زوج ابنتى النبي عليه الصلاة والسلام رقية وأم كلثوم وهذا نقطة تشير إلى مكانته الفريدة حتى يرتضيه النبي عليه السلام زوجا لبنتين من بناته
وأعز الله به الإسلام سواء فى بداية الدعوة أو فى المدينة أو بعد خلافته , ففي خلافته أشرقت البلاد بالرغد وانتشر الإسلام إلى مزيد من أقطار الأرض , وقبل الخلافة كان مناصرا للنبي عليه السلام بنفسه وماله وكان هو الذى اشتري للمسلمين بئر رؤمة التى كانت ملكا ليهودى بالمدينة استخدمها للضغط على المسلمين وابتزازهم فاشتري عثمان منه نصف البئر ثم اشتراه كاملة بعد ذلك ووهبها للمسلمين بلا أجر
وفى أحد أعوام المجاعة بالمدينة أقبلت إحدى قوافله التجارية للمدينة تسد البصر , فهرع إليه التجار من كل ناحية يرغبون فى شراء بضائعه فأبي بيعها ووزعها كاملة فى سبيل الله وأعلن أنه لا يتاجر فى القوت والناس على جوع وفاقة ,
وفى غزوة العسرة تلك الغزوة الشريفة التى قال الله عنها فى كتابه
[
لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:117}
لما حفلت به تلك الغزوة من مشقة فى التجهيز , فجاء عثمان رضي الله عنه فجهز جيش العسرة كله من خالص ماله وانبهر به النبي عليه الصلاة والسلام فقال
(
ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم )
كما شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة وبشره بها على بلوى تصيبه وهى الفتنة , وبسبب هذه البشارة وهذا العهد امتنع عثمان رضي الله عنه من فض الثوار والغوغاء بالقوة وأمر أصحابه بترك السلاح وفدى الأمة بنفسه رضي الله عنه ولم يقبل أن يقتل بسببه صحابي واحد فى الدفاع عنه