بين أبي تمام والمتنبي
١٢
كاد طول الجملة الواحدة من جمل ابي تمام النحوية، يكون في مثل طول جملتين من جمل المتنبي (١.٧٣)، مما استغرق قصيدته من حديث الذكريات ذي الشجون، الذي تستطيل فيه الجمل بما تشتمل عليه من مكوِّناتٍ كثيرة، لولا انحصار بعضها في إطارها لاستقلت جملا نحوية كاملة- على حين احتفز المتنبي بحديث الواقعات إلى موالاة جمل قصيرة مستقلة بنفسها متكاملة فيما بينها، حتى لقد تعلق كثيرا بمزاوجتها؛ فقاس بعضها على بعض. ولا ريب في أن تقصير الجمل أعون على المزاوجة، وأدل عليها. وبلغ بالمتنبي أن اقتصر في بعض جمل قصيدته النحوية (٣، ٤٢)، على كلمة كتابية واحدة، وهو ما لم يقع لأبي تمام.
ثم اشتمل فصل شكر أبي تمام على أطول جمل قصيدته النحوية، بما تحرى فيه من بسط جملة قول وافية بجواب السائل المتخيل- على حين اشتمل فصل اطلال المتنبي على اقصر جمل قصيدته النحوية، بما تحرى فيه من مراكبة جمل العبث والسخرية، حتى لقد استغنى من بعض الجمل ببعض أدواتها.
وعلى رغم ما افترق فيه شاعرانا اجتمعا على رعاية علاقة طول الجملة النحوية بالبيت وبالشطر كليهما، بحيث تبدأ ببداءة اي منهما وتنتهي بنهايته -وهو اسلوب عربي قديم- ثم كان أبو تمام أرعى في تطويل جملته النحوية لعلاقة طولها بالبيت الكامل، والمتنبي ارعى في تقصير جملته النحوية لعلاقة طولها بشطر البيت
بين أبي تمام والمتنبي
١٣
ولقد ظهرت جمل ابي تمام النحوية من قصيدته في ٢١ مظهرا (نمطا نحويا)، على حين ظهرت جمل المتنبي في ٣٠ مظهرا، اشتركا في ١٠ منها فقط، وانفرد أبو تمام ب١١، والمتنبي ب٢٠.
ثم كان النمطان ["ماض فغائب"، و"ماض فمتكلمون"]، أغلب على جمل أبي تمام النحوية، والنمطان ["ماض فمخاطب"، و"أمر فمخاطب"]، أغلب على جمل المتنبي.
لا ريب في أن زيادة الأنماط أدلّ على خصب التفكير من نقصها، لولا اقتضاء ملاحقة حركة الواقعات المتنبيَ توليد الأنماط المختلفة، واقتضاء تَنسُّم مآثر الذكريات أبا تمام أن يرتاح لتكرار بعض الأنماط.
وغير منقطعة من ذلك غلبة ما غلب من الأنماط على جمل كلتا القصيدتين؛ فكما انسبكت في قصيدة المتنبي سبيكةٌُِ متآخذة من نمطي جمله الغالبين، تكررتْ فتكررا بها- انسبكت في قصيدة أبي تمام سبيكة متآخذة كتلك من نمطي جمله الغالبين
بين أبي تمام والمتنبي
١٤
ولقد ترابطت جمل أبي تمام النحوية بالعطف (٤١.٨٦%)، ثم الاستئناف (٣٩.٥٣%)، ثم الاعتراض (١٣.٩٥%)، ثم الترتُّب القسمي (٤،٦٥%)- على حين ترابطت جمل المتنبي بالاستئناف (٥٨.٤٦%)، ثم العطف (٢٦.١٥%)، ثم ثم الترتُّب الشرطي (٩.٢٣%)، ثم الاعتراض (٤.٦١%)، ثم الترتُّب الطلبي (١.٥٣%).
إن الترابط بالعطف وجه من ائتلاف الجمل النحوية المتعارفة، وإن الترابط بالاستئناف وجه من اختلاف الجمل النحوية المتناكرة. وإن من أدلة اختلاف الجمل النحوية كثرة أنماطها -وبهذا حظيت قصيدة المتنبي كما سبق- وإن من أدلة ائتلاف الجمل النحوية قلة أنماطها، وبهذا حظيت قصيدة أبي تمام.
وغير منقطع من ذلك زيادة ترابط الجمل النحوية بالاعتراض في قصيدة أبي تمام كثيرا عليه في قصيدة المتنبي؛ إذ حرص أبو تمام على عطف الأنماط المتشابهة؛ فخرج كل ما وقع بينها مخرج الاعتراض، على حين انحصر استعمال المتنبي للاعتراض في الاحتراس وما أشبهه من الزيادات الفجائية الذكية.
ومن ألطف ما وقع للشاعرين مما يمثل اسلوبيهما انفراد أبي تمام برباط الترتب القسمي، وانفراد المتنبي برباط الترتب الشرطي، وهما متواردا الطبيعتين التركيبتين -ولالتباس الترتب الطلبي بالترتب الشرطي ادخله هنا فيه، لأتكلم عنهما كلاما واحدا- إذ في ربط الجمل بالترتب القسمي اطمئنان أبي تمام لحقائق الماضي، وفي ربطها بالترتب الشرطي ريبة المتنبي في مآلات الحاضر.