وللحرية الحمراء..
مقالات ملفقة ( 30\2 )
بقلم ( محمد فتحي المقداد )*
كثيراً ما أحاولُ زَجْر َ ابني الصغير، عندما قيامه بفعلٍ تخريبيٍّ، أو كلمةٍ نابيةٍ كان قد سمعها من أحدهم، فيقول لي : " أنا حُر " ، أتأمله متعجِّباً لفهمه، وعلى طريقته..!! ، رافضاً لكلامي وتوجيهاتي، ويريد فِعْلَ ما يروق له .. تمرُّدٌ ورفضٌ منذ نعومة أظفاره للوصاية عليه، فأردُ عليه :" أنت حُر .. وأنا أقبلُ بذلك بكل رضا ".
فالحرُّ يكون ضدّ العبد، وقد خلق الله البشر أحراراً، ولا تزال كلمة سيّدنا عمر بن الخطّاب : ( متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أماتهم أحراراُ) لعامله على مصر – عمرو ابن العاص – ، فالناس جميعاً متساوُونَ أمام القانون، إذ أن تحقيق العدل هو هدف الأديان جميعاً، حتى أن المبادئ الوضعية و القوانين حاولت جهدها تقديم العدالة للجميع، بعيداً عن احتيال القضاة و المحامين.
واتخذ التحرر، أشكالاً عديدة، فقد كان لدعوة تحرير المرأة في بداية القرن العشرين، على يد داعيته رفاعة الطهطاوي، الأثر البالغ لدفع الجمعيات النسائية العربية ، و على غرار نظيرتها الغربية، بالمناداة بتحرير المرأة، وقد كان الهدف لتحرير المرأة في المقام الأول هو الحجاب، وأول من خلعت حجابها في مصر هدى شعراوي، فكانت قدوة للأخريات.
مجيء الإسلام كان ثورة حقيقة في مجال تحرير العبيد، واستنكر الزعماء ذلك، وهم يأنفون مساواتهم بالعبيد، ويوم الفتح أمر الرسول الكريم " بلال الحبشي " بالصعود على سطح الكعبة للأذان، وكثير من الأحكام التي وردت في موسوعات الفقه الإسلامي، فيها التفصيلات الكثيرة حول الرق وأحكامَ العِتق، وطرق تحريرهم من خلال المكاتبة بين العبد وسيده، كما أن الكفّارات اتخذت أشكالاً عديدة في تحرير الرقاب، و اعتُبِرَتْ تقرُّباً إلى الله، كان و تلك الأشكال من الكفّارات التي بثّها الإسلام كانت في سبيل إنهاء و تحرير الرقيق تماماً، ومحو آثارها من المجتمعات الإنسانية.
كما أن أسطورة سبارتكوس ذلك العبد، الذي جمع العبيد حوله وتزعمهم، وعمل على إحداث ثورة على الأسياد والنبلاء في روما. واستولى العبيد على ايطاليا، وعلى طوال أربع سنوات حطم العبيد خلالها جيوش، وعندما تعاظم خطر سبارتكوس على روما جهزت جيشاً قوامه تسعون ألف جنديٍ، واستدعت لقيادته قائد حامية سوريا المعروف بحنكته ودهائه القائد ( كراسوس ) و عمل على قمع التمرّد، ففي خلال يوم وليلة، قُتِلَ فيها قرابة مئة ألف شخص، وكان من بينهم ) سبارتكوس ) الذي مات وهو يقاتل يداً بيد مع رفاقه العبيد، وصنع من جثث القتلى والأسرى السجق، همجية الحروب تفعل أفاعيلها بوحشية مخيفة. وفي العام 1865-1861 كان ( ابراهام لنكولن ) الرئيس السادس للولايات المتحدة الأمريكية، وفي عهده حدثت الحرب الأهلية، وقد حاول كثيراً العمل على تحرير العبيد، الأمر الذي لقي معارضة شديدة، وخضع لحل توفيقي مع معارضيه ( تحرير للعبيد دون مساواة مع البيض) . وتوّج جهوده بقرار إلغاء الرق في أمريكا عام 1863م ، وفي نهاية المطاف قتل الرئيس في عام 1865 م انتقاماً منه.
ومن الأحداث المهمة في تاريخ الإسلام، كان فتح مكّة، و حدثت ( بيعة النساء )، و قد ذكر المفسرون عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ...} سورة الممتحنة(12).و ورد في صفة مبايعة النبي -صلى الله عليه وسلم- للنساء فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال: (على ألا يشركن بالله شيئاً) قالت هند بنت عتبة -وهي منتقبة خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، لمَِا صنعتْهُ بحمزة يوم أحد-: " والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال " – وقد كان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (ولا يسرقن) . فقالت هند:" إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قُوتَنَا، فقال أبو سفيان: " هو لك حلال "، فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- و عَرَفَها، وقال: (أنت هند؟). فقالت: " عفا الله عما سلف "، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يزنين) فقالت هند: أو تزني الحرة .. ؟!، ثم قال: (ولا يقتلن أولادهن، ولا يسقطن الأجنة)، فقالت هند: رَبَّيْناهُم صغاراً وقتلتَهُم كباراً يوم بدر، فأنتم وهم أبصر. فالغرابة كل الغرابة أن الحرة تزني ، وقد قالت العرب : ( تجوع الحُرَّةُ و لا تأكل بثدييها )
وجاء إعلان ثورة التحرير الشعبية الجزائرية في 1 نوفمبر 1954 ضد الاستعمار الفرنسي الذي احتلّ البلاد منذ سنة 1830، ودامت طيلة 7 سنوات ونصف من الكفاح المسلح والعمل السياسي، وانتهت بإعلان استقلال الجزائر يوم 5 جويلية 1962 بعد أن سقط فيها أكثر من مليون ونصف مليون شهيد جزائري، وذلك ما أعطى الجزائر لقب بلد المليون ونصف المليون شهيد في الوطن العربي. و انتهت الحرب بإعلان استقلال الجزائر في 5 جويلية 1962، وهو نفس التاريخ الذي أعلن فيه احتلال الجزائر في سنة 1830، وكان إعلان الاستقلال على لسان الرئيس الفرنسي ( شارل ديغول ). كذلك فإن البلاد التي تعرضت للاستعمار الخارجي، فقد اتخذت المقاومة في كثير منها على شكل حرب تحرير شعبية، كما في الصين وفيتنام وفي المغرب العربي بقيادة الأمير عبدالكريم الخطابي.
وفي عهد الرئيس جمال عبد الناصر في مصر، صدر قانون الإصلاح الزراعي ، وهو محاكاة للتجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي سابقاً، قاموا بتحديد ملكية الأراضي وتوزيعها على الفلاحين، وقد طبق المشروع على مناطق في محافظة البحيرة و أطلقوا عليه اسم ( مديرية التحرير ). و تهدف فكرة المشروع إلى جذب القوى العاملة و الطبقات الفقيرة، وتسليم الفلاحين الأراضي الزراعية وتوفير مياه الري، من خلال شق الأقنية في جميع أنحاء المديرية، لريِّ الأراضي، وتوالت النجاحات حيث ولدت القرى الجديدة التي شكلت منظومة زراعية من أكبر المنظومات الزراعية. التي كانت تدرُّ دخلاً كبيرا للدولة وساهمت في زيادة الدخل القومي.أما مديرية التحرير في اليمن، فهي عبارة عن حَيٍّ يقعُ وسط العاصمة صنعاء. و كوني من محبي القراءة و المطالعة، وفي زمانٍ مضى، قرأتُ كتاب ( تحرير الوسيلة ) للإمام الخميني، و أذكرُ أنه خلاصة اجتهاداته الفقهية ، وفي كثير منها ما أثار الجدل كونها غير مسبوقة اجتهادياً، في محاولة تسويقها اجتماعياً ضمن الفئات التي تؤمن بمثل تلك الاجتهادات. ومهما تقادمت الأيام فلن يُنسى أمير الشعراء، خاصة في أجمل ما قال : ( و للحرية الحمراء بابٌ بكلِّ يدٍ مُضرجَّةٍ يُدَقُّ ). فالحرية تؤخذُ ولا تعطي، وهي قضية الشعوب الكبرى منذ فجر التاريخ، و ( الكلمة الحرّة هي أفضل السبل لتدوين التاريخ وإعادة تأهيله ) .
و التحرير قد اتخذ أشكالاً أخرى في استخدامات الحياة اليومية، فمن حرّر ( شيكاُ ) أو سنداً فقد كتب على نفسه إقراراً، وإذا حرّر شرطي المرور مخالفة لسائقٍ مخالفٍ ، فقد كتبها ودوّنها، و أما من حرّر قطعة أرض غشيمة، فقد قام بحراثتها و زراعتها، و في مجال التقنيات الحاسوبية ظهر مصطلح ( التحرير ) و ما من مستخدم إلا أصلح أخطاء كتابته بإضافةٍ أو حذفٍ . و الحُرّة هي الكريمة، ويقال ناقةٌ حُرّة، والحُرّة ضد الآمة، وطينٌ حُرٌّ لا رمل فيه، و رملةٌ حُرةٌ لا طين فيها، وأحرارُ البَقول بالفتح، ما يؤكل غير مطبوخ.
في جولة سريعة حررتُ إرادتي من الكسل فاستجمعتُ ذاكرتي لحصر النقاط الرئيسية التي حرَّرتُها في مقالتي تلك، فكانت تحت عنوان ( وللحرية الحمراء ) وحاولت جُهدي الاختصار تجنًّباُ للإطالة، وكي لا يُصاب القارىء بالملل.
عمّان \ الأردن
27 \ 10 \ 2014