في ذكرى استشهادك يا أبا المجاهدين
لم يبقَ منك سوى شعار ومقاومتنا سبعة نجوم..!! (3-3)
تمر علينا الذكرى الخامسة والسبعون لاستشهاد أبا المجاهدين الشيخ عز الدين القسام؛ ونحن ما نزال في رحاب عيد الأضحى المبارك، عيد الدم، عيد التضحية والفداء، العيد الذي يذكرنا بصدق الإيمان والتضحية في سبيل الله، الذي يذكرنا بكرم الله تعالى لما رأي من صدق الأب وصبر الابن، فافتدى الابن بذبح عظيم ليكون عوضاً عن سُنة لو مضت لكان لزاماً على كل مسلم أن يذبح ابنه الأكبر تعبيراً عن استسلامه لله واقتداء بفعل أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام. وإن كان الله تعالى مَنَّ على الأمة بقبول التضحية بكبش وإراقة دمه بدلاً من الابن الأكبر كتعبير عن التقوى وتعظيم شعائره، إلا أنه فرض عليها الجهاد في سبيله، والتضحية بالنفس والمال والأبناء في سبيل نصرة دينه والدفاع عن الأوطان والأعراض. وقد كان القسام نموذجاً متميزاً في الجمع بين الإيمان والجهاد والتضحية بكل المعاني.
وفي هذه الذكرى الجليلة للأسف تصدر البيانات وتصدح حناجر الخطباء والقادة السياسيين والعسكريين من سماسرة الدين والدم في تلك الفصائل التي ترفع شعار القسام: هذا جهاد .. نصر أو استشهاد؟! -ذلك إن تذكرت أن تُحيي ذكرى استشهاده- زاعمة أنها بنهجه متمسكة وللسلطة والسياسة رافضة، وعلى دربه بالمقاومة سائرة وعن اعتقال المجاهدين وسجنهم وتعذيبهم واستئصالهم مُبتعدة، وعلى البندقية قابضة وعن استراحة المحارب مترفعة، وعلى تحرير فلسطين عازمة وعن الدولة المؤقتة عازفة، ولأجل ذلك هي متقشفة وللمشاريع الاستثمارية رافضة ولإغراء الدنيا متنكرة، ولوحدة الأمة عاملة وعن تكريس الانقسام الفلسطيني مُعرضة، وللدم الفلسطيني عاصمة وحاقنة وعن إثارة العداوات وثأرات (نعرات) الجاهلية عازفة، وبتوزيع الشكولاتة والحلويات ولحوم الأضاحي لقلوب الجماهير مؤلفة، وبالعدل والمساواة بين أبنائها وفصائلها لصفها راصة وموحدة، ولحرية التعبير عن الرأي وإعلاء صوت الجماهير وسماع نُصحها أو اعتراضها ناشرة وليس أدل على ذلك من السماح للفصائل بإحياء ذكرى قادتها وشهدائها، ومتجنبة الأحادية في القرار أو التمثيل، فابشروا بالنصر المبين والتحرير عما قريب!.
فبداية نصر الأمة في صدرها الأول كانت معركة الفرقان في بدر، واليوم اقتراب تحقيق الوعد الإلهي وتدمير العلو والإفساد الإسرائيلي الثاني بمعركة فرقان غزة التي هي عند بعضهم أعظم من فرقان بدر، التي فتح الله تعالى بها على المقاومة بمزيد من الاستثمارات والمشاريع المالية، ومحاولات كسر الحصار وإفشال سياسته، والاعتراف الدولي الذي هو بداية وضع اليد الفلسطينية في اليد الغربية لنرمي معاً اليهود في البحر ونخلص العالم من شرهم وبلائهم. ولكن معركة الفتح العظيم كفتح مكة وتحرير فلسطين تحتاج إلى ترسيخ دعائم الدولة الفتية، بمعنى أننا لم ولن نتخلى عن المقاومة من أجل عرض دنيا زائل ولكن الأولوية للبناء الداخلي وتأسيس دولة المؤسسات وتثبيت أركانها، وإرساء دعائم العدل فيها ونشر الأمن والأمان، ولا يتأتَ ذلك إلا بالاعتقالات والتعذيب وتلفيق التهم وشهادات الزور، والقتل على الشبهة والريبة ودون محاكمة، أو لتصفية حسابات شخصية أو عائلية، وتنفيذ حد الحرابة على المفسدين في دولتنا الفتية لهوى في النفس أو تخويف وإرهاب غيرهم، كما أنه لا يتأتَ إلا بتحقيق استقلالنا الاقتصادي حتى نستغني عن مساعدات الدول المانحة، التي تدفع للقضاء على المقاومة وفرض سياسة التنسيق الأمني مع أشد الناسِ عداوة للذين آمنوا، وذلك بالتوسع في تجارة الأنفاق، وبيع الأراضي والملكيات العامة واغتصابها لحساباتهم الشخصية، وإثراء تجار وسماسرة الحروب على حساب معاناة الجماهير، وباستثمار المزيد من الملايين التي تتبرع بها الأمة لدعم المقاومة ودعم صمود وثبات طليعتها في فلسطين على المواجهة في إقامة المتنزهات والحدائق والمنتجعات السبع نجوم، التي لا تنطفئ فيها الكهرباء لحظة وحرمان المواطن من حقه فيها، لأن تلك المنتجعات هي التي تقوي الاقتصاد والمقاومة، وتقرب يوم التحرير والعودة!.
وقليل هم يا أستاذي ومعلمي وشيخي، يا أبا المجاهدين؛ الذين ينهضون لأجل أمر عظيم ويفنون حياتهم في سبيل ذلك الأمر، لا يفكرون في الراحة ولا الاستراحة ولا الركون للدنيا ولا تمنية النفس بملذاتها، إلى أن يلقوا الله وهم على ذلك، مهما بلغت معاناتهم، ومهما لقوا من التعب والأذى والعذاب في سبيله، اقتداء بالأسوة والقدوة الذي ما أن نزل عليه قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر:94) فقام ولم يقعد أو يرتاح حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى. وقد كنت أنت وأمثالك من المجاهدين وقادة الثورات من القلة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ونهضوا لنصرة دين الله تعالى والدفاع عن أمتها ولم تقعد حتى لقيت ربك ولم تُبدل، فَصَدَق فيهم قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب:23). أنتم الذين تمايزتم وامتزتم من بين المؤمنين وصدقتم وقضيتم على ما عاهدتم الله تعالى عليه، أسأل الله تعالى الثبات على العهد لِمَنْ مازال ينتظر من أولئك المؤمنين الرجال الذين صدقوا في عهدهم مع الله تعالى، وألا تغرهم الدنيا أو يتعبوا من طول الانتظار وتخلي الكثيرين عن العهد.
وإن سأل البعض لماذا خصصت الفصائل التي تزعم أنها مقاومة ؟! أُجيب:
لأن الآخرين لم يزعموا أنهم فصائل مقاومة ولا أتباع منهج رباني، أو أنهم على نهج القسام ولا يرفعون شعاره وهو منهم براء، لأن شعاره هو شعار جميع المجاهدين في سبيل الله منذ الصدر الأول للإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، إنها إحدى الحسنيين.. النصر أو الشهادة، وممارسته هي ممارسة كل المجاهدين زمن الاحتلالات الغربية لوطننا: أننا نخوض معركتنا هنا على أرضنا وليس في عصبة الأمم أو الأمم المتحدة، ولأن موقفه هو موقف المفاصلة لكل قوى الشر من المحتلين البريطانيين والصهاينة وحلفائهم من مسلمين وغير مسلمين، لذلك هو لم يثق في الأنظمة العربية ولا الزعماء والقادة آنذاك ولم يقم معهم علاقات من أي نوع فما بالك بالغرب كما يفعل أدعياء المقاومة ورافعي شعاره اليوم! لأنه لم يهادن محتل فرنسي ولا بريطاني ولا إيطالي ولا استجاب لأي عرض من العروض المغرية على كثرتها، ولأنه لا هو ولا أتباعه خاضوا في دماء الفلسطينيين ولا صارعوهم على سلطة أو مغنم أو بسبب أي اختلاف سياسي، ولم يشطر الوطن والمجتمع، ولم يمزق الأسرة والعائلة بزعم الجمع بين السلطة والمقاومة، لأنه لم يكن يؤمن بالسلطة ولا العمل السياسي، وذلك ما ميزه عن غيره هو وأتباعه وأعطاه تلك المكانة السامية في نفوس الفلسطينيين وعند المقاومين! حتى أتباعه لم يوقفوا المقاومة لا استجابة لمطلب اللجنة العربية العليا الفلسطينية، ولا استجابة لدعوة القادة والزعماء العرب، ولا بحجة استراحة المحارب!.
ولأنه كان واضحاً في نهجه، فاهماً لعدوه، مدركاً لأبعاد المشروع اليهودي-الصليبي ضد الأمة والوطن، ولأنه لم يكن في فلسطين في ذلك الوقت أحداً أهلاً للتصدي لذلك المشروع غيره، عندما بلغ شيخ الأزهر خبر استشهاده بكي بكاءً مُراَ هو وبقية مشائخ الأزهر، وقال في نعيه عبارته المشهورة: باستشهاد القسام ضاعت فلسطين!.
أعلم أن مقالتي قاسية وشديدة على أدعياء المقاومة ورافعي شعار القسام: هذا جهاد .. نصر أو استشهاد! ولكني أردتها أن تكون مرآة لكل فرد منهم عله يرى فيها حقيقة نفسه وخطأ نهجه وزعمه، علهم يصححوا خطأهم ويعودوا إلى صوابهم ونهج القسام الصحيح، ويعلم كل منهم أن القسام لم يكن كذلك ولو كان موجوداً اليوم لن يكون كذلك، ولن يلجأ لأي عاصمة عربية ليقود منها ثورته والتاريخ أثبت أن كل الثورات الفلسطينية أُجهضت في العواصم العربية، ويترك شعبه يعاني الأمرين ويزعم أنه قائد للمقاومة، ويجلس في القصور والنعيم يستقبل هذا وذاك من أعداء الأمة والوطن، ويرسل الرسائل إلى الصديقة أمريكا والصديق أوباما، ويدعوه للحوار معه مباشرة بدل الحوار عبر الوسطاء أو التفاوض عبر السلطة اللا شرعية! أو لو كان في فلسطين وحدثت معركة مع العدو سيختبئ ويقاتل من الملاجئ أو يتخفى بين العامة، أو سيطلق العنان لرغباته في الانتقام واستئصال إخوانه وشركائه في الوطن تحت مبررات واهية! والمشكلة أن أدعياء المقاومة ورافعي شعاره يفعلون ذلك وهم يعلمون أن نهج القسام نقيض نهجهم، وأن الذي أضاع فلسطين وضيع القضية والأمة هو النهج الذي حاول الجمع بين السلطة والمقاومة، ووثق بالأنظمة والقادة والزعماء العرب، وعلق الآمال على الصديقة بريطانيا وغيرها، سواء كان قبل النكبة أو بعدها، ومازال ذلك مستمراً إلى أن يأذن الله تعالى بتولي مَنْ هو أهلاً للتمكين وقيادة قضية الأمة وتدمير العلو والإفساد الإسرائيلي في قلب الأمة والوطن!.
وتحضرني هنا قصة وموقف حدث معي فيه إجابة أيضاً واستكمالاً لِما بدأته في مقالتي:
في عام 1981 بعد أن أعلن الأمير (الملك) فهد بن عبد العزيز في القمة العربية الجهاد لتحرير بيت المقدس كان أول الملبين لتلك الدعوة أشقائنا في اليمن، وبدأت تتوافد كتائب المجاهدين اليمنيين إلى الثورة في لبنان، وقد أوكل الراحل أبو عمار مهمة استقبال وتدريب أولئك المجاهدين للكفاح المسلح، وقد كنت أيامها أعمل في إدارة الكفاح المسلح في بيروت، وقد وصلت الكتيبة الأولى والثانية وتم تسميتها، وقبل وصول الكتيبة الثالثة كان مسئول الإدارة (لا داعي لتسميته) يتناول طعام الغداء وأنا جالس وسأل: ماذا نسمي الكتيبة التي ستصل قريباً؟ فقلت بحسن نية: القسام. وإذا به يقول بلهجة لم تعجبني: إيش يا خوي عيد اللي قلته! فقلت هذه المرة بحزم: سموها كتيبة عز الدين القسام. فعلق مستخفاً ومستنكراً برأي بالقول: مين يا خوي؟! مين عز الدين القسام هذا؟! عز الدين القسام بتاعك لا يساوي (... في ...)!!.
والله لا يحط واحد من أمثاله ساعتها مكانه، ولم أدعه يكمل كلامه وقاطعته قائلاً: أنت وطابور من أمثالك وكل ثورتك هذه اللي أنت شايفها لا تساوي (... في ... أقل واحد من أتباع عز الدين القسام وليس في ... عز الدين القسام). وقد ثار وهاج وضرب الطاولة التي كان يتناول عليها الطعام بقدمه وصاح: أنا لي ربع قرن (25 سنة) في العسكرية لم يتجرأ أحد ويغلط فيَّ مش يقول لي اللي قلته ... وكلام كثير من هذا النوع. قلت له: أقول لك ولمن هو أتخن منك ما هو أشد من ذلك عندما تتطاول على أسيادك وأشرف ما في تاريخك. وتدخل أحد الإخوة كان برتبة مساعد كان يعمل معنا في الإدارة وأدخلني إلى غرفتي وحاول هو وأخت كانت تعمل معنا في الإدارة أيضاً تهدئة الموقف. لقد كنت في تلك الفترة من الداعين بشدة لنهج القسام وإحياء تجربته وتجسيدها منهج جهادي وممارسة، ومازلت، وكان ومازال هو قدوتي ومثلي الأعلى ومدرستي في المقاومة لا السياسة، لأني تعلمت منه ألا أؤمن بالسياسة سبيلاً لفلسطين وعزة الأمة.
وفي غرفتي تناولت ورقة وقلم وكتبت استقالتي وخرجت والأجواء مازالت ملتهبة وقدمتها له وغادرت المكتب. وبعد أن عُدت كان قد كتب عليها رأيه السلبي جداً المخالف للحقيقة، ورفعها إلى قائد الكفاح المسلح الأخ أبو حميد (أحمد مفرج) رحمه الله وتقبله في الشهداء، الذي كان مرسل في غيبتي يستدعيني. ذهبت إليه وقد كان مكتبه في نفس المبنى، وقد دار الحديث التالي بيننا بهدوء ودون انفعال:
سألني رحمه الله: لماذا تدافع عن القسام لأنه شيخ؟ وواصل كلامه .. أنت تعلم أن الجبهة الديمقراطية مطلقة اسمه على كتيبة ونادي وبتقول أنه كان ماركسي شيوعي؟! أجبت: نعم أعلم؛ وذلك لأنكم أنتم لم تعرفوا قيمته وتخليتم عنه وعن نهجه ولم تسموا أي شيء باسمه، ولأنه شرف لأي تجاه أن يدعي أن القسام ينتمي له ويتبناه، وجدت القومي والماركسي وغيرهم كلٌ يحاول أن ينسب القسام إليه أو ينتسب للقسام! أما عن سؤالك إن كنت أدافع عنه لأنه شيخ؟ ليس لهذا السبب فقط ولكن لأنه أنصع وأشرف صفحة في تاريخ فلسطين الحديث، لأنه مدرسة في المقاومة وفهم أبعاد القضية ضد الأمة والوطن ... واختصرت وقلت: خلينا الآن في الاستقالة؟ فكان رده الرفض...
التاريخ: 20/11/2010