الآلهة التي تفشل دائماً
* سلام مراد
إن تعريف المثقف يبقى إشكالياً وذلك حسب القصد والشخص الذي يعرف المثقف، كما أن للمثقفين اتجاهات ورؤى مختلفة ومتنوعة تختلف من مشكلة إلى أخرى ومن حدث إلى آخر، لأن ما يعتبر لاتجاه معين حقاً يعتبر لخصمه باطلاً، والمثقف الحقيقي هو الذي يخرج من هذه الدائرة الثنائية المفرغة، ويتجرد من خلفيات ومواقف مسبقة لكي يستطيع أن يحكم بحيادية وضمير ونزاهة واستقلالية تأخذ جانب الحق والعدالة بدون ضغوضات داخلية أو خارجية أو نفسية وأيدولوجيا أي أن يجعل نفسه حكماً نزيهاً وليس طرفاً في عملية الصراع التي تحصل بين أطراف الصراع.
يورد إدوارد سعيد في كتابه الآلهة التي تفشل دائماًَ تعريف جوليات بيندا للمثقفين "أنهم جماعة صغيرة من ملوك حكماء يتحلون بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي العالي وقفوا أنفسهم لبناء ضمير الإنسانية".
بالإضافة إلى تعريف بيندا فقد ظل بحثه (خيانة المثقفين) حياً عبر أجيال كهجوم لاذع على المثقفين الذين تنازلوا عن دعوتهم وعرضوا مبادئهم للشبهة أكثر من كونه تحليلاً متماسكاً للحياة الفكرية.
يأتي بيندا بعدد قليل من الأسماء تتوفر فيهم خصائص ومزايا وبالتالي استناداً لهذه الخصائص والمزايا يعتبرهم مثقفين حقيقيين.
يشير إلى سقراط والمسيح على نحو متكرر، وإلى سبينوزا وفولتير وإرنست رينان من العصر الحديث، المثقفون الحقيقيون يشكلون نخبة، كائنات نادرة جداً في الحقيقة، ما دام ما يرفعونه هو القيم الخالدة للحقيقة والعدالة التي هي بدقة ليست من هذا العالم، من هنا مصطلح بيندا الديني لهم ـ رجال الدين ـ صفة مميزة في المنزلة والأداء اللذين يعارض بهما دائماً سواد الناس، هؤلاء الناس العاديين الذين يهتمون بالمنفعة المادية والتقدم الشخصي، وإذا كان ممكناً على الإطلاق، علاقة وثيقة بالقوى الدنيوية، فالمثقفون الحقيقيون، كما يقول: هم هؤلاء الذين نشاطهم بالدرجة الأولى ليست ملاحقة الأهداف العملية، والذين يسعون إلى مسرتهم في ممارسة فن ما أو علم ما أو تأمل ميتافيزيقي، باختصار في امتلاك مزايا غير مادية، ولهذا السبب يقولون بطريقة محددة: (مملكتي ليست من هذا العالم).
مع كل ما تقدم نرى أن أمثلة بيندا توضح تماماً أنه لا يقر مفهوم مثقفي البرج العاجي والمنفصلين عن العالم الواقعي وغير الملتزمين بالكامل، المنعزلين بشدة، والذين وقفوا أنفسهم للمواضيع المبهمة وربما السحرية، فالمثقفون الحقيقيون لا يكونون أبداً في أفضل حالاتهم إلا عندما تحركهم عاطفة ميتافيزيقية ومبادئ نزيهة للعدالة والحقيقة ويشجبون الفساد ويدافعون عن الضعفاء ويتحدون السلطة غير الشرعية أو الجائرة، فقد أشار بيندا بعدد من المثقفين مثل: شجب فنيلون وماسليون حروباً محددة للويس الرابع عشر؟ وكيف أدان فولتير دمار البلاطينيين؟ كيف استنكر رينان أعمال نابليون العنيفة؟ وكيف شجب بكلي تعصب إنكلترا اتجاه الثورة الفرنسية؟ وفي زمننا كيف أدان نيتشه ممارسات ألمانيا الوحشية ضد فرنسا؟ .
المشكلة مع مجموعة مثقفي هذا الزمان وفقاً لبيندا هي أنهم تخلوا عن سلطتهم الأخلاقية لصالح ما يدعوه، في عبارة تنبؤية، "تنظيم العواطف الجمعية" مثل الطائفية، وأفكار الجمهور العاطفية، والسلوك العدواني القومي، والمصالح الطبقية.
كان بيندا يكتب عام 1927 ، أي قبل عصر وسائل الإعلام العامة، لكنه تحسس كم كان هاماً للحكومات أن تستخدم هؤلاء المثقفين الذين يمكن أن يُستدعوا لا ليقودوا، بل ليعززوا سياسة الحكومة، ويطلقوا الدعاية ضد الأعداء الرسميين، والتعابير اللطيفة، وعلى نطاق أوسع، منظومات كاملة من لغة أورويلية غامضة، التي يمكنها حجب حقيقة ما يحدث باسم"النفعية" المؤسساتية أو "الشرف الوطني".
إدوارد سعيد يبين في كتابه الآلهة التي تفشل دائماً، أنه لا توجد نزعة إنسانية عامة عند المثقف المؤيد لطرف معين، فلأنك تخدم رباً على نحو ضعيف التمييز، يكون كل الشياطين في الجانب الآخر، كان هذا صحيحاً، عندما كنت تروتسكياً كما هو الآن عندما تكون تروتسكياًً سابقاً مرتداً، أنت لا تفكر بالسياسة في شروط علاقات متبادلة أو تاريخ مشترك في حد ذاته، مثلاً، القوة الفعالة الطويلة والمعقدة التي ربطت العرب والمسلمين إلى الغرب والعكس صحيح أيضاً، فالتحليل الفكري الحقيقي لا يجيز تسمية طرف بريئاً والآخر شريراً، وفي الحقيقة، فإن مفهوم الطرف، حيث تكون الثقافات هي النقطة الفاصلة، خلافي جداً، نظراً لأن معظم الثقافات ليست صناديق صغيرة كتيمة، كلها متجانسة، وكلها إما جيدة أو شريرة.
لكن إذا كانت عينك على راعيك، فلن تستطيع أن تفكر كمثقف، بل فقط كحواري أو قندلفت، في خلفية ذهنك ثمة فكرة أن عليك أن ترضي لا أن تثير الاستياء.
وفي المقام الثاني، يداس على تاريخ خدمتك الشخصي لأسياد سابقين أو يحولون إلى شياطين طبعاً، لكن ذلك لا يثير فيك الشك الذاتي الأدنى، لا يحفز فيك أية رغبة لمساءلة المقدمة المنطقية لخدمتك رباً على نحو صاخب، ثم الجنوح بتهور لتفعل الشيء عينه لرب جديد، ليس الأمر كذلك بالتأكيد: كما ملت من رب إلى آخر في الماضي، تستمر بفعل الشيء نفسه في الحاضر، بارتياب ساخر أكثر قليلاً هذا صحيح، لكن في النهاية بالتأثير ذاته.
يرى إدوارد سعيد إن المثقف الحقيقي كائن علماني، مهما تظاهر كثير من المثقفين أنهم يمثلون أشياء علوية أو قيماً مطلقة، فالمبادئ الأخلاقية هي البداية لنشاطهم في عالمنا هذا ـ فيه يقوم نشاطه، ومصالحه يخدم، ومع استقامته وأخلاقه العامة ينسجم، فيه يميز بين القوة والعدالة، ويكشف خيارات المرء وأولياته، أما تلك الآلهة التي تفشل دائماً فتتطلب من المثقف في النهاية نوعاً من يقين بحقيقة مطلقة وكلية، ورؤية نقية للواقع تميز فقط مريدين أو أعداء.
إن سعيد يحتفظ بحيز في العقل ينفتح للشك ولجزء من السخرية الشكية، فقد تم الوصول إلى الإيمان الراسخ ووضع الأحكام، بالعمل وبحسب الارتباط بالآخرين، المثقفين الآخرين، وحركة الناس العاديين، والتاريخ المستمر، ومجموعة حيوات معاشة، أما الأفكار المجردة أو المعتقدات القويمة، فالمشكلة معها أنها راعية تحتاج إلى استرضاء وملاطفة كل الوقت، وأخلاق ومبادئ المثقف يجب ألا تشكل نوعاً من صندوق سرعة مغلق يقود الفكر والعمل في اتجاه واحد ويزوده بالطاقة محرك ذو مصدر وقود وحيد. على المثقف أن ينتقل ويقابل الناس، ويجب أن يمتلك فسحة ليقف ويرد على السلطة، لأن التبعية الكاملة للسلطة في عالم اليوم واحد من الأخطار الأعظم على الحياة الفكرية والأخلاقية النشطة.
إنه لصعب أن يواجه المرء ذلك الخطر وحده، وحتى صعب أكثر إيجاد طريق لتبقى مستقيماً مع معتقداتك وفي الوقت نفسه أن تبقى حراً كفاية لتنمو، أو تغير عقلك، أو تكتشف أشياء جديدة، أو تعيد اكتشاف ما صرفت النظر عنه في الماضي، والجاني الأقسى لكونك مثقفاً هو أن تقدم ما تمارسه عبر عملك وتدخلاتك، دون التحجر في عرف أو نوع من إنسان آلي يعمل بأمر نظام ما أو طريقة ما. أي أمريء شعر بابتهاج أنه ناجح في ذلك وناجح أيضاً في البقاء يقظاً وحصيفاً، سيقدر كم هو نادر ذلك الالتقاء، بيد أن الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك أبداً هي أن تستمر بتذكير نفسك أنك كمثقف أنت القادر على أن تختار بين الايجابي: وهو أن تقدم الحقيقة على أحسن وجه تستطيع، والسلبي: وهو أن تسمح لراع أو سلطة أن توجهك. بالنسبة للمثقف العلماني، تلك الآلهة تفشل دائماً.
الكتاب: الآلهة التي تفشل دائماً.
الكاتب: إدوارد سعيد.
الناشر: دار التكوين ـ دمشق 2003.