كلام في التعليم .. بين وزيرين
ما إن يتم تعيين وزير جديد،حتى تنبت للأمل في التغيير أجنحة،فيهرع أصحاب الأقلام إلى أقلامهم لطرح ما لديهم من أفكار وتصورات.. إلخ.
حين هرعت – كغيري لأكتب – وجدت مستودة رسالة كتبتها حين تم تعيين الأمير خالد الفيصل وزيرا .. وقد صرفني صارف الفيل عن مكة،عن إكمالها .. ثم طواها النسيان!!
الرسالة المذكورة سأرفقها بهذه الأسطر . . فهي نظرة من زاوية تختلف عن الزاوية التي أنظر منها اليوم.
من محاسن القدر أنني حديث عهد بقراءة كتاب ( الإسلام بين الشرق والغرب) للمفكر البوسني علي عزت بيجوفيتش وهو رجل تميز بكونه ابنا للثقافة الغربية .. وابنا بارا للفكر الإسلامي .. وقد وصفه الدكتور عبد الوهاب المسيري بأنه ( صاحب اجتهادات مهمة في تفسير ظاهرة الإنسان في كل تركيباتها. وهذه التركيبة،المرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة،هي نقطة انطلاقه والركيزة الأساسية لنظامه الفلسفي){ص 9 مقدمة "الإسلام بين الشرق والغرب"}.
قبل بسط الأفكار سأمهد بتغريدة للدكتور علي الحكمي،وأردفها بمقولة لبيجوفيتش نفسه،من كتابه ( هروبي إلى الحرية) :
( كليات التربية في جامعاتنا السعودية تقبل أعدادا أكبر بكثير مما يحتاجه التعليم العام،وبالتالي تسهم في زيادة العاطلين عن العمل من الجامعيين) د.علي الحكمي
أما علي عزت بيجوفيتش فيتساءل :
( ما هدف التعليم ؟ التطوير المتكامل للشخصية الإنسانية أم التخصص الصناعي الدقيق للحيوان العامل؟).
أعتقد أننا في حاجة إلى أن نطرح على أنفسنا سؤالين :
ماذا نريد من هذا الطالب الذي أحضرناه من بيت أهله؟
ما هي الفلسفة أو الأساس الذي سنبني عليه صرحنا التعليمي؟
سنبدأ بالسؤال الثاني لأنه الأهم ... وهنا نتذكر قول بيجوفيتش .. (التعليم وحده لا يرقى بالناس ولا يجعلهم أفضل مما هم عليه أو أكثر حرية،أو أكثر إنسانية. إن العلم يجعل الناس أكثر قدرة ،أكثر كفاءة، أكثر نفعا للمجتمع. لقد برهن التاريخ على أن الرجال المتعلمين والشعوب المتعلمة يمكن التلاعب بها بل يمكن أن يكونوا أيضا خُداما للشر،ربما أكثر كفاءة من الشعوب المتخلفة (..)(فالتعليم المدرسي في العالم المتحضر يعتمد على الفكر أكثر مما ينبغي،والجانب الإنساني فيه أضأل مما ينبغي. وباستخدام المصطلحات المعتادة نقول إنه تعليم تقني أكثر مما يجب ويكاد يكون مضمحلا في جانبه الكلاسيكي "التقليدي") {ص 113 ( الإسلام بين الشرق والغرب ) / علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : محمد يوسف عدس / القاهرة / دار الشروق / الطبعة الخامسة 2014}.
ويشير بيجوفيتش إلى مسألة في غاية الأهمية .. فيقول .. (في الدول الشيوعية ينطوي التعليم على أن يتشرب الأفراد نظام الدولة الأيديولوجي والسياسي،ويخضع لمصالحها. وفي الدول الرأس مالية يتلاءم التعليم عموما مع المتطلبات الاقتصادية ويخدم النظام الصناعي. وفي كلتا الحالتين فالتعليم هو تعليم وظيفي وفي خدمة النظام) {ص 115 ( الإسلام بين الشرق والغرب )}.
من هذه النقطة تحديدا نشير إلى أهمية إلى أن يكون تعليمنا يعرف ما يريد .. بل وأن يعلن عن نفسه كرسالة جاءت لتنقذ العالم من التدمير الذي تمارسه الحضارة المادية .. يضج الغرب تحت وطأة ماكينة الحضارة المادية التي تطحنه .. بالعودة إلى بيجوفيتش نجده يقول .. (إنه لمن الخطأ الشديد أن نظن – تأسيسا على قول ظاهر – أن ثورة الشباب سنة 1968 في أمريكا وفرنسا كانت ثورة سياسية أو أيديولوجية "عقدية"فالذي حدث كان – على الحقيقة – ثورة أخلاقية (..) أما"أرثر مللر"،وهو حَكم عدل في أمريكا الحديثة،فقد قال :"إن مشكلة انحراف الشباب لا تنتمي فقط للمدن الكبرى بل إلى الريف أيضا،إنها ليست مشكلة الرأس مالية فحسب،بل الاشتراكية أيضا،ولا يقتصر ظهورها مع الفقر فقط بل مع الثراء كذلك،(..) إنني أعتقد أن المشكلة – في وضعها الراهن – هي نتاج التكنولوجيا التي دمرت الإنسان كقيمة ذاتية .. وباختصار لقد اندثرت الروح وتلاشت"){ص 130}.
ثم يسأل بيجوفيتش ..(كيف يمكن تفسير حقيقة أن عدد حالات الانتحار والأمراض النفسية تتناسب طرديا مع مستوى الحضارة؟ وقد اشتكى عالم نفساني أمريكي فقال :"هذه حقيقة هامة من وجهة نظر نفسية،هل هؤلاء الناس أصبحوا أقل رضا مع وجود التحسينات التي طرأت على حياتهم المعيشية؟". هذه الظاهرة بصفة خاصة في بعض الدول المتقدمة الخالية من المشكلات الاجتماعية التقليدية،تهز في أعماقنا الثقة في التقدم (..) وطبقا لتقرير رسمي لسلطات الصحة الأمريكية سنة 1978،أن واحدا من كل خمسة أمريكيين عانى من انهيار عصبي أو كان على حافته . هذه النتيجة مؤسسة على مادة لا تقبل الشك،فقد اختيرت عينة من الأشخاص تمثل 11 مليونا من السكان في سن النضج بين سن"19 – 79") {131}.
وقبل بيجوفيتش نبهنا – كمسلمين – محمد أسد فكتب يقول .. ( إن عالمي الإسلام والغرب لم يكونا يوما أقرب،أحدهما للآخر،كما هما اليوم. وهذا القرب هو صراع ظاهر وخفي،ذلك أن أرواح الكثيرين من المسلمين والمسلمات لتتغضن رويدا رويدا تحت تأثير العوامل الثقافية الغربية. إنهم يتركون أنفسهم يبتعدون عن اعتقادهم السابق بأن تحسين مقاييس المعيشة يجب أن لا يكون سوى واسطة لتحسين أحاسيس الإنسان الروحية. إنهم يسقطون في وثنية"التقدم"نفسها التي تردى فيها العالم الغربي بعد أن صغروا الدين لمجرد صلصلة رخيمة في مكان ما من مؤخرة الأحداث (..) أنا لا أعني أن المسلمين لا يستطيعون أن يفيدوا كثيرا من الغرب،وبخاصة في مجال العلوم والفنون الصناعية،ذلك أن اكتساب الأفكار والأساليب العلمية ليس في الحق"تقليدا"وبالتأكيد ليس في حالة قوم أمرهم دينهم بطلب العلم حيثما يمكن أن يوجد (..) ولو أن المسلمين احتفظوا برباطة جأشهم وارتضوا الرقي وسيلة في ذاتها إذن لما استطاعوا الاحتفاظ بحريتهم الباطنية فحسب،بل ربما استطاعوا أيضا أن يعطوا إنسان الغرب سر طلاوة الحياة الضائع){ الطريق إلى مكة / محمد أسد / ترجمة : عفيف بعلبكي / بيروت / دار العلم الملايين / الطبعة الخامسة }.
لقد كتب "أسد"هذا الكلام قبل أن تظهر الكوارث التي أضرت بالبيئة .. وبالإنسان.
من صرخة "أسد"هذه نعود لسؤلنا الأول :
ماذا نريد من هذا الطالب الذي أحضرناه من بيت أهله؟
مرة أخرى قبل بسط الفكرة .. أذكر بـ"فيديو" من تلك الـ"فديوهات" التي يبحث أصحابها عن "خفة الظل" حيث يسال صاحبه عن فائدة الرياضيات؟ أو شيء من هذا القبيل .. ثم يقرر أن الطبيب .. عند العلاج .. أو المهندس .. عند تخطيط المباني .. لا يسأل في الرياضيات!
قد يكون من غير العسير القول أنه يدون الرياضيات ما كان للأخ أو الابن أن يتحدث للعالم عبر "فيديو" !
ولكن هذه ليست هي القضية .. القضية هي أننا أثقلنا كاهل الطالب .. بأطنان من المواد .. بعضها لا زم لكل مسلم .. وبعضها لا يعني إلا تخصصا معينا .. كما أن "الفيديو" المذكور إضافة إلى مقولة كانت رائجة،يدلان على احتقار العلم التجريبي .. أعني مقولة ( خد علمه وحطه في قارورة)!!
نعاود الكرة نحو فكر بيجوفيتش والذي قال .. (الثقافة هي تأثير الدين على الإنسان أو تأثير على نفسه،بينما الحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة أو على العالم الخارجي (..)وتعليمنا يزكي فينا الحضارة فقط ولا يساهم بشيء في ثقافتنا ) {ص 107 - 111بيجوفيتش }.
لعلنا في حاجة إلى زراعة فكرة المؤاخاة بين الدين والعلم .. كأفكار أولية .. يفترض أن نخبر الطفل كيف استفاد المسلم من تطبيقه حديث النهي عن التنفس في الإناء .. قبل اكتشاف "الجراثيم والمكروبات" .. وقبل باستور – الذي ولد سنة 1822م - .. ثم تتخذ تلك الفائدة مدخلا للحديث عن تاريخ العلم التجريبي .. عند العلماء المسلمين الأوائل .. وانتقاله إلى الغرب بعد ذلك .. ثم زرع فكرة استعادة المسلمين مشعل الحضارة مرة أخرى.. وإنقاذ العالم من المادية الجامدة التي تكاد أن تدمر الكرة الأرضية بمن عليها .. والتذكير بأن كل (ثقافة) تنتج ما يماثلها .. في الغرب القنبلة الذرية – في الحرب – والعلاج الكيميائي المدمر – في الطب – كلاهما نتاج ثقافة تسعى إلى التدمير والإحراق .. وحتى المبيدات الحشرية تحمل نفس الجرثومة .. ونقارن ذلك بوصية الإسلام بعدم قطع الأشجار .. في الحرب .. إلخ.
وبعد .. أعتقد أننا إذا كنا مقتنعين بأهمية أن نسلك طريقا إلى التقدم غير ذلك الذي سلكه الغرب،فإن علينا أن نؤسس أبناءنا تأسيسيا مختلفا عن ذلك التأسيس الذي يثقل كاهل التلميذ بخليط من العلوم الدينية والعلمية،وأن نخصص المرحلة الأولى من التعليم على النحو التالي :
السنة الأولى للقراءة والكتابة،ومبادئ العقيدة أو الضروري منها.
ومن السنية الثانية إلى نهاية المرحلة الابتدائية – بغض النظر عدد السنوات المتبقية من تلك المرحلة – فتكون لتعليم (مبادئ) العلوم .. ونستطيع – إن أردنا – أن نسكب لهم الرياضيات عبر (الرياضيات الشرعية ) – إن صح التعبير – فإن صلاة الصبح إن زادت عن ركعتين .. فسدت .. لأن 1 + 1 = 2 ولا يقبل الله الفجر إلا ركعتين .. وهكذا.. إضافة إلى سرد قصة تطور العلوم .. وتحفيز التلميذ بالتحسر على انتظار الأمة أكثر من ألف سنة حتى يكتشف لها بعض الباحثين الغربيين،أو الشرقيين، إعجازا هنا أو إعجازا هناك في الكتاب أو السنة .. إضافة إلى ذلك نزرع في الطفل - قبل أن يصل إلى مرحلة البحث العلمي – أن لديه – بعون الله – القدرة على اكتشاف علاج لكل مرض،مسلحا بقول الذي لا ينطق عن الهوى – صلى الله عليه وسلم – فيما معناه : (ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء .. إلا السام) أو كما قال عليه الصلاة والسلام .. ومستعينا بالله بصلاة ركعتين قبل البحث في كل معضلة .. إلخ
غني عن القول أن هذه مجرد رؤوس أفكار – إن جاز التعبير – وإن أمة لا تنظف شوارعها،ولا تطبخ طعامها،ولا تغسل ملابسها .. هي أمة في خطر،وإن تصحيح الأخطاء التي أنتجتها (الطفرة) في حاجة إلى وقت طويل .. لإعادة الأمور إلى نصابها. ولعل الأمر في حاجة إلى تجاوز فكرة ( المعاهد المهنية) والتي أحسب أنها لم تؤد الغاية منها،كما أريد لها .. وعليه فإن الأمر برمته في حاجة إلى إعادة النظر.
برزخ بين مقالتين :
أمسكتُ بتلابيب نفسي لكي لا تكتب هذه الومضة .. ولكنها انتصرت عليّ !
ومضة : أين ذلك اليوم؟ الذي يدخل فيه طالب مرحلة ما .. وهو يحمل (خبزا) – أو أي شيء آخر – صنعه بنفسه في مدرسته ... بعد أن تبين ميله إلى ذلك العمل اليدوي الشريف.
إلى الرسالة التي كتبتها وصرفني عنها صارف الفيل عن مكة :
رسالة مفتوحة إلى الأمير خالد الفيصل
صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل .. وزير التربية والتعليم .. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد :يقول المتنبي
ظللت بين أصيحابي أكفكفه .. وظل يسفح بين العذر والعذل
أنا أيضا ظللت تائها بين (عذل) إضاعة أمانة القلم الذي أحمله وعدم الكتابة .. وبين (عذر) أن الصوت سوف يضيع في زحمة الأقلام التي ستتسابق لإبداء وجهات نظرها ..
وأخيرا تغلب (العذل) .. ورأيت أن مسؤوليتي تتوقف عند إبداء الرأي فقط .. فقلت :
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ..
إن الخطأ الأكبر الذي قد يُرتكب هو حضور المسؤول – وعلى وجه الخصوص أي مسؤول يتم تعيينه على رأس وزارة التربية والتعليم - وبيده أدوات البناء .. أو معاول الهدم،إذ أن المشكلة التي تعاني منها .. هي بناء الأساس السليم للمنظومة التعليمية.
أعتقد أن التعليم على مستوى العالم يواجه مشاكل جمة .. مع التغيرات التي تعصف بالعالم ...
حتى في الغرب قرأنا شكاوى من اعتماد الطالب على البحوث التي يجدها منشورة في الشبكة العنكبوتية ..
حتى في بريطانيا العظمى – سابقا – قرانا الصرخة التي أطلقتها صحيفة "الصنداي تايمز"- سنة 1995- ونقلها لنا الأستاذ عبد الله با جبير :
( التلاميذ يقولون عن مدرسيهم أنهم"زبالة" .. والمدرسون يقولون عن التلاميذ أنهم سفلة . عديمو التربية.
وقد نشرت صحيفة"الصنداي تايمز"تحقيقا كبيرا عن الأزمة وقالت أن سن المجرم والعنيف،تنخفض باستمرار. الحكومة البريطانية قامت بدراسة حول المشكلة الخطيرة التي تهدد المجتمع البريطاني،وقد أوضحت هذه الدراسة أن نسبة الأطفال الذين يقومون بأعمال العنف .. اغتصاب،قتل،سرقة،إدمان .. في ازدياد مستمر.
غلام عمره 12 سنة يغتصب فتاة عمرها 11 سنة،غلام عمره 13 سنة في مدينة يورك شير يغتصب فتاة عمرها 8 أعوام،غلام عمره 13 سنة يطلق الرصاص على مدرسه ويقتله.
يقول أحد المشتركين في الدراسة لقد بدأت هذه الظاهرة منذ عام 1987 وقد نبهنا السلطة والأسرة معا لخطورة الظاهرة ولكن أحدا لم يهتم.. وعلينا الآن دفع الثمن.
وقد تزايد عدد المدرسين الهاربين من مهنة التدريس خوفا من عنف الطلبة. وقال أحد المدرسين وهو يقدم استقالته : "إنني لا أستطيع التدريس لمجموعة من الوحوش يتعمدون إهانتي وإثارتي طول الوقت".
والأسباب : انخفاض المستوى الاقتصادي،ألعاب الفيديو،أفلام العنف،ضعف الأسرة،غياب الآباء والأمهات عن البيت .. انتشار المخدرات){ جريدة الشرق الأوسط العدد 5965 في 28/10/1415هـ = 29/3/1995م}.
أعتقد أن الأسباب المذكورة موجودة في مجتمعنا بصورة أو بأخرى،أو بتفاوت بين سبب وآخر .. وعلى رأس تلك المصائب ألعاب العنف،والتي من ضمنها (لعبة) يتم فيها الاعتداء على سيارات الأمن .. وهو أمر يجعلها تدخل ضمن (المساس بهيبة رجال الأمن).
إضافة إلى الأسباب المذكورة في المقالة .. لدينا ما يزيد الطين بلة – إن صح التعبير – وأقصد الدور الذي لعبته (الدراما) في الإساءة إلى صورة المعلم .. وعلى رأس ذلك تأتي مسرحية (مدرسة المشاغبين) ... والتي وجهت سهامها – عبر الإضحاك – لهدم قيمتين هما (الأب) و (المدرس) .. وعلى سوء تلك المسرحية لم أقرأ نقدا كبيرا وجه لها - حسب اطلاعي - باستثناء مقالة ممتازة للأستاذ عبد الله با جبير ،كما أشار إلى ذلك الأستاذ منير عامر – ربما في كتابه "تربية الأبناء في الزمن الصعب" – والذي ذكّر بأن تلك المسرحية كانت مسجلة على أشرطة"كاسيت"حتى حفظها الناس .. كما ذَكر أن مؤلف المسرحية ندم على كتابتها!! والعجيب أن المسرحية المذكورة رغم قدمها ورداءة تصويرها – خصوصا عند المقارنة مع التصوير الحديث – لا زالت الفضائيات تواصل عرضها!!
سمو الأمير ..
لا يختلف اثنان على أن التعليم هو الركيزة الأولى لتقدم الأمم والشعوب ..
ولا يختلف اثنان – فيما أحسب – على أن طرق التعليم ليست ثابتة،وإنما تتخذ كل أمة ما يناسبها وتسلك الطريق الذي يوصلها إلى هدفها .. وهنا أتذكر ما طرحه الفيلسوف الأمريكي إيفان إيليش في كتابه(مجتمع بلا مدارس)،وقد قرأت ترجمة للكتاب،ولكن ذلك كان قبل فترة طويلة،ثم وجدت مقالة للأستاذ عبد الله المطيري،كتبها تحت نفس العنوان ومما جاء فيها :
(ليس هذه بدعة جديدة بل هناك خط فكري مهم وفي أرقى الدول يطالب بمجتمع بلا مدارس. لعل من أبرز رافعي هذه المطالبة الفيلسوف الأمريكي"إيفان إيليش"الذي أصدر كتابا شهيرا بعنوان "مجتمع بلا مدارس" كان له صدى واسع على المستوى العلمي والمستوى الجماهيري أيضا. ولكن ما هي مشكلة "إيليش"مع المدارس؟) انتهى كلام الأستاذ المطيري.
ليس من أهداف هذه الرسالة بسط وجهة نظر الفيلسوف الأمريكي،,لكن الذي يلفت النظر أنه بعد عقود من دعوة ذلك الفيلسوف الأمريكي، تم تشريع"التعليم البيتي"في أمريكا سنة 1993م. ومنذ عام 1994 تضاعف ثلاث مرات تقريبا عدد الأسر الأمريكية التي قررت سحب أبنائها من المؤسسات المدرسية،,قد ارتفع عدد الطلاب من 850 ألفا،إلى أكثر من مليونين في العام 2006م.
قبل أن أصل إلى الهدف من ذكر هذا التجاذب بين التمدرس المؤسسي والتعليم البيتي .. أشير في عجالة إلى أضلاع العملية التعليمية :
المعلم
لا يوجد تعليم جيد دون معلم جيد، ومشكلتنا مع المعلم، أننا وضعنا أنفسنا في دائرة مفرغة يصعب علينا الخروج منها.
يحسد الجميع – وأحاديث المجالس، والتزاحم يؤكدان ذلك- المعلم، على ما لديه من مميزات – دون أن يفكروا في معاناته – يسيل لها لعاب طالبي التوظيف،راتب جيد، إجازة طويلة - كانت كذلك! - عدم الإصابة برهاب ( الترقية)، فأصبح الطالب يدرس ليحصل على وظيفة ( معلم) ... وحين يحصل عليها، يقوم بتعليم طالب ليس له هدف إلا أن يصبح ( معلما) ... فضاعت الأهداف السامية للتعليم، وضاع البحث عن (الثواب) .. وأصبحنا ندور في حلقة مفرغة ... طالب يدرس لهدف وحيد هو أن يصبح ( معلما) – أو موظفا بدرجة معلم – ثم يصبح ذلك الطالب – الضعيف - معلما، يعلم طلابا لهم همٌ وحيد، أن يصبحوا ( معلمين) ليكتمل الدوران في الحلقة المفرغة.. فمن يخرجنا منها؟العجيب أنه حين كثر الطلب على وظيفة ( معلم)، وتزايدت أعداد الخريجين، لم نستفد من نظرية العرض والطلب، حين كان الخريجون قلة، كنا نقبل كل من يتقدم أيا كان مستواه، وحين أصبح لدينا فائض في عدد الخريجين، لم نشترط تميز المتقدمين لطلب وظيفة ( معلم)، ولم نشعرهم أنهم يجب أن يتميزوا عن غيرهم- ولم نشعر كذلك المعلم الذي على رأس العمل، بضرورة التميز – من طالبي الوظائف، ولو اشترطنا التميز ... لتميزوا ... ولو حرصا على نيل الوظيفة. بطبيعة الحال هذه نظرة مختزلة حاولت أن تنظر من زاوية واحدة لخطورة دور المعلم،وإلا فأحلام الطلاب متنوعة ومتفاوتة.. ومشاكل،ومطالب المعلمين متعددة كذلك.
"المناهج" : الطالب ... والحول الفكري
أشفق على طلابنا، فهم يقعون تحت تجاذب نظريتين، يفتحون التلفاز، فيجدون – خصوصا عبر الدراما المتلفزة - الصراع بين الآباء والأبناء،يريد الآباء لأبنائهم تخصصا بعينه، ويُفضل الأبناء تخصصا آخر، وتميل الدراما إلى إظهار الأبوين- والأب بشكل خاص- في صورة المتسلط الذي يريد أن يجبر ابنه على ارتياد الكلية التي يختارها الأب، وفي الغالب يكون الأب قد( فشل) في دخول تلك الكلية، فأراد تحقيق حلمه عبر ابنه... ويتم تمجيد كفاح الابن في سبيل دراسة التخصص الذي يميل إليه، ويجد نفسه فيه، ويحقق طموحه، ويستطيع أن يبدع فيه .. الخ ... الصورة الأخرى هي الدعوات المتكررة لتوجيه الطلاب إلى التخصصات التي يحتاجها سوق العمل، وإلا فإننا ندفع بمزيد من الخريجين الذين لا مكان لهم في السوق، أي مجموعة من العاطلين .. الطالب يصدق من ؟! هل يسير خلف الدراما التي تدعوه إلى أن يدرس ما يحب؟ أم يبحث عن متطلبات سوق العمل؟ ... أم ينظر بعين إلى هذا،وبعين إلى ذاك؟ فيصاب بحول في التفكير؟!!! ... أليس كافيا على الطلاب ما في كتبهم من حشو، وأشياء قد لا تناسب أعمارهم، وأشياء لا معنى لها أو تناقض الواقع الذي يعيشونه؟!!
جناية المكان
المكان هو الضلع الثالث من أضلاع العملية التعليمية، ولاشك أنه يؤثر سلبا أو إيجابا، لا على الطالب فقط، بل إن تأثيره يشمل العملية التعليمية بأكملها، وللأسف فإن ( المكان) التعليمي لدينا – في الأعم الأغلب، وفي الأغلب الأعم – لا يولد لدا الطالب الرغبة في الذهاب إليه، ولا يساعد المعلم على تأدية رسالته... أو حتى وظيفته.
وهنا نجد أيضا حلقة مفرغة، يصعب – كي لا نقول يستحيل – الخروج منها، فمحدودية المكان، تلزمنا أن (نزيح) طلاب المرحلة الابتدائية،ليتركوا ( حيزا) للطلاب الجدد ... و ( نزيح) طلاب المرحلة المتوسطة، ليتركوا (حيزا) لطلاب المرحلة الابتدائية ... وهكذا حتى ( نلقى) بطلاب الجامعات في أحضان البطالة ... ليتركوا ( حيزا) لطلاب المرحلة الثانوية ... وهكذا دواليك.
إذا كانت العرب تسمي الجبل "ثالثة الأثافي"فإن كل ضلع من أضلاع العملية التعليمية يمثل"جبلا"أو قضية تستحق أن تفرد بالبحث والدراسة.
سمو الأمير .. عود على بدأ .. وقضية التمدرس المؤسسي .. والتعليم البيتي ..
لعل هذه فرصة تاريخية .. أن يكون على رأس هرم التعليم الشاعر القائل :
يا مدور الهين ترا الكايد أحلى ..
ما الهين؟
أخذ هذا النظام التعليمي أو ذاك .. وترجمة مقرراته التعليمية إذا لزم الأمر .. وتطبيقها ..
أما "الكايد" فهو بناء منهج خاص لا يستنسخ تجارب الآخرين،كما لا يحرم نفسه الاستفادة منها ..
الذي يتلجلج في الخاطر أننا كأمة مسلمة لنا خصوصيتنا .. وإن كان العالم الغربي قد فصل بين الدين والدنيا فنحن لم نفعل – ولا يحق لنا أن نفعل – خصوصا في دولة دستورها (القرآن الكريم)،وذلك يعني أن على الأمة أن توازن بين (التعبد) و(إعمار الأرض) ..
ولكي يكون لدينا تعليمنا المميز والمتميز .. علينا أن نبدأ بطرح الأسئلة الصحيحة ..
هنا أتذكر كتاب ( هروبي إلى الحرية) للرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيجوفيتش – رحمه الله والديّ ورحمه – وأنقل عنه عبارات لافتة :