السياسة الحربية للمرابطين فـــي أفريقيا
أولاً: سياستهم الحربية في الصحراء وجنوبها
ثانياً: سياستهم الحربية في بلاد المغرب:
1- سياستهم الحربية في المغرب الأقصى
2- سياستهم الحربية في المغرب الأوسط
ثالثاً: علاقات المرابطين السياسية مع الدول الإسلامية في أفريقيا:
1- علاقاتهم السياسية مع دولة بني حماد في الجزائر
2- علاقاتهم السياسية مع إمارة آل زيري في تونس
3- علاقاتهم السياسية مع الدولة الفاطمية في مصر
أولاً: سياستهم الحربية في الصحراء وجنوبها
كان يحيى بن إبراهيم الجدالي غير راضٍ عما كان فيه قومه من تخلف وجهل وكان يتحين الفرصة من أجل اخراجهم من الظلمات الى النور( )، واتته الفرصة عام 427هـ/ 1035م، عندما رحل لأداء فريضة الحج، فمر في طريقه بمدينة القيروان( )، فلقي فيها الفقيه أبي عمران الفاسي( )، الذي أرسله بدوره إلى فقيه المغرب الأقصى واجاج بن زلوا اللمطي، فاختار بدوره تلميذه عبد الله بن ياسين وبعد موافقة الأخير، اصطحبه يحيى بن إبراهيم الجدالي إلى قومه ليعلمهم ويفقههم في الإسلام( )، واستقر في الصحراء عام 430هـ/ 1038م، فسر به أهلها من قبائل جدالة ولمتونة، ونال إعجابهم، وجعلوه قدوة لهم وبالغوا في إكرامه، وسموه إمام الحق( ).
لاقى عبد الله بن ياسين الكثير من الصعوبات من سكان الصحراء الذين رفضوا التخلي عن بعض عاداتهم وتقاليدهم( )، فأخذوا ينصرفون عنه، ويعرضون عن تعاليمه، لما رأوا من صرامته وما تكبدهم تعاليمه من مشقة وضيق( )، وفي رواية انه تعرض الى مؤامرة يدعمها الأمراء والأعيان تزعمها الجوهر بن سكم من قبيلة جدالة، يسانده اثنان من الأعيان هما أيار وإينتكوا، فعزلوه وهدموا داره( ).
وعندئذ خرج عبد الله بن ياسين والأمير يحيى بن إبراهيم من مضارب لمتونة خائفاً منهم، بعد أن غلب عليه اليأس من إصلاح حالهم( )، وهم بالرحيل عنهم الى بلاد السودان، لولا أن الأمير يحيى بن إبراهيم أثناه عن عزمه( )، قائلاً: "إني لا أتركك تنصرف، وإنما أتيت بك لأَنتفع بعلمك في خاصة نفسي وديني، وما علي فيمن ضل من قومي، ولكن ياسيدي هل لك في رأي أشير به عليك أن كنت تريد الآخرة، قال: وما هو؟ قال: ان ها هنا في بلادنا جزيرة في البحر إذا انحسر البحر دخلنا إليها على أقدامنا، وإذا امتلأ دخلناها في الزوارق، وفيها الحلال المحض الذي لاشك فيه من أشجار البرية وصيد البر وأصناف الطير والوحش والحوت، فندخل إليها فنعيش فيها بالحلال ونعبد الله تعالى حتى نموت، فقال له عبد الله بن ياسين: هذا حسن، فهلم بنا ندخل على اسم الله" ( ).
وهكذا غادر عبد الله بن ياسين ديار الملثمين مع الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي ومعهما سبعة أشخاص من جدالة عام 433هـ/1041، إلى جزيرة في الحوض الأدنى لنهر السنغال، وابتنوا بها رباطاً، وأقام بها مع أصحابه مدة ثلاثة أشهر، يعبدون الله تعالى( )، فتسامع الملثمون المنتشرة قبائلهم من جبال درن في الشمال، حتى منحنى النيجر في الجنوب، بأخبارهم وإنهم اعتزلوا بدينهم يطلبون الجنة والنجاة من النار، فكثر الواردون عليهم والتوابون لديهم، واخذ عبد الله بن ياسين يقرئهم القرآن، ويرغبهم في ثواب الله، ويحذرهم عقابه( )، وبتوالي الأيام، وبمدة يسيرة اجتمع له نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة فلقبهم بالمرابطين للزومهم رابطته في حوض السنغال( )، فلما كثر أنصاره، أحس ابن ياسين أن هذه العصبة المرابطة قد تكون عنصراً فعالاً في تنفيذ سياسته، وتحقيق أهدافه، لو تم إعدادهم وتهيئتهم لتحقيق هدفه بتوحيد قبائل الملثمين تحت لوائه، ولم يكن عبد الله بن ياسين مجرد فقيه، يفتي بين الناس، ويفسر القران، ويروي الحديث، بل كان رجلاً ذكياً، بعيد النظر نافذ البصيرة، خبيراً بالمجتمع الذي يعيش فيه، ولدية القابلية على التأثير في نفوس مريديه ( )، فكان يتردد طويلاً قبل أن يضم المريد إلى زمرته، بل وضع شروطاً يجب أن تتوافر في كل مريد جديد يقدم الى رباطه، كي لا تفسد الرابطة الجديدة الناشئة بالمخربين( )، فكان يفرض على المريدين الجدد إنكار ما كانوا عليه سابقاً، وان يدخلوا الإسلام من جديد، وان يُحاسبوا على ما اقترفوا من إثم في حياتهم السابقة قبل دخولهم الرباط( )، وكان يختار اطهر الملثمين نفساً وأوفرهم قوة وأكثرهم تحملاً للصعاب( ).
ويبدوا أن عبد الله بن ياسين اعتمد هذه السياسة كرد فعل لفشل تجربته السلمية السابقة، في المرحلة الأولى من دعوته التي كانت تعتمد على النصيحة والموعظة الحسنة، فلما أخفقت هذه السياسة، أضطر أن يضع شروطاً، يخضع فيها الراغب بالانضمام إليه لامتحان كي يحول دون انضمام المفسدين وكان يطرد من يفشل في التجربة، ويبقي من يجتاز الامتحان بنجاح، ثم يجمع الفائزين ويتولى تدريبهم وتثقيفهم، ويعلمهم قراءة القرآن، وتفسير الحديث، وأحكام الدين( )، ويأمرهم بالصلاة والزكاة وإخراج العشر، فأسس بيت المال ليجهز به الجيوش، ويشتري السلاح( ).
ولما أكمل استعداداته ندب جماعته الى جهاد من خالفهم من قبائل صنهاجة قائلاً لهم: "إن ألفاً لن تغلب من قلة، وقد تعين علينا القيام بالحق والدعاء له وحمل الكافة عليه فأخرجوا بنا لذلك"( )، "وانذروا قومكم وخوفوهم عقاب الله وأبلغوهم حجته فإن تابوا فخلوا سبيلهم وإن أبوا من ذلك وتمادوا في غيهم ولجوا في طغيانهم استعنا بالله تعالى عليهم وحاصرناهم حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين"( )، فخرج كل منهم الى قومه، وعشيرته، ليعظهم وينذرهم، ويدعوهم الى الرشد والإقلاع عن التقاليد المخالفة للدين، فلم يصغ لهم احد من أقوامهم، فخرج عبد الله بن ياسين بنفسه وجمع أشياخ ووجوه قبائلهم، ونصحهم بإتباع أحكامه، وخوفهم من عذاب الله، ودعاهم للتوبة ورغبهم في الجنة، وأقام ينذرهم سبعة أيام، فلم يلق منهم سوى الإعراض والتحدي، فقال لأصحابه بعد أن يأس منهم، قد انذرنا واعذرنا والآن وجب علينا جهادهم، فاغزوهم على بركة الله( ).
وبدأ عملياته العسكرية بثلاثة آلاف مقاتل، فغزا أولاً قبيلة جدالة التي تآمرت عليه، وبعد قتال عنيف، انهزموا بين يديه، وقتل منهم خلقاً كثيراً( )، وأذعنت للطاعة سنة 434هـ/ 1042م، وأسلمت إسلاماً جديداً، وأدوا كل ما فرضه الله عليهم، ثم اتجه بعد ذلك الى قبيلة لمتونة، فنزل بها وقاتلهم حتى نصره الله عليهم وأذعنوا الى الطاعة وأعلنوا توبتهم وبايعوه على إقامة الكتاب والسنة( )، ثم اتجه إلى قبيلة مسوفة وأخضعها وبايعوه على ما بايعته قبيلتي جدالة ولمتونة( )، ثم نهض المرابطون، الى لمطة وسألوهم ثلث أموالهم لتطيب الثلثين الباقيين فأجابوهم لذلك ودخلوا معهم في دعوتهم( )، وعندئذ سارعت سائر قبائل صنهاجة، واحدة تلو الأخرى، الى التوبة والى مبايعته، حتى خضعوا جميعاًَ، واقروا له بالسمع والطاعة، وهكذا حقق عبد الله بن ياسين هدفه المنشود في نشر الدعوة، وتوحيد قبائل الملثمين، تحت لوائه، وبذلك ملك جميع بلاد الصحراء، ودخلت قبائلها في طاعته( )، وشاع الأمن والاستقرار في ربوع تلك المناطق الصحراوية النائية، وازدهرت التجارة لتمكن القوافل التجارية من السير في الطرقات الصحراوية بأمان وسلام دون أن يتعرض لها احد بسوء( ).
اتخذ عبد الله بن ياسين في قومه دور الإمام، الذي يعلم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وتطبيق أحكام الشرع، وقيادة الناس الى الطريق السوي، وترك دور الأمير الذي ينفذ أوامر الإمام، وقيادة الناس في حروبهم ليحيى بن إبراهيم زعيم جدالة( )، فلما توفى في سنة 440هـ/1048م، أختار يحيى بن عمر اللمتوني- بعد مشاورة المرابطين- ليتولى شئون الحرب وقيادة المرابطين، وتدريبهم على القتال وإعدادهم لمعركة الجهاد، وعبد الله بن ياسين ينظر في أمر الدين وأحكام الشرع ويأخذ الزكاة والأعشار، وهو الأمير الأعلى، لأنه هو الذي يأمر، وينهى، ويعطي، ويمنع، وتنفذ جميع أوامره( )، وقد أدى اختيار يحيى بن عمر اللمتوني لإمارة الملثمين إلى تمرد قبيلة جدالة، لخروج الإمارة منها فجرد عبد الله بن ياسين جيشاً ضد المتمردين وردهم الى طاعته( ).
وكان أبو زكريا يحيى بن عمر اللمتوني، "من أهل الدين المتين والفضل والورع والزهد في الدنيا والصلاح"( )، كثير الولاء والطاعة( )، لعبد الله بن ياسين، فيما يأمره به وينهاه عنه، ويحرص على تحقيق أهدافه( )، لذلك عقد عبد الله بن ياسين مجلساً من أصحابه( )، واخذ البيعة ليحيى بن عمر( )، فأصبح أميرا على المرابطين، وسماه أمير الحق( ).
لقد استطاع عبد الله بن ياسين، أن يحقق السياسة التي رسمها لنفسه، فاستعان بيحيى بن إبراهيم الجدالي في نشر الدعوة، وبناء المجتمع الجديد، وبعد وفاة يحيى بن إبراهيم، رأى بان يستعين بلمتونة، التي هي أقوى قبائل الملثمين، والمتحكمة في طرق التجارة الساحلية، لتتزعم حركة الجهاد فأعد جيشاً لذلك وزوده بالمال والسلاح والخيل، واختار له أبا زكريا أميرا، يأتمر بأمره وينفذ أوامره دون تردد، واقتنع هو بالإشراف البعيد، وابتعد عن الإمارة( )، وكان يقول: "إنما أنا معلم دينكم" ( )، وأمرهم بالخروج إلى الجهاد، حيث كان يلي لمتونة جبل فيه قبائل من البربر على غير دين الإسلام، لم يستجيبوا لدعوة الإمام عبد الله بن ياسين، وقتلوا رسله، فأمر يحيى بن عمر بغزوهم فغزاهم بلمتونة، فقاتلهم ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع حمى الوطيس بين الطرفين واشتد القتال الى أن انهزم أعدائهم، فأثخنوا فيهم القتل وسلبوا أموالهم وسبوا نسائهم وأبنائهم، وعادوا الى الصحراء، وقسموا سبيهم بينهم، فأمرهم الإمام عبد الله بن ياسين بإعطاء الخمس لأميرهم يحيى بن عمر فأخذه، وهو أول خمس قسمه اللمتونيون في صحرائهم( ).
أدرك عبد الله بن ياسين مدى خطورة مملكة غانة القوية التي تسيطر على مدينة اودغشت وتحكمها بالطرق التجارية التي تجتاز الصحراء، وباعتبارها عدو يهدده تهديداً خطيراً من الخلف، لذلك سار الى الشرق نحو منحنى النيجر، صوب مدينة اودغشت في عام 447هـ/1056م، لاستردادها من مملكة غانة، التي كانت قد اغتصبتها من الملثمين، بعد سقوط التحالف الصنهاجي( )، ولنشر الإسلام في غانة، وخاض المرابطون معركة قاسية، استبسلوا فيها استبسالاً عظيماً( )، واستشهد يحيى بن عمر في هذه المعركة( )، وانتصر المرابطون وهزم عدوهم، واستولوا على مدينة اودغشت واستباحوا حريمها وجعل كل ما غنموا فيها فيئا( )، وتوسعوا باتجاه الجنوب وأوغلوا في ديار غانة حتى اشرفوا على ديار التكرور( )، وتمت محالفة بينهم وبين المرابطين وخاض رئيس التكرور الحروب الى جوارهم( )، وفتحوا الكثير من بلاد السودان( ).
وقد أكدت هذه الحملة للناس صدق جهاد المرابطين في مدافعة ملك غانة، ونشر الإسلام بين أهلها بالقوة، وذاعت شهرتهم في أرجاء الصحراء بل تجاوزت أصداؤها جبال درن في الشمال، لان المرابطين عملوا بعد تحرير اودغشت على مقاومة الفساد بحد السيف، ونشر الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقويم المعوج من سلوك الناس، وبذلك ازدادت الوفود من الملثمين الى الجنوب لتلحق بجموع المرابطين، وتشاركهم شرف الجهاد، وتضاعف عدد المرابطين( )، وتدفقت الى بيت المال الأموال الكثيرة من الأعشار والزكاة والصدقات، وأصبح المرابطون بمقدورهم أن يتبعوا هذا الانتصار بانتصارات أخرى، وان يواصلوا حملتهم لنشر الدعوة( )، واستمروا في جهادهم لمملكة غانة أربعة عشر عاماً قبل أن تخضع لهم عاصمتها عام 454هـ/1062م( ).
أن ابتعاد المرابطين عن موطنهم الأصلي شمالاً خلال الأعوام 452-454هـ/ 1060- 1062م، أدى إلى اختلال أمر الصحراء بسبب النزاع بين قبيلتي لمتونة وجدالة( )، فضلاً عن غارات قبائل السودان على المرابطين، لذلك أناب الأمير أبو بكر ابن عمه يوسف بن تاشفين لمواصلة الزحف شمالاً، بعد أن ترك له ثلث الجيش ألمرابطي وانصرف بالثلثين عائداً الى الصحراء، وأصلح الأمر مابين جدالة ولمتونة، ثم واصل جهاده لقبائل السودان( )، وبعد أن وصلته أخبار الانتصارات التي سطرها يوسف بن تاشفين في المغرب، سار عائداً الى الشمال، فلما رأى عزمه على الاستبداد بالملك، ترك الإمارة له على المغرب ورجع الى الصحراء( )، وبدأ بغزوات متتالية في قلب مملكة السودان، وعاصمتها يومئذ مدينة غانة( )، فضلاً عن غزواته إلى مملكة مالي، وهو يعمل على نشر الإسلام بين تلك القبائل السود التي كانت تدين بالنصرانية، حتى توفي قتيلاً في احد المعارك بسهم مسموم سنة 480هـ/ 1087م( )، فاستمر أمراء المرابطين في مواصلة الجهاد ضد القبائل الوثنية في منطقة السودان الغربي( ).
وكانت نتيجة امتداد نفوذ المرابطين الى بلاد غانة: سيطرتهم على مناجم الذهب، ومكامن الملح في الصحراء، وإقامة أحكام الشرع، فأبطلوا الضرائب والمكوس، واخذوا الزكاة والأعشار وأخماس الغنائم والجزية( )، ونشروا اللغة العربية الى جانب اللغات المحلية في غانة، وانتشرت بينهم العادات العربية، ومنها لبس العمامة، كما ادعى بعض أمراء غانة النسب العلوي( )، وانظموا تحت لواء الدولة المرابطية، مع أتباعهم، وحاربوا الكفار، وقاموا بحملات جهادية نيابةً عن المرابطين، لنشر الإسلام بين القبائل الوثنية( ).
وبذلك كان للمرابطين الفضل الكبير في نشر الدين الإسلامي واللغة العربية في مناطق السودان الغربي( )، وتحسين أوضاعهم الاقتصادية بعد إلغاء الضرائب وتامين الطرق التجارية المتجهة نحو الشمال، وتقديمهم خدمات جليلة لتجار المنطقة، لا سبيل الى نكرانها( ).
ثانياً: سياستهم الحربية في بلاد المغرب
1- سياستهم الحربية في المغرب الأقصى:
كان المغرب الأقصى يعاني من قلاقل شديدة تحت أمراء بني وانودين الزناتيين بسجلماسة، وأمراء مغراوة وبني يفرن فتدهورت الحالة الاقتصادية وكثر الظلم، وتدهورت الأخلاق، وضعف العامل الديني فيهم، وللتخلص من هذه الأعباء الثقيلة، التمس الفقهاء في سجلماسة ودرعة، وصلحائها، العون من المرابطين يرجون الخلاص( )، مما هم فيه، فكان ذلك عاملاً أساسيا على زحف المرابطين الى المغرب( )، فضلاً عن أن الصحراء، قد ضاقت بجموع المرابطين الذين كانوا بتزايد مستمر يوماً بعد آخر( )، فكان لابد من أن يجد أولوا الأمر مجالاً حيوياً يتجهون إليه( )، كما إن عبد الله بن ياسين كان يتطلع الى أن يبسط نفوذه على المغرب كما بسطه على الصحراء من قبل، ونشر الدعوة فيه وإظهار كلمة الحق والعبور الى الأندلس، وإنشاء دولة لها تأثير عظيم في توجيه الحياة الاقتصادية بالمغرب في إطار الشرع الإسلامي( ).
اتخذ عبد الله بن ياسين من دعوة فقهاء وصلحاء سجلماسة ودرعة، فرصة لتحقيق ما كان يروم إليه، فبدأ بمشاورة الفقهاء، وأشياخ المرابطين، ورؤساء القبائل، وحثهم على الجهاد( )، وبعد أن ظهر له استقامة لمتونة، وشدة صبرهم وجدهم واجتهادهم، فأراد أن يظهرهم ويملكهم بلاد المغرب، فقال لهم: إنكم صبرتم، ونصرتم دين رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقد فتحتم ما كان أمامكم وستفتحون إن شاء الله ما ورائكم( )، فأمرهم بالجهاز وخرج بهم في جيش عظيم من المرابطين، "عدته ثلاثون ألف جمل سرح"( )، في عام 447هـ/1055م( )، من الصحراء إلى سجلماسة( )، ودرعة وكان أهلها تحت إمرة زناتة المغراويين، وأميرهم مسعود بن وانودين المغراوي الذي رفض إجابة المرابطين على طلبهم بإقامة أحكام الدين عندما خاطبوه بذلك( )، فسار حتى وصل بلاد درعة، فوجد فيها عامل أمير سجلماسة، فأبعده عنها، واستولى على نوقه التي يقدرها البعض بخمسين ألف ناقة - وهو رقم مبالغ فيه- كانت ترعى في حمى حماه لها في مراعي درعة، فوصل الخبر للأمير مسعود، فجمع جيوشه وخرج نحوهم، فالتقى الجمعان بين درعة وسجلماسة، ودارت بينهم حروب عظيمة، اظهر الله فيها المرابطين على مغراوة، وقتل مسعود بن وانودين ( )، وأكثر جيشه، وفر الباقون منهم( )، واستولى عبد الله بن ياسين على أسلابهم وأموالهم، وجمعها مع الإبل التي أخذها من مراعي درعة، فاخرج الخمس من ذلك كله وفرقه على فقهاء سجلماسة ودرعة وصلحائهما، وقسم الأربعة أخماس الباقية على المرابطين ثم سار على الفور الى سجلماسة فدخلها، وقتل من وجد فيها من مغراوة، وأقام فيها حتى هدئها، وأصلح أحوالها، وغير ما وجد بها من المنكرات، وقطع المزامير، وآلة اللهو، واحرق الدور التي كان يباع بها الخمر، واسقط المغارم، وأزال المكوس، واستعمل عليها عاملا من لمتونة( )، وانصرف إلى الصحراء( )، وبذلك وطد المرابطون أقدامهم في إقليم الواحات وأسسوا قاعدة لهم أنشئوها قرب سجلماسة تعرف باسم مدينة تبلبلا( )، واتخذوها قاعدة للمرحلة التالية من مراحل فتح المغرب، وانتشرت أخبار ذلك النصر في أرجاء المغرب كله معلنة عن ظهور دولة المرابطين، على يد هؤلاء القوم الشداد من بدو الصحراء( ).
ولما توفى الأمير يحيى بن عمر اللمتوني، في بعض غزواته ببلاد السودان عام 448هـ/1056، فقدم الإمام عبد الله بن ياسين في مكانه لقيادة المرابطين أخاه أبا بكر بن عمر اللمتوني في درعة( )، فبايعتـه لمتونـة وسائر الملثمين، وأهــل سجلماسـة ودرعة( )، وكان أبو بكر رجلاً صالحاً ورعاً فجعل على مقدمة جيشه ابن عمه يوسف بن تاشفين بن إبراهيم اللمتوني، فيهم أشياخ لمتونة وقبائل البرابرة والمصامدة( )، فسار في عام 448هـ/1056م، حتى وصل بلاد السوس( )، وبدأ بغزو بلاد جزولة واستولى عليها، وافتتح مدينة ماسة( )، ثم سار الى مدينة تارودانت( )، قاعدة بلاد السوس( )، وكان بها قوم، يقال لهم البجلية نسبة إلى علي بن عبد الله البجلي الذي استقر في بلاد السوس في أواخر القرن الثالث الهجري/ العاشر الميلادي، فأشاع بها مذهبه( )، فقاتلهم المرابطون حتى استولوا على المدينة عنوة، وقتلوا خلقاً كثيراً منهم، وأقروا بها المذهب المالكي عام 448هـ/1056م( )، وجمع الإمام ابن ياسين أسلاب القتلى منهم فجعلها فيئاً للمرابطين، وتمكن المرابطون من فتح جميع معاقل بلاد السوس، وخضعت لهم قبائلها، واخرج عبد الله بن ياسين عماله بنواحيها، وأمرهم بإقامة العدل، وإظهار السنة، والاكتفاء بالزكاة والأعشار وإسقاط المغارم( ).
ثم ارتحل عبد الله بن ياسين الى بلاد المصامدة( )، ففتح جبل درن، ثم بلاد رودة، واستولى على مدينة شفشاوة عنوة بالسيف، ثم فتح بلاد نفيس، واستولى على سائر بلاد كدميوة( )، ووفد عليه قبائل رجاجة( )، وحاحة( )، فبايعوه وأعلنوا الطاعة له( )، وأوغل المرابطون في إقليم السوس حتى وادي تنسيفت( )، وبذلك أكملوا سيطرتهم على آخر معاقل بلاد السوس، وخضعت لهم جميع قبائلها( )، ثم استطاع المرابطون أن يبسطوا نفوذهم على إقليم مراكش الجنوبي، وبذلك قطعوا شوطاً بعيداً في سبيل فتح المغرب الأقصى( ).
اتجه المرابطون شرقاً الى مدينة اغمات( )، "حاضرة المصامدة"( )، التي كان أميرها لقوط بن يوسف بن علي المغراوي، فهاجموها، فاستسلمت بعد حصار شديد، وفر أميرها لقوط المغراوي ليلاً مع حشمه( )، إلى تادلا، فاستجار بملوكها بني يفرن، ليكون تحت حمايتهم، ودخل المرابطون اغمات سنة 449هـ/1057م، فمكثوا بها نحو شهرين لاستراحة الجند( ).
ثم خرج المرابطون بقيادة عبد الله بن ياسين قاصدين غزو تادلا فتمكنوا من الاستيلاء عليها، واستباحوها وقتلوا من وجدوا بها من ملوكها من بني يفرن، وقتل معهم الأمير لقوط بن يوسف المغراوي( )، وأطاعت لهم "وريكة، وهيلانة، وهزميرة"( )، وبذلك استطاع المرابطون القضاء على الإمارات الزناتية في إقليم الجنوب، ولم يبق أمامهم، إلا أن يفرضوا سيطرتهم على منطقة فآس والمناطق المحيطة( )ا، ثم تزوج الأمير أبو بكر بن عمر من زينب بنت اسحق النفزاوية، زوجة لقوط بن يوسف المغراوي( ).
بعدها اتجه المرابطون الى بلاد تامسنا، فغزوها واستولوا عليها، فاخبر عبد الله بن ياسين بان في ساحلها قبائل برغواطة( )، وإنهم يدينون بمذهب ينافي تعليم الإسلام ساسه سنة 225هـ/839 م، رجل يهودي يدعى صالح بن طريف البرناطي نسبةً إلى حصن برناط من أعمال شذونة بالأندلس، الذي نشأ فيه( )، وكان يقال لمن تبعه ودخل في دينه برباطي، ثم عربته العرب فقالوا برغواطي فسموا برغواطة( )، فسار إليهم عبد الله بن ياسين وقائده أبو بكر بن عمر في جموع المرابطين، سنة 451هـ/1059م، وكان الأمير على برغواطة في حينها أبو حفص عبد الله بن أُبي بن أَبي عبيد محمد بن مقلد بن اليسع بن صالح بن طريف البرغواطي( )، فدارت بينهم وقائع شديدة، قتل فيها من الفريقين خلق كثير، وأصيب خلالها عبد الله بن ياسين بجروح بالغة، توفى على أثرها في الرابع والعشرين لجمادى الأولى سنة 451هـ/1059م، ودفن في موضع مرتفع يعرف بكريفلة، قريبا من تامسنا من ارض قبيلة زعير( )، بحوز الرباط، وبني على قبره مسجد، وهو مشهور بها ومزاره قائم لحد الآن( ).
جمع عبد الله بن ياسين قبل وفاته أشياخ المرابطين ورؤسائهم، وحثهم على الثبات في القتال، وحذرهم من عواقب الفرقة والتحاسد في طلب الرياسة( )، وأوصاهم قائلاً: يا معشر المرابطين إني ميت في يومي هذا لا محال، وإنكم في بلاد أعدائكم، فإياكم أن تجبنوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وكونوا ألفة وأعواناً على الحق وإخواناً في الله وإياكم والمخالفة والتحاسد على طلب الرياسة، فأن الله يؤتي ملكه من يشاء ويستخلف في أرضه من أحب من عباده، واني ذاهب عنكم، فانظروا من تقدمونه منكم يقوم بأمركم ويقود جيوشكم ويغزوا عدوكم ويقسم بينكم فيئكم ويأخذ زكاتكم وأعشاركم( )، فاتفق رأيهم على تقديم أمر الحرب لأبي بكر بن عمر فقدمه الإمام عبد الله بن ياسين باتفاق جميع أشياخ صنهاجة وإجماعهم على ذلك( ).
واستمر الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني على رياسة المرابطين، وجددت له البيعة، بعد وفاة الإمام عبد الله بن ياسين، وبذلك تولى أبو بكر جميع المهام في قيادة المرابطين جامعاً بين الإمامة والإمارة( )، فكان أول عمل قام به بعد أن فرغ من تجهيز ودفن الإمام عبد الله بن ياسين، بأنه جهز جيشاً لمتابعة الجهاد ضد برغواطة حتى اخذ الثأر منهم( )، فأثخن فيهم قتلاً وسبياً حتى تفرقوا في الصحراء، وأذعنوا بالطاعة، واسلموا إسلاماً جديداً، ولم يبق لديانتهم اثر في المغرب، وجمع أموالهم وغنائمهم وقسمها على المرابطين، ورجع الى مدينة اغمات فأقام بها حتى شهر صفر من سنة 452هـ/1060م( )، ثم خرج في جيش عظيم، من صنهاجة وجزولة والمصامدة، إلى بلاد المغرب، ففتح بلاد فازاز، ومكناسة، وسائر بلاد زناتة ثم سار الى مدينة لواته وانتزعها من أيدي بني يفرن عنوة وخربها وقتل بها خلقاً كثيراً منهم، وذلك في شهر ربيع الثاني من سنة 452هـ/1060م، ثم رجع بعدئذ إلى اغمات( ).
لبث الأمير أبو بكر بن عمر في اغمات ثلاثة أشهر، فترامت الى مسامعه أخبار النزاع بين قبائل البربر في الصحراء، فعزم العودة الى الصحراء، وطلق زوجته زينب النفزاوية، وأوصاها بان تتزوج ابن عمه يوسف بن تاشفين بعد انقضاء العدة( )، ثم ارتحل إلى أغمات ماراً ببلاد تادلا، إلى أن وصل سجلماسة وأقام بها أياماً، وأصلح أحوالها، ثم دعا ابن عمه يوسف بن تاشفين، وعقد له على المغرب وفوض الأمر إليه، واقر ذلك أشياخ صنهاجة، لما يعلمونه عن يوسف من دينه، وفضله وشجاعته وحزمه ونجدته وعدله وسداد رأيه( ).
سار أبو بكر بجزء من الجيش إلى الصحراء سنة 453هـ/1061م، وترك ثلثه مع يوسف بن تاشفين، وأمره بمتابعة قتال مغراوة وبني يفرن وزناتة( )، وعاد يوسف من سجلماسة بعد ارتحال أبي بكر بن عمر إلى الصحراء سنة 453هـ/1061م، لتحقيق المهمة التي ندبه إليها الأمير أبو بكر اللمتوني، ولما وصل إلى وادي ملوية( )، استعرض جيشه الذي بلغ أربعين ألفا الى أربعة أقسام، واختار لكل قسم قائداً من أشهر القادة المرابطين وهم: سير بن أبي بكر اللمتوني، ومحمد بن تميم الجدالي، وعمر بن سليمان المسوفي، ومدرك التلكاتي، وعقد لكل منهم على خمسة آلاف من قبيلته، وبعثهم الى أنحاء المغرب، وتولى هو قيادة بقية الجيش وسار على أثرهم( ).
زحف يوسف بن تاشفين نحو المغرب، فغزاهم قبيلة فقبيلة، وبلداً بعد بلد، فقوم يقتلون وآخرون يفرون، وآخرون يدخلون في طاعته، ثم عاد الى اغمات عام 454هـ/1062م واقترن بزينب النفزاوية، وبدأ بإنشاء مدينة مراكش( ).
لقد استقام أمر الصحراء، بعد أن قضى الأمير أبو بكر على الخلاف بين قبائلها من الملثمين، وأصلح أمورها، وقد ترامت الى مسامعه أخبار يوسف بن تاشفين وما فتح الله على يده من بلاد، فأقبل من الصحراء، ليعزله ويولي غيره( )، ونزل خارج مدينة اغمات( )، ولما شعر يوسف بذلك وما يواجه سلطانه عند مقدم الأمير أبي بكر، وتذكر بعض الروايات انه سمع استشارة زوجه زينب النفزاوية في الأمر، وكانت الى جانب جمالها من أعقل وأذكى نساء عصرها، وأبعدهن نظراً، وكانت مدبره لأمره منذ تزوجها، فأشارت عليه أن يظهر له الغلظة، ويشعره بقوة السلطان والاستبداد، وان يلاطفه بالهدايا والأموال والخلع( ).
وسار يوسف للقاء أبي بكر، فالتقيا بموضع بين اغمات ومراكش وسلم عليه راكباً ولم يترجل كعادته يحيط به حرسه الخاص وجيشه الكبير، فشعر أبو بكر مما أظهره يوسف، من تعاليه في السلام عليه وهو راكب فرسه، وعندما أجابه بأنه يستعين بهذه القوات على من يخالفه، فأدرك حرصه على سلطانه، واستعداه للدفاع عنه فزهد أبو بكر في التنافس والقتال، فجمع أشياخ المرابطين من لمتونة واعيان الدولة، والكتاب والشهود، وأشهدهم على نفسه بالتخلي ليوسف عن الإمارة على المغرب( )، وأوصاه بإتباع العدل والرفق( )، وقدم له يوسف طائفة عظيمة من الهدايا الجليلة( )، ثم ودعه الأمير أبو بكر وعاد الى الصحراء، وبقي مجاهداً في الصحراء ينشر الإسلام فيها بين القبائل حتى استشهد سنة 480هـ/1087م( ).
وبعد تنازل الأمير أبي بكر عن الإمارة ليوسف بن تاشفين، أصبح الأخير أمير المرابطين بلا منازع في المغرب، فاتجه نحو شمال المغرب الأقصى لانتزاعه من أيدي الزناتيين، مستخدماً أسلوب التقري( )، وكان هدف يوسف القضاء على زناتة، وانتزاع الحكم منها، فعمل على تقوية جيشه وحرسه، فاقتنى من العبيد نحو ألفين، وبعث الى الأندلس فأشترى منها عدداً كبيراً من الرقيق النصارى- العلوج- وأنشأ منهم فرقة قوية من الفرسان، واستعان على نفقاته العسكرية بما فرضه في حينها على اليهود من ضرائب ثقيلة، جمع منها مالا كثيراً( )، ويقال أن عدد جيشه بلغ في أواخر سنة 454هـ/1062م، أكثر من مائة ألف فارس من قبائل صنهاجة وجزولة وزناتة والمصامدة، فخرج بهم من مراكش قاصداً مدينة فاس، فأعترضته قبائلها( )، في خلق عظيم وعدد كثير، فقاتلوه، ووقعت بينهم معارك عظيمة، انهزمت فيها تلك القبائل وامتنعت بمدينة صدينة( )، فاقتحمها يوسف بن تاشفين، وهدم أسوارها، وقتل بها أكثر من أربعة ألاف رجل منهم، ثم سار إلى مدينة فآس( ).
يقول ابن خلدون: إن يوسف بن تاشفين، نازل أولا قلعة فازاز، وبها مهدي بن توالي( )، اليحشفي( )، فقضى عليه، ثم استنجده مهدي بن يوسف الجزنائي صاحب مكناسة على عدوه معنصر المغراوي صاحب فآس، فزحف يوسف بن تاشفين في عساكر المرابطين إلى فآس، لمساعدة مهدي الجزنائي، وجمع معنصر المغراوي صاحب فاس جيشا كبيرا( )، فدارت الحرب بين الفريقين، استخدم يوسف فيها أسلوب التقري، واستخدم معنصر صاحب فآس أسلوب الكر والفر( )، وتمكن يوسف من فتح جميع الحصون المحيطة بها، واستولى على احوازها، وحاصرها أياماً قلائل، وظفر بعاملها بكار بن إبراهيم فقتله، ثم سار الى مدينة صفروى( )، ودخلها عنوة وقتل ملوكها أولاد مسعود بن وانودين المغراوي صاحب سجلماسة، ثم رجع الى فآس فحاصرها حتى دخلها صلحا سنة 455هـ/1063م( )، بعد فرار أميرها معنصر المغراوي منها( )، وهذا هو الفتح الأول، فأقام بها يوسف بن تاشفين أياما، وعين عليها عاملا من لمتونه( )، وخرج إلى بلاد غمارة ففتح الكثير منها حتى اشرف على طنجة، "ثم رجع الى منازلة فازاز فخالفه بنو معنصر بن حماد المغراوي الى فآس فدخلوها وقتلوا عامل يوسف الذي كان فيها"( )، فطلب يوسف من حليفه الجزنائي صاحب مكناسة، أن يتجهز لقتال مغراوة، فخرج المهدي من مدينة عوسجة( )، واتجه نحو فآس، فاعترضه معنصر ودار بينهما قتال شديد قتل فيه مهدي الجزنائي وتفرق جيشه( )، فأرسل يوسف جيشا الى فآس فحاصرها حتى ضاق الأمر بأهلها، ولما رأى معنصر أن الحصار طال وانقطعت عنه المواد والموارد، والأقوات انعدمت بفاس( )، "وبرز معنصر إلى مناجزة عدوه لإحدى الراحلتين فكانت الدائرة عليه وهلك"( )، وقتل كذلك ابنة تميم، وقتل معه خلق كثير من حشمه، وقام بالأمر مكانة بفاس القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية المكناسي( )، فجمع قبائل زناتة وزحف لقتال المرابطين، والتقوا بوادي صيفير، فهزم المرابطين وقتل عدداً من فرسانهم( ).
علم يوسف بخبر هزيمة المرابطين أمام زناتة، وكان في حينها محاصراً لقلعة مهدي ببلاد فازاز، فارتحل منها سنة 456هـ/1063م( )، وسار إلى بني مراسن، وأميرهم في حينها يعلى بن يوسف، فغزاهم وقتل منهم خلقاً كثيراً وفتح بلادهم، ثم سار الى بلاد فندلاوة، فغزاها وفتح جميع تلك الجهات وسار إلى بلاد ورغه ففتحها وذلك في سنة 458هـ/1065م( )، وتابع مسيره مواصلاً فتوحاته، حتى تم له فتح جميع بلاد غماره وجبالها من الريف الى طنجة سنة 460هـ/1067م( ).
بعد أن تمكن يوسف بن تاشفين من السيطرة على البلاد المحيطة بمدينة فاس نزل عليها سنة 462هـ/1070م( )، بجيش جرار، وقدم عليه ابن عمه يحيى بن واسينو اللمتوني( )، وضرب عليها الحصار وعزلها من الجهات المجاورة لها، فتمكن من دخولها عنوة بالسيف يوم الخميس الثاني من جمادى الآخرة 462هـ/1070م، وقتل من كان بها من مغراوة ومكناسة، وبني يفرن وسائر زناتة خلقاً كثيراً حتى امتلأت الأسواق بالقتلى، وقيل بأنه بلغ عدد القتلى أكثر من ثلاثة آلاف رجل، وفرت البقية التي نجت منهم من القتل الى المغرب الأوسط، وهذا هو الفتح الثاني لمدينة فآس( ).
أمر يوسف بن تاشفين بعد دخوله فآس، بهدم أسوارها التي كانت تفصل بين عدوتيها القرويين والأندلس، وجعلها مدينة واحدة، وحصنها، وأمر ببناء المساجد في أنحائها، وأصلح أمورها، وهذب بنائها، وأقام بها حتى شهر صفر من سنة 463هـ/1070م، ثم خرج إلى بلاد ملوية ففتحها واستولى على حصون وطاط من بلاد طنجة( )، وباستيلائهم على مدينة فآس سهل الطريق أمامهم ليتمكنوا من فتح المغرب الأقصى كله، والاستيلاء على السهول الساحلية، وخاصةً بعد تفرق شمل زناتة وانهيار قوتها في المغرب الأقصى، كما أتيح للمرابطين الاحتكاك بالأندلس( ).
استدعى يوسف بن تاشفين سنة 464هـ/1071م، أمراء المغرب وشيوخ القبائل من زناتة والمصامدة وغمارة لمبايعته، فبايعوه بالإمارة، فكساهم جميعاً وأمدهم بالأموال، ثم خرج برفقتهم، لتفقد أحوال الرعية في المغرب، والنظر في سيرة ولاته وعماله، وإصلاح أمور الناس( )، وقصد الأمير يوسف من وراء ذلك إضفاء الصفة الشرعية على فتوحاته، وأن زعماء المغرب يؤيدونه ويقرون بإمارته، ولإشعار الناس انه ساهر على مصلحة رعيته من اضطهاد الولاة، وفضلاً عن ذلك بث الرعب في نفوس الذين لم يخضعوا حتى ذلك الوقت( ).
ثم تابع الأمير يوسف عملياته العسكرية، فغزا مدينة الدمنة، من بلاد طنجة، فاقتحمها عنوة سنة 465هـ/1072م، ثم فتح حصن علوان، من حصون غمارة، وبذلك ملك موقعاً إستراتيجيا للسيطرة على تحركات غمارة، وفي سنة 467هـ/1074م، تمكن من الاستيلاء على جبال غياثه، وبني مكود، وبني رهينة من احواز تازا، وقتل منهم خلقاً كثيراً( )، وجعلها حداً فاصلاً بينه وبين زناتة الهاربة إلى الشرق( )، ثم قسم المغرب الى عمالات على بنيه وذويه وأمراء قومه( )، وبهذا يعتبر عام 467هـ/1074م حداً فاصلاً في تاريخ الدولة المرابطية، إذ تمكن يوسف بن تاشفين من بسط نفوذه على المغرب الأقصى، باستثناء سبتة، وطنجة( ).
وبعد أن اخضع الأمير يوسف سائر بلاد المغرب الأقصى وأصبح مجاورا لإمارة سكوت البرغواطي( )، طلب منه الأمير يوسف الموالاة والمساندة في محاربة أعداء المرابطين وكاد الحاجب سكوت يقبل بالعرض لولا أن أثناه ابنه عن عزمه( )، عندها جهز الأمير يوسف جيشاً قوامه اثني عشر ألف فارس مرابطي، وعشرين ألف من سائر القبائل( )، واسند قيادتها الى صالح بن عمران، سنة 470هـ/1077م، وأمره بمهاجمة طنجة، فلما قربوا منها برز إليهم الحاجب سكوت بجموعه، وهو شيخ كبير قد ناهز التسعين سنة من عمره، قائلاً: والله لا يسمع أهل طنجة طبول اللمتوني وأنا حي أبدا، فالتقى الجمعان بوادي منى من أحواز طنجة والتحم القتال، فقتل الحاجب سكوت، وانهزم جيشه، والتجأ ابنه ضياء الدولة يحيى إلى سبتة فاعتصم بها، ودخل المرابطون مدينة طنجة واستولوا عليها، وكتب القائد صالح بن عمران بالفتح إلى الأمير يوسف بن تاشفين( ).
وفي سنة 473هـ/1080م، اتجه الأمير يوسف بن تاشفين نحو الريف، الذي كان يحكمه بيت أبي العافية، فغزاه وافتتح مدينة اجرسيف( )، ومليلة( )، وهاجم مدينة نكور( )، وخربها، ولم تعمر بعد ذلك( ).
وفي سنة 476هـ/1083م، بعث الأمير يوسف ابنه المعز في جيش الى سبتة لفتحها إذ كانت هي المدينة الوحيدة التي لم يفرض سيطرته عليها، إذ يحكمها ضياء الدولة يحيى بن الحاجب سكوت البرغواطي، فحاصرها براً، وأحاطت بها أساطيل المعتمد ابن عباد( )، بحرا، فاقتحموها عنوة بالسيف، في ربيع الآخر من سنة 477هـ/1084م، وقبض على ضياء الدولة وجئ به الى المعز فقتله، وكتب بالفتح الى أبيه وهو بمدينة فآس يستعد للجهاد ويستنفر له قبائل المغرب، ففرح يوسف بفتح سبتة وخرج من حينه قاصدا نحوها ليعبر منها إلى الأندلس( )، ملبياً دعوة ابن عباد لنصرته على الأذفونش( ) في الأندلس( ).
2- سياستهم الحربية في المغرب الأوسط:
بعد أن تمكن المرابطون من القضاء على قوة الزناتيين بالمغرب الأقصى، آثروا الانتفاضة على المغرب الأوسط، للقضاء على المقاومة الزناتية فيه( )، فبدأ المرابطون عملياتهم العسكرية باتجاه الشرق نحو تلمسان، التي كان يحكمها الأمير العباس بن يختي من ولد يعلي بن محمد بن الخير المغراوي( )، فأرسل الأمير يوسف قائده مزدلي بن تيلكان بن محمد بن وركوت اللمتوني سنة 472هـ/1079م، لغزو تلمسان والمغرب الأوسط في عشرين ألف مقاتل من المرابطين، فتمكن من هزم جيش تلمسان وظفر بقائده يعلي ابن الأمير العباس المغراوي، فقتلوه، وفرق جموع زناتة، وعاد الجيش المرابطي إلى مراكش( ).
وفي سنة 474هـ/1081م، اتجه الأمير يوسف بن تاشفين بعساكر المرابطين الى مدينة وجدة( )، ففتحها، وبلاد بني يزتاسن وما والاها، ثم سار الى تلمسان وضرب عليها الحصار، حتى تمكن من الاستيلاء عليها، وقتل من كان فيها من مغراوة، كما قتل أميرها العباس بن بختي، وولى عليها محمد بن تينغمر المسوفي في عساكر المرابطين، فصارت ثغراً للمملكة( )، بدل ثغر تازا( )، بعد أن كانت حصناً للعدو( )، واختط الأمير يوسف بن تاشفين بقرب تلمسان وفي محل عسكره مدينة بمثابة الحصن الأمامي لحماية المرابطين في عاصمة زناتة وسميت هذه المدينة باسم تاكرارت( )، ثم تتبع زناتة شرقاً، فاستولى على مدينة تنس( )، ومدينة وهران، وجبل وانشريش( )، وجميع أعمـال وادي شلف( )، حتى دخل مدينة الجزائر( ).
توقف الأمير يوسف بن تاشفين عند حدود مملكة بجاية التي كان يحكمها بنو حماد وهم فرع من صنهاجة( )، وبنى جامعاً في مدينة الجزائر ما يزال إلى اليوم ويعرف بالجامع الكبير، ثم عاد إلى مراكش في ربيع الآخر عام 475هـ/1082م، بعد أن اطمأن على حدود دولته الشرقية وقضى على آخر جيوب المقاومة الزناتية فيها( )، وبذلك أصبح المرابطون سادة المغرب دون منازع بعد كفاح طويل( ).
ثالثاً: علاقات المرابطين السياسية مع الدول الإسلامية في أفريقيا
1ـ علاقاتهم السياسية مع دولة بني حماد( )في الجزائر:
بعد أن نجح المرابطون في فرض سيطرتهم على السوس الأقصى، وذاع صيت انتصاراتهم في المغرب كله، فأن بلكين الحمادي( )، اتجه بقواته لنصرة أبناء عمومته الملثمين أبناء صنهاجة الجنوب في هذه المعركة التاريخية الدائرة الرحى، ودخل مدينة فآس وضرب الزناتيين من الخلف واحتمل من أكابر أهلها وأشرافهم رهناً على الطاعة، ثم عاد راجعاً إلى المغرب الأوسط مرة أخرى( )، وهذا يدل على الإحساس برابطة العصبية القبلية بين صنهاجة الجنوب وصنهاجة الشمال ولاعتقادهما أنهما يقاتلان عدواً مشتركاً، يشتركان في كرهه، والرغبة في القضاء علية( ).
وبعد ان تمكن المرابطون من فرض سيطرتهم على تلمسان ساءت العلاقات بينهم وبين الحماديين، رغم توقف المرابطين في فتوحاتهم عند حدود دولة بني حماد، حفاظاً على إدامة حسن العلاقات بينهم( )، إلا أن الحماديين اخذوا يتحينون الفرص لمهاجمة أطراف دولة المرابطين، وقد أتيحت لهم الفرصة المناسبة عندما عبر المرابطون إلى الأندلس عام 479هـ/1086م، فتحالف بنو حماد الصنهاجيين مع جموع عرب بني هلال( )، فغزو أطراف أراضي الدولة المرابطية في المغرب الأوسط، وعادوا إلى ديارهم محملين بالغنائم، الأمر الذي دفع الأمير يوسف بن تاشفين مع دوافع أخرى( )، إلى الإسراع بالعودة إلى المغرب مباشرة بعد انتصاره بمعركة الزلاقة، لتدارك الأمر فيه( ).
سكت الأمير يوسف بن تاشفين عن الانتقام منهم، متجنباً الحرب معهم، حقناً لدماء المسلمين وحفظاً لشوكتهم وقوتهم، فهم أقاربه ويشكلون حداً مانعاً وفاصلاً بينه وبين عرب بني هلال الذي يشكل خطرهم اشد خطراً من الحماديين على دولة المرابطين( )، وصالحهم( )، ولكنه اتخذ التدابير اللازمة، فنشر قواته في المغرب الأقصى والأوسط، لقطع الطريق أمام من يحاول العبث في دولة المرابطين( ).
وذكر بعض المؤرخين أن الأمير يوسف أرسل كتاباً إلى الأمير الحمادي يعاتبه فيه على استعانته بالهلالين لغزو أراضي الدولة المرابطية، في الوقت الذي يجب فيه ان تتضافر الجهود وتتحد القوى لمجاهدة الممالك النصرانية في الأندلس ورد عدوانهم( ).
وحرص الأمير يوسف على العلاقات السلمية مع بني حماد، فعند وفاة الأمير الحمادي الناصر بن علناس في سنة 481هـ/1088م، أرسل برسالة تعزية إلى ولده وخليفته المنصور، يعزيه بوفاة والده( )، واستمرت حالة السلم بين الطرفين أكثر من عشر سنوات، إلى أن نشب الخلاف عندما هاجم القائد المرابطي تاشفين بن تينغمر والي تلمسان، مملكة بني حماد، دون إذن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فزحف المنصور بن الناصر بن علناس الحمادي إلى تلمسان سنة 497هـ/1103م، فتراجعت جيوش المرابطين أمامه، إلا أن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين طلب منه التوقف، وصالحه، واسترضاه، بعزل تاشفين عن ولاية تلمسان، وتولية الأمير مزدلي مكانه( ).
وبعد أن ضم المرابطون الأندلس إلى دولتهم، أصبحت دولة بني حماد ملاذاً للفارين من الأندلس( )، ومع ذلك لم يحرك الأمير يوسف بن تاشفين ساكنا تجاه بني حماد، حفاظاً على إدامة العلاقات الحسنة، وهذا مايدل على حسن نيته تجاه الحماديين، فبقي الأمر كذلك حتى وفاته( ).
ومع ذلك فان بنو حماد حاولوا أيضا تهدئة الصراع والحفاظ على العلاقات الحسنة مع المرابطين، فقد صاهر المنصور المرابطين، كما عفا عن تلمسان خضوعاً لصلة وشائج القربى التي بينهم، ويلاحظ بان المصالح المشتركة وظروف المرحلة قد تحكمت في العلاقات بين المرابطين وبني حماد، فتحسنت العلاقات بينهم خاصةً في المدة الأخيرة بعد وفاة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في سنة 500هـ/1106م، وكذلك ظهور خطر الموحدين في العقد الثاني من القرن السادس للهجرة/ القرن الثاني عشر الميلادي( ).
2ـ علاقاتهم السياسية مع إمارة آل زيري في تونس:
يبدو أن العلاقات بين المرابطين وإمارة آل زيري كانت حسنة خلال فترة تدهور العلاقات بين المرابطين وبني حماد، وخاصة في عهد الأمير تميم بن المعز بن باديس (453- 501هـ/1061- 1107م)، حيث بعث الأمير يوسف بن تاشفين إلى الأمير تميم أمير المهدية برسالة بعد انتصاره في معركة الزلاقة مبشراً له بالنصر، وواصفاً له وصفاً دقيقاً لتحركات الجيش المرابطي في الأندلس أثناء التحضيرات للمعركة وأثناء سيرها( ).
واستمرت العلاقات الحسنه بينهم في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف، وخاصةً عندما تعرضت السواحل التونسية لغزر النورمان( )، فكاتب أمير المهدية المرابطين في مراكش لأجل وضع خطة مشتركة لفتح صقلية( )، فأرسل المرابطون أسطولهم بقيادة أبي عبد الله محمد بن ميمون عام 516هـ/1122م، ففتح مدينة قوطرة في جزيرة صقلية، مما دفع القائد النورماني لمهاجمة سواحل أفريقية بأساطيله عام 517هـ/1123م، فدمرتها الأساطيل الإسلامية وأجبرتها على العودة الى بلادها( )، إلا أن الدولة المرابطية في الحقبة الأخيرة عجزت عن تقديم العون لأمراء المهدية، بسبب ظهور الخطر الموحدي، فلذلك تمكن النورمان من الاستيلاء على جزيرة جربة( )، عام 530هـ/1135م، وثم مدينة المهدية عام 543هـ/1148م، أي بعد سقوط دولة المرابطين( ).
3 ـ علاقاتهم السياسية مع الدولة الفاطمية في مصر:
عندما قامت دولة المرابطين في منطقة المغرب الأقصى كانت الدولة الفاطمية( )، قد دخلت عصرها الثاني، فأظهر المرابطون عداوتهم للفاطميين ولم يعترفوا بشرعية الخلافة الفاطمية، كونهم كانوا ينظرون الى الخليفة العباسي، على انه الخليفة الشرعي الذي يجب أن يخطب له على منابرهم( )، وأدى تدخل الفاطميين في شؤونهم الداخلية الى تدهور العلاقات السياسية بينهم، لذلك عدل المرابطون عن طريق مصر عند ذهابهم الى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج( )، وسلكوا طريقاً صحراوياً يمتد الى أعالي السودان بعيداً عن سيادة الفاطميين هناك( ).
حاول الوزير الفاطمي بدر الجمالي كسب ود المغاربة بما فيهم المرابطون، ففشل في استمالتهم عندها أمر بقتل من ظفر به منهم( )، إلا أن ابنه الأفضل بن بدر الجمالي (487- 515هـ/1094- 1121م)، نجح في استقطاب المغاربة الى بلاده، وحسن معاملته معهم، فكسب ودهم، لذلك أخذ العديد منهم يرحلون الى مصر، كما شارك بعضهم في حروبه مع الصليبين رغم أنها كانت مشاركة فردية( )، وأُتهم الفضل في تغير مذهبه، مما أدى إلى قتله( )، وعموماً كانت العلاقات السياسية بين الدولة المرابطية، والدولة الفاطمية عدائية، ولعل قتل السفير المرابطي أبي بكر عتيق بن عمران بن محمد بن عبد الله الربيعي، من قبل أمير الجيوش الفاطمية بدر الجمالي عام 484هـ/1091م، عند عودته من بغداد ومروره بالإسكندرية، لأنهم وجدوا معه كتاباً من الخليفة العباسي إلى الأمير يوسف بن تاشفين، مما يدل على العلاقات السياسية العدائية بين المرابطين والدولة الفاطمية( ).
بقلم
حامد زتو الشرابي