ما الذي جرى لكم يا أهل مكة ويا أهل يثرب؟ ألم يكن ياسر العنسي يعيش في كنف بني مخزوم متمتعا بحمايتهم، وزوجوه من سميّة التي أنجبت ابنه عمار الذي كان سيعيش هو الآخر في كنف المخزوميين ورعاية عموم القرشيين، فما الذي فـتنهم حتى يستفزا أبا الحكم فيقتلهما ويلحق الأذى بعمار، أما كان من الأسلم ألا يلتحقا بهذه الدعوة؟ وبلال الحبشي، ألم يكن عبدا مملوكا قانعا بحاله، يحظى بدلال سيده، قياسا على ما يحظى به العبيد من أسيادهم؟ما الذي قلب حاله؛ كي يلقى عذابا أليما كاد أن يودي بحياته تحت لهيب السياط وثقل الصخور في رمضاء مكة؟ أما صهيب الرومي، المولى الذي كان عبدا مسبيا، وجمع مالا بعد أن مكث في مكة، ما الذي دهاه؟وأي شيء أصابه؟
وبعيدا عن العبيد والموالي والضعفاء، ألم يكن محمد بن عبد الله في مجتمع مكة الصادق الأمين صاحب المكانة والاحترام في قومه ومجتمعه؟ ألم يتزوج من خديجة الأسدية ويتنعم بمالها، بعد أن تخلص من حياة اليتم ورعي الأغنام؟ألم يتركه القوم وشأنه حين اجتـنب عبادة أصنامهم وأوثانهم، ولم يقترب من خمورهم ومجونهم؟ما الذي كان ينقصه؟ ألم يكن صاحبه ابن أبي قحافة مؤتمنا على الديات في قومه، نسابة يؤخذ برأيه، له مال كان أولى ألا ينفقه على شراء العبيد والجواري المتمردين على أسيادهم، فما الذي جرى له ولصاحبه من قبله؟
ما الذي جرى بعد هذه الدعوة؟ أب وابنه أو زوج وزوجه، أو عبد وسيده في خصام ونكد، بل يصل الحال إلى أن يرفع الابن سيفه في وجه أبيه أو أخيه أو ابن عمومته...ماذا جرى للناس؟ أما أهل يثرب فإن الأوس والخزرج بعد قتال شديد بينهما قد توافق هذا الحيّ وذاك على تتويج ابن سلول ملكا، وكان القوم كسائر القبائل يأتون إلى مكة فينعمون بسقاية ورفادة، فكيف تحولوا إلى أعداء يؤوون عندهم من تمردوا على قريش وغيرها من القبائل؟ماذا حل بالناس، حتى تتمزق أقوى العُرى، ويصيب الخلل أكثر القربات الموجودة في الكائنات كرابطة الأمومة والأبوة والأخوة؟ جاء الإسلام، وهل الإسلام يعني أن يخاصم المرء أمه، وأن يرفع سيفا في وجه أبيه، وأن يهجر قومه إلى قوم آخرين؟وأن يخسر حياته أو يجعل آخرين يخسرون حياتهم؟ ما هذه الدعوة وهذا الدين؟!
مهلا تريث قبل أن تغضب وقد تشتمني أو تقول أصابني مسّ، أو حلت بي ردة منكرة؟ فأنت على ما ذكرت، وهذا حالك؟ أجل، فوفق منطقك، ووفق ما تشيع، وحسب التنظيرات التي تغزو هذا العالم الافتراضي، والواقعي بطبيعة الحال، فإنك ضمنا تقول: إن الحال قبل الإسلام أفضل من الحال بعده؛ لأنك تقول إن حال مصر كان أفضل قبل 25يناير 2011 وحال ليبيا كان أفضل قبل هذا العام (المشؤوم) -حسب تعبيرك- وكذلك حال سورية واليمن بل حتى تونس كان وضعها أفضل قبل رحيل زين العابدين.
أنا أحاججك وفق منطقك، فإن قلت إن الإسلام دعوة ووحي من السماء، فأرد عليك بأنك تعلمت هذا وفق تراكمات القرون بعد انتصار الدعوة، ولكن لو أنك عشت ونظرت للمشهد حينما كان بلال يعذب وسمية تطعن والحي من قريش منقسم متخاصم، والرؤوس في بدر تتطاير، لقلت: هذه فتنة باطلة، أليس كذلك؟ وإن قلت إن الإسلام وحد العرب وجعل منهم أمة قوية حطمت ممالك الروم والفرس، فيما الثورات العربية جلبت عليهم الكوارث، فإن منطقك مطعون فيه؛ لأنه ببساطة لم يمض وقت حتى تطلق حكمك على الثورات ومآلاتها، على الأقل قياسا بثورات سابقة عند أمم أخرى عبر التاريخ.
وإن زمجرت غاضبا بأنه لا يجوز مقارنة دين وعقيدة جاءت محاربة للأصنام والأوثان ووأد البنات وكل الموبقات، بحركات مشبوهة وراءها (برنار هنري ليفي) فأقول لك يا أخي الفاضل: اهدأ وخفف من غضبك، فإن الله -سبحانه وتعالى- أخبرنا عن حال مشابه حين قال في سورة النحل آية 103: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)، فقد قال مشركو قريش إن غلاما أعجميا نصرانيا يقال له (جبر) وقيل: (بلعام) هو الذي يتعلم منه النبي-صلى الله عليه وسلم- وهذا حالك في زمننا...ستثور أكثر لهذا التشبيه وتراه مناقضا للدين والرسالة، حسنا هل تعلم بأن الثورة على الظلم هي فريضة من فرائض الإسلام؟فإذا كان الإسلام قد حارب الوثنية، فإن الظالمين والطغاة جاءوا لنا بوثنية جديدة، بل لربما تفوق وثنية قريش؛ فإن أبا جهل حين كان يعذب آل ياسر، وأمية حين كان يعذب بلالا قد طلبوا منهم أن يعودوا لعبادة اللات والعزى، ولكن الطغاة في عصرنا وصل بهم الحال أن يؤلهوا أنفسهم، وأن يصطنعوا جلاوزة يجبرون الناس على السجود لصورهم، وأن يقولوا إن ربهم هو الطاغية فلان، فو الله إن هذا ما لم يفعله كل مشركي قريش وجزيرة العرب.
إن الإسلام جاء لمحاربة الشرك، وللشرك مظاهر تختلف من عصر إلى عصر ومن زمان إلى زمان ومن بيئة إلى أخرى، والثورات العربية هي لهدم أصنام العصر، حتى لو خالط تلك الثورات خطأ هنا أو سوء تقدير هناك، وحتى لو ركب موجتها أفاق أو مغرض، وحتى لو اخترقت صفوف الثائرين من قبل جهاز مخابرات دولي أو محلي أو إقليمي أو من قوة خفية، فهذه أمور طبيعية. أما أن نتاج الثورات كان أسوأ من الأوضاع التي قامت في ظلها؛ فيجب أن نتعلم أن هذا ما يريد أعداء الثورات أن يوصلوا الناس إليه، بأن يترحم الناس على الأوضاع السابقة، فإن حصل هذا فإن الثورات المضادة تكون قد حققت أقصى أمانيها، وهي إلحاق هزيمة نفسية بالشعوب، والتي تفوق الهزيمة المادية التي نراها.
إن الثورات لها صيرورة ولا يمكن الحكم على نتائجها بناء على مشهد نراه، فإذا كانت الثورات المضادة قد كسبت جولة أو معركة، فإنها تدرك أن هذا لا يعني أنها كسبت الحرب، ولكن الكارثة أن يصل الناس إلى مرحلة ذكر الطغاة والمجرمين والقتلة واللصوص بالخير بحجة أن الأوضاع في زمنهم أفضل نسبيا من الحرائق الحالية...فلا تنسوا أنهم هم من أعدوا لهذه الحرائق عبر عقود طويلة، كما أن هياكل ووحدات حكم ومخرجات عمرها عقود تحتاج وقتا كي تتغير وتتبدل.
سري سمّور فلسطين