استكشاف الكينونة ونهوض الإرادة
قراءة في قصيدة ( أنا والأسوار ) للشاعرة بشرى البستاني
محمود خليف خضير الحياني/ جامعة الموصل
متابعة أدبية واشراف : الأستاذ الباحث عبدا لوهاب محمد الجبوري / كلية الادب - جامعة الموصل
الملخص
تطرقت هذه الدراسة الى مسألة مهمة واشكالية في اشكاليات نظرية الأدب النسوي , التي تولّد عنها التحيّز في الخطاب الأدبي , فعد الخطاب على اساس ذكوريا تجاوز ابداع المرأة ضربا لأنوثتها .
ومن خلال تحليلنا لقصيدة " أنا والأسوار " لبشرى البستاني أثبتت الدارسة ان اللغة لا تتحيز لأحد , انما يأتي تحيّزها لمن يبدعها أيا كان جنسه , وكذلك تناولنا " الأنا " الفاعلة الرافضة للقيم البالية والتقاليد المتخلفة , فعملت بذلك على تفكيك المقولات التاريخية وتقويضها ( الضعف , التبعية , النقص , اللاحق , الفرع , السكون الصمت ) التي تجلت في الموروث الثقافي لتلتصق بالأنثى , بعد ان عاشت قرون ترى فيها الانثى كائنا ضعيفا , وقد تمثلت هذه المقولات في قصيدة شاعرتنا على شكل " اسوار " فحاولت " الأنا " هدمها وكسرها والمرور من خلالها الى الاخر .
Abstract
This study delt with an important question in Women Literature, it in the misunder standing in the theory of Women Literature. This resulted in biased in literature, so a literature was considered on abase of being belonging to men and ignoned the creat ib of the women.
Through on analysis of the poem ((Ana Walaswar)) me and the barrieres by Bushra Albustani it was found that language in not biased to any me its biased 20 comes to these who create it what ever his *** it. We also dealt with (the I), the effective and which rejects old and backward tradtions which led to destroy the old saying, (like, weakness, bellow up beling up, silence. There saying eich remained may year considering that the woman in a weak creature. There saying were represented in the poem of our poet "by the barrieres". The (I) tried to destroy and break there barrieres through passing through there and looking forward begand then.
مدخل :
مازالت النظريات حتى اليوم تطرح اشكاليتها في قضية : ( اعتناق أو لا اعتناق) في عالم يتساوى فيه الجنسان ـ الذكر والأنثى ـ تلك الاشكالية التي أطلقها مجموعة من الباحثين (الرجال / النساء) ؛ليخرجوا القوانين الإنسانية والاجتماعية و البايلوجية من عالم تتشتبك فيه المصلحة بالتخلف والخُرافة , التي أطلقتها ألسن ما قبل المعرفة المنطقية التاريخية حيث تحول الانسان الى عالم يؤمن بالعقل والمنطق وتسلسل الأفكار بعد أن ألقى الخُرافة في عمق العتمة العمياء في مرحلة طفولة العقل , يقول اوغنست كونت : لقد مرت مرحلة العقل التجريبي بثلاث مراحل : المرحلة الأولى تمثل اللاهوت أو الأسطورة ، والمرحلة الثانية تمثل مرحلة الدين ـ المتيافيزقيا ، والمرحلة الثالثة تمثل العلمية او الوضعية التجريبية ( ) , ومنذ فجر التاريخ ومركزية العقل والفكرة والفهم البعيد عن الصواب قد أوصل الإنسان إلى تصديق فكرة تداولها قرونا عدة اننا البشر نمثل مركز الكون (الأرض) ، إذ مثلت هذه الفكرة شرنقة العقل الذي يؤمن بالإدراك الحسي , وبمثل هذه الطروحات جاء من جاء ليفصل الخطاب الأنثوي عن الخطاب الذكري وليجعل من الأخير هو الخطاب المهيمن ويدخله في مجال سيطرة الأعلى على الأدنى , التي جاءت من فكرة الخطيئة الأولى التي أنزلت ادم وحواء عليهما السلام من السماء , ذلك العالم الذي يتجلى فيه خطاب روحي واحد هو خطاب أهل الجنة الذي فيه التسبيح والتكبير والصلاة لله سبحانه وتعالى , أو ذاك الخطاب الافلاطوني الذي ذكره افلاطون في إحدى محاوراته معلنا أن الزمن الأول كان يوجد فيه أجناس ثلاثة لا اثنان : امرأة ورجل وخنثى, وهو الجنس الثالث المشترك بين الذكر والأنثى, وكان الكائن الأول وحدة كاملة , اتصفت بالقوة والبأس مما جعلها مخيفة مهولة و مغرورة حتى هاجمت الآلهة , لذلك غضب عليهما الإله ( زيوس ) وعاقبها وشطرها إلى شطرين فصارا اضعف مما كانا عليه , وبدأ يتكاثر عدد البشر( ), ذلك ما جاء في الأساطير ليوضح حقيقة واحدة هي ان الخطاب واحد ؛ لأن الأصل واحد , وهذه مقولة تخالف ما جاء به ارسطو من ان الذكر هو الولد التام , والانثى هي المخلوق الناقص البعيد عن الكمال ( ) وكان القديس توما الأكويني يعتقد أن المرأة " رجل ناقص "( ) هذه الطروحات كانت نابعة من الفكر المتجذر في منظومة الفكر الأخلاقي والاجتماعي والثقافي في ذلك العصر , والذي مثل المرحلة الأولى لجدل طويل عبر القرون عن إشكالية الخطاب الذكري والأنثوي , وهذه الاشكالية ما تزال غامضة وملتبسة عند كثير من النقاد والباحثين والفلاسفة وعلماء النفس , ولاسيما عند اولئك الذين أرادوا أن يكتبوا عن ( النقد النسوي )( ) , فوجدوا أنفسهم وسط عوائق ومطبات تقف أمام الولوج الى الافكار الباحثة عن التغير , والتي يمكن ان نجملها من خلال قراءتنا للطروحات الفكرية في أطرها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية عند الغرب والعرب , والتي يمكننا القول إن الأساس فيها هو الأطروحة الغربية التي تتضح معالمها في خمس بؤر أساسية تتضمنها مناقشات الاختلاف بين الجنسين الذكر والأنثى :
1- علم الحياة : الذي يبرهن على أن اساس والفرق مابين الرجل والمرأة يكمن الناحية الجسدية ( السمات البيولوجية ) , والذي استعمله الرجال لكي يبقوا المرأة في مكانها تحت الهيمنة الذكورية , وان كان بعض النساء الراديكاليات وجدنّ أن هذه السمات البيولوجية تشكل مصدرا للإحساس بالتفوق , وليس النقص .
2- الخبرة : ان الخبرة الخاصة بالمرأة مصدر للقيم الايجابية الأنثوية في الحياة والفن , إذ ان الخبرات الحياتية ( الانثوية ) تختلف عن الرجل , لذلك فان المرأة هي وحدها القادرة على ان تحدثنا عن هذه الخبرات التي تعيشها وحدها والتي تدخل في منظورها الاجتماعي والانفعالي والفسلجي , اذ ان انفعال المرأة ونظرتها الى هذه الامور الذاتية تختلف عن نظرة الرجل اليها .
3- الخطاب : ان خطاب المرأة يختلف عن الرجل , والذي عمل الرجل على الهيمنة عليه , لذلك يمكننا القول ان النساء في اكثر المرات يتجهن الى الاساليب الرمزية والايحائية , وذلك للخروج الى عالم واسع يمثلهن ويتحدد من خلال سماتهن الخاصة ولاسيما في المضامين الخاصة بالمرأة وقضاياهن الجسدية والنفسية .
4- اللاوعي : وقد وفرت نظريات التحليل النفسي عند ( لاكان وكرستيفا ) بؤرة رابعة للاختلاف , اذ ان هذه النظرية تؤكد ان النساء يملن إلى الايحاء والرمز اكثر من الرجال , ولاسيما الالفاظ او الكلمات التي لا يمكن ان نقول عنها انها منغلقة على نفسها والتي يمكن ان نسميها ثورية , تدميرية , ومتعددة ومفتوحة .
5- الظروف الاجتماعية والاقتصادية : نبعت من النظرة التي ترى ان تبدل الظروف الاجتماعية والاقتصادية تؤدي الى تغير موازين القوى بين الطبقات , وهذا يؤدي الى هيمنة الخطاب , وعلى ضوئه ظهرت مجتمعات في مرحلة من مراحل التاريخ سيطر عليه الخطاب الانثوي في المجتمع أو ما يسمى المتريركية ( الامومية )( ) .
إن هذا التقسيم , الذي تداولته أو لامسته كتب كثيرة لا نجده يحمل كل الحقيقة التي يمكنها أن توصلنا إلى اليقين ؛ لذلك رشح لنا سؤالا يحمل في طياته جوابا, هل يمكن أن نجد قاموسا أو معجما خاصابالنساء ؟
ان عملية الإجابة على هذا السؤال تحتاج الى تفكير معمق ؛ يوصلنا لنتائج سليمة ؛ لأننا في عالم يؤمن بالمنطق الذي يحاور الحقائق ولا يحاور المثاليات .
إن فكرة المعجم الخاص بالنساء يمكن ان تكون نوعا من المثالية او انها تفكير اسطوري يحتاج إلى براهين منطقية تخلص اللغة من فحولتها التاريخية ؛ لذلك قال الدكتور عبدلله الغذامي : " الحقيقة من ان تأنيث الذاكرة لما يزل هدفا بعيد التحقق , اذ ان عمر الفحولة اللغوية اوسع من أن تنافسه أنوثة حديثة لا عهد لها بالكتابة وهي انوثة لم تؤسس ذاكرتها الادبية ـ بعد ـ وكل ما تملكه اللغة من ذاكرة عن المرأة هي انها ( جسد ) "( )؛ ولقد اشار عيسى برهومة الى ان الثقافة تتحيز للذكورة لكن اللغة لا يمكن ان تتحيز( )؛ لأنها أداة طيعة بيد المبدع ؛ لذلك فأنها لا يمكن ان تتحيز لفئة دون فئة , ولكنها تحتاج الى عملية ابداع لاعادة صياغتها وخلقها وتشكيلها باسلوب يجعلها تتحيز لمن ابدعها , وهذا ما وجدناه لدى الشاعرة بشرى البستاني التي جعلت الكلمة مفتاحا لعملية تحيز ابداعي , والتي يمكن ان نقول عنها كما قال غبرائيل مارسيل " تجسد الكلمة "( ) , اذ ان عملية الابداع التي تشكلها الشاعرة تحاول ان تجعلها لغة انثوية تهيمن عليها دلالات وبؤر الانثى لتخلق عالمها داخل القصيدة لتكون القصيدة بذلك هي الشاعرة والشاعرة هي القصيدة اننا من خلال النص الشعري للشاعرة بشرى البستاني يمكننا ان نجد فرقا كبيرا ما بين خطاب الذكر والانثى , ولكن من الناحية الاسلوبية , لانها تعبر عن ادق مشاعر الانثى وعن معاناتها الشخصية كونها انثى في مجتمع ذكوري تكابد من موضوعات خاصة بها لا يشكو منها الرجل اذ ان الشاعرة حاولت ان تجد نوعا من الاسلوب الشعري تحت منظومة بناء هندسي تشكيلي تتفرد به في صياغة كلماتها التي وضعت عليها لمساتها ؛ وبذلك يكون هناك فرق بين اسلوب المرأة وهي تعبر عن موضوعها الشخصي وبين اسلوب الرجل وهو يعبر عنها , والذي تفردت به الشاعرة عن مثيلاتها لتكون هذا العالم البديع من الابداع الشعري .
من الصمت والسكون الى الصوت والحركة
قد يسأل قارئ عنوان مجموعة ( أنا والأسوار ) عن سرّ هذه الأنا وسرّ الاسوار المعطوفة عليها بالواو العاطفة التي تفيد هنا المواجهة , وقد يختلف توجيه التأويل النحوي للمذكور والمحذوف في هذه الجملة الاسمية التي حذف احد ركنيها , لكن التيارات الدلالية النازلة من العنوان الى المتن او الصاعدة اليه تؤكد بعد قراءة المتن أن هذا العنوان يختزل صراعا لاهباً يحتدم في كل ملفوظات النصوص التي ضمتها المجموعة , فالذات الشاعرة التي ناب عنها الضمير( أنا) تقف بكل ما تمتلك من فاعلية وقوة واصرار على الايمان بالانسان وبقدرته الهائلة على الوقوف بوجه أنواع التسلط والقهر والمنع والاستلابات , ولقد لخصت الذات الشاعرة كل عوامل السلب والقهر التي شيأت المرأة عبر العصور بمفردة الاسوار , وجعلت مشروعها المصيري هو التصدي لهذه الاسوار والعمل على ازاحتها وكان اول الاسوار التي نجحت في ازاحتها عبر المجموعة هو سور الوزن الخليلي اذ اتخذت النصوص بنية قصيدة النثر والمقاطع المركزة جدا , كما عملت على تشخيص الاسوار المحيطة بها فردت اصولها الى سلطة واحدة هي السلطان ـ شهريارـ الذي امتلك السلطة سواء على المستوى الشخصي(الاسرة) أم العام (انظمة الحكم) , وهي كما تبدو في المقارعة الداخلية للنصوص سلطة تمتلك سطوتها من حضورها المتجذر في الحياة الانسانية عبر التاريخ الذكوري الذي سطرته أقلام الرجال وحدهم .
الضعف , التبعية , النقص , اللاحق , الفرع , السكون والصمت تلك هي الصفات التي تتجلى في الموروث الثقافي لتلتصق بالانثى , ولتعبر عنها الشاعرة من خلال تشكيل الذات والنهوض بارادتها في قصيدة (انا والاسوار) التي تنضوي جراحاتها في جسد القصيدة لتعبر عنها بدون حاجز الاسوار الذي بدأته في عتبة قصيدتها لتبين موقف تجاوز (الأنا) ولتجعل من الاخر الحكم الذي اطلقته على من جعل مفاتيح سلطة الخطاب المهيمنة بيده , واذا تقبلنا فكرة ميشيل فوكو التي ترى ان ما هو صواب يعتمد على من يهيمن على الخطاب ( ) فمن المعقول ان نسلم بأن سيادة خطاب الرجل اوقع المرأة في فخ حقيقة المذكر , فحين سيطر الذكر على الخطاب قام بتشكيل الواقع وفق تصوراته , فوزع الادوار الاجتماعية , وعضد موقفه ببناء التقسيمات , واختيار المعاني , بعد ذلك قام بالتصديق عليها , ولم يكن للمرأة في هذا سوى الرضوخ( ) , لذلك جعل الخطاب اداة تسلط تجلد ذات المرأة باللغة ليخدش جسد القصيدة . الذي ارادت الشاعرة ان تحافظ فيه على التوازن عن طريق عبقرية التفرد المشخصنة , لذا جعلت من الاخر ندّا لها ولم تنظر اليه نظرة سلبية , و جعلت من نفسها ذاتا تحاور ذاتا أخرى , ولم تنظر نظرة وثأرية ـ تشيئية ـ الى الاخر الذي احالها الى موضوع اذ قد اشار سارتر الى ان العلاقة بيني وبين الاخر لايمكن ان تخرج عن احد امرين اما ان يكون الغير بالنسبة اليّ هو موضوع او ان اكون انا الموضوع ـ بالنسبة الى الغير ( ) , وذلك لانني أما ان" أجعل من نفسي ذاتا فأحيل الأخر الى موضوع , وأما ان انظر الى الأخر على انه ذات فأدعه يحيلني الى موضوع " ( ) , لذلك كان الأصعب في القضية هو احداث التوازن , هو مواجهة الآخر بحوار التكافؤ الانساني من خلال خطاب يدرك استعلاء خطاب الآخر كما يدرك عصابيته وفجواته , لذلك قالت الشاعرة :
الرجال يحكمون العالم ..
فليس لامرأة مثلي أن تتكلم ..( )
وحينما يحكم الرجال العالم ( وحدهم ) , فذلك يعني بديهيا تصميت المرأة في شريعة الحاكم والمحكوم والغالب والمغلوب , وتصميت الانسان يعني تهشيم ذاته وتضييع معالم شخصيته ؛ وذلك ما رفضته الذات الشاعرة حينما تحدت حكم الرجال وتكلمت , فهذا النص دليل حاسم على وعي كلامها الواثق بقدرته على الشروع بتغيير الحال , وان الكلمة التي حاولت الشاعرة ان تقولها بلسان المرأة قالتها بوضوح وجرأة وعملت فعليا على العبور من مرحلة الصمت الى مرحلة تشكيل الأنا المتحققة لكي تتحول من دائرة الكائنة الضعيفة المقذوفة بالقوة الى الوجود لتدخل دائرة التحقق عن طريق حكم الاخرين , ولو بالاصغاء لكلمتها وسماع خطابها , لذلك تجلت عبقرية الشاعرة بوضع يدها على الجراحات لتقوم بعملية تفكيك المقولات التاريخية التي وصفت المرأة بالضعف والسلبية ولتفجر نوعا من التماهي والتسامي لتخلق من نفسها قوة تجعل من الاسوار التي وضعها امامها المجتمع ضعيفة تتهاوى امام عبقرية الانثى الانسانة , لذلك وجهت هؤلاء الرجال اصحاب سلطة البطريريكية الذين قادوا وطنها الى الهزيمة في قولها :
نامي .. أو لا تنامي ..
لن تضري حزيران بشيء .( )
إننا نلمس الجراحات التي حاولت ان تتخطاها الشاعرة من خلال الانا والتي تجتمع تحت مقولة النساء المستضعفات , وان كان المرء لا يأتي الى العالم امرأة كما تقول سيمون دي بوفوار ـ بل يجعلون منه هكذا .. " فالمرأة تبدأ بالقول (انا) حين تحاول تعريف نفسها , وليس هناك رجل يفعل ذلك , هذه الحقيقة تكشف اللاتماثل بين مذكر ومؤنث , فالرجل هو الذي يحدد الفارق الانساني وليس المرأة "( ) , وان كان هذا الاعتقاد قد ساد في القرون الخوالي , في ان منشأ الاختلاف بين الجنسين هو ( فسيولوجي ) و ( بيولوجي ) , حتى تحولت تلك اليقينيات في وعي الافراد الى مشجب يعلقون أخطاء المرأة عليه , فهي جنس ضعيف تملي طبيعتها عليها الرضا بالهامش , وأخذ دور التابع .
وامست الطبيعة البيولوجية هي المسوغ لغيابها عن موقع الفعل والتأثير( ) ـ وفق ثقافة المجتمع ـ ولعل هذا ما دفع المرأة الى تحديد مكانها في عالم الرجال و جعلها تتحرك في هامش ضيق محدود لتكون المسجونة في هيكل البيت المنزلي وركام الجسد البالي الذي كان وباء عليها؛ لانه حمل وحده الخطيئة الاولى التي اقدم عليها الاثنان معا , لذلك نرى الشاعرة تنقل لنا حوارا من الحوارات القصصية التي نجدها في كل بيت تقليدي يعيش فاقدا لروح البيت المعاصر ؛ فقد بدأت مأساة الأنثى الانسانة منذ فجر التاريخ بأسوار وجراحات نهشت جسدها لتخلف منه رمادا او انسانا هامشيا , لذا حاولت الشاعرة ان تبدأ بكسر او حفر ركائز هذه الاسوار بالكشف أولا عن زيف قناعات الصمت والتصميت اعلانا عن وهج الثورة , في رؤية وسواعد الجيل الجديد جيل الشاعرة متمثلا في ( أخي ) حيث تبرز مفارقة حادة بين الجيلين :
قالت أمي .. اقفلوا الأبواب فذلك ادعى للراحة ..
وقال أخي .. كسّروا النوافذ , فذلك
أجلب للحزن !( )
وهنا تتجلى فاعلية الرؤيا المتوازنة الى الانسان رجلا وامرأة , فالثورة لحظة يصنعها النساء والرجال معا في حوار الانسجام , وليس في دائرة صراع الخطابات التي تعود وبالا على الطرفين .
ان الانا الفاعلة المتحققة الوجود هي التي تحدث الاثر الفاعل المسكون بالتغير والتوق الى الانعتاق من دوامة الضياع المرغمة والمحشورة بين رحى الرتابة والانتظار والصمت البليد , وهو السلاح الخطير الذي امتلكته الشاعرة لتحاور خصومها وهو ما جاء على لسان كل امرأة
اقول للصمت : جميل انت .
لأني لا أملك خنجرا امزقه ..( )
انها دعوة حادة من خلال مفارقة مكتنزة تحرض على ضرورة امتلاك اسلحة تحطم الصمت لانه يختزن عوامل الافعال والغياب من اجل ان يولد الكلام الانثوي الجميل الذي يفصح عن ذات المرأة بالانسانة ومفردتا ( خنجرا امرقه ) تدلان على كمون عنف وقدرة على المواجهة من جهة وان عملية الحضور لن تتم الا بفعل المرأة ذاتها من خلال المضارع المسند الى ضمير المتكلم ( انا , املك , امزق ) , إذ ان تجريد المرأة من اسلحة مواجهة الحياة والعمل على تشييئها واحاطتها بالتابوات وابقاء تبعيتها هو الذي أطال مرحلة صمتها وسكونيتها , فالذات الشاعرة تؤمن بان الكلام مفتاح الهوية ؛ ولذلك فعليها ان تمزق الصمت بالكلمة , والسكونية بالعمل , والسجن بالانطلاق والجهل بالعلم .
ان سلطة الابوية انتقلت من جراح السور البيتي ـ المادي ـ الى السورالمجتمعي والسلطة السياسية والثقافية والدينية , لذلك فالسلطان هو الذي يسجن الضعيف وخطاب مفسري الأديان داعم لهذه السلطة التي تجاوزت طابعها الديني المقدس بعد الفهم الخاطئ الذي حاولت البطريريكية (الذكورية) ان يحيطه بالاسوار من اجل تمزيق وجود المرأة وكيانها لذلك فان (الانا) الساردة صرخت بمرارة في قولها :
قال السلطان : لا تريقوا دمها فأنا اخافه ..
بل اسجنوها .. حتى تجف ..( )
انها تشكل خطابا يعرّي فراغ السلطة ولا مشروعية ظلمها وتهرُّأ خطابها , انها تكشف عن الوجه الآخر لهيمنة جوفاء تخاف حتى من تنفيذ احكامها , وتخترع لها طرقا تجنبها الفضيحة : السجن حتى الجفاف وجفاف الانسان موته , ذلك لان الهيمنة التي تقوم على الباطل والقسر تأتي بأمر السلطان الخائف من كل تفكير ابداعي حر لا يؤمن الا بجفاف الافكار ؛ لان الدفاع عن حرية الفكر في كل مرة يحده فعل العادات او السلطة التي تهتم بالدفاع عن قوى الجمود في وجه قوى الحركة ( ) , ان وعي المبدع هو وعد وبادرة تحرر .
انه وهج الرفض الكامن وراء الملفوظات الذي يحمل اكثر من دلالة , فهو يكشف الستار عن هزالة الطغاة ورعدتهم امام دم البراءة المراق .
كما تكشف المفارقة في النص الثاني عن غياب التوحد الروحي وهيمنة العلاقات المادية التي أودت بسعادة الانسان اوألحقت الخراب بقيمه الراسخة واسلمته للضياع , ولذلك تقول الشاعرة
أقول للسماء : لم أحضر يوم جاء محمد ..
ولذلك .. يجب أن ترسليه الآن ..( )
ان الد اعداء الرجال هي عبقرية المرأة الصارخة التي جعلت من الماضي الصامت الساكن بوابة دخول الى عالم الوعي المبصر ؛ لذلك اخذت الشاعرة تتجول مع عدو تاريخي حينما اسقطت جريمة الانظمة المهادنةعلى ذاتها لتتمكن من تقريع الاخر وفضحه على مرآة القصيدة المصقولة لتعكس تجليات الذات ومكابداتها في آن واحد , ويستلهم هذا النص تقنية الاسقاط التي هي العملية النفسية التي يحول بها الفنان تلك المشاهد الغريبة التي تطلع عليه من اعماقه اللاشعورية , يحولها الى موضوعات خارجية يمكن ان يتأملها الآخرون ( ) , وببراعة النص في بلورته شذرات ترميزية مشفرة تمتص وجع الذات تحت سلطة الغياب والفقد وتعكس في الوقت نفسه رؤاها الخاصة وقد غلفها النص بهالة من الايحاءات الحية انها تمتلك القدرة على فضح مواقفهم الآثمة لانها تمتلك الكلمة التي تلعب بضعفهم من خلال اليات التحول الرمزي والمجازي , انها ترد الكيد لهيمنة الذكر من خلال عمليتي الارسال والتلقي , فهي المرسلة اليوم وهو المتلقي :
اسرائيل تتجول في شوارع المدينة
أنا أتجول في شوارع المدينة
صدر بيان ينكر ذلك ..
لماذا يتدخل الآخرون ..( )
انها تدين الانظمة التي هادنت عدوا تاريخيا استيطانيا ازاحيا يوم صافحته بالصلح , ويده ملطخة بدم الجريمة , دم شعب بريء كامل , ولما كانت تدرك ان احدا من رجالات السلطة لن يتحمل تبعات هذه الجريمة , فأنها تسند الفعلة الى نفسها تعبيرا عن الثقة بالذات وايغالا باتهام الآخر , فما هو رد الفعل الناجم عن فعل فظيع .. ؟ بيان ورقي كلامي ينكر ذلك .. ؟
وان هذه اللمعة تستحق ان نطلق عليها ثيمة انفجارية وجودية انتقلت منها الشاعرة من الخاص الى العام , والتجول في الشوارع والمؤسسات مع العدو جنبا الى جنب خروج عن المألوف او المحظور ولاسيما اذا كان الجسد يتكلم , انها لغة اشارية جديدة انتقلت من الآلآم والجراح المكبوتة في عمق جراح الحضارة الانسانية التي جعلت من المرأة قربانا يقدم للالهة وان كان يحرق او لا يحرق او يقذف في النهر او يذبح على نصب شرف الرجال فذلك سيان . انها صرخة في ضمير الـ(نحن) لذلك قالت الشاعرة:
من قال لكم .. ادعوا الاطفاء
يعجبني أن أحترق هكذا . !! ( )
فالأطفاء هو مكيدة الوجود للوعي , وفي الاشتعال أمان من رقيب الوجود حيث تنمو الافكار والبراءة والاشياء في بواكيرها بعيدا عن رقيب السلطة وبعيدا عن الذاكرة المستلبة والمدجنة بالتقاليد في الاحتراق انعتاق حد الجنون وحد اللانهاية , ولذلك تستنكر الشاعرة في استفهام يفجره لغم الحقيقة المرة لواقع المخاطبين الذين تفاجئهم هذه التوقيعة الشعرية بكيد ودهاء المرأة التي ترفضهم وترفض منهم وفيهم كل شي حتى محاولة انقاذها , انها ترفضهم بالمنظومة التي تحركهم فهي لاتهرب منهم بالاشتعال لانها هي تمتلك المرونة التي تغيظهم حينما تعلن بصيغة واثقة انها يعجبها الاحتراق هكذا وهنا يكمن مفتاح الدهشة وسر الجمال ؛ لان أي عملية احتراق للمبدع تمثل نوعا من الومضة او الشرارة التي تتولد في لحظة الابداع الحقيقي الذي يتجلى في حضور كتابي يمثل نوعا من التمرد والرفض والذي يحقق مسألتين الاولى في عملية الابداع التي هي خاصة بالمبدع لانها نوع من الكشف والانكشاف والمسـألة الثانية هي تحقق هذا الكشف من خلال الاخر ـ المتلقي ـ ليخلق احتراق و استكشافا آخر بمعان جديدة ترتبط دلاليا بحالة الكشف او المكاشفة الاولى .
إن ايّ اجراء تأويلي لن يستطيع تحديد الدلالات الثاوية في هذا التركيز المفعم بحركية الحسّي المفارقي الذي يرفض عون جلاده حتى لو ادى به ذلك الرفض الى الموت احتراقا .
ان السور الاول قد خُرق عن طريق الانا المتحققة العاملة المتفاعلة المشخصنة( ) للأنا السلبية في الاخر لذا حاولت الشاعرة من خلال جراحات القصيدة ان لا تذوب في المرآة المشروخة المتمثلة في عالم الواقع لتحقق وجودها بالقوة انه التحقق الكينوني بارادة القوة .
انها سلطة البطريريكية ـ الابوية ـ المضطهدة للجنس البشري والتي صنفها ارسطو تحت طائلة الطبع المتسلط على النساء والعبيد اذ ان " الطبع هو الذي عيّن المركز الخاص للمرأة والعبد "( ) تقول الشاعرة :
أوقفني في مفترق الدروب لص ..
قال : ارفعي يديك فالطرق مقفلة
قال صوت خفيٌ : تعلمي أن تقولي كلمة كرصاصة
تلفت فلم أجد أحدا ..
حينها فقط .. رفعت يدي( )
فالمقطع هنا يكشف غياب التماسك الداخلي للمثقف , ويفضح عن ازدواجيته , وينعي اهتزازه وهزال مواقفه , وهو يعرّي ضعفه وذل قراره على الرغم من امتلاكه صوتا خفيا يدعوه الى الصمود .
ان البحث عن نموذج البطل في الثقافة العربية متأصل في احلام اليقظة او المنام ولاسيما لدى الجنس الضعيف الذي يبحث عن فارس الاحلام ولايستطيع ان ينطق بأسمه او بأي حرف من حروفه الضبابية .و يتمحور المتن الشعري للشاعرة حول نواة ترميزية تفصح عنها في عملية تأصيل لذكر بعض الرموز او الصفات الجسدية الخاصة بالرجال ,وذلك لانه لا يجوز للمرأة ان تذكر كل الصفات الجسدية لانها تمثل نوعا من التابو الاجتماعي والثقافي والديني والذي يمكننا ان نطلق عليه انه عملية اضطهاد لغوي لمعجم او قاموس الفاظ المرأة المحدد في ذكر بعض الصفات الجسدية للرجل لاغيرها :
عندما أكتب عن عينيك أحس العالم يتسع في قلبي ..
يفتح فيه نوافذ كبيرة
وعندما أغمض احسك تبتعد ,
واحسّ العالم قطرة دم غائرة في قعر قلبي ..( )
ان المقطع هنا يؤشر جريمة انسانية كبرى , اذ يتقلص حضور الرجل حتى يغدو لحظة كتابة ينتهي بانتهاء تلك اللحظة , وحينما تتحول الحياة الى تجربة ورقية , فذلك يعني قمة الاستلاب والقمع لأنه يشير الى غياب وهج الحياة الحقيقي وضمور عواملها وشحوب اهدافها ؛ وبذلك تتحول الكلمات لدى الشاعرة الى صرخات ممتزجة بالألم تنتظر من الآخر جوابا محايثا للذات المجروحة ؛ لان تجربة الكتابة لدى المرأة تنطلق من جراحاتها التى تتشكل في الحضور الكتابي على فضاء الورقة البيضاء على شكل بنى بانورامية تبدأ بفرحة محبوسة ودمعة مصادرة في الجرح النازف من جسد القصيدة المختمر بالعزاء في صرخة حق تحملها المرأة المثقفة , لانها تحمل هم جيلها الذي ولد في زمن انهيار القيم ؛ والذي يمثل قمة التحدي للمبدع الذي يكون في حالة تقيم مستمر للواقع المؤلم الذي يهمش رسالة المثقف ويحولها الى شعارات لايمكن ان تتحقق بالفعل لكن تتحول الى ألآم تمتزج بالكلمات الواعية لان الكلمات هي بيت ـ منزل ـ الوجود ؛ لذلك قالت الشاعرة :
بالأمس كتبت كلمات الى الالم
لم استلم الجواب بعد .. ( )
ويستثمر المتن الشعري كثيرا تقنية المفارقة التي هي " أن يعبر المرء عن معناه بلغة توحي بما يناقض هذا المعنى أو يخالفه , ولاسيما حينما يتظاهر المرء بتبني وجهة نظر الآخر , اذ يستخدم لهجة تدل على المدح , ولكن يقصد السخرية او التهكم , او هي حدوث حدث او ظرف مرغوب فيه , ولكنه في وقت غير مناسب البتة , كما لو كان في حدوثه في ذلك الوقت سخرية من فكرة ملاءمة الاشياء , او هي استعمال اللغة بطريقة تحمل معنى باطنا موجها لجمهور خاص مميز , ومعنى آخر ظاهرا موجها للأشخاص المخاطبين أو المعنيين بالقول "( ) كقول الشاعرة :
والدي أحبّ بجنون امي ..
ولذلك تركها وتزوج امرأة قبيحة !( )
هكذا يتكثف الزمن في لحظة واحدة عبر جسد النص ليشكل لذته الابدية على حد تعبير بارت( ) حينما تعين المفارقة المبدع على الانفلات من دائرة المباشرة والدخول في ضبابية الفن , اذ يصطدم سياقاته في شبكة من العلاقات اللا منتهية التي تولد حالة من الاغتناء والتكثيف في المعاني والدلالة والذي يمثلها حضور تأويل المتلقي للمعاني العائمة في فضاء النص الشعري الغني بالدلالة والتي يتشكل على ضوئها نص ثان في ذهن المتلقي او القارئ .
لذلك فأن الشاعرة ترسم من خلال استحضار لفظة ( الام ) التي تحمل لوحة تتكثف خطوط المفارقة فيها حادة كحد السيف , اذ ان الدال ـ امي ـ يؤدي مدلولين احدهما نقيض الاخر, المدلول الاول ان لفظة امي تعكس ملامح انكسار وتشظيات الذات ازاء حدث الغياب الذي هو في الحقيقة المرأة المعشوقة او الحبيبة التي كانت في مرحلة من المراحل تمثل دور امي , اما المدلول الاخر فانه يمثل نوعا من البوح و فضح هذا الفعل الخائن من جانب الاخر الذي اصبح عالمه مشوها يسكنه زيف الخداع الذي يصنعه الرجال ؛ والذي عمل النص الشعري من خلال المفارقة على تعريته واسقاطه باسلوب اخرج النص من محدوديته ليطلقه في عالم رحب يتسع لأنواع الخيانات والسلوكيات الرديئة في عالم تفرض عليه ادعاءات الحضارة الجديدة نوعا جديدا من الهبوط والانحطاط ؛ لذلك قالت الشاعرة وهي تسخر من هيمنة دلالات الخيانة على الزمن حتى فقدت العلاقات الانسانية قدسيتها اذ تحولت الى مجرد رسائل ورقية :
كتب حبيبي يقول .. أنت خائنة
قلت له .. مزّق رسائلي ..( )
تسجل القصيدة صرخة وجدانية مدوية اطلقتها الشاعرة باشارة منها الى انفراط القيم وفوضى الحياة , اذ لم يعد هناك وازع داخلي يعاقب على الخيانة , فليس للمغدور اذن الا ان يمزق ما لديه من وثيقة او دليل اذا شاء , وذلك لا يعني الخائنة بشيء , انه نوع من الافلاس الحضاري ولاسيما لأولئك الرجال الذين يؤمنون بالقيم المادية للاشياء التي عملت على استلاب الانا الفاعلة في الجيل الجديد , وتحويل قيمها الفكرية والثقافية والاجتماعية الى قيم مادية , والعمل على تحويل فعل الارادة للانا الفاعلة في الجيل الجديد الى فعل يتجلى حضوره في المتغير المادي الذي يفقد قيمته ووزنه من خلال مرور ازمان عليه اذ يصبح فيها قديما باليا ؛ لان القيم والمثل الباقية هي قيم الاخلاق الممتدة جذورها في عمق التاريخ العربي والاسلامي , ذلك الحضور الماضوي الذي يؤمن بالفكر والروح ؛ لذلك قالت الشاعرة :
رجال مدينتي مساكين ..
يحملون احذيتهم دون أن يشعروا ويسيرون ..
دوائرهم عالية فخمة ,
ولكنهم بالرغم من ذلك يدخلونها حفاة ..
مساكين !! ( )
ان مثل هؤلاء الرجال الذين لم يحققوا الاندماج الحضاري؛ لانهم حفاة القيم والفكر ليسوا بقادرين على انجاز مهمة العصر التي تمتزج بالفعل المتحقق بالقوة , انهم المستلبون و الهامشيون او الطارئون على الحضارة والمدنية , وكأن الشاعرة من خلال الية الرفض والتمرد و تفعيلها الطرح المغاير تتبني رؤية تنطق بالتصريح والسخرية من واقع الجيل الجديد الخاضع والخانع الذي يستلذ على اوهام ايقاع الذاكرة السريعة النسيان التي قد جرفتها عجلة التطور لتخلق فجوة بين الطموح والممكن الذي يرسخ مادة الشكل او القالب الجاهز في شرنقة الاستسلام والاستلاب والانبهار امام الآخر , لكن الشاعرة أبت ان تستسلم وتسترسل مع نداء ذاكرتها, لتستحضر من خلال تقنية المفارقة افقا يتسع فضاؤه فيعكس قلقا حقيقيا ينتاب الشاعرة ويؤكد قلق المرحلة بتداعياتها التاريخية والانسانية وخلخلة المفاهيم الفكرية نتيجة الضياع , لذا تؤشر الشاعرة في هذا الجيل التائه كارثة سكونية الوعي وهمود الفكر الذي وجدت المرأة نفسها فيه وسط ضياع ما بين طموحاتها وفعلها الذي يبحث عن التحقق في محيط لايدرك جراحاتها, ومن خلال النص الشعري وضعت الشاعرة يدها على الجرح الذي يتمثل بهذا الضياع في قولها :
تقول لي رفيقتي ..
يوم خرج الفاتحون عبر الليل كنت معهم ,
لكنني تهت في الصحراء .. !( )
ان محاولة الكتابة عن طريق تجسيد الآم بالدماء ان هي الا محاولة تخطي العقبات ولاسيما لشاعرة حاولت ان تزحزح عبقرية الرجال لتدخل في سجال حواري نقائضي يذكرنا بنقائض الشعر العربي القديم , ولكن هذه النقائض لا يحق لها ان تكتمل في عالم يضطهد فيه الشعراء والشاعرات اللاتي يبحثن عن تحقيق التجربة الانسانية النضالية لان الشعر يعمل دوما على توسيع الرؤية وجلاء الحقيقة وعلو شأن الانسان وقيمته سواء أكان أمرأة أو رجلا , ومنظومات المجتمعات المتخلفة لا تقبل ذلك ، لذلك قالت الشاعرة :
الشعراء يموتون ملعونين ..
الشاعرة فتاة تموت مخنوقة .( )
تلتفت القصيدة على نفسها لتعلن من جديد عن التماهي المميز للذات الشعرية المنخرطة في تجربة تشكيل النص الشعري ولتؤكد نوعا من صيغة السلب المؤكد على اكتفاء الذات المتلفظة في ملفوظة ( طالباتي ) لتعمق الشاعرة من خلالها مفهوم الوعي الثقافي والذي يمثل حضور المكان ـ الجامعة ـ هذا المكان يمثل هرما في تقاطع الذوات ؛ لانه يؤدي الى حرية في تناول قضايا تعادل الواقع ومن هنا كان هذا المكان تجميعا لاشكال عدة من النماذج الاجتماعية( ) ,فيها الثوري ,والرجعي , والفدائي, والانتهازي, والضايع والساقط في الظلمات, لذلك قالت الشاعرة :
طالباتي يتساقطن في الظلمة
آه كم أحب طالباتي .. !( )
ان السقوط لا يكون الا بضغط قوة دافعة يحدث السقوط بتمكنها من ازاحة الساقط ؛ لذلك نجد عوامل السلب هنا تتمكن من ازاحة المشروع الانساني الجديد ( طالباتي ) لكن هذا التساقط لاينتهي الى سكون بل يعاد الكرة الى قوة رافضة , كاشفة , وزارعة للثورة حيث يؤدي الاختلاف ما بين الجيل القديم و الجيل الذي حمل قضايا الامة وعلى رأسها القدس, التي حمل وزرها الجيل الجديد للجيل القديم الذي حولها الى شعارات يتغنى به , لذلك عملت الشاعرة على السخرية من هذا الشعار الاستفزازي الذي اصبح هدفا لاعتلاء منبر البطولة على سلالم من جماجم الشعوب المقهورة , فكان صوت القصيدة اشبه باعلان للعصيان وصرخة بوجه الزيف والتمرد ,في قولها :
صباح أمس القيت قصيدة عن القدس …
قصيدة طويلة ..
عصر أمس اعتلت طالبتي المكان وأعلنت عن كذبي
وزيفي..
بعد أن نزلت رأى الجميع زهرة تشرق في موطىء قدميها..( )
اذ كلما زاد اتصال الشاعرة بالكون وبالكائن البشري زاد اندماج هذا الكائن بعالمها الشعري بطريقة معقدة تحقق الوجود للذات , لذلك انتقلت ( الأنا ) التي نطلق عليها تجاوزا الأنا الصامتة العميقة الى الانا السطحية لتحقق الانا الفاعلة بنهوض ارادتها الانسانية التي تتجلى في الشخصانية ( ) , اذ ان الشاعرة تحاول ان تحقق الشخصية المشخصنة والتي تجعل منها المقولة العليا ومركز تصور العالم, انها شخصية تحقق انسانيتها من خلال وجودها الشعري . انه وسيط ما بين أنا الشاعرة والاخر والنحن في العالم الواقعي , لذلك انتقلت الشاعرة الى محاولة القفز نحو منطقة المحرم عابرة حاجز الموت والتغييب الى فعل السيرورة والديمومة فعل الارادة القصدية لتكون بيدها زمام الامور ولتصرخ صرخة تكسر الحواجز جميعا في الحقول الاجتماعية والثقافية والسياسية في قولها :
كتب حبيبي يقول ..
حينما تلغمين السور أكون قادرا على التفجير ..
قلت أجل ,, فعلت ذلك .
قال صوت :
نذر اشلاؤكما للأسوار ..
ضحك وجه صامد في دمي ..
مدّ كفّه عبر الجدار حبيبي
طلعت فرس من رحم الأرض ..( )
ان تفجير السور إذن لن يكون إلا بإرادة المرأة ,و بدون هذه الإرادة لن تتحقق عملية تحررها ولو اجتمع لها كل حكومات الارض, والذات الشاعرة تدرك ذلك عبر وعيها التاريخي , لكنها تدرك بعمق أهمية عنصر المؤازرة الإنساني في التحقق الثوري , ولذلك نجد الملفوظات تشير إشارات صريحة : كتب حبيبي يقول : حينما تلغمين ـــ اكون قادرا
وتعود الإرادة للحضور :
ضحك وجه صامد في دمي …
ومع الارادة : مد كفه عبر الجدار حبيبي
ان ما يميز هذه الدعوة الثورية التحررية انها اندماجية مع الرجل الثائر وشمولية مع الشرائح الانسانية وليست دعوة فئوية شرائحية ضيقة كما فعلت زعيمات النقد النسوي الذي تساقط متهافتا بسب نظرته العزلوية القاصرة التي حاولت عزل المرأة وقضاياها عن مجمل قضية المجتمع :مد كفه عبر الجدار حبيبي ...
فالرجل مشارك مؤازر وليس عدوا في معركة خاسرة .
ويكون التحقق خاتمة المكابدة النضالية :
طلعت فرس من رحم الأرض
وبكل ما في دلالات الفرس من نهوض وتحدي وطموح باذخ وحضور منتصر .
انه التجلي الذي حقق الحوار الأنثوي لدى الشاعرة في عملية تحقيق التوازن الكينوني , وذلك عن طريق المشاهدة والحضور للأنا الطموحة الباحثة عن التغير المنطلق نحو الثورة , لذا قالت الشاعرة :
ومن يومها وأنا اسمع تفجّر الألغام ..
والبذور لا تنفك تنمو
وتزحف بالثورة الحقول ..( )
وبعد فان عبقرية الشاعرة تكمن في عملية خروج الجواني والقدرة على تشكيل المحظور ودفعه إلى عالم الوجود الحقيقي و الشاعرة بهذه القصيدة تحاول أن توجه رسالة إنسانية من خلال عمق وصدق التجربة المفعمة بالحيوية والدينامية المتحركة في أفق كوني واسع لا تنفرد فيه عبقرية الرجال . إنها الانا المتفوقة لا أنا السوبر المدمرة( ) , لذلك شكلت هذه القصيدة فلسفة التجربة العارمة بالحياة في قولها المخالف للشاعرة مي زيادة التي أوقفتنا في ديوانها أمام مقولة تحاول ان ترج بها كيان كل امرأة تحاول الخروج الى افق الحقيقة الطموحة , اذ تقول مي زيادة : " نحن في حاجة الى نساء تتجلى فيهن عبقرية الرجال "( ) , لكن هذه القصيدة المعبرة للشاعرة بشرى البستاني امتلكت الارادة والفعل الذي يحمل في طياته معاني ودلالات محرضة على الحياة وعابرة نحو الغد من خلال بوابتها الانثوية الخاصة بها مما جعلها لا تلج بلغتها واسلوبها عبر قنطرة الرجولة , التي يعدها بعض النساء بوابتهن الشرعية لمنح القبول والسيرورة , لكنها نفذت من خلال شعرية شفيفة الى قارات ترميزية جديدة ترفل بالهم الانثوي الذي قد تحول تحت سطوة الظروف وصلادتها الى طقس صوفي ينأى بالذات عن هموم الواقع المكبلة والمعيقة , و عن سلطة الاخر, لانها تتوق الى الخلاص في نشدان المطلق , ولتستدعي مرحلة المجتمعات المتريركية ( الامومية ) التي تحقق نوعا من التوازن في السلطة الاجتماعية والثقافية والسياسية حتى لا تكون مهمشة في عالم الرجال وحواجز الخطاب المهيمن , اذ انها لاتدعو الى تقليدهم , ولا الى شجبهم بل تدعو الى كسر كل الاسوار التي تقف حائلا دون حرية الانسان وابداعه .
المصادر والمراجع
الأعمال الكاملة , مي زيادة , جمع وتحقيق : سلمى الكزبري , مؤسسة نوفل , بيروت , ط1 , 1982 م .
الأنا والأخر عند موريس ميرلوبونتي , دراسة في التحليل النفسي , مجلة آداب الرافدين , ع44 , مج 1 , 2006 .
أنا والأسوار , بشرى البستاني , المكتبة الوطنية , بغداد , 1978 م .
الخطاب النسوي في الأدب العربي الحديث , احمد دوغان , وزارة الاعلام , دمشق , ط1 .
السياسية لأرسطو طاليس , ترجمة احمد لطفي السيد , منشورات الفاخرية الرياض , ودار الكاتب العربي بيروت .
الشخصانية , امّا نويل مُونييه , ترجمة محمود جمّول , المنشورات العربية وشركة الفرنسية .
شروح على ارسطو مفقودة في اليونانية , ورسائل أخرى , تحقيق عبد الرحمن بدوي , دار المشرق , لبنان , 1986 م .
فكرة الجسم في الفلسفة الوجودية , رجيب الشاروني , مكتبة الأنجلو المصرية , 1974 م.
لذة النص , رولان بارت , ترجمة منذر عياشي , الناشر دار لوسوي , باريس , ط1 , 1992 م .
اللغة والجنس , حفريات لغوية في الذكورة والانوثة , عيسى برهومة , دار الشروق للنشر والتوزيع , عمان , ط1 , 2002م .
المأدبة , فلسفة الحب , افلاطون , ترجمة وليم الميري ,دار المعارف ,القاهرة , 1970 م .
المجلة العربية للثقافة , النقد الادبي النسوي في الغرب وانعكاساته في النقد العربي المعاصر , سعاد المانع , , ( مارس ـ سبتمبر ) , سنة 16 , العدد 32 , 1997 م
المرأة واللغة , عبدالله الغذامي , المركز الثقافي العربي , الرباط , ط1 , 1996 م .
المفارقة والادب , دراسات في النظرية والتطبيق , خالد سليمان , دار الشروق للنشر والتوزيع , عمان , ط1 , 1999 م .
من الكائن الى الشخص , دراسات في الشخصانية الواقعية , محمد عزيز الحبابي , دار المعارف , مصر , 1962 م .
الموجز في التحليل النفسي , سيجموند فرويد , ترجمة سامي محمود علي , عبد السلام القفاش , راجعه مصطفى زيور , دار المعارف , مصر , ط2 , 1970 م .
الموسوعة الفلسفية المختصرة , ترجمة فؤاد كامل وجلال العشري وعبد الرشيد الصادق , مكتبة النهضة بغداد , دار القلم بيروت , 1983 م .
نظام الخطاب وارادة المعرفة , ميشال فوكو , ترجمة احمد السطاني وعبد السلام بنعبد العالي , المركز الثقافي العربي لبنان , الدار البيضاء المغرب , ط1 , 1987 م .
النظرية الادبية المعاصرة , رامان سلون , ترجمة سعيد الغانمي , دار الفارس للنشر والتوزيع , عمان , ط1 , 1996 م .
هكذا تكلم زرادشت , فريدريك نيتشه , ترجمة فليكس فارس , دار القلم , بيروت , مكتبة النهضة بغداد .
الوجود والعدم , بحث في الانطولوجيا الظاهراتية , جان بول سارتر , ترجمة عبد الرحمن بدوي , دار الادب , بيروت , ط1 , 1966 م .