منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 11
  1. #1

    ذلك الثوب الذي/لبنى ياسين

    ذلك الثوب الذي
    لبنى ياسين


    كعادتي تماماً، وعند كل منعطف قاس للخيبة يباغت مسيرة حزني، أركض إلى الأسواق، أبحث عن التخفيضات في الملابس الباهظة، عن أي شيءٍ بوسعه أن يغلـّفَ كآبتي ليمنحَ عقلي جواز مرور مزيف إلى الفراغ والتلاشي .
    أتجولُ برفقة قائمة من الأحزان لا تخفيضات عليها، أتتني هكذا.. وحدها دون طلب مني ولا حتى إذن، برفقة خدمة التوصيل المجاني حتى شغاف القلب، وحتى آخر شريان للفرح ما يزال يكافح من أجل البقاء.

    أتصفح الواجهات الزجاجية الباذخة، أبحث فيها عن شيء يناسب مقاس حزني الذي غـدا ثخيناً، يخطر في بالي أنه عليَّ أن أبحث في المتاجر المتخصصة بالمقاسات المنتفخة ، فأرداف هذا الحزن كما أكتافه تكاد تصبح في مقاس ثلاثة أشخاص معاً .

    تطالعني بنظرات فضولية نساء خشبيات واقفات بوضعيات استعراضية على تلك الواجهات وقد سلطت الأضواء من الأعلى عليهن يرتدين أثواباً بحلة الفرح والجمال ، تسألني إحداهن بفضول هامسة بصوت لا تدركه أذن غير أذني : ما بك؟ فأتلافى النظر إليها مجدداً لئلا يباغـتني هوس الأوجاع المتناثرة في قلبي, وأبادلها حديثا يسمعه كل من حولي ناعتاً إياي بالجنون .

    يسرقني فستان جميل ترتديه امرأة خشبية سوداء بملامح ناعمة، وشعر معقوف إلى الأعلى، مصنوع من الساتان والمخمل، تلك الأقمشة التي تمنح جسدي شعوراً خالصاً بأنوثة طاغية أحب أن أجاهر بها نفسي، وأن احتفل بها سراً بيني وبين امرأة أخرى تشبهني تماماً، تقف ساخرة مني في كل مرة .

    ثوب أحمر صارخ اللون كغضبي، حوافه مطرزة بخيوط ذهبية باذخة تبدو كمن يتحدى ساعة الصفر لحدث ما.. حدث استثنائي جداً في حياة لا شيء استثنائي فيها إلا مقاس حزنها..

    يأسرني الثوب بأناقة جماله، أحاول أن أشيح النظر عنه فيأبى انصرافي، يتحداني ، يتحدى شجاعتي الهاربة مني، يجبرني على الانشغال به، أعيد عيني إليه خلسة عن نفسي، وأسرق منه نظرة أخرى أحاول أن أجعلها تبدو كنظرة وداع، إلا أنها تعاندني فلا تبدو كذلك، بل تظهر لي كمن يرحب بقدوم شخص عزيز.

    لا بأس .. لا بد وأن حزني يستحق أحياناً أن أغافله بحدث ما، وأن أتجاهل صراخه في قلبي .

    ألقي نظرة عابرة على السعر فيتوقف قلبي، أعيد النظر ثانية لعل خطأً ما يعلن ظهوره في قراءتي فلا يعلن .. السعر مرتفع جداً، ولم أضع في حسباني أن اشتري ثوباً للفرح بثمن كهذا، أنا التي تضنُّ علي المناسبات بمرور عابر، أحاول ثانية أن أنتزع نفسي من أمامه، وأنتشل عيني من على الحواف المطرزة، إلا أن زواياه تغمز لي، تخبرني بأنني أستحق أحياناً، ولأسباب غير مفهومة تماماً، رفاهية المخمل، والساتان، وغواية اللون الأحمر المطرز بورود ذهبية تسترق النظر إلي فيفوح أريج غيها حتى آخر السوق .

    افتح حقيبتي، أعدُّ النقود التي في حوزتي، هي كل ما أملكه هذا الشهر، وهي أيضاً على قدر السعر المطلوب تماماً، لفرحٍ مزيفٍ بي رغبة تكتسح قلبي اكتساحاً لشرائه، وكأنما فصل السعر تفصيلاً على مقاس النقود التي في حوزتي .

    أدخل إلى المتجر، ودون أي تردد كان يتملكني قبيل دقائق من دخولي فقط، أتجه إلى البائع، أطلب منه الثوب الذي على الواجهة، فيفاجئني بتوجهه إلى مكان آخر، ليحضر لي من مكان ما في المتجر نفس الثوب الذي طلبته، إنما بمقاس أكبر جعله يفقد أناقة أنوثته الطاغية .. أنظر إلى عينيه مباشرة وأعيد طلبي مصرّة على كل تفاصيله :

    أريد الثوب الذي على الواجهة .

    فيخبرني وعيناه تنطقان بالدهشة: عفواً اعتقدت أنك تريدينه لك؟ سأحضر لك نفس المقاس الذي على الواجهة .. أعيد النظر إليه وقد كاد الغضب يفجر عروق رقبتي : قلت لك ذاك الذي في الواجهة ولا شيء غيره، ولا حتى مثله.

    يبدو الامتعاض واضحاً على وجه الرجل، ويحاول إفهامي ثانية بأنه سيأتيني بنفس الثوب، وذات المقاس الذي ترتديه المرأة الخشبية السوداء التي تقف على الواجهة ساخرة من حزني، معتقداً أن بي مسّاً ما يعيق فهمي لما يقصد، ويغادرني لينتشله بسرعة عائداً به إلي, فــُأفهمه بأني أعلم أن هذا الثوب هو نسخة طبق الأصل عن ذاك، إلا أنني أريد الأصل، ولا أريد النسخة.. أريد ما على الواجهة، وتحت الأضواء، وفوق المرأة الخشبية السوداء.
    كأني بنفسي أنتقم من النظرة الساخرة في عينيها بتعريتها من ثوب الفرح، كأني أنتقم من تفاصيل الجسد الخشبي الشهي الذي لا تكوره الدهون, ولا الكيلوغرامات الزائدة، ولا يبدو كمستودع للحوم الفاسدة التي منها تفوح رائحة العرق، وتنوء بتفاصيل ثنيات دهنية مترهلة تبدو كدرجات سلم ينزل بي إلى حضيض اليأس .



    يتجه البائع وقد بدا الغضب واضحاً على ملامحه إلى الواجهة، لينزل المرأة الخشبية من عليائها، وأتجاهل غضبه تماماً كأنني لا ألمح آثاره ترتسم فوق الملامح السمراء لرجل لا يستطيع أن يفهم ما بي، وما الذي أغضبني عندما أحضر ذلك المقاس الضخم، فأنا الآن معنية فقط بأمر غضبي وخيبتي، من غيري يحاول رشوة الفرح بفستان ينتظر يوماً مناسباً لارتدائه ؟ يوماً مكللاً بشيء أنتظره، ولا يعيرني التفاتاً.

    يخلع البائع الفستان بحذر ورفق من فوق المرأة .. كأني به خائف على الأميرة النائمة من أن توقظها أصابع تقتحم خلوة كبريائها لتنتزع منها فستان الفرح الأحمر، إلا أن الأميرة تغط في سبات عميق لا تستيقظ منه، لا تقلقها وصفات الريجيم التي لا فائدة ترجى منها، ولا يهمها إحصاء عدد أثواب الفرح التي يرتديها جسدها الخشبي البارد ويخلعها دون أن يمر به الفرح فعــلاً .

    يطوي الثوب برفق حرصاً على الحواف المطرزة، يضعه في كيس ورقي كبير يزهو عليه اسم المحل بطباعة فاخرة تشي بفخامة هذا المكان ورقيـِّه، ويمد يده لي به متمتماً: مبــروك.

    لا أجد في نفسي رغبة بالرد على تهنئته، فأتظاهر بأنني لم أسمع شيئاً، بينما أحمل غنيمة الفرح منتشية بانجاز قد يوفق في جلب شيء منه إلى قلبي، ولو من باب الفضول.

    اتجه إلى صندوق المحاسبة، أمدُّ يدي إلى المحاسب براتب شهر كامل، تتخاذل يدي للحظة، وتبدو كمن يريد التراجع في الثواني الأخيرة، ويصرخ عقلي: "إنه راتب شهر أيتها الغبية" ، إلا أن النشوة في قلبي تجبرني على منح الرجل ثمن مرورها العابر، أستدير للخروج، فيستوقفني المحاسب قائلاً :

    لحظة..الفاتورة .

    أتجاهل صوته فليس بي نية لإعادة الفستان، أو حتى استبداله، أحمله وفي قلبي أمنية خائفة، واتجه وقد حصلت على ما حلمت به إلى باب السوق، أوقف سيارة أجرة، أخبر السائق بعنوان بيتي، وأطير في عوالم أخرى، يخرجني منها السائق وقد وصل إلى الشارع الذي همست له باسمه، فأوجهه نحو البيت، قائلة:

    انعطف يميناً.. يساراً .. الآن ..عند هذا المدخل .

    أضع في يده أجرة إيصالي، وأهرول إلى بيتي، أصعد الدرجات الخمس بسرعة، أدير المفتاح في قفل باب المنزل، وأتسلل بهدوء إلى غرفتي تلافياً لسؤال لا أريد الإجابة عنه حول محتوى الكيس الأنيق الذي أحمل، اُخرج الثوب الأحمر بحذر..أنظر إليه بفرح ..أعانقه.. أشم رائحته .. أرتبه على علاقة الثياب الخشبية، وأودعه خزانة ملابسي إلى جانب أثواب أخرى للفرح لعل ذلك يحـــدث.
    لبنى ياسين

    كاتبة وصحفية سورية

    عضو اتحاد الكتاب العرب

    عضو فخري في جمعية الكاتبات المصريات


    ‎‎http://www.facebook.com/album.php?ai...&l=87f56bdf85‎

  2. #2
    قاص ومترجم
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,153

    رد: لك الثوب الذي/لبنى ياسين

    نص بهي يعكس بذكاء وحرفية فنية حالة نفسية أنثوية و علاقتها باللباس
    جميل ما قرأته هنا
    تحيتي لإبداعك
    تثبيت

  3. #3

    رد: لك الثوب الذي/لبنى ياسين

    نعم كم نحتفظ بامور آجلة الحدوث ونبقى على الأمل الذي يححينا
    قصة محبكوية بماء البراعة
    تحيتي لابداعك غاليتي
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  4. #4

    رد: لك الثوب الذي/لبنى ياسين

    لبنى كأني الآن قد حصلت على كنز من كنوز إبداعك
    فما أن لمحت أسمك حتى هرولت وراء حروفك التي مازالت تحيك السحر والجمال وروعة التصوير منذ أول قصة قرأتها لك
    قصة جميلة في تصوير ذلك الإحساس الدفين وكأني بك أقرأ الأنثى بكل أفكارها تلبسين كل الأدوار فتتقنينها
    لك باقة من ياسمين

  5. #5

    رد: لك الثوب الذي/لبنى ياسين

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حسن لشهب مشاهدة المشاركة
    نص بهي يعكس بذكاء وحرفية فنية حالة نفسية أنثوية و علاقتها باللباس
    جميل ما قرأته هنا
    تحيتي لإبداعك
    تثبيت
    استاذ حسن:
    سعيدة بمرورك الكريم،وباعجابك بالنص.
    كل الأماني الطيبة
    لبنى ياسين

    كاتبة وصحفية سورية

    عضو اتحاد الكتاب العرب

    عضو فخري في جمعية الكاتبات المصريات


    ‎‎http://www.facebook.com/album.php?ai...&l=87f56bdf85‎

  6. #6

    رد: لك الثوب الذي/لبنى ياسين

    المبدعة الغالية ريمه:
    مرحبا وأهلا بك في بيتك الذي استضافني.
    يسعدني اعجابك بالنص
    كوني بخير

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريمه الخاني مشاهدة المشاركة
    نعم كم نحتفظ بامور آجلة الحدوث ونبقى على الأمل الذي يححينا
    قصة محبكوية بماء البراعة
    تحيتي لابداعك غاليتي
    لبنى ياسين

    كاتبة وصحفية سورية

    عضو اتحاد الكتاب العرب

    عضو فخري في جمعية الكاتبات المصريات


    ‎‎http://www.facebook.com/album.php?ai...&l=87f56bdf85‎

  7. #7

    رد: لك الثوب الذي/لبنى ياسين

    وسام الغالية: سعدت كثيراً برؤية اسمك هنا، مر زمن طويل لم أر رسائلك الغالية، يسعدني وجودك هنا أيتها العزيزة، ويسرني اعجابك، كوني بخير دائماً.


    Quote=وسام دبليز;104110]لبنى كأني الآن قد حصلت على كنز من كنوز إبداعك
    فما أن لمحت أسمك حتى هرولت وراء حروفك التي مازالت تحيك السحر والجمال وروعة التصوير منذ أول قصة قرأتها لك
    قصة جميلة في تصوير ذلك الإحساس الدفين وكأني بك أقرأ الأنثى بكل أفكارها تلبسين كل الأدوار فتتقنينها
    لك باقة من ياسمين[/quote]
    لبنى ياسين

    كاتبة وصحفية سورية

    عضو اتحاد الكتاب العرب

    عضو فخري في جمعية الكاتبات المصريات


    ‎‎http://www.facebook.com/album.php?ai...&l=87f56bdf85‎

  8. #8

    رد: لك الثوب الذي/لبنى ياسين

    تشرفت بالمرور بقصة مسبوكة يعناية من قلم أنثوي رائع.
    انتظر المزيد اديبتنا المتألقة
    أديبة

  9. #9

    رد: لك الثوب الذي/لبنى ياسين

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أديبه نشاوي مشاهدة المشاركة
    تشرفت بالمرور بقصة مسبوكة يعناية من قلم أنثوي رائع.
    انتظر المزيد اديبتنا المتألقة
    أديبة
    العزيزة أديبة:
    تشرفت أنا أيضاً بمرورك الكريم هنا.
    أسعدك الله بكل خير.
    لبنى ياسين

    كاتبة وصحفية سورية

    عضو اتحاد الكتاب العرب

    عضو فخري في جمعية الكاتبات المصريات


    ‎‎http://www.facebook.com/album.php?ai...&l=87f56bdf85‎

  10. #10
    أديب
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    الدولة
    العراق
    المشاركات
    2,207

    رد: لك الثوب الذي/لبنى ياسين

    السلام عليكم

    لبنى ..

    مرحباً بكِ هنا

    وقصة تستحق التثبيت لجمالها

    تقديري
    إِلبِس أَخاكَ عَلى عُيوبِه ------ وَاِستُر وَغَطِّ عَلى ذُنوبِه
    وَاِصبِر عَلى ظُلمِ السَفيهِ ------ وَلِلزَمانِ عَلى خُطوبِه
    وَدَعِ الجَوابَ تَفَضُّلاً ------ وَكِلِ الظَلومَ إِلى حَسيبِه
    وَاِعلَم بِأَنَّ الحِلمَ عِن ------ دَ الغَيظِ أَحسَنُ مِن رُكوبِه

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الشاعرة لبنى ياسين وبوح الياسمين
    بواسطة طلعت سقيرق في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 06-02-2011, 08:49 PM
  2. حالة برد-لبنى ياسين
    بواسطة لبنى ياسين في المنتدى فرسان النثر
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 04-23-2011, 08:12 AM
  3. وطن/لبنى ياسين
    بواسطة لبنى ياسين في المنتدى فرسان النثر
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 04-23-2011, 08:00 AM
  4. حوار الأربعاء مع الكاتبة لبنى ياسين
    بواسطة ملده شويكاني في المنتدى فرسان المقالة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 10-03-2010, 08:38 AM
  5. الموت صمتاً-لبنى ياسين
    بواسطة لبنى ياسين في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 10-03-2010, 08:30 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •