الدّعاءُُ بين انتفاضتين
حينما ترفع إلى السّموات دعواتُ المظلومين ، وتعجّ جنباتُ الأرض بشكاوى أهل الحقّ المكلومين ، الصابرين المصابرين المرابطين العاملين ، المسلوبةِ أرضُهم ، المدنسّة مقدّساتهم ، المستباحة حرماتهم ، المنهوبة ثرواتهم ، عندها يغدو من ضروب اللغو واللّغط ، ومحض الضلالة والشّطط ، اعتقاد قوى الظلم والبغي والاستكبار أنّ سلطانهم سيظلّ في مأمَنٍ ما داموا مُحْكِمي القبضة على رقاب العباد ، ويغيب عنهم أنّ عزّ ملكهم وديمومة سلطانهم مرهونة بإقامة موازين القسط والعدل ، وليس بالرّكون إلى ما هم فيه من حَوْل وطوْل وكثرة أتباع ، ونصرة أشياع ، وسعة متاع ، ووسائل بطش وتنكيل ...
وعليه : فإذا فسد أولو الشوكة وأفسدوا وظلموا وتجبّروا ، فراحوا يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق ، وينتفخون شرفاً بكراسيّ ملكهم الغائصة قوائمها بدماء الأبرياء والمستضعفين ، عندها سيؤتَى مُلْكُهم من أطرافه ، ويدبّ العطبُ في أواسطه وحوافّه ، وذا يعني أن تباشير تصدّعه قد لاحت ! وأمارات انهياره قد بانت ، فساعة التحرير والانعتاق من قبضة الظلم والظلام وقتئذٍ قد جاء أشراطها ، فللشعوب المستضعفة عزّ وإقبال ، ولقوى البغي والعدوان قهر وإذلال ! بذا جرت مقادير الله الكبير المتعال !
غير أنّ الشّكاية لربّ العباد،ورفع الحاجات بالدّعوات إلى رفيع الدّرجات لابدّ وأن يكون مقروناً بانتفاضتين اثنتين نحدثهما في أنفسنا ؛ (إنتفاضة نفسيّة وانتفاضة فكريّة ) ومن كلّ سأقصّ عليكم ذكرا :
أمّا الانتفاضة النفسيّة : فتتمثل في أن نوطّن أنفسنا على أنه لا بدّ للشّعوب المنكوبة المكروبة التي تروم النصر والظفر والتحرّر والتحرير ، لا بدّ لها من الابتلاء والعّناء وهي تؤدّي تكاليف نصرة قضاياها ، كي تعز هذه القضايا على نفوسهم بمقدار ما أدّوا في سبيلها من تكاليف وتضحيات ، وإلا فالقضايا غير الممهورة بدماء أبنائها لا يعزّ عليهم التخلي عنها ولا يعزّ عنهم الانفضاضُ عن نصرتها عند الصدمة الأولى ،وعليه : تكون التضحيات هي الثمن النفسيّ والضريبة النفسيّة التي تعزّ به القضايا في نفوس أهلها قبل أن تعزّ في نفوس الآخرين .. وكلما تجشّم أهل القضايا المشاقّ في سبيلها ، و بذلوا من أجلها، كانت أعزَّ عليهم ، وكانوا أحقّ بها وأهلها ، وكانوا أضنَّ من التفريط بها ، وإلا :
ومن يستلم البلاد بغير حرب .. يهون عليه تسليمُ البلاد
أمّا ( الإنتفاضة الفكريّة ) فتتمثل في يقظة فكريّة لدى الشعوب كتلك اليقظة التي نستشفها من قصّة طالوت وجنوده ؛ فلمّا فصل طالوت بجنوده ، رأى جنود طالوت كلُّهم مشهداً واحداً ، مشهد جالوت وجندِه وعددِهم وعُدَدِهم وعدّتهم وعتادهم ، وبأسهم وشدّتهم وشوكتهم ، فانقسموا إلى فئتين: فئة نظرت إلى ظواهر الأحداث وإلى ملابسات الواقع وضغوطاته الثقيلة فقط ، فدبّ الخور في نفوسهم ، وتسرّب الوهن إلى قلوبهم فقالوا ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) ( البقرة 249 ) وفئة أخرى يدركون ما أدركته الفئة الأولى من تحديّات الواقع وضغوطاته الثقيلة لكن تجاوزت رؤيتها بقلبها وبصيرتها الواقع الصغير المحدود ، وامتدت رؤيتها إلى من بيده مقاليد الأمور ، إلى من يدبّر الأمر ويصرّف الدّهر ، فاتصلت قلوبها بالله الكبير المتعال ، فحافظت على سكينتها وأبقت على يقينها فقالت : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) ( البقرة 249 ) ثمّ اتجهت إلى ربّها في ابتهالها ودعائها ورجائها ، فرفعت أكفّ الضراعة إلى ربّها وهي في خضم المقارعة والتحدّيات ، ولم ترفع أكف الضراعة وهي قاعدة في بيوتها ، فقالت : ( ربّنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) ( البقرة 250 ) فكانت الثمرة والحصيلة ( فهزموهم بإذن الله ) ( البقرة 251 ) فهي توقن أنّ ميزان القوى الحقيقيّ ليس في يد البشر ، إنما في يد الله ربّ البشر ، فطلبت النصر ، ونالت النصر ، من الجهة التي تملك النصر ( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) ( آل عمران 126 ) وبذا يثبت أنّ التعاملَ مع وعدِ الله الظاهر للقلوب ، أصدقُ من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون ، وإلا فقد يغلب على الأرض جبابرة طغاة بغاة وقد يغلب على الأرض غزاة متبربرون ، لكنهم بموجب سنّة الله ربّ العالمين لن يكونوا سوى غزاة عابرين ولسوف تخلد في الأرض سنة الله رب العالمين ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) فذا وعد الله ( الأنبياء 106 ) ( وعد الله لا يخلف الله وعده ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون ) ( الرّوم 6 ) والمؤمن الفطن الحذق الواثق يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة ، فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو رقعة محدودة ، أو زمان محدود ، أو مكان محدود يخالف تلك الحقيقة ، بمعنى إذا شهد الواقع علوّ أهل الباطل على أهل الحق ، فهذا الواقع هو الباطل الزائل ، الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة ، ثم تكون الغلبة لله ورسوله وصالح المؤمنين ، فأبشرواأيها المستضعفون المظلومون وأمّلوا واطمئنوا فهذا هو الكائن – أي انتصارَ الحق وعودةَ الحق السليب إلى أهله - هذا هو الكائن الذي لا بدّ أن يكون ، ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون ! لذا علّقوا ثقتكم وآمالكم ورجاءكم ، بمن أمره بين الكاف والنون ، ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) ( يس 86 )
في ضوء ذلك يتضح أنّ استجابة الله تعالى لنا بالنصر والظفر مرجوّة ومتحققة لمن يستجيبون له ( وإذا سألك عبادي عنّي فإني قريب ، أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) ( البقرة 186)
وعليه: يكون الجرمُ الأكبرُ الذي يفوّت استجابة الله لنا وتأييدَه لنا : هو جرمَ الإعراض عن منهج الله تعالى وخياره الذي اختار لنا : وذلك مثل ثمودَ قومِ صالح : حين اجترأوا على مناوأة خيار الله تعالى المتمثل بآيته البيّنة ( هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكلْ في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذَكم عذاب قريب ) ( هود 64 ) نظروا إلى هذه الآية بعين البصر لا البصيرة ، فكانت النتيجة : ( فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ) ( القمر 29 ) نادَوْه لأنه مشتهر بينهم بالإقدام وقلّة المبالاة ، وهكذا لا يُغرَى بمناوأة الخيار الرّبانيّ وأهله إلا ضعفاء العقول ، سفهاء الأحلام ، رعاع بين الأنام !
( فتعاطى فعقر ) أعطي جُعالة : أُجرة ورشوة وعِوَضا ، رُصِدت لمن يقوم بهذه الفعلة الشنعاء ! فعلة عقر النّاقة ، وهذه حال ودأب الذين يتولّوْن كِبْرَ مشاقّة الخيارات الرّبانيّة والقضايا الإيمانيّة ومحاولة عقرها ، يُغريهم ما يُعطوْن من الحُطام الدنيويّ لاعتراض الخيار الرّبانيّ !
فتعاطى فعقر وفي هذا السّياق : سياق ( فتعاطى فعقر ) كَمْ مِنْ رَجُلِ سَوْءٍ تعاطى فعقر قضيّة إيمانيّة ! وكم مِنْ مُغرِضٍ تعاطى فلوّث معالمَ الهويّة ! وكم مِنْ خؤونٍ تعاطى فجرّ على أبناء شعبه بليّة ! وكم مِنْ طاغية تعاطى فرهن بلاده لأيدٍ أجنبيّة ! وكم مِنْ سفاحٍ تعاطى فسفك دماءً حرّة أبيّة ! وكم مِن ناقمٍ تعاطى فارتكب مجازر دمويّة ! وكم مِنْ فتّانٍ تعاطى فأفشل جهوداً وحدويّة ! وكم مِنْ مَشّاء بنميم تعاطى فأفسد للودّ قضيّة ! وكم مِنْ زنيم تعاطى فعقر قِيَمَاً خُلُقيّة ! وكم مِن مُريبٍ تعاطى فغيّر ملّته ! وكم من صاحب هوىً تعاطى فباع ذمّته ! وكم مِن أثيمٍ تعاطى فرَهن قلمَه وكلمته ! وكم وكم !! والقائمة تطول ، ولكن لم ولن يفلت من قبضة العدالة الرّبّانيّة أحدٌ تعاطى فعقر ! اللهمّ عليك بكلّّ من تعاطى فعقر !
وختاماً : ( إن الحكم إلا لله ، يقصّ الحق وهو خير الفاصلين ) ( الأنعام 57 )