* *
صباح الخير أيتها الشمس
وأنت تعانقين العالم
* *
[[ أنا .. في ســطور ]]
( نُشـرت في جريدة الخليج )
نشأتُ شبه مكفوفة البصر ، وبدلاً من أن يشكل هذا عاملاً لاستسلامي ويأسي وانكفائي على الظلمات التي فُرِضَتْ عليّ ، شكّل عاملاً لانطلاقي عبر الحياة باحثة عن الضياء ضمن ما أمكن من الدروب ، ولا سيما درب العلم والمعرفة ، ودرب تكوين الحياة الاجتماعية المتوازنة ليكون شأني في ذلك شأن سواي من المبصرين . ولا شـك أن هذا مرّرَني بالكثير من العقبات والمشاق ، نظـراً لِما يتطلب من ضرورة تكييف ذاتـي مع الظرف غيـر المألوف ـ ظرف افتقاد إحدى الحواس المهمة لدى الإنسان ، وتحفيز ما لدي من إمكانات وحواس أخرى لم يبخل اللـه عليّ في منحي إياها ، وفي جعلها ضمن المستوى الكافي من الاتقـاد . وهكذا من خلال ما أمتـلك ، ومن خلال ما حباني به اللـه أيضاً من أسـرة متميزة قادرة بإيمانـها وثقافتـها على استيعاب وضع خاص كهذا . تمكنتُ من عبور طريقي خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة بتفوق متميز إلى أن حصلتُ عام 98 على درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها ، وإلى أن أصبحتُ حالياً مُدَرّسة في كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية بجامعة تشرين .
ولعل من أهم الصعوبات التي صادفتُـها على درب تعلمـي هـو أنني لم أتابع دراستي المدرسية في مدرسة خاصة بالمكفوفين ، لعدم توافرها في محافظتنا ، إنما في مدرسة للمبصرين ، وما عنى هذا من ضرورة توظيفي القسري لبقايا بصري الضئيلة بغية تبيُّن الحروف والكلمات والجمل قراءة وكتابة ، واضطراري إلى تقريب الدفاتر والكتب حتى التصاقها بعينيّ ، وذلك بجانب نافذة مشمسة نهاراً ومصباح قوي الإضاءة ليلاً . علماً أن ما سبق ذكري له لا يعني إيماني بضرورة إيداع المكفوفين في مدارس خاصة بهم ، بل إنني معارضة لهذا الأمر كل المعارضة ، ما دامت هذه المدارس تبعدهم عن الاندماج بمجتمع المبصرين الكبير الذي يحيط بهم ، وما دامت طريقة ( برايل ) المستخدمة فيها تبعدهم بحروفها المنقطة الخاصة بهم عن حروف عربيتهم ، وتحول باعتمادها حاسـة اللمس بصورة رئيسية دون الاستفادة من حاسة السمع التي تمتلك أهميتها الحيوية المتميزة في حياة الإنسان ، والتي تم تقديمها في الذكر على حاسة البصر في القرآن الكريـم : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا )
لذلك فإنني أقترح بهذا الصدد أن تُفتَتَح شُعَب لهذه الفئـة ضمن مدارس المبصرين ذاتها كي يتحقق لهم الدمج المطلوب ، وأن تكون تحت إشـراف خبراء يعيدون النظر في طريقة تدريسهم مستفيدين من حاسة السمع بالدرجة الأولى ، ومن حاسة اللمس التي يمكن من خلالها أن يتعرفوا إلى حروف لغتهم ، وإلى ما لا يمكنهم الوصول إليه عن طريق الحاسة السابقة الذكر .
أما الصعوبات التي صادفتُها على طريقي الاجتماعي ، فبالرغم من التقائي الكثيرين من المتجاوبين الذين كان لهم دورهم في تذليل إعاقتي ، فقد التقيتُ أيضاً السلبيين الذين كان لهم دورهم في تدعيمها ، بل الذين كانوا أكثر قسوة منها وتسبيباً في إيلامي متناسين أن النقص لا يقتصر على فئة المعوقين فحسب ، إنما يشمل البشر جميعاً ، لكن وفق صورتين متباينتين ما بين الظهور للعيان والتخفي في الداخل . علماً أنني حين أجريتُ مقارنة مبدئية من حيث العدد ما بين صنفَيّ النـاس أولئك ، انتهيتُ إلى أن السـلبيين لا يشكّلون سوى قلـة ضئيلة بالقياس إلى الذين يقابلونهم ، لكن القضية بالنسبة إلى خصوصية تجربتي لا تتعلق بهذا المقياس الكمّـي بقـدر ما تتعلق بعمق التأثير السـلبي أو الإيجابي الذي يتركه الفرد في نفسي ، والذي قد يمتد بفعاليته وحيويته عبر حياتي كلها ، كيف لا ؟! ومن الممكن لإنسان واحد ، واحد فقط ، أن يشعل بقعة من هذه الأرض ، أو لإنسان واحد ، واحد فقط ، أن ينبتها .
وبالرغم من الصعوبات هذه كلها التي مررتُ بها ، وبرغم تشكيلها محطات كثيفة الظلمات عبر حياتي ، فقد تمكنتُ شيئاً فشيئاً من التآلف مع حالتي الصحية الخاصة التي شكّلَتْ الجذر الأول لمعاناتي ، إلى أن أصبحَتْ الآن صديقة لي ، صديقتي التي عوّضتني عن مصباحَيّ عينيّ المطفأين بِحاراً من الضوء تسكن داخلي وتمنحني ما يكفي من الشعور بالدفء والسكينة ، والفرح بقضاء اللـه وقدره الذي سرعان ما تبين لي أنه أكثر إشراقاً بكثير من قضائه بأن أكون واحدة من المبصرين .
منذ دخولي قسم اللغـة العربيـة بدأ الناس يُسائلونني ما إذا كنتُ أكتب أم لا ؟ وماذا أكتب ؟ ولماذا لا أكتب ؟ فبدوا بذلك وكأنهم ينتظرون مني كلمتي بعد مروري بذلك الشطر من تجربتي التي عمّقَتْني في الكثير من آفاق الحياة الثرية . ومن هنا بدا أمري مختلفاً عن أمر الأدباء الآخرين ، لأن هؤلاء إذا كانوا يكتبون أولاً ، وتتم قراءتهم ثانياً ، فإنني أنا تَحلَّق من حولي قرائي قبل أن أكون قد كتبتُ سطراً واحداً .
وبالرغم مما أشعرَتْني به إلحاحات القراء من مسؤولية كبيرة تجاههم ، فإنني هنا اختلفتُ عن الأدباء الآخرين أيضاً من حيث تأخري في الكتابة ، وفي إصدار أعمالي الأدبية العديدة ، وذلك لعاملين أساسيين : أولهما هو أنني منذ طفولتي كانت أحلامي متركزة في اتجاه آخر تماماً ، وهو احتراف الغناء نتيجة امتلاكي صوتاً جميلاً . وبالفعل حدث لي ما أردتُ ، إذ اشتركتُ في العديد من الحفلات الفنية ، وصُنِّفتُ مطربة بناءً على نجاحي في مسابقة إذاعية لأصحاب المواهب ، وسُجِّلَتْ لي أغنيات عديدة في الإذاعة السورية ، إلا أنني بعد حين وجيز ما لبثتُ أن غادرتُ هذا العالم لأسباب عديدة يمكن تلخيصها مجتمعة في تعقد هذه المهنة وتعارضها مع ظروفي ، وعدم موافقتها لطموحاتي التي سرعان ما تبين لي أنها أوسع بكثير من أن أؤدي ما يبدعه الآخرون ملحنون وكتاب كلمات .
أما العامل الثاني الذي أسهم في تأخري في الكتابة ، فيمكن تحديده في انشغالي بتحقيق تفوقي في دراستي الجامعية بصورة تفوق ما كنتُ عليه في دراستي المدرسية ، ذلك كي يتاح لي متابعة دراساتي العليا ، والحصول على درجة الدكتوراه التي سأثبت من خلالها مدى ما يمتلك المعوق أحياناً من طاقات قد تفوق ما لدى السليم . هذا بالإضافة إلى ما قادني إليه الحلم بتلك الدرجة العالية من الحلم بالتفرغ فيما بعد للبحث الأكاديمي الذي سيقربني خطوات أخرى نحو قدوتي الدكتور طـه حسـين ، والذي سيتطلب مني بذل كل ما لديّ من جهود وأوقات . وهكذا أستطيع أن أنتهي بشأن الكتابة الأدبية ، باختصار ، إلى أنني لم أتلكأ في القيام بها نتيجة إهمال أو إيثار للتأجيل ، إنما نتيجة عدم دخولها آفاقي في يوم من أيام سنّي المبكرة .
ومنذ أن تجاوزتُ مرحلة الماجستير تبين لي أنني أنفر كل النفور من هذا المجال الأكاديمي الذي اخترتُه ، نظراً لما فَرَضَ عليّ من أجواء انعزالية جافة مختلفة عن تلك الأجواء المنفتحة الحيوية التي شهدتُها في عالم الغناء ، لذلك لم أجد بداً حينئذ ، إلى جانب اجتيازي لمرحلة الدكتوراه ، من أن أتوجه إلى مجال الإبداع الأدبي الذي ألفيتُه يشكل استمراراً لغنائي ذاك من حيث تمكني عن طريقه من تواصلي مع ما تعدد من شرائح الناس ، بل الذي ألفيتُه يتميز من حيث تمكني عن طريقه من التعبير أنا شخصياً عما أريد التعبير عنه بدلاً من أن أردد ـ كما حدث في الغناء ـ ما عبّر عنه الآخرون .
لقد كانت بداياتي الكتابيـة أولاً ضمن المجال الشعري ، ربما استجابة لما حدث لديّ من تدفق شعوري ، ذلك تجـاه تجربتي الذاتيـة التي أصبحتُ أكثر تبصراً بها في تلك المرحلة الناضجة ، وتجـاه تجارب الآخرين التي تبيَّنَ لي أنني أتفاعـل معها إلى حـد التوحد بناءً على ما مررتُ به شخصياً عبر أعماق الحياة . هـذا بالإضافة إلى ما أعبر عنه من خلال قصائدي من الصور الحياتية والكونية المتنوعة التي أجـد فيها دائماً من أدقها إلى أوسعها مصدراً للإلهام الإنساني بناءً على ما تُذكّرنا به دائماً من أدقها إلى أوسعها من عظمة الإبداع الإلهي .
ثم انتقلتُ في كتابتي إلى سيرتي الذاتية ، فصدرَتْ لي عن دار الآداب ببيروت ( البصر والبصيرة ) التي قصصتُ من خلالها حكايتي الشخصية على درب حياتي منذ لحظة ميلادي حتى لحظة حصولي على درجة الدكتوراه بكل دقائقها وتفاصيلها ، وبكل ما انطوت عليه من الآلام التي كان لا بد أن تتأتى من وضعي الخاص ، والأفراح التي كان لا بد أن تتأتى من تحديَّ لهذه الآلام بما امتلكتُ من إرادة وإيمان . وإذا ما ظهرتُ مبكرة في إصدار سيرتي ، فإن هذا لم يكن إلا من أجل أن أقدم رسالة إلى الناس اليائسين المعوقين وغير المعوقين ، فأبين لهم أن الحياة لا بد أن تنطوي على جانبها المضيء الجميل ، لكن الذي لا يتم الوصول إليه إلا بِحَثّ الخطى ، وعدم المكوث المستسلم في جانبها المظلم .
ثم انتقلتُ مؤخراً في كتابتي إلى الخواطر النثرية التي سُررتُ بها كثيراً لعثوري فيها على ما يمكن أن يحقق تواصلي مع الناس جميعاً دون تمييز ما بين قادر على استيعاب الشعر وغير قادر . علماً أنني من خلال خواطري هذه حاولت أن أطرق المجالات ذاتها التي طرقتُها في الشعر ، ذلك لكي أجعل القراء ينفتحون من خلال هذا الجنس الأدبي الأكثر يسراً على ما لم يتمكنوا من الانفتاح عليه من خلال الجنس الأسبق . كما تجدر الإشارة إلى أنني لم أجعل كتابتي النثرية نثرية خالصة ، إنما حاولتُ مراراً أن ألونها بما جادت به قريحتي من أنفاس شعرية لم أتمكن من التخلي عنها ، فلعلي بهذه المزاوجة أثبت قدرتي على الإبداع ضمن الجنسين الأدبيين المذكورين في آن واحد .
د . ريـم هـلال
موقعها الشخصي:
مـوقـع د. ريـــــم هـــــلال