النزوعات الريادية والتعليمية والأخلاقية
في أدب
محمد الحاج حسين
د. عبد الله أبو هيف
عرف محمد الحاج حسين «1914- 1989» بريادته لأدب القصة والرواية الى جانب أمثاله الرواد مثل شكيب الجابري وعلي خلقي وفؤاد الشايب، ولا سيما تعمقه في التواصل الثقافي مع الأدب العالمي، إذ عني أيما عناية بتلازم الرومانسية مع تعبيراتها الإنسانية المتفائلة في النظر الى معاناة البشر الاجتماعية إزاء الاحساس المأساوي بالآلام الناجمة عن الفقر والوهن والمرض والاستغلال.
ولد محمد الحاج حسين في طرطوس عام 1914، وتعلم في مدارسها، وأنهى دراسته الثانوية فيها، وسافر عام 1933 الى مصر، وحاز شهادة الماجستير في الأدب العربي من جامعة القاهرة عام 1937، وتعرف في مصر الى عمالقة الأدب العربي: المازني والعقاد وطه حسين ومصطفى أمين، حيث كان الأخيران أستاذين له، وبدأ نشاطه الأدبي في جريدة «البلاغ» «القاهرية»، وهو لا يزال طالباً في الجامعة، وعاد الى سورية، ومارس فيها مهنة التعليم في ثانوية اللاذقية، ثم عين مديراً للمعارف فيها في مطلع الخمسينيات، وتابع دراسته العليا في مصر عام 1956، وحاز على شهادة الدكتوراه بامتياز مع درجة الشرف الأولى من جامعة القاهرة عام 1960، وتسلم شهادته من الراحل جمال عبد الناصر بحضور د. طه حسين، وعين مديراً للمعارف في الرقة إثر عودته الى سورية، وسافر عام 1965 الى المملكة العربية السعودية، وعمل فيها أستاذاً للأدب العربي بجامعة الملك عبد العزيز في جدة.
استمر في نشاطه الأدبي، ونشر العديد من الأبحاث والمقالات في مختلف ألوان الأدب في الدوريات السورية واللبنانية والمصرية والسعودية، وكان متقناً للغتين الانكليزية والفرنسية، ويملك مكتبة ضخمة جمعها في حياته، وفيها الكثير من الكتب القيمة والنادرة.
ألف عدّة كتب نقدية مثل « عبقرية الأدب العربي» (1944)، «عباقرة الفكر في حياتهم العاطفية» «1956»، و«الكميت بن زيد: حياته وشعره» «1972»، ونشر كتاباً في المسرح ضمنه عدداً من التمثيليات، وسماه «الحقيقة المرة» «1970»، أما انتاجه الأبرز فهو التأليف القصصي والروائي التالي:
- «جنازة قلب» قصص 1950.
- «الجوع لا يرحم» رواية 1953.
- «اعترافات الشيطان الأزرق» رواية 1954.
- «ملكة الجمال» رواية 1954.
- «ثلاث شفاه» قصص 1955.
أصدر محمد الحاج حسين كتابه الأول «عبقرية الأدب العربي- الجزء الأول» عام 1944، وأوضح في مقدمته أنه بدأ معالجة الأدب، وهو في السابعة عشرة من عمره عندما كان طالباً في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة، وانصرف بكليته الى نشر قصصه ومسرحياته في الدوريات العربية، وصرح عن كتابته لعدة روايات لم يطبع منها شيء، وأكد أنها «تعالج مشكلاتنا الاجتماعية ومعضلاتنا النفسية» (ص6).
وجمع في هذا الكتاب بعض مقالاته وأبحاثه عن محمود سامي البارودي واسماعيل صبري وحافظ ابراهيم والملاحم والشعر العربي والغزل والرثاء والمصنوع والمطبوع والهجاء في الأدب العربي وشاعرية الحطيئة وابن خفاجة الأندلسي، والأدب العربي في ميدان التوجيه.. الخ، ونشر مسرحيتين قصيرتين من تأليفه هما «ميلاد أبي العلاء» و«صاحبه عمر»، وأظهر وعياً بالكتابة لديه، إذ ألحق مسرحيته الثانية بتعقيب عن مصادرها وصياغتها واستهدافاتها القيمية.
ونشر كتابه الطريف «عباقرة الفكر في حياتهم العاطفية» عام 1956، وفيه فصول شيقات تصور أدق الخلجات الوجدانية عند كارل ماركس ونيتشه ولامارتين وتولستوي ومارك توين وديستويفسكي وبلزاك ولرمنتوف وغوته وشكسبير ومكسيم غوركي وجان جاك روسو وبوشكين وفيكتور هيغو وتوماس كارليل وغيرهم، وألمح في تصديره للكتاب أن موضوعه شديد الصلة «بينبوع الإلهام الذي كان يتفجر منهم، فأرى الحب يفيض بين أجنحتهم اللهيفة، هذه النيران المتضرمة التي تشعل قبة الوحي في انتاجهم الفني الغزير، فأهرع لأسجل قصة هذا الحب الكابي تارة الباسم أخرى بأسلوب قصصي» (ص5).
وكان كتاب «الكميت حياته وشعره» «1972» الأخير في منشوراته على الرغم من إعلانه المتكرر في كتبه جميعها أنه سينشر مؤلفات كثيرة من إبداعه الروائي والمسرحي، وهذ الكتاب بحث علمي عن شاعر لم تلق سيرته وشعره عناية الباحثين والنقاد اللائقة.
نشر محمد الحاج حسين مجموعته القصصية الأولى «جنازة قلب» «1950»، وراعى في كتابتها مستلزمات الاتجاه التقليدي في اتباعه عناصر القصة التقليدية في تناول مشكلات جماعة مغمورة تحت وطأة مصاعب الحياة من خلال التأزيم بين الوصف الخارجي والداخلي حتى تفاقمت هذه المصاعب، وأصاب عائدة مس من الجنون، و«مضى العام اثر العام، وتقادم العهد، ففقدت كل شيء، وكأني بذلك الرمس الذي تخيلته في اللانهاية أشيّع اليه جنازة قلبي، لا يزال فاغراً فاهه ظامئاً حرّان» (ص36- 37).
وسرعان ما دفعت عائدة الثمن باهظاً إثر دخولها المستشفى، وأشهر الراوي تعاطفه العميق مع عائدة: «وفي صبيحة يوم من أيام الخريف القلقة، وفي موكب من شبحين اثنين، سار حفّار القبور يحمل على كاهله الضعيف جنازة قلب بريء بإثمه وأثيم ببراءته، أجل لقد فقدت عائدة كل شيء، وفقدت أنا كل شيء» (ص37).
عني محمد الحاج حسين في قصصه بأغراض القصة إشاعة لقيم التعاطف مع شخوص جماعته المغمورة الذين أرهقتهم الحياة، وصور محمد الحاج حسين في روايته «الجوع لا يرحم» «1953» النشأة العصيبة في بيئة فقيرة تجاهد أسرة الراوي في سبيل تأمين لقمة العيش.. وتقترب الرواية من المتن الحكائي الذي يسرد وقائع فنية ليافع في مقتبل العمر اضطر للعمل المبكر وهو يعاني من رحيل أمه وقسوة الجوع، ولا يريحه سوى الاستغراق في الأحلام حتى أتيح له العمل مع أسرة ثرية ساعدته على التكون الذاتي السليم مما يدفع عائدة ابنة الأسرة الى مصارحته برغبتها في الزواج منه، واعتقد أنها اختارت سواه، لأنه عامل لدى أسرتها، ثم فاجأته باختيارها.
خصص روايته «ملكة الجمال» «1954» لمعاينة التعلق بالمرأة من جهة والتأسي للضغوط الاجتماعية التي أدت الى انتحار المرأة التي أحبها، فقد توجعت لميا من عهر أمها التي «تبيع جسدها لطالبي اللذة» و«فدحتها النقمة على هذه الأم التي وضعتها في الوجود ثم لم تلبث طويلاً حتى غفرت لها خطيئتها.. من يدري كيف كانت ظروفها القاسية، وتعاورها الشجن العنف، عندما استرسلت مع خيالها، واتضح أنها ستسير بالطريق نفسه التي اخترقته أمها.. فالذئاب البشرية لن ترحم جمالها وشبابها، بل ستلغ في دمائها» (ص149).
وخالجها السؤال الملحاح: «أما خير لها وأبقى أن تقضي على حياتها، وتصعد الى السماء تشكو لخالقها ظلم الانسان» (ص149)، ومضت الى البحر، وانتحرت فاندفع سمير الى الجنون، على أن ملكة الحسن لا تموت، وفي «مستشفى المجاذيب يقضي سمير كامل أيامه يغني ويرقص وينادي: لميا.. لولو» (ص154).
مال الحاج حسين في روايته «اعترافات الشيطان الأزرق» «1954» الى التعليمية، ومهّد لها بتوجيهه للمنظومة القيمية التي بنيت عليها الرواية على أن الرواية تستند الى ذكريات عاشها صديقه خالد وقصّها على المؤلف ذات يوم فسجلها بدقة، وأوضح أن خالداً يلقب بالشيطان الأزرق إزاء ولعه القاهر بالنساء، «لأنه كان دائماً يردد: إن ألم القلب الذي يخلفه حب امرأة: لا يزول إلا بألم من حب امرأة أخرى» (ص3).
وعرّف بموضوع روايته وطبيعة صوغه الروائي احتضاناً للحب: «فالحب هو الدفء والحنان والحياة.. وبدونه تتوقف أنفاسي، وتموت نبضات الحياة في جسدي، فالحب يحرقني في لهبه المقدس، ثم يصفيني ويسمو، حتى استحيل الى روح شفافة تهيم في الوجود» (ص3).
جعل الرواية منطوقة بضمير المتكلم، أي أن المدعو خالداً هو الذي يروي وقائع حياته ومجرياتها، ولا سيما انغماسه في رغباته غير المحدودة بالمرأة وامتداد ذلك الى فهمه للقيم والأخلاق، فاذا ذكروه بالإخلاص لزوجه الطيبة ذات الخصائص الممتازة، أجابهم: «كلما ازددت خيانة لزوجي كلما ازددت لها حباً» (ص4).
حفلت الرواية بهذه الوقائع والمجريات حتى بلوغه سن الأربعين واعداً بالتغيير، وجعل الجزء الثالث عشر والأخير من الرواية بلسان الروائي عارضاً عليه تدوينه لاعترافاته، على أنه أحسن التعبير عنها، ولو سجلها بنفسه لما جاءت أروع مما فعل، فقد رافقه ذات مرة ليلاً الى بحمدون، وأسرع يبغي الفندق ليرتاح من جنون انهماكه في عشق المرأة، أي امرأة، فتشبث به قائلاً: «اذا أردت أن تتذوق الحياة، فيجب أن تعشق»، وختم الروائي الاعترافات تاركاً إياه لمصيره المرفوض من قبله.
تابع أسلوبيته في كتابة القصة القصيرة في مجموعته الثانية «ثلاث شفاه» «1955» محللاً نفوس شخوصه وهي تنغمر في تجارب حياتها من خلال صوغ قصصي اتباعي يعنى بتقاليد القص من المقدمة الى العرض الى الوصف الخارجي لفضاء القصة بوصفها أمثولة في النهاية يتعلم منها المتلقي والقارىء بعض دروس الحياة من خلال التعاطف الإنساني الذي يرتقي بالفعل الى مرتبة الاحساس المأساوي بالحياة كقول المرأة في ختام القصة التي تحمل اسم المجموعة شاكية من ظلم الرجل لها.
لجأ محمد الحاج حسين الى أسلوب الرسائل في كتابة القصة القصيرة مثلما فعل في كتابة قصة «الرجال عيونهم فارغة» التي تخاطب فيها «هيام» صديقتها العزيزة «سحاب» عن مدى اخلاص الرجل للمرأة التي يحبها، فقد أصرت الأخيرة على رأيها الذي يزعم أن الرجل اذا خفق قلبه بالحب لفتاته المرموقة، ظل مخلصاً لها حتى آخر نفس يضطرب في صدره، وضحكت الأولى من عنادها، فثارت بها، واتهمتها بالتشاؤم وقالت لها: «متى ارتاحت لك الأيام خطيباً كخطيبي، ستذوقين لذة التفاني في الحب وتعرفين معنى الاخلاص عند الرجال» (ص75).
ثم مرّت شهور على مناقشتهما العاصفة، وقدمت هيام لسحاب تقريراً خطيراً قد يؤذيها في الصميم، عندما عملت على تحقيق فكرتها، واتخذت خطيب سحاب المصون حقلاً لتجاربها التي تؤيد فيها رأيها، فقد طلب منها الخلاص من سحاب ليخطبها، وتمنت حينها هيام أن تكون صديقتها بجانبها لترى اخلاص رجلها ولتؤمن معها «بأن الرجال عيونهم فارغة» (ص79)، على أن هيام لم تفعل ذلك إلا للبرهان عن رأيها، فنبذت هذا الخطيب، ورجتها ألا تحقد عليها وتتهمها بالدس والبهتان وعدم الاخلاص لها، «وكلي أمل ألا تصرمي خطيبك، لأن كل الرجال على شاكلته» (ص82).
محمد الحاج حسين رائد من رواد كتابة القصة والرواية في سورية التي تلتزم بتقاليد القصة ونزوعها التعليمي والأخلاقي على وجه الخصوص.