منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 9 من 13 الأولىالأولى ... 7891011 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 81 إلى 90 من 121
  1. #81
    السلام عليكم من جديد أستاذ أسامة :
    أرى من خلال محاولاتي لمتابعة ردودك الدسمة..مقدرتك للدخول في دهاليز عميقة تدور حول الموضوع بطريقة عمودية ومطولة , ربما لن تجد من يفهمها جيدا إلانسبة 25% من القراء تقريبا ولنقل النخبة حصرا..
    هل أنت تتوجه إليهم فقط فعلا؟ أم هي تميز يخصك ولافكاك منه؟هل لنا ان نتعرف على ظروفك الاكاديمية والحياتية التي وجهتك نحو هذا الدرب؟
    وهل يأخذ جل وقتك حتى لتقتطع من حصة عائلتك لاجل اهتماماتك هذا وعملك؟فكل ربح مقابله خسارة وكل غنيمة مقابلها غرم ..الخ..هي سنة الحياة وحكمتها..
    هل تسمح لي إذن بالولوج لهذا الأمر الودي الخالص؟
    ( ياجماعة وبكل محبة لماذا الجدية الزائدة في الحوارات؟ اليس الأستاذ أسامه صار فارسا من الفرسان؟هل لدى احدكم طرفة فلسفية؟ وسامحونا)
    مع خالص احترامي ومودتي
    أسامه
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  2. #82
    الفارس المبدع "أسامة الحموي"
    أرى من خلال محاولاتي لمتابعة ردودك الدسمة.. مقدرتك للدخول في دهاليز عميقة تدور حول الموضوع بطريقة عمودية ومطولة, ربما لن تجد من يفهمها جيدا إلا نسبة 25% من القراء تقريبا ولنقل النخبة حصرا.. هل أنت تتوجه إليهم فقط فعلا؟ أم هي تميز يخصك ولا فكاك منه؟ هل لنا أن نتعرف على ظروفك الأكاديمية والحياتية التي وجهتك نحو هذا الدرب؟ وهل يأخذ جل وقتك حتى لتقتطع من حصة عائلتك لأجل اهتماماتك هذا وعملك؟ فكل ربح مقابله خسارة، وكل غنيمة مقابلها غرم ..الخ.. هي سنة الحياة وحكمتها.. هل تسمح لي إذن بالولوج لهذا الأمر الودي الخالص؟ (ياجماعة وبكل محبة لماذا الجدية الزائدة في الحوارات؟ أليس الأستاذ أسامه صار فارسا من الفرسان؟ هل لدى أحدكم طرفة فلسفية؟ وسامحونا)
    الإجابة
    أسعدني لقاؤك مرة أخرى يا "أسامة"، بداية فإن ما تحدثت عنه فيما يتعلق بأسلوبي في الكتابة وفي المعالجة، ليس خيارا، بل هو طبع لا أستطيع الفكاك عنه، وهو قد يكون "سلبية" وليس "ميزة" كما ذكرتَ. فأن لا تَفهمَ لغتَك وطريقتَك في المعالجة الفكرية، إلا النخبة القليلة، هو نوع من الضعف. فميزة الأسلوب الجذاب، وصياغة العبارات الجزلة، والمقدرة في الكتابة النخبوية – هذا إذا كانت كتابتي فيها شيء من هذا - تقابلها سلبيات "الانحصار"، و"عدم الانتشار" و"الوصول إلى الجميع". لاحظ كيف أن "جملي طويلة" ما يضطرني إلى الإكثار من "الجمل المعترضة"، والعودة بعد إطالة الجملة لتذكير القارئ خشية أن يكون قد تاه معي، بالإكثار من استخدام "نقول..".. إلخ. وهذا النوع من الجمل متعب للقارئ ويتطلب منه جهدا في القراءة، وبالتالي فإنه لا ينجذب إلى الموضوع إلا إذا كان شيقا بقدر يتفوق على سلبيات صعوبة الأسلوب. فادعو الله معي أن يجعلني قادرا على الكتابة بذلك الأسلوب الذي يطلق عليه "السهل الممتنع" في سياق مدح مستخدميه والقادرين عليه. يبدو أن الكتابة السهلة الممتنعة موهبة لا أمتلكها. ولقد سبق أن سألتني الأستاذة "ريمة الخاني" سؤالا حول الترجمة، جرتني الإجابة عليه إلى معالجة موضوع الكتابة النخبوية، طارحا فكرةً من الواضح أنها لم تعجبها كثيرا، لكن فيها إشارة إلى إحساسي بمشكلة "النخبوية" في أسلوب الكتابة وطريقة معالجة الأفكار والتعاطي معها، ربما كان مفيدا لو رجعتَ إليها.أما بخصوص كل من ظروفي الأكاديمية والحياتية، فقد ذكرت الأولى مفصلة في أول سؤال أجبت عليه في هذا اللقاء الحواري الجميل عندما طُلِبَت مني سيرتي الذاتية، فيما ذكرت الثانية بوضوح في إجابتي على سؤال مطابق لسؤالك من فارسة ذكية، تصورَت ما تصورتَه أنت من مَغْرَمٍ وخسارة على صعيد العائلة والحياة الخاصة.. إلخ. لكني أؤكد لك ولها – مرة أخرى هنا – أن من لديه النية لترتيب أموره بحيث يخفف حدة طغيان أمر على أمر، فلن يعدم الوسيلة. كما أن مقدرات وطبائع الناس في هذا الشأن تختلف، بمعنى أن القدرات الخاصة الموهوبة منها والمكتسبة منها بالممارسة، لها دور كبير في الأمر. فلقد توصلت – بموجب ما تعودت عليه منذ الصغر – إلى تحقيق إنجازات في مقدرتي على القراءة والكتابة. وأرجو ألا تصدم، إذا قلت لك أنني أستطيع قراءة "ثلاثة كتب" في اليوم، لا يقل مجموع صفحاتها عن 500 صفحة. ولكن طريقتي في القراءة مختلفة، لأن ما يهمني من القراءة هو الاستفادة من الكتاب بأقصى ما يمكن في أقل وقت ممكن. ولقد تمكنت من الوصول إلى طريقة في القراءة تحقق هذا الغرض. ولكي لا تندفع وتسألني عن الطريقة، أقول لك أنها لا توصف ولا تُدَرَّس ولا تُعَلَّم. إنها خبرة متراكمة في التعامل مع الكتب بروح استحلاب أفضل ما فيها دون إضاعة الوقت في قراءة كل التفاصيل التي قد لا تضيف شيئا مهما إلى الحصيلة. فإذا كنت قادرا على استحلاب 100 صفحة من كل عصارتها المفيدة في ساعة، فلماذا أتنطع وأضيع وقتي في قراءة كل التفاصيل في مدة 4 ساعات، لا تزيد إلى الحصيلة التي أريدها شيئا ذا بال؟!كما أن قدرتي المكتسبة على استخدام الكمبيوتر لتوظيف التكنولوجيا لهدفي البحثي والفكري، ومنذ وقت مبكر، جعلتني أختصر الوقت اللازم للإنجاز. فأنا استخدم الكمبيوتر الشخصي منذ مطلع التسعينيات، عندما كان الكثيرون ما يزالون يستخدمون الآلة الراقمة. وأخيرا فإن كل ذلك انعكس على مقدرتي في الكتابة من حيث السرعة، فلقد وصلت إلى مرحلة - عندما تكون الأفكار العامة للموضوع واضحة في ذهني بنسبة معقولة - أكتب مقالا من 1,500 كلمة في أقل من ساعة.حاولت أن أفرحك باستحضار نكتة فلسفية، لكن لم تحضرني أي نكتة في هذا السياق، فعندما فكرت في الموضوع أضحكني طلبُك، لأنه هُيِّئَ لي أن "النكتة" كي تكون "فلسفية" يجب أن تتعلق إما بـ "المرأة"، أو بـ "المجنون".. عندئذ تذكرت قول "سقراط": "اصبر على المرأة المُتعبة، فإنها قادرة على جعلك فيلسوفا، إن فشلت في جعلك مجنونا"؟!أنا في انتظار أن تُخَطِّئَ تصوُّري هذا بأن تفاجئني بنكتة من القبيل المذكور!
    لك أخي أسامة بالغ شكري وتقديري

  3. #83
    السلام عليكم مرات وبعد:
    يحثنا هذا اللقاء المشجع على المزيد من دق الباب حول مواضيع نبحث عنها وبدأنا نتاكد من وجود جواب لديك عنها يرضينا إلى حد ما ...
    نصوصك ذات النكهة السياسية..هل هوتحليل سياسي فقط؟ أم دراسي وليكن أي من الحالين..هل فكرت يومابمنصب سياسي؟ ولم؟
    ولو حصل ماذاسيكون وماذا ستفعل وسط كل القوى الشرسة المتجذرة التي تحكمنا؟
    مع فائق التقدير
    غزة

  4. #84
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  5. #85

    مراسل الفرسان "جريح فلسطين"
    يحثنا هذا اللقاء المشجع على المزيد من دق الباب حول مواضيع نبحث عنها وبدأنا نتأكد من وجود جواب لديك عنها يرضينا إلى حد ما.. نصوصك ذات النكهة السياسية.. هل هو تحليل سياسي فقط؟ أم دراسي وليكن أي من الحالين.. هل فكرت يوما بمنصب سياسي؟ ولم؟ ولو حصل ماذا سيكون؟ وماذا ستفعل وسط كل القوى الشرسة المتجذرة التي تحكمنا؟

    الإجابة
    ربما أن النكهة السياسية التي تتحدث عنها ترجع إلى الأمرين معا، التحليل والدراسة، فضلا عن "الهمِّ السياسي" ذاته. فدراستي الأكاديمية بدأت بالقانون وبالعلوم السياسية، لتنتهي بالعلوم السياسية، فأنا الآن أحضر رسالة الدكتوراه في العلوم السياسية. وبعض من موضوعات الرسالة التي أعدها، تنشر على صفحات "فرسان الثقافة" وموضوعها "الدور الوظيفي للإقليم وللهوية القطرية في خريطة سايكس بيكو، إقليم الخليج والهوية الأردنية نموذجا".
    أما من حيث أن النكهة السياسية ناتجة عن "هم سياسي" أيضا، فلا شك في ذلك، فأنا قضيت معظم عمري في العمل السياسي وما أزال، وأمضيت جزءا هاما من حياتي في المعتقلات الأردنية ثمنا لذلك، وشاركت في حروب وأصبت أكثر من مرة، كل ذلك من منطلق همي السياسي الوطني القومي العربي، المرتبط بالدرجة الأولى بقضية فلسطين.
    لا شك أنني فكرت في منصب سياسي، على أن يكون ناتجا عن حراك سياسي، وليس عن امتياز أحظى به لدى النظام الذي قضيت عمري أعارضه بسبب دوره الوظيفي التبعي. وكان تصوري عن هذا المنصب مرتبطا ببرنامج سياسي إصلاحي شامل في ضوء قناعاتي وما أؤمن به. وفي هذا السياق قمت وثلة من الشباب الأردني في علم 1992 بتأسيس حزب سياسي أسميناه "حزب التجديد العربي الإسلامي"، وكان في حينها من أهم الأحزاب الأردنية على المستوى الفكري والبرامجي من حيث طرحه لرؤى وبرامج متكاملة فيها جدة وجدية، وليس من حيث كبره وحجمه. لكن لم نلبث أن قمنا بحله عندما رأينا أننا لن نتمكن من الاستمرار بالاستقلال المطلوب في تلك الفترة، وخاصة في ظل بدء الانتكاسات في العملية الديمقراطية في الأردن، عقب "تفاهمات واشنطن" و"مؤتمر مدريد" و"اتفاقيات أوسلو" و"اتفاقية وادي عربة".
    لكن في ضوء الحراك الراهن في الأردن، فقد تداعينا من جديد لتأسيس حزب سياسي، نحسب أنه أقدر في هذه الظروف على الاستمرار بالاستقلال المطلوب. ونحن الآن قيد تأسيسه، وقد يرى النور خلال الأشهر القادمة. وإن كانت لديكم الرغبة في الاطلاع على رؤاه وبرامجه ومرجعياته، فيمكننا إطلاعكم عليها، فنحن مهتمون بإشراك كل مواطن ومثقف عربيين على ما نفكر فيه، لإثراء أنفسنا انطلاقا من قناعتنا بأن أهدافنا الإستراتيجية قد تكون واحدة ومتقاربة.
    أما بخصوص المنصب السياسي الذي تسألني عنه وماذا عساه يكون إن فكرت فيه، فلم أنشغل به كثيرا، وإن كنت في عام 2006 وخلال مقابلتي لأحد ضباط دائرة المخابرات في مكتبه في الدائرة، أثناء التحقيق معي في قضية عابرة، على خلفية مشادَّةٍ حصلت بيني وبين مخبرين طلبوا هويتي في أحد شوارع أرقى أحياء العاصمة عمان، وهو حي "دابوق"، حيث يقيم علية القوم وقادة الدولة، وحيث توجد بعض القصور الملكية، وهو ما لم أقبله أو أتعود عليه في حياتي..
    أقول.. خلال تلك المقابلة، حاولت مناكفة الضابط المحقق واستفزازه – كما أفعل عادة في مثل هذه الحالات – بعد أن سألني عن "طموحي السياسي" - هكذا بالحرف – فقلت له: "طموحي أن أصبح رئيس وزراء". وعندما التزم الصمت ليعقب بعد ذلك بقوله: "هذا حقك، ولكن ما هو برنامجك الذي ستنفذه لو أصبحت رئيس وزراء؟". رأيت أن الأنسب في مثل هذا المقام هو الإمعان في الاستفزاز، وليس الحديث السياسي الجاد، فقلت له: "برنامجي واسع وكبير، وفيه حلول لمعظم مشكلات البلد، ولكن فيه قضية غاية في الأهمية، أضعها على رألس أهدافي في هذا البرنامج".
    الغريب في الأمر أن الضابط اهتم بالأمر وسألني بجدية بدت في السؤال وفي الشغف الذي ظهر عليه: "وما هي هذه القضية". صُعِقَ الضابط عندما قلت له بمنتهى البرود واللامبالاة: "البند الأول في برنامجي هو حل دائرة المخابرات العامة التي لا لزوم لها في الأردن". فاستشاط غضبا، إلا أن ما شغله في الأمر هو ما عبر عنه سؤاله الفوري حين قال: "تريد حل الدائرة، ونحن أين نذهب؟ ماذا نعمل؟".
    أستثارت الإجابة ضحكي، لكني أحببت أن أطمئنه بنبرة البرود واللامبالاة نفسها على شكل يشبه النكتة المناسبة مع موضوع اهتمامه فقلت له: "لا تخف على مستقبلك ومستقبل زملائك. أنا سأحل الدائرة، هذا صحيح، لكن ليس بغرض زيادة العاطلين عن العمل. لذلك سوف أقسمكم إلى قسمين، قسم سأأمر بضمه للاستخبارات العسكرية، ليقوم بدوره الطبيعي في التجسس على العدو الصهيوني، وقسم سوف أضمه إلى الأمن العام، ليقوم بدوره في مكافحة الجوسسة والعملاء الداخليين، و"عشان ما تزعلوش كمان"، مكافحة "الإرهابيين"!!
    أما ماذا سنفعل وسط كل هذه القوى الشرسة كما أسميتها، فكن على ثقة، أننا لم ننسَ ولن ننسى أننا سنكون في حالة نضال وكفاح لأجل هدف نبيل وعظيم نفتخر به ونسعد، ونبذل لأجله الغالي والنفيس. فالأمة العربية، "وحدة وتحريرا وتحررا ونهضة وتنمية.. إلخ"، تستحق منا كل ما نستطيعه!!!
    مع خالص تحياتي
    أسامة عكنان

  6. #86
    السلام عليكم أستاذ أسامة وبعد:
    شكرا بداية على الصبر على تلقي الأسئلة والتروي في الإجابة ..
    برأيك الخاص ماهي عوامل انتشار النص الأدبي والبحثي والإبداعي الخ....
    هل من خلال المنابر الجامعات ( بالنسبة للأبحاث والدراسات)و الروايات والعمل الدرامي لقنواته التي نعرف والشعر للغناء وو..وهل هذا هو الطريق الأقوى والأسلم ؟
    وكيف تصف لنا المسارات الهامة والملتزمة في تلك القنوات لذوي الرسالة الحقة؟خاصة ان الغث بات منتشرا أكثر ومايصلنا مما نسمع ونعرف مايجعل المبدع المتبني لقضيته بإخلاص يجد صعوبة في تمرير عمله الجدير بالالتفات لو صح التعبير؟وماأكثر من يقبع في الظل...
    حول تلك الفكرة أرجو ان نتحدث بصدق وشفافية.
    مع التحية..

  7. #87
    محاضر ومسؤول دراسات عليا في جامعة القاضي عياض، المغرب
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,497
    مرحبا من جديد بك أستاذ أسامة


    وإني لأغبطك على دقة عرضك ، وقدرتك الفائقة على التفريع الدال على الشمولية في منهج تناولك للقضايا


    لا سيما وأنك تضيف إلى إجاباتك على أسئلة السائلين ما يحتاج إليه المتلقي مما له صلة منهجية بسؤاله ، فتقع الفائدة على نحو أشمل وأجلى .


    سأقتبس من إجابتك المستفيضة الماتعة ما له صلة بموضوع سؤالي استثمارا للوقت الذي لا يسمح الآن بتناول كل التفصيلات بالتعليق والتعقيب ، وما لم أورده من كلامك لا يخرج عن كونه لازما أو مقتضى لما أوردت ، وقد جعلت المقتبَس بلون مغاير ( بني ) ، وتحته تعليقي عليه .




    خلاصة القول إذن أن القِيَمَ وهي مصطلح اجتماعي أخلاقي





    يُطلق على الإسقاطات الموضوعية لصفة الله،



    يلزم من هذا أن صفة الله تعالى ليست قيمة في حد ذاتها ، وأنها ليست مستقلة في حقيقتها ودلالتها ، وأنه لا حاجة بنا مثلا أن نقول في مثل قوله تعالى ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) أن هذا القسط الذي يحاكم الله تعالى إليه عباده يوم القيامة ليس هو القسط الذي يعرفه العقل ، لأنه لا يخرج عن ( النماذج والصيغ القيمية في إطارها الموضوعي التطبيقي الاجتماعي ) ....

    اعتبارا لهذه القاعدة في إدراك صفات الله تعالى كيف يمكن للعقل أن يصور لنا مشهد محاكمة الله العادلة للناس يوم القيامة ؟





    إن النصوص – ونقصد بها هنا نصوص القرآن والسنة – التي تصدت لاستصدار أحكامٍ بِخصوص القيم – التي هي في نهاية المطاف أحكام العقل على الأفعال الاختيارية – لم تُعَالِجْ تلك القيم بصورة تنم عن انفرادها بِحَقِّ معالجتها. فهي – أي النصوص – في هذا المقام لم تفعل شيئا أكثر من تأكيد ما قرره العقل.



    هذا نزول بما أسس الله تعالى عليه أحكامه على الناجين والمغرقين في كل الأمم عن منزلته الضرورية ، وهو إنزال الوحي ، وبعثة الرسل في مثل قوله تعالى ( وكذلك أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ) يونس

    فمدار مشهد التكليف ومشهد الجزاء هنا على إبراز قيمة العدل الإلهي كما هو ظاهر ، لكن مداره الأول الأعظم على نفس بعثة الأنبياء بالوحي كما في الآية الأخرى في مطلع السورة : ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس )


    فهما قيمتان اثنتان : ( قيمة العدل الإلهي ) الفاصل بين المرسلين والمرسل إليهم في الدنيا والآخرة


    و ( قيمة الفعل الإلهي ) المجسد لشرط العدل


    فهب جدلا أن العقل قادر على تقرير ( قيمة العدل الإلهي ) المقررة في الآية الأولى ، وأن هذه الآية ليست سوى تأكيدا لتقرير العقل


    فكيف يقدر على تقرير القيمة الثانية ( الفعل الإلهي ) المقررة في الآية الثانية ؛ بحيث يصح الاستغناء بتقريره عن تقرير الآية ما دامت مجرد تأكيد لتقريره ؟


    علما بأن ( قيمة الفعل الإلهي ) هنا ( بعثة 124000 رسول ونبي ) ، و ( إنزال قرآن وإنجيل وتوراة وزبور و.. ) وما لا نعرفه مما أشارت إليه الآية الكريمة : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا . ورسلا قد قصصناهم عليك ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) النساء : 163 – 164 .


    هل يصح في ميزان الحكمة الإلهية أن ( تهدر قيمة الزمن الإلهي ) على هذا النحو الهائل في حين كان باستطاعة عقل واحد من عقول ( المرسلين ) أو ( المرسل إليهم ) الاستقلال بتقرير ما قررته كل الكتب المنزلة ، وما قرره كل الأنبياء والمرسلين ؟


    بل ألا يصير نفس ( اصطفاء الله لرسله وأنبيائه ) ونفس ( تكلمه ) سبحانه – فضلا عن الزمن المبذول في كل ذلك - بهذا الاعتبار سدى سالبا لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله ؟


    فإن قيل : ( كون نصوص الوحي مؤكدة لتقريرات العقل لا يعني كونها فضلة )


    فالجواب : أن كونها مؤكدة لتقريرات العقل يقتضي حتما سبق العقل إلى إدراك ما أكدت ، فما وجه حاجته إليها ؟ ؛ علما بأن هذا في ميزان الحجاج اضطراب يثير احتجاج المكلف .






    ولو لم ترد تلك النصوص محتوية على تلك الأحكام لما تغير شيئ ولبقيت الأفعال الاختيارية خاضعةً لحكم العقل، ولبقيت المواقف منها معروفة من خلاله.



    هذا يحتاج إلى تفصيل نفرق به بين ( مواقف العقل الجزائية في الدنيا ) و ( مواقف العقل الجزائية في الآخرة )


    سلمنا جدلا أن العقل قادر على امتلاك ناصية أحكام الدنيا تشريعا وقضاء – وهذا نسبي إلى حد بعيد - فهل يملك القدرة على تصور قيمة العدل الأخروي فضلا عن شروطها الإجرائية هناك ؟


    وهل يستطيع العقل استيعاب هذا الموقف ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) فضلا عن ادعاء الاستغناء عنه ، وإقامة بديل له ؟ .


    وإذا كان تلك النصوص المحتوية على تلك الأحكام ( نفس كلام الله ) والعقل ( نفس خلقه ) – وهو الحق – فلحكم من أخضع الأنبياء والرسل أفعال أقوامهم الاختيارية ؟ لحكم العقل أو حكم الوحي ؟


    فإذا كان الجواب أن إشكال التفريق المقتضي الجمع أو التوفيق بين العقل والوحي لم يكن قائما لديهم ، فما الذي جعل موسى عليه السلام يعتذر للخضر عن استدراكه عليه لما ( أغرق السفينة ) و ( قتل الغلام ) ؟


    وإذا كانت أحكام الخضر تلك ( عدلا ) ، فهل يستطيع العقل تفسير تعليلاته الأخيرة لها قبيل فراقه لموسى عليه السلام ؟ ، فإذا كان يستطيع أفلم يكن مع موسى عليه من ( تقريرات العقل ) وهو النبي المصطفى ما يمكنه من إدراك العدل في تلك الأحكام ، ويخلصه من العتاب المحرج المشعر بالعجز عن التعليل ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) ، علما بأن العجز عن الصبر فرع عن العجز عن الفهم ؟ .



    وكنتيجة لكل ما سبق نخلص إلى رفض المقولة السائدة في أوساط إسلاميي هذه العصور والمستندة إلى اجتهادات إسلامية قديمة، والتي تفيد بـ "ألاَّ اجتهاد مع النص"، وأن الاجتهاد يأتي فقط فيما لم يرد فيه نص. نرفضها لنؤكد على حقيقةٍ أخرى تحمل المعنى المقابل تماما لهذه المقولة. فالنص ليس حَكَماً نهائيا، على العقل أن يعمل ويتحرك داخل إطاره، وإلاَّ فلا حاجة بنا إلى هذا العقل.


    بل إن العقل هو الأساس وما على النص إلاَّ أن يُفْهَم في إطار مقررات العقل.



    هذا ينقض دعوى الحرص على تحقيق التكامل بين النقل ومقررات العقل ، لأن العلاقة بينهما صارت بهذا الاعتبار
    علاقة ( سيد يقرر ) بـ ( مملوكه المطيع المدرك لحدود حمى سيده )




    وبناء عليه فـ "لا نص مع العقل" إلاَّ إذا أُتيِحَت فرصةُ فهمِ النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته وأنساقه المعرفية المختلفة سواء كانت أنساقا لغوية أو أسطورية أو تاريخية.



    هذا لازم سلطة السيد المهيمنة على نشاط مملوكه ، وهذا الاستثناء ( إلاَّ إذا أُتيِحَت فرصةُ فهمِ النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته وأنساقه المعرفية المختلفة سواء كانت أنساقا لغوية أو أسطورية أو تاريخية. ) ليس إلا تشديدا لخطوط الحمى الحمراء ، لأن ( فهم النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته .... ) لا مصدر له آخر المطاف إلا العقل ، وفي هذا من التحكم والإقصاء ما يخالف أبسط مقتضيات الموضوعية المبثوثة في العقول السليمة ، وما أشبه مجال ( نشاط النص ) هنا ببرلمانات الأنظمة السائدة .
    وما تلا هذا من كلامكم أستاذ أسامة عن ( أحكام الشريعة الإسلامية ) لا يخرج عن هذا النطاق الموسوم بجعل الشرع خادما ذلولا للوضع ، فعسى أن يتاح الزمن للتفصيل فيه أكثر ، والإجابة عن طروحه طرحا طرحا
    أعود الآن إلى قولك :



    إن لكل تلك العلوم التي خشيت عليها يا أستاذنا الكبير "أبا عامر" من "جرح وتعديل" و"رجال" و"مصطلح"، دورها إلى جانب العقل والقرآن في استكمال دائرة الاعتمادية لتلك النصوص في مجال الأحكام والأخبار. وهو الأمر الذي نورده فيما تبقى من تحليل آملين أن تكون فيه الإجابة المباشرة على تفاصيل أسئلتكم يا أستاذنا الكبير.



    فأقول : لست أخشى على تلك العلوم أستاذ أسامة لأنها أكبر من أن تحتاج إلى دفاعي عنها ، وانتقاد غيري السلبي من شأنها لا ينقص من قيمتها المعرفية والحضارية مثقال ذرة .



    إن أي حديث عن منظومة القواعد التي ستمثل الركيزة المعيارية لمحاكمة المرويات المنسوبة إلى شخص الرسول، يتطلب أمرين اثنين، أولهما، القيام بتحليل مكونات جسم الرواية "أي مُكَوِّنات النص المروي" للتعرف من خلال هذا التحليل على حقيقة التنوع في هذه المكونات، وهو التنوع الذي سيترتب عليه بالضرورة تنوع مقابل في آليات المحاكمة "أي في قواعد المحاكمة".
    أما هذا الأمر الأول فمنطقه منكوس إذ ما كان لنا أن نعرف ( جسم الرواية "أي مُكَوِّنات النص المروي ) لولا السند ، وهذه حقيقة بدهية تقررها سنة التاريخ ، ولو أمكننا القفز على حاجز الزمن اختزالا للقرون الفاصلة بيننا وبين مصدر الحديث ( النبي صلى الله عليه وسلم ) لاستغنينا عن رواته .

    وهذا يقتضي أن أسانيد الحديث أنساب متونه ، وأن تجاوز النسب يعني عدم التفريق بين الأصيل والدخيل ، وبين العريق واللقيط .



    أما الأمر الثاني الذي يتطلبه الحديث عن قواعد محاكمة النص المروي، فهو التَّعَرُّف – انطلاقا من المرجعية المعرفية المعتمدة لدينا – على الآليات المفترض اتباعها لمحاكمة كلِّ واحد من مكونات جسم النص، المحاكمة التَّثَبُّتِيَّة التي من شأنها أن تحسم قطعا مسألة صحة أو عدم صحة نسبة ذلك النص المروي إلى مصدره الذي هو الرسول محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.



    وهل يتصور للنص المروي صحة دون تصور حال من رواه ؟
    إننا لا نزال نؤكد في أداء رسالة الإعلام على المهنية والمصداقية ، وهذا التأكيد لا يعني إلا شيئا واحدا ،
    هو أمانة النقل التي لا معنى لها إلا أمانة الناقل .
    فإذا قررنا التثبت من الخبر الإعلامي وكشفنا صحته أو زيفه فإننا لا نلوم أو نشيد بذات الخبر ،
    وإنما نلوم أو نشيد بمصدره الأول ( الناقل ) .
    وهذا محل اتفاق عقلاء العالم ، ولا يخفى أن علوم الحديث التي تولت صيانة مروياته
    لم يدفع علميتها وموضوعيتها من القرن الرابع الهجري إلى الآن سوى جماعة معدودين من غير أهل الاختصاص .
    وأقول ( من غير أهل الاختصاص ) لأن هؤلاء الجماعة المعدودون لم يستطيعوا إلى الآن الاستدراك على نظريات تلك العلوم بتفنيد معرفي شامل دقيق يضاهئ دقة المنهج العلمي الذي قامت عليه ،
    فضلا عن أن ينشئوا منهجا بديلا ، يمتلك مقاومة الأول وصموده المستمر إلى الآن .
    إن المنهج العلمي الذي تولى صيانة الحديث النبوي لم يكن مجال تجسده فكرة ،
    أو رؤية ، أو بحثا ، أو مؤسسة فكرية ، أو مركزا ثقافيا ، ...
    لقد كان مجال تجسده أمة امتد حكمها حتى غمر آفاق الدنيا ، وعاصرت وحاورت وناظرت وخالطت بمناهجها العلمية وحضارتها السمية أمما تخالفها ديانة وأعرافا ، ولم تكن عمدتها في كل ذلك إلا تلك المرويات في صورتها الناضجة نقلا وعرضا وتوثيقا وتصنيفا في أمهات كتب الحديث ، فما انتقد منهجها الشامل في التثبت من تلك المرويات مخالف فضلا عن الموافق ، حتى ظهرت حركة الاستشراق التي ابتدعت في أدائها السلبي مناهج الطعن في مرويات الحديث النبوي ،
    محاولة النيل من منهج معرفي إسلامي متكامل دون جدوى .
    إن محاكمة المروي بقواعد لا تدخل في اعتبارها حال راويه هدم لقواعد الدين والعلم جملة ،
    وهو أيضا تصنيف للراوي في ( طبقة غير العقلاء )
    لا سيما إذا كانت نتيجة المحاكمة الحكم على المروي بالبطلان عقلا وهو صحيح نقلا .



    إن ما نحن بصدد التأكيد عليه هنا من ضرورة وجود علم محدد وقواعد محددة لغرض التَّثَبُّت من صحة المرويات، قد عرفه المسلمون باسم "علم الحديث ومصطلحه"، وبالتالي فلسنا نَدَّعِي أننا ندعو إلى إبداع علم غَفِلَ عنه السابقون.



    محل صحة هذا ما إذا كان في السابقين – وهم جم غفير - من فطن لضرورة ( علم جديد ) كلا أو بعضا ، وإلا فقد غفلوا عنه فعلا !!!



    ولكننا مع ذلك ندعو إلى إحداث تطوير فعال في بعض جوانب هذا العلم، بعدما أيقنا أنه بحدوده المعروفة لم يعد قادرا – في تصورنا – على الإحاطة بكافة مقاييس التصحيح التي تعتبرُ الهدفَ الأساسي من وراء كل قواعده



    شرط التطوير الحفاظ على أصل المطوَّر في أقل أحوال الاعتبار ، وسيأتي عند الحديث عن حديث ( أطيط السماء ) وحديث ( حنين الجذع ) أنها دعوة إلى استبعاد هذا العلم ، لا إلى تطويره .



    إن كل نص رُوِيَ عن الرسول يتكون من جزءين رئيسين يمثلان معا جسم النص ككل. وهذان الجزءان هما "السند" و"المتن". أما السَّنَد فهو التوثيق التاريخي الزَّمني للنص ويتضمن سلسلة الناقلين الذين مَرَّ النص عبرهم إلى أن وصل إلى آخر من رواه. وأما المتن فهو النص في ذاته مُتَضَمِّناً الفكرةَ التي تم تناقلُها عبر الرواة مَصْبُوبَةً في قالب لغوي تعبيري معين. وما وُجِدَ السند إلاَّ من أجل المتن، بل وما تم وضع أسس التَّثَبُّت القاسية من السند إلاَّ من أجل المتن، لأن إيصالَه إلى اللاحقين هو الهدف من العملية ككل. فسند بلا متن كلام فارغ لا معنى له، لأن الناقلين والرواة إنما يفترض فيهم أنهم ينقلون نصا مُتَضَمِّناً لفكرة ما. في حين أن متنا بلا سند هو كلام له معنىً واضح



    هذا ليس صحيحا بالنظر إلىأصول علم الرواية ،لأن ( متنا بلا سند ) ليس حديثا في اصطلاح المحدثين ، فلا يستحق العناية التثبتية ، وهذا ما يدل على قيمة السند العلمية ، ولطالما ألقيت على عهد المحدثين مرويات ، فكان النقاد يقولون لرواتها : ( سموا لنا رجالكم ) .




    وإن أمكن القول أنه غير صحيح النسبة إلى مصدره. فعدم صحة النسبة لا تُلغي المعنى عن المشكوك في صحته هذا.



    هذا يجعله كلاما مجردا عن صفة ( الحديث ) ، ومقتضاه أن يصير كلام كل من تكلم قابلا لإجراءات التثبت التي وضعها المحدثون ، وهذا لا يعقل ، وهو هدر للوقت في أقل أحوال فساده .



    والنص الصحيح كما يفرض ذلك منطق الأمور، هو النص الذي يصح سندا ومتنا في الوقت ذاته.
    فلا صحة إذن لنص صَحَّ سنده ولم يصح متنه



    هذا استنتاج غير علمي ولا منطقي بناء على قولك السابق ( وما وُجِدَ السند إلاَّ من أجل المتن ) ، وهو دليل على أن من قواعد تطوير هذا العلم لديك قطع الصلة بالكلية بين المتن والسند ،
    وهو يقتضي أن رجال السند الصحيح أشبه بالآلات الناقلة ؛ لا يعقلون ما يروون .


    نعم ، قد يحتاج متن صح سنده إلى تأويل جامع بينه وبين مدلول نص قرآني ، أو نص حديثي آخر صح سنده ،
    وأقول ( تأويل جامع ) لأن هذا يقع بين النصين من نصوص القرآن
    فيما يعرف بعلم ( الأشباه والنظائر ) ، فما ظنك بنصوص الحديث .

    كما أنه لا صحة لنص صَحَّ متنه ولم يصح سنده.



    وإنه إذا كان النص الصحيح متنا غير الصحيح سندا لا تصح نسبته إلى الرسول بسبب عدم القدرة على التأكد من أن الرسول قد قاله أو نطق به فعلا، فإن صِحَّةَ النص الصحيح سندا وغير الصحيح متنا تسقط لاعتبار آخر مُختلف، هو استحالة أن يكون الرسول الكريم قد قاله أو نطق به من حيث المبدأ.





    من الناحية النظرية المجردة، قد يصح نصٌّ – في نسبته إلى الرسول – صح متنا ولم يصح سندا، بينما لا يصح نص صح سندا ولم يصح متنا، وذلك لإمكان أن يحدث خلل في سلسلة الرواة وهم يتناقلون متنا ورد من مصدره، لكن يستحيل أن يكون الرواة مصيبين في تناقلهم متنا غير صحيح، لاستحالة أن يصدر عن رسول الله أساسا متن يعارض العقل والتجربة ولا ينسجم مع أي من أنساقهما المعتمدة



    هذا يخالف أقل قواعد العلم اعتبارا ، فضلا عن قواعد علم الحديث ، ولو كان مرد تصحيح الوحي إلى العقل والتجربة لما وصلنا ذاك الكم الهائل من الأحاديث الصحيحة ، ولصححها بالعقل والتجربة عقلاء علم الحديث خلال أكثر من عشرة قرون ، ولم يستبقوا منها لعقلاء زماننا غير المختصين شيئا ، أو يكونون قد استبقوا نزرا يسيرا ، هذا إذا كانوا في ميزان ( العقل والتجربة ) جامعين بين علمي المنقول والمعقول .



    بل وقد يعارض القرآن أيضا. وإذن فلا وجود في صحة المرويات عن الرسول لصحة مطلقة بأي حال. بل إن الصحة نسبية، أو لنقل أنها واقعية عملية، أي تكفي عقلا لإيجاب العمل بالنص في ضوء استحالة الصحة المطلقة.



    هل هذا يعني أن الصحة المطلقة في تقريرات العقل ؟ ..
    وهل لديه من جبروت الفهم والإدراك ما يستطيع به استيعاب كل تقريرات الوحي ؟ ..
    لا أحسبه كذلك وإن كان آية من آيات الله ؛ إلا أنها لا تبلغ درجة الوحي الذي هو صفة من صفاته .

    نص غير صحيح متنا، صحيح سندا،



    وهو نص خاطئ خطأ مطلقا، أي موجبا بصورة مطلقة لترك العمل به، ولا يمكنه أن يكون صحيح النسبة إلى الرسول رغم صحة سنده، نظرا لاستحالة أن يرد عن الرسول متن خاطئ.



    مقتضى هذا سلخ شطر الدين ، وإسقاط آلاف الأحاديث التي صحت سندا ، ولم يحالفها الحظ في إصابة رضا العقل ، ولازمه إسقاط حجة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم التي قامت على قدر ضروري من النصوص الحديثية ؛ تلقاها عنه الذين عاصروه ومن تلاهم من سائر القرون والأجيال المسلمة بالقبول رواية ونقدا ، فأنا أتساءل : ما الذي تميزت به ( عقول المتأخرين ) حتى استحقت هذا التميز ، بحيث أعجزت تلك المتون الصحيحة سندا ( عقول العلماء المتقدمين ) ؟ ، وكان لزاما على كل مسلم مكلف أن ينتظر تقريرات العقل المعاصر كيف يفرق بين ما يجب العمل به وما لا يجب العمل به من التشريع !! ..




    ونوضح أيضا، أننا عندما نقول أن المتن يسقط إذا عارض العقل أو التجربة أو القرآن أو أياًّ من الأنساق المعرفية المعتمدة لكل من العقل والتجربة، فإننا لا نزعم أن السابقين وهم يدرسون المتن لم يقولوا بذلك



    فمن قال بذلك منهم ، وجعل ( العقل والتجربة ) مرجع طعنه في صحة المتن الصحيح سندا ، وسلم له ذلك بحيث تلبس بالمشروعية ، وصار قابلا لأن يعمل المكلف بمقتضاه ؟

    خذ مثلا أخبار ( خروج الدجال ) و ( خروج يأجوج ومأجوج ) وهي أخبار عما سيقع مستقبلا ، وسيأتي حديثك عنها ..


    هل طعن في صحتها أحد من العلماء المتقدمين استنادا إلى ( تقريرات العقل والتجربة ، أو المقياس القرآن ) ، ثم اعتبر طعنه بحيث لم يبق للعمل بمقتضاها أثر في تصورات المسلمين ولا في سلوكهم ؟؟ ..


    أم لا يزال المسلمون خاصتهم وعامتهم يقرؤون سورة الكهف ليلة الجمعة من كل أسبوع ( لأنها عاصمة من فتنة الدجال ) يقينا ؟؟؟ ...




    بل إننا نزعم أن قضايا جديدة دخلت في معاني التعارض مع العقل ومع التجربة ومع أنساقهما المعرفية، وبالتالي مع القرآن ذاته، فرضتها التوسعات الهائلة التي حصلت في المساحات المعرفية الخاصة بالعقل وبالتجربة، وهو الأمر الذي يدعونا إلى أخذ هذه التوسعات بعين الاعتبار، في سياق تحديد معاني التعارض النَّصِّي مع المرجعيات المعرفية المذكورة.



    لازم هذاأن حصول تلك التوسعات مستمر ، وأن أخذنا إياها بعين الاعتبار متحول تبعا لتطورها ، وأن انقراض تلك المتون الصحيحة سندا سيزداد حتما ، وهذا سيجعل التكليف ألوهية لــ ( العقل والتجربة ) لا لله الأول والآخر .



    بما أن العقل لا يتصور أن لله أعضاء، فلا يصح نصٌّ عن رسول الله ينطوي متنه على إشارةٍ إلى أن لله أعضاء، إذا لم يكن هذا المتن قابلا لأن يُفْهَم على وجه المجاز بدون تأويل صارخ لا تحتمله اللغة "أي في إطار أحد الأنساق اللغوية". وبالتالي فما يقال مثلا أنها أحاديث تكلمت عن كشف الساق يوم القيامة معتبرة أن الساق هي "ساق الله"، إنما هو كذب على الرسول ، لتَضَمُّن متون مثل هذه الأحاديث تَجسيدا وتشبيها مُخالفا للعقل في حق الله



    كذب العقل وأهله في هذ ا كذبا صريحا ، وكم في ( السعي الحثيث في دفع التشبيه والتجسيد ) من ( تعطيل ) ، وكم يبقى لله جل وعلا من عناصر الحقيقة الإلهية إذا جرد مما وصف به نفسه ، فضلا عما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم ؟؟ ..




    وبِمعنى أكثر دقة، فإن مثل هذه النصوص لو كانت قرآنية لأمكن فهمها في إطار نسق أسطوري غير تجريدي



    وهل يصح في عقل سليم اعتبار الأخبار القرآنية التي لا يدركها العقل أساطير ؟؟


    ليتني أكون هاهنا مخطئا في فهم المراد ...


    وألتمس منك أستاذ أسامة – استنادا إلى تقريرات العقل والتجربة ، وما ذكرت من مقتضيات المقياس القرآني – إفادتي في تفسير قوله تعالى ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) لا سيما وأن في التعقيب حث المخاطبين على استعمال العقل في إبصار سر الآية المشار إليها في هذا النص القرآني من سورة القرة .


    وكذا قوله تعالى من سورة النمل : ( ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) لا سيما وأن في استدراك الهدهد ( تعقلا واضحا ) ..


    وكذا قوله تعالى من سورة من نفس السورة : ( حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أبها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) لا سيما وأن في تحذيرها بني جنسها ( تعقلا بالغ الرقي ) ...


    وعسى أن لا تقول أستاذ أسامة أن هذه الأخبار مجرد أمثال أو أساطير ..


    وقد آثرت التمثيل بهذه النصوص صيانة للنصوص القرآنية المشتملة على صفات الله تعالى ..


    وبالتالي فلا تصح عن رسول الله الرواية التي يقال أن الرسول اختبر فيها إيمان وإسلام جارية بأن سألها "أين الله؟"، لأن هذه الرواية التي أشارت فيها الجارية – مُجيبةً عن مكان الله – إلى السماء، أي إلى الأعلى، تنطوي على مخالفة للمعقول مادامت قد حددت مكانا يوجد فيه الله ومكانا لا يوجد فيه. ولا يجوز أن يصدر عن رسول الله أمر كهذا فيه من التشبيه والتحجيم والتَّحْييزِ لله ما لا يتصوره العقل، خاصة وأن النص لا يحتمل تأويلا يُحَوِّله إلى المجاز بصورة يُفْهَم معها في إطار النسق اللغوي، وأن القرآن لم يتحدث عن ذلك الموضوع بشكل من الأشكال لاعتباره مفهوما ضمن "النسق الأسطوري".

    عجبا .. أي اعتزال هذا ؟ ..


    تالله لو ترك وصف الله تعالى للعقل لما كان الرب – تعالى علوا كبيرا - إلا هباء ، ولما كان هو الرب الذي يعرفه المسلمون ، تعالت ذاته وصفاته وأفعاله عن التعطيل .




    وما يقال عن هذه الرواية يقال وبالمنطق نفسه عن رواية أخرى تحدثت عن رؤية المؤمنين لله يوم القيامة. فمادامت هذه الرواية قد حَيَّزَت الله فإنها وللأسباب السابقة نفسِها رواية لا تصح.



    وهل يصح بالمنطق نفسه إيمان بيوم القيامة أو اليوم الآخر ؟ إذ كيف يتصور تولي الله الحكم يومئذ دون حضور يصح معه مخاطبة المكلف ومحاورته ( مكانكم أنتم وشركاؤكم ) ، وإشعاره بالحكم ( ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) ؟ ، ... فإذا كان هذا الحضور المشترط - في حكم العقل - لتلك المحاورة بحاجة أيضا إلى تأويل مجازي ، فوجود يوم القيامة نفسه بحاجة إلى تأويل مجازي يخرجه عن المستحيلات التي كلما ضاق العقل بخبر رده إليها ..


    وما أعظم العبرة في ( تجربة الإمام الجويني العقلية ) إذ آلت آخر المطاف إلى اختياره الموت على ( عقيدة عجائز نيسابور )


    ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن النص القرآني الذي يبدو متعارضا في ظاهره مع معطى العقل بخصوص الموضوع الذي يعالجه لا يتم فهمه في ضوء "النسق الأسطوري" إلاَّ بعد فهمه في ضوء "النسق اللغوي" أولا، فإن استعصى النص على هذا النسق يتم بعد ذلك دمجه في معطيات الأسطورة. أي أن ما يُمكن أن يُظَنَّ أنها آيات قرآنية تحدثت عن وجود الله في السماء أو عن النظر إليه يوم القيامة ليتسنى لنا القول بإمكانية فهم الأحاديث التي ناقشناها هنا في إطار الأسطورة أو في إطار "النسق الأسطوري"، هو ظن في غير مَحله، لأن آيات من مثل، "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"، أو من مثل، "ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات"، هي آيات رغم ما يبدو من تعارض معطاها المباشر مع معطى العقل، إلاَّ أنها لا تستعصي على اللغة،
    ويعتبر فهمها في إطار "النسق اللغوي" أمرا مُمكناً

    وماذا يغني فهمها في إطار النسق اللغوي إذا كان هذا الفهم لا يرقى بإيماننا إلى اعتبارها واقعا أخبر عنه الرب المستوي إلى تلك السموات استواءه اللائق بألوهيته جل وعلا ؟ .. إن النسق اللغوي لا ينشئ عقيدة ولا يزيلها ، والإيمان على أساسه لا يُدخل في الإسلام ولا يُخرج منه ، فكيف نحتكم إليه في تقرير أركان الإيمان بالغيب ؟ .. أم أن هذا العقل الملجئ إليه يستوي في ميزانه الإيمان وعدمه ؟؟ ..



    نقول.. بما أن العقل لا يتصور ذلك، فلا يصح نص عن رسول الله ينطوي متنه على إشارة إلى أحداث وتنبؤات مستقبلية تتضمن بشكل أو بآخر تدخلا لعنصر الإرادة في تكوينها – أي تلك الأحداث – وبالتالي فلا صحة مطلقا لأي نص مروي عن الرسول يتحدث عن المستقبل "المهدي، الدجال، نزول المسيح، ظهور الدابة، ظهور يأجوج ومأجوج، الملاحم، اقتتال الصحابة، الفتن، ما سيحدث لآل البيت،.. إلخ". خاصة وأن القرآن الكريم قد تحرر تماما من وقع الأسطورة في هذا الميدان من التنبؤات ،



    وهل هناك فرق في لزوم التصديق بما أخبر به القرآن بين الأحداث الآتية والأحداث السابقة ؟ ..


    وبناء على ما سبق فإننا نرى أن كافة الروايات المنسوبة إلى الرسول بخصوص التاريخ الماضي وبخصوص عالم الغيب غير التنبئي، هي روايات غير صحيحة المتون إذا انطوت متونها تلك على إضافات معلوماتية وأَحْداثية على ما في النصوص القرآنية التي تعرضت لها بالإجمال والعموم، فيما تُقْبَلُ المتون الشارحة مجرد شرح لما بدا غامضا من تلك الأخبار القرآنية. أما بخصوص ضوابط الفصل بين المتن الشارح والمتن المضيف للمعلومات فهي واضحة ولا لبس فيها، إذ يجب أن يقتصر الشرح على توضيح ما هو موجود من معلومات دون إضافة أي معلومة جديدة. ومن الأمثلة على ذلك، موضوع "الجن" وقصة "آدم والشيطان" و"عذاب ونعيم الآخرة" و"أحداث يوم القيامة والبعث والنشور" و"قصص الأنبياء والرسل والأمم الغابرة". فمثل هذه القضايا يُقْتَصَرُ في معرفتها الوحيوية على النص القرآني إضافة إلى النص الرسولي الشارح الذي لا ينطوي على معلومة جديدة .



    إن هذه القضايا الخبرية ومثيلاتها، بعضها فُصِّل في القرآن وبعضها أُجْمِلَ. الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أن الله فصل ما اقتضت حاجتنا أن يفصله، وأجمل ما اقتضت حاجتنا أن يجملَه وحسب. وبالتالي فلا معنى لقيام الرسول بتفصيل ما أجمله الله





    لأن الله إذا كان يفصل ما يرى تفصيله ضروريا دون إحالة مسألة التفصيل إلى الرسول، فلاشك إذن في أن امتناعه عن التفصيل عندما أجمل، لن يكون بسبب رغبة منه في إحالة التفصيل إلى الرسول، بل بسبب عدم حاجتنا إلى التفصيل أصلا، لا منه سبحانه ولا من رسوله عليه الصلاة والسلام.



    لا يقال هذا في حق رسول أنزل عليه النص الذي يبينه ، إذ هو أعرف به من غيره ، وأدرى بالقدر التبييني التفصيلي الضروري لتبليغ رسالته ، وبمعنى آخر إذا كان سند متن حديث من الأحاديث المفصلة لما أجمله القرآن صحيحا فمعنى هذا أنه قد وقعت روايته على ألسنة ناقليه من أولهم إلى آخرهم - وإلا فلا معنى لقولنا ( إنه صحيح ) – فأول متهم بالغفلة عن بطلانه الصحابي – إذا سلمنا باستحالة تحديث النبي صلى الله عليه وسلم به - ، أليس في الصحابة – وقد عمت البلوى بهذا الصنف من الأحاديث – ذو عقل راجح يكشف بطلان الحديث المفصل لمجمل القرآن ؛ وهو يعرف أن من ( خصائص كمال عقل النبي صلى الله عليه وسلم الاكتفاء بما اكتفى به القرآن ) ؟؟ .



    والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو.. إن حدث المعراج إن حصل لهو أشد أهمية وأكثر عموما للبلوى من حدث الإسراء، فلماذا يذكر الله الإسراء بوضوح تام فيما لم يذكر المعراج بنفس مستوى الوضوح والقطع؟ لا بل لماذا يخبر عن الإسراء في سورة، فيما يخبر عما يُظَنُّ مجرد ظن أنه "معراج" في سورة أخرى؟ أي لماذا لم يتم الإخبار عن الحادثتين معا إذا كانتا حصلتا في الليلة نفسها؟ هذا إذا افترضنا أنه بالفعل أخبر عن المعراج من غير وضوح في سورة النجم!!



    والأدهى والأمر أن المسلمين يربطون بناء على مَرْوِياَّتٍ صحيحة عندهم سندا، لورودها في صحيحي البخاري ومسلم، بين حادثة المعراج وبين فرضية الصلاة في القصة الغريبة وغير المنطقية والأشبه بمساومة بين الرسول محمد وربه بواسطة نبي آخر هو موسى الذي لعب دورا أشبه بأدوار السماسرة والوسطاء والعرابين.



    هذا غمز لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام في صورة تنزيه– قصده الكاتب أم لم يقصده -، وإلا فليس في كتب التفسير على كثرتها واختلاف مذاهب مصنفيها الفكرية والمذهبيةجراءة على إبطال أحاديث الإسراء والمعراج الصحيحة ، أفيدخلون في عموم المسلمين المتورطين في مغبة الغفلة عن ( المقياس القرآني ) ؟ .. إن أقل مفاسد تطبيق ( المقياس القرآني ) الإيقاع بين الأمة وبين نبيها على نحو يجرؤها عليه ، ويفت في عضد إيمانها به وبالقرآن الذي أنزل عليه ..




    فإذا علمنا أن الصلاة في الفهم السائد هي أهم فرائض الإسلام، فهل يعقل أن ترتبط بحادثةٍ غير محسومة قرآنيا، في الوقت الذي يحسم فيه القرآن قضيةً أقل أهمية وأقل فائدة منها حسبما هو وارد إلينا، وهي حادثة الإسراء التي لم يترتب عليها حسب النص القرآني أيُّ حكم اجتماعي أو تَعَبُّدي ذي أهمية كالصلاة؟!





    إن هذا التحليل الذي نقدمه لنموذج من نماذج تعارض الأخبار القرآنية مع الأخبار الواردة عن رسول الله بهذا المستوى من الوضوح، ليؤكد لنا على ضرورة البحث من جديد في مسألة المعراج وما يشبهها من المسائل للتأكد من صحتها قرآنيا بالدرجة الأولى. ونحن لسنا معنيين بأن نجزم هنا بعدم صحة حادثة المعراج



    لكنك تقيم على ذلك عقيدة يستحيل أن تنتظر الحسم إلى ما لا نهاية له من الزمن ،
    ويكفي تطبيق ما سميته ( المقياس القرآني ) لتقرير بطلانها بالقوة ..


    بل نحن نثير تساؤلات مشروعة حولها كنموذج معرفي، فقد تصح وقد لا تصح، ولكننا نصر على ألاَّ تصح إلاَّ قرآنيا وبوضوح تام بناء على المنهج الذي اتبعناه في تحديد أشكال علاقة التكامل بين القرآن والسنة.

    بناء على استنتاجك هذا ؛ لماذا تأخر الحسم في صحتها أو عدم صحتها ، ولم يثر أحد من المفسرين ( تساؤلات مشروعة حولها كنموذج معرفي ) إلى الآن ؟ .. وإذا كانت تساؤلات مشروعة فلتخرج لنا بــ ( مشاريع تفسير مشروعة ) كـ ( مشروع ) محمد عابد الجابري رحمه الذي ضاقت بهم مكنبة علوم القرآن ، ولتكن تفاسير بنفس النفس المعرفي الذي صنفت به كتب التفسير المعروفة المعتمدة إلى الآن في تلقي وتلقين علم التفسير في المدارس الشرعية ، والجامعات ، والمعاهد ، وحلقات الدرس العامة والخاصة ..


    إن آفة القرآنيين الجدد أنهم ينزهون النص المقدس عن أن يكونوا أهلا لتفسيره ، لكنهم في المقابل يسقطون قدسيته بمثل ( المقياس القرآني ) على نحو يجعل قدسيته مجرد طلاء





    ولعل من أغرب الأمثلة وأكثرها إثارة للدهشة مما يندرج تحت هذا البند من بنود المقياسية القرآنية على صحة نسبة المتون الخبرية إلى الرسول، مقولة "عذاب القبر". فعذاب القبر كما هو وارد في المتون الخبرية المروية عن الرسول – علاوة على أن فيه مغالطات واضحة بمقاييس العقل
    من المتهم بإنتاج هذه المغالطات إذا كان الحديث الواصف لعذاب القبر صحيحا سندا ؟؟





    إن عذاب القبر مسألة حساسة وهامة وخطيرة إن وُجِدَت، بحيث لا يجوز أن تترك بمجملها وبتفصيلها لنص غير قرآني يعالجها، مادام النص القرآني قد تعرض بالإخبار والتحليل لما هو أقل أهمية منها من أخبار وأحداث. فهل يعقل مثلا أن يخبرنا الله بإسهاب عن الموت والولادة وعن الطبيعة والكون وعن الجنة والنار وعن يأجوج ومأجوج وعن ناقة صالح وعن هدهد سليمان وعن كلب أهل الكهف، ويهمل بالكامل أيَّ حديث عن عذاب القبر الذي يتضمن مقولة العذاب القريب الأجل بكل الأهوال والرعب المرفقين بهذا النوع من العذاب في النصوص المنقولة عن الرسول؟!



    بكل تأكيد فإن هذا مما لا يعقل.




    وبالتالي فلا نتصور أنه يصح متن عن الرسول الكريم بخصوص عذاب القبر. وعلى من يريد بَحثَ المسألة أن يبدأ من كتاب الله، فإن وجد فيه ما يفيد صراحة بموضوعية هذا العذاب، وبعد إحداث المطابقة بين ما قد يكون موجودا بهذا الخصوص في كتاب الله وبين العقل ومواقفه منه، فعندئذ نقبل من الرسول الكريم القيام بشرح الغامض وفق ما ثبتناه في البند السابق من المقياسية القرآنية على التثبت من صحة المتن الخبري المنسوب إلى الرسول. ولكن للأسف فإن مقولة عذاب القبر تفتقر إلى الشرطين معا، فلا هي مقبولة عقلا ولا هي موجودة أو منصوص عليها قرآنا من ثم حتى يكتسب الرسول حق شرحها من حيث المبدأ.



    ج – أمر ثالث هام يتسبب – في تصورنا – في سقوط المتن المروي عن الرسول وفق المقياس القرآني في التثبت من صحة المتون الخبرية، وهو أن يكون المتن متعارضا مع النص القرآني أو مكرسا لمعانٍ ولمفاهيم غير تلك التي يكرسها ذلك النص. وكمثال واضح على ذلك نتناول مقولة "آل البيت"، التي يحدد لها القرآن الكريم معنىً واضحا في سورة الأحزاب، ليأتي النص المنسوب إلى الرسول الكريم محددا لها معنى آخر وضاربا بالمعنى القرآني عرض الحائط.





    ولتوضيح الأمر نقول.. إن الآيات المعنية من سورة الأحزاب حددت آل البيت بنساء النبي، بعد أن وجهت إليهن مجموعة من الأوامر والتعليمات، موضحةً في ختام الخطاب الموجه إليهن سبب ذلك بإرادة الله في تطهيرهن، ذاكرة لهن وصف "أهل البيت". ومع ذلك تفاجئنا رواية "الكساء" المنسوبة إلى الرسول عن أم سلمة إحدى نساء النبي، بأنه يعتبر آل البيت هم فاطمة والحسن والحسين وعلي ين أبي طالب فقط، في قصة استيقاظه من النوم فزعا ثم ضمه لهؤلاء وتغطيته لهم بالكساء، مُعتبرا أن الآية القرآنية التي ذكرت أهل البيت إنما هي تقصدهم تحديدا. لا بل إن الرواية تُمعن في الاستخفاف بعقول المسلمين، عندما تذكر لنا أن أم سلمة طلبت من الرسول أن يجعلها من أهل البيت المزعومين هؤلاء، فيرفض مُحاولا استرضاءها بشيء آخر.





    فسبحان من أعطى لنبيه حق نزع الصفات التي أعطاها هو لعباده. فالله يعطي لأم سلمة بصريح القرآن صفةَ أهل البيت، ويريدون منا أن نصدق أن محمد بن عبد الله يتحدى الله وينزعها منها قاصراً إياها على غيرها!! لا بل هو يتبرع بهذه النسبة الشريفة لسلمان الفارسي حينما يقول.. "سلمان منا آل البيت"، ويحرم منها أم سلمة التي لم تكن في حاجة إلى أن تطلبها منه عليه الصلاة والسلام أصلا بعد أن حصلت على هذا الشرف بمرسوم رباني صدحت به آيات سورة الأحزاب. لسنا ندري كيف يُرادُ لنا أن نصدق بأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، يتوقف عن الإجابة على الأسئلة التي تطرح عليه قبل أن يزوده الوحي بها، ليبادر بمخالفة صحيح القرآن في مسألة كهذه؟!





    هنا إذن نجد تعارضا صارخا وحادا مع صريح القرآن. ونستغرب أشد الاستغراب عندما نلمس تكريسا لهذا التعارض، بحيث أن تاريخ المسلمين هو في الجانب السوداوي منه صراع على السلطة بين أهل البيت وأشياعهم من جهة، وبين أعداء أهل البيت ومعارضيهم من جهة أخرى. أي أن هذا التاريخ بُنِيَ على كذبة نُسِبَت إلى الرسول الكريم مُعاَرِضَةً أشد المعارضة لصريح القرآن.



    وكم عاصر أحداث هذا التاريخ من الصحابة وخيار التابعين ، وكم صنف في التأريخ لأحداثه ، ونقدها من كبار العلماء ، بناء على منهج معرفي دقيق متكامل ... وما ( أغباهم ) جميعا إذ فاتهم اكتشاف تلك الكذبة ...

    أي إزراء هذا بتاريخنا وتراثنا ومناهجنا المعرفية الراسخة




    إن تغطية الجيوب لا تتطلب بالضرورة اللباس المتعارف على تسميته بالزي الشرعي أو بالحجاب.
    من مظاهر الإعجاز التشريعي الإسلامي أن النصوص المشتملة على الأحكام تستمد صحتها
    ومشروعيتها الواقعية من مصدرين اثنين :




    المصدر العلمي ذي الصلة بصحة سند الحديث المشتمل على الحكم .


    والمصدر العملي الدال على انسجام ذلك الحكم – كما يؤديه المكلف - مع مقتضيات عقله ، ثم يقع اطراد ذلك الأداء على نحو واحد في أجيال الأمة ، وكل حقب وجودها ، فيزداد ذلك الحكم قوة ورسوخا ، ويصير له امتداد رسالي يشكل حصنا حضاريا دائما ترتطم على سوره المتين العالي كل محاولات النيل من شرعيته .


    ومن الأمثلة على ذلك ( حجاب المرأة المسلمة ) أو ( نقابها ) ، فلا تزال المرأة المسلمة العربية والغربية والشرقية ترتديه ، ولا يزال ذا حيز بارز في كل مكان ؛ يضاهئ سائر أشكال الزي النسائية في الساحات والأسواق والجامعات والإدارات منذ أن عرف الإسلام إلى الآن ، وفي مسوغات أدائه الشرعية من طاقة التحدي ما يضمن استمراره إلى قيام الساعة ..


    فلم يصر ( القرآنيون ) على الاستخفاف بعقول الأمة ؟ ..


    أليس في إصرار منقبات فرنسا على أن يكن حرائر بنقابهن – متحديات نظام التغريم -
    دليلا على طاقة علمية وعملية ذاتية يحيا بها هذا التشريع ؟؟ ..




    وإذن فإنه يحق للمسلمين حيثما كانوا زمانا ومكانا أن يضيفوا ما يشاءون على الحد الأدنى المنصوص عليه في القرآن الكريم كلما تطلبت ظروفهم ومصالحهم ذلك، حتى لو أضافوا إضافات أكثر من تلك التي أضافها الرسول.
    وما الذي يمنع غير المسلمين إذا كانوا أصحاب ( عقول ناضجة ) قادرة على قراءة ظروفهم قراءة استرتيجية أشمل وأعمق .. وقادرين على ( فقه مصالح المسلمين ) أكثر من المسلمين ؟؟ ..




    يذكرني هذا بمقترحات بوش النظرية والعملية على المسلمين - بعد أحداث سبتمبر – المجسدة لـ ( تحسين صورة الإسلام )، وما قصة إمامة المرأة ببعيدة ..



    وبعد..



    فأرجو أن يكون قد اتضح ألا خوف على ما يصح من السنة باستخدام العقل. وأن المسألة برمتها لم تكن إسقاطا للعلوم التي وضعها المسلمون بهدف غربلة المأثورات وتنقيح التواريخ، ولا كانت إسقاطا للكتب الأمهات – كما أسميتموها – كصحيح البخاري وغيره، بل كانت إعادة إنتاج لهذه العلوم بشكل يُفَعِّلُها ويُطَوِّرُها ويجعلها قادرةً – من وجهة نظرنا – على مواكبة منجزات العقل والتجربة، لجعل محاكمتها للنصوص محاكمة أكثر موضوعية، وإعادة تقييم وقراءة لتلك – الأمهات – وفق المنهج الجديد، وهذا حق علمي مشروع، ومنهج بحثي محايد.
    بل الشكل المقترح قبلكم لتطوير علوم الحديث يسقط جدواها ، ومقاصدها بالكلية ، لأنها ببساطة لو أعملت ( مقياسكم القرآني ) وحده لصارت مصنفاتها عناوين بدون محتويات ، فأهلها – كالبخاري مثلا – بتطبيق ( المقياس القرآني ) - سيضطرون عمليا إلى إسقاط جل الأحاديث التي رحلوا راكبين المشاق العظام لتلقيها وتصحيحها ، فإذا خلت مصنفاتهم من محتوياتها فسيضطرون علميا إلى التنكر لمناهجهم ، والاستهانة بعقولهم التي كانت سببا في إهدار أوقاتهم وأعمارهم في تدوين أحاديث ؛ هي في الواقع أكاذيب ..




    فكيف يصح مع هذا ( إعادة إنتاج تلك المصنفات والمناهج ، وتفعيلها ، وتطويرها ) وهي عدم ، أو شبه عدم ؟


    إن شرط إعادة إنتاج الشيء استبقاء أصله ، وأصل تلك المصنفات – كصحيح البخاري – ( حدثنا ) أي أسانيد ومتون ، فأي تناقض أعظم من تناقضك ؟ .. تدعو إلى ( إعادة إنتاج ) صحيح البخاري - مثلا – بنفس ( المقياس القرآني ) الذي تبطل به كل أحاديثه ..




    أما بخصوص النصين المذكورين، وهما الحديث 2312 من سنن الترمذي، والحديث 1169 من صحيح ابن ماجة للألباني..





    فالأول المتعلق "بسجود الملائكة"، لا يصح لديَّ، لأن متنَه انطوى على معلومات وتفاصيل عن عالم الملائكة إضافية على ما أورده القرآن بخصوص ذلك العالم، وهذا ما لا يصح بموجب قاعدة "المقياس القرآني في صحة نسبة النصوص الخبرية" التي ذكرناها سابقا. وعندما لا يصح النص متنا فلا قيمة لسنده. ومثل هذا النص، كل النصوص التي يمكن أن تنطبق عليها هذه القاعدة.
    تذكرت بقولك ( لا يصح لدي ) حرصك على تطميني بأن لا أخشى على علوم الحديث ، والآن تأكد لي تطمينك بقولك ( لدي ) لأني أيقنت أنه لو كان إليك مرد إخراج هذا الحديث الصحيح وأمثاله لأسقطته استنادا إلى مقياسك القرآني – نصحا للأمة – فلا خشية على أحاديث قيض الله لنقلها أحرصهم على صيانتها إلى أن تصل إلى أمة صاحبها وقائلها الأول صلى الله عليه وسلم غضة طرية كما نطق بها ، وذلك تبرئة للذمة ، ونصحا للأمة ، وشهادة على أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أنزل إليه من ربه .



    فقولك أستاذ أسامة عن حديث ( أطيط السماء ) : ( لا يصح لدي ) أكبر دليل على صحته ، لأن الانتقاد السالب إذا تفرد مصدره وشذ صار موجبا .


    ومثل هذا يصح أن يقال أيضا عن حكمك على حديث ( أنين الجذع ) لأنه آخر المطاف لا يصح لديك ..



    خلاصة القول أستاذي الكبير، أنني أطبق القواعد التي شرحتها سابقا على كل النصوص، وما تحكم به تلك القواعد ألتزم به معرفيا. ومن أراد أن يعترض، فليعترض على القواعد نفسها، وعلى المنهج نفسه، فإن تمكن من دحض هذه القواعد وهذا المنهج، فأنا معه أبحث وأياه عن الحق والصواب حيثما كان. وإلا فالنتائج منسجمة مع المنهج وقواعده.
    ليتك أستاذ أسامة ذكرت لمنهجك أصلا له صلة قريبة أو بعيدة بعلوم الحديث وعلوم القرآن ، أو أصلت له بناء على مقررات تلك العلوم بشقيها القرآني والحديثي .. لا أقول هذا تعصبا أو دعوة إلى التقليد ، ولكن تقديرا لأئمة مجتهدين سبقوك إلى العناية بعلم الحديث وعلم التفسير ، علما بأن تقديرك الإجمالي لهم لا يكفي ، بل إن لازم تفاصيل منهجك تبديل مناهجهم بمنهجك ..





    فإلى ذلك الوقت أرجو أن أكون تمكنت من توضيح بعضٍ من رأيي ومنهجي بخصوص ما شغلك أستاذي الكبير "أبا عامر".





    ولك مني كل تقدير واحترام
    بالغ امتناني وتقديري لاهتمامك أستاذ أسامة ، وإن الذي يشغلني حقيقة هو أن أجد المزيد عن ( مصطلح السيرة النبوية )




    لأعضد به ما توصلت إليه في بحثي لنيل الدكتوراه ، وهو أن السيرة النبوية علم مستقل عن علم الحديث


    يستحق ما ناله مصطلح ( الحديث ) من دراسات وأبحاث مستفيضة ..


    أما ما تفضلت بإيراده مفصلا هاهنا فإنه لا يشغلني لأني مستيقن وجه الحق فيه ،


    وزاد استيقاني باكتشاف أصول وفروع اختلافي معك فيه ، فبضدها تتميز الأشياء .


    مودتي وتحيتي

    أَسْرِي سَقَى شِعْرِي الْعُلا فَتَحَرَّرَا = وَرَقَى بِتَالِيهِ الْمُنَى فَتَجَاسَرَا

  8. #88
    السلام عليكم
    أستاذ أسامة أجدك محاورا ممتازا وتملك من الصبر ماتحمد وتغبط عليه وهذا يشجعني على المزيد من الحواروبعد:
    ماتعريف القرآنيون من وجهة نظرك؟ والقاديانية؟ والمعتزلة؟ومالقواسم المشتركة بينهم؟
    وهل هم أيضا قد حكـّموا العقل في مفاهيمهم؟
    مع جل الاحترام والتقدير

  9. #89
    الصحفية "ملدا شويكاني"


    برأيك الخاص ماهي عوامل انتشار النص الأدبي والبحثي والإبداعي.. الخ.. هل من خلال المنابر الجامعات (بالنسبة للأبحاث والدراسات)، والروايات والعمل الدرامي لقنواته التي نعرف، والشعر للغناء.. و.. و.. وهل هذا هو الطريق الأقوى والأسلم؟ وكيف تصف لنا المسارات الهامة والملتزمة في تلك القنوات لذوي الرسالة الحقة؟ خاصة أن الغث بات منتشرا أكثر، وما يصلنا مما نسمع ونعرف ما يجعل المبدع المتبني لقضيته بإخلاص يجد صعوبة في تمرير عمله الجدير بالالتفات، لو صح التعبير؟ وماأكثر من يقبع في الظل.. حول تلك الفكرة أرجو أن نتحدث بصدق وشفافية.


    الإجابة


    تحية إلى الصحفية "ميلدا"، وبعد..


    "المأسسة" ثقافة تسود المجتمع من أدنى قواعده، لتغدو ظاهرة تقود كلَّ مرافقه. وفي ظل انعدام ثقافة "المأسسة" في مجتمع ما، يغدو الحق والاستحقاق المُنْتِج لواقعةِ "تصعيد الكفاءات"، عُرضة للمحسوبية والواسطة والمزاج، وللنفوذ الخادم للمصالح الضيقة، وللشللية المقيتة أيضا. و"المأسسة" هي واحدة من أهم تجليات "الديمقراطية" و"الحرية" في المجتمع. وكلما كانت "الديمقراطية" مُغَيَّبَة، والحرية مفقودة، كلما كان حريا بنا أن نتأكد من واقعة أخرى مرافقة لها، ألا وهي انعدام "المأسسة" بكل تجلياتها اللاأخلاقية، واللاموضوعية!!


    في المجتمع المفتقر إلى الحريات العامة، وإلى الآليات الديمقراطية في تمرير مفردات الحياة، يغدو التنافس على المراكز القيادية، سواء في السياسة أو في الثقافة أو في غيرهما من مُجَسِّدات المكانة الاجتماعية، تنافسا "غابَوِياًّ" – نسبة إلى الغابة – لا تحكمه قواعد الاستحقاق، بقدر ما تحكمه قواعد الوجاهة والمصلحة والأنانية، المخدومة كلُّها بالقوة الناتجة عن سلطةٍ جائرة لا تمت إلى الكفاءة والاستحقاق الموضوعيين بأي صلة!!


    الأبحاث والدراسات الفكرية، بل وكل مظاهر البحث العلمي، فضلا عن المُنتجات الإبداعية، يُفترض أن منبرها الرئيسي هو المعاهد العليا والجامعات ومراكز الدراسات ومراكز تفعيل ورعاية ومتابعة الإبداع والثقافة – المستقلة منها أو المرتبطة بتلك المعاهد والجامعات – فضلا عن مؤسسات البحث المرتبطة إداريا أو تمويليا – وبالتالي مؤسسيا – بمؤسسات الإنتاج والخدمات الكبرى والرئيسة في المجتمع، كالمؤسسات الإدارية والسياسية في الدولة – إذا كان الأمر يتعلق بتطوير أدوات التفاعل في المجتمعين المحلي والدولي – والمؤسسات الاقتصادية ومؤسسات التخطيط التنموي – إذا كان الأمر يتعلق بتطوير مكونات التنمية في المجتمع - والمؤسسات العسكرية – إذا كان الأمر يتعلق بتطوير الأسلحة أو خدمات القطاع العسكري في ضوء الفلسفة الدفاعية للدولة – والمؤسسات الصحية – إذا كان الأمر يتعلق بتطوير العلاجات والأدوية ومقاومة الأمراض والارتقاء بالأداء الوظيفي للجسد والذهن وإطالة متوسط العمر لدى الإنسان – وبالمؤسسات التعليمية والتربوية - إذا كان الأمر يتعلق بتطوير مناهج التربية والتعليم، وأدوات تفعيل الأداء المعرفي والذهني لدى النشء – وبالمؤسسات الزراعية – إذا كان الأمر يتعلق بتطوير مستويات إنتاجية الأرض ومقاومة الآفات، والتصحر وتقليل الفاقد من المياه في أغراض الزراعة.. إلخ – وبالمؤسسات الثقافية والتصعيد والتقييم الثقافيين – إذا كان الأمر يتعلق بالإبداع والمبدعين، وبأي مُكَوِّنٍ من مُكَوِّنات الحياة الثقافية في المجتمع - وبغيرها من المؤسسات العاملة في المجتمع لتنميته وتغطية احتياجاته.. هذا هو واقع الدراسات والأبحاث العلمية والأعمال الإبداعية وتقدير الكفاءات العلمية والإبداعية وتصعيدها ومنحها فرصها الكاملة بكل مستوياتها، في الدول المتطورة والديمقراطية ذات الفعالية المؤسسية العالية.


    إن الفعالية المؤسسية في تلك المجتمعات، تشكل ضمانة للحق والاستحقاق الناتجين عن العدالة التي تفرضها الحرية وتعمل على نشرها في المجتمع عادةً. ونظرا لأن مجتمعاتنا تقودها – في الغالب – حكومات وأنظمة "وجاهية و"بداوية" في مؤسسيَّتِها، حتى على الصُّعد الفكرية والبحثية والإبداعية، فقد كان من الطبيعي أن تتجلى الظواهر التي أشرتِ إليها في سؤالك يا "ميلدا".


    فالباحث المحترف والمتمكن، والروائي المبدع، والشاعر المُفَوَّه، بل حتى الممثل أو المغنى أو المسرحي الكفؤ في أدائه، يجد نفسه مضطرا – في الكثير من الأحيان – إلى الاعتماد على عناصر لا علاقة لها بمكونات موهبته ومقدرته الإبداعية، كي يجدَ له موقعا في الصدارة التي يستحقها، وهو الأمر الذي يخفي ويغيِّب الكثيرين من ذوي الكفاءات عن الواجهة، إما لأنهم لا يقبلون، وإما أنهم لا يستطيعون أن يتنازلوا عن تحصيل حقهم من "إطار مؤسسي" محترم يمنحهم ما يستحقونه اعترافا واستحقاقا، لا منَّة "وجاهية" وتكرُّما "بداويا"، ليصبوه في "إطار تكريمي وتصعيدي سقيم، يفقدهم احترامهم لأنفسهم ولإبداعهم!!


    إن الظاهرة التي استشعرتُ روحَ شكواك منها في سؤالك، لا يمكن فصلها عن "الانحدار المؤسسي" العام في المجتمع، وبالتالي عن "الانحدار في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان". لذلك فالمبدع وصاحب الكفاءة يخوض – إذا اضطر لأن يبقى منفردا في معركته – حربا سلاحه فيها المَأْسَسَة المُنتجة للاستحقاق الموضوعي والغائبة عن سيادة الحراك الثقافي والبحثي العلمي، مع أعداء هذه المَأْسَسَة، وبالتالي مع أعداء هذا الاستحقاق الموضوعي، مع فارق كبير في القوة والنفوذ والإمكانات لصالح هؤلاء المعادين للمؤسَّسِيَّة بوجه عام.


    هذا الذي نقوله لا ينفي ولا يلغي – بطبيعة الحال – وجود استثناءات تُظْهِرُ لنا أن هناك كفاءات وجدت فرصتها وتكرمت وتصدرت حتى بمساندة المؤسسة غير المؤسَّسِيَّة التي تسيطر على الحياة الثقافية والعلمية والبحثية في المجتمعات العربية. ولكن هذا ناجم في واقع الأمر عن أسباب ثلاثة..


    الأول.. أن هذه المؤسسة غير المؤسسيَّة، لا تستطيع – من باب ذر الرماد في العيون وعدم الظهور بمظهر المعرقل لتصعيد الكفاءات ذات الاستحقاقات - ألا تتبنى نماذجَ تثبت من خلالها أنها تعترف بمن يستحق وتكرِّم الأكفاء، وتدفع إلى الصدارة بالمتفوقين والموهوبين، كي تبررَ – بتكريم وتقديم هذا البعض - إقصاءَها للكثيرين الآخرين ممن يستحقون الشيءَ نفسَه، بحجة أنهم لو كانوا يستحقون لأخذوا حقهم كاملا كما أخذته تلك القلة التي تستحق. وهو الأمر الذي يظهر تلك المؤسسة غير المؤسّسِيَّة وكأنها عادلة وغير مجحفة وصادقة في ادعاءاتها.


    الثاني.. إن الكثيرين من المبدعين، يقبلون – مع الأسف – بالاصطفاف إلى جانب المنطق "الوجاهي" و"البداوي" الذي يرون أنه قد يساعدهم على تحقيق طموحاتهم أو بعض منها على الأقل، فيحظون بالرضى الكامل من تلك المؤسسة غير المؤسسيَّة، ويظهرون وكأنهم أخذوا ما يستحقونه من تَصَدُّر.


    الثالث.. إن مبدعين ودارسين وباحثين آخرين، كانوا فضلا عن تفوقهم في مجال العطاء الفكري والإبداعي مناضلين ومكافحين، أصروا على انتزاع حقوقهم بالمثابرة، التي لا بد من أن تأتي بنتيجة في نهاية المطاف، رغم كل المعوقات التي تضعها في طريقهم تلك المؤسسة غير المؤسسيَّة.


    في تصوري المتواضع فإن على الباحثين والدارسين والمفكرين والمبدعين الذين كانوا ضحايا لنظام "التصعيد الوجاهي" و"التكريم البداوي" المقيتين، والناتجين عن "الروح الغابوية" السائدة في المجتمع، أن يناضلوا لتغيير المعادلات في اتجاهين..


    الأول.. انتزاع الحريات والحقوق الديمقراطية بوجه عام، باعتبار ذلك هو الحاضنة الحقيقية التي ستنقل المجتمع من طور "الوجاهة و"البداوة" الفكرية والثقافية والبحثية، إلى طور "المأسسة" الحقيقية لها.


    الثاني.. تجميع الطاقات الإبداعية والبحثية في منظمات مجتمع مدني فاعلة، تعمل على اختراق النظام "الوجاهي"، عبر إتاحة الفرصة للبحث العلمي الجاد وللإبداع الحقيقي ليأخذ مكانه في الصدارة دوما.


    أرجو أن أكون أجبت على سؤالك يا ميلدا بما يناسب أهميته.


    ولك مني كل التقدير


    أسامة عكنان


  10. #90
    تعقيبات الأستاذ عبد الرزاق أبو عامر، وتعقيباتي عليها
    مقدمة..
    بالغ تقديري واحترامي وشكري للأستاذ "عبد الرزاق أبو عامر"، على اهتمامه وصبره على قراءة أفكاري، فضلا عن بذله الجهد في التعقيب عليها ذلك التعقيب العلمي الثري "الماتع" في الغالب، أما بعد..
    بداية، أود لفت الانتباه إلى أنكم استخدمتم لفظ "القرآنيون" في سياق تعقيباتكم أكثر من مرة، بشكل دل – على ما فهمت مع رجاء التصحيح إن كنت مخطئا – على أنكم تطلقون هذه اللفظة – بدلالات اصطلاحية ما قد يكون تم تداولها - بشكل غير مباشر – يكاد يكون تعريضيا – على حامل هذه الأفكار والقائل بها!!
    ولأنني لم أفهم مقصدكم من استخدام هذه اللفظة، لا يسعني في هذا المقام سوى التأكيد على ما يلي..
    إذا كنتم تقصدون بـ "القرآنيون"، أولئك الذين غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى أحدهم يحمل صحيفة من التوراة وينهمك في قراءتها، فوبَّخَه قائلا: "والله لو أن موسى كان حيا بين أظهركم، لما حل له إلا أن يتبعني"، فإنني منهم ويشرفني أن أكون منهم. والمُوَبَّخُ في هذه الرواية هو "عمر بن الخطاب".
    وإذا كنتم تقصدون بـ "القرآنيون"، أولئك الذين أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حق التفكير والاجتهاد حين قال: "من اجتهد وأخطأ فله أجر، ومن اجتهد وأصاب فله أجران"، فأنا منهم وأعتز بأن أكون منهم.
    وإذا كنتم تقصدون بـ "القرآنيون"، أولئك الذين أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم في كتابه، في كل مرة هجا ووبَّخ وانتقد، أولئك الذي لا يستخدمون عقولهم، ولا يتفكرون ولا يتدبرون ولا يتذكرون، فأنا منهم، وأتمنى أن أبقى واحدا منهم.
    وإذا كنتم تقصدون بـ "القرآنيون"، أولئك الذين لا يقدمون على كلام الله من كلام البشر شيئا، حتى لو كان كلام أنبيائه المقربين، ويضعون كلام هؤلاء في موضعه الصحيح واللائق من كلام الله، فأنا قطعا منهم، وإنه لفخر كبير لي أن أكون منهم.
    وإذا كنتم تقصدون بـ "القرآنيون"، أولئك الذين لا يسمحون لأحد – أيا كان – بأن يحجرَ على عقولهم التي كرَّمها الله بالحرية والانعتاق في "كتابه العزيز"، ولا بأن يرهبَهم بـاستخدام بُعْبُع "السلف" حينا، وغول "احترام المرجعيات" المطلق حينا آخر، وعنقاء "الخوف من الانفلات الديني" مرة ثالثة، وبمقولة "هل فاتت هذه الأفكار والآراء على هؤلاء كل هذه الدهور دون أن ينتبهوا إليها؟"، مرة رابعة، رابطا بين حقهم المقدس في التفكير وإن أدى إلى اختلافات مع هؤلاء – في الكثير أو في القليل – والمساس بالدين، وكأن التفكيرَ حكرٌ على هؤلاء، وكأن أي تفكير أو اجتهاد أو تطوير يجب كي يكون شرعيا ومقبولا أن يتم في الحواضن "الفقهية" و"الكلامية" و"الأصولية" التي قعدوها وتوصلوا إليها في أزمنتهم وفق رؤاهم وفي ضوء أنماط تفكيرهم.. أقول.. لو كان هذا ما تقصدونه بـ "القرآنيون"، فأنا منهم، وسأحارب حتى الموت كي أبقى منهم، لأن حريتي وكرامة عقلي التي منحني إياها الله، ليست محل مساومة مع أحد أيا كان، ولا حتى "السلف الصالح" بأكمله!!
    أما إذا كنتم تقصدون بـ "القرآنيون"، أولئك الذين يُسْقِطون "السنة النبوية" ويجردونها من أي دور تشريعي أو إخباري. فأنا قطعا لست منهم، لأني أعرض منهجا يعيد إنتاج العلاقة بين القرآن والسنة بشكل يختلف في القليل أو في الكثير عما هو معروف وسائد في مناهج السلف، ولا ألغيها أو أحيدها. انطلاقا من عديد الاعتبارات، محاولا سوق ما وسعني من أدلة وبراهين على آرائي وأفكاري الواردة في هذا المنهج. وهذا حق مشروع لا يمكن لأحد حرماني منه، وكل ما يملكه هذا "الأحد" هو مناقشتي في منهجي بعلمية وهدوء، ووفق مرجعيات يتفق عليها، كي نخلص معا إلى الحقيقة، إذا كنا طلابَ حقيقة.
    وفي ختام هذا التقديم لفت انتباهي أمر آخر، هو تعقيب قرأته على "منهج التجديد" الذي أطرحه وأدعو إليه، ينص على ما يلي:
    "اللافت حقيقة في منهج التجديد هذا تأخير الوحي في الترتيب (العقل التجربة الوحي)، وهو تأخير في المرتبة من حيث الاعتبار. ومن تتبع تفاصيل المنهج أدرك أن هذا التأخير نفسه مجرد (مداراة) للوحي. ستصير آخر المطاف نسفا لحقيقته وأثره على نحو لو كان مباشرا لمات هذا المنهج في المهد، ولكنه نسف غير مباشر للوحي ظاهره تقديره وباطنه تدميره".
    لا أظن أن استخدام لفظ "المداراة" في حوار يفترض أن يكون علميا، هو استخدامٌ فيه نكهة علمية، لأنها لفظةٌ "انطباعية" تثير فضاءات يُخْشَى أن تُقْحِمَ قائلها في مغاليق "النوايا"، و"النوايا" منطقة "حرجة" و"حساسة". والأصل في الحوار العلمي أن يُناقش "الفكرة" في حدود كونها "فكرة"، أيا كانت، وأيا كان قائلها، فهي إما أن تُقبلَ "كلا أو جزءا"، وإما أن تُرفضَ "كلا أو جزءا" أيضا، بالتحليل والتمحيص القائمين على المحاججة ذات المرجعيات المتفق عليها، بعيدا عن وصف "منطلقها" و"سببها" و"مبررها" بالأوصاف الانطباعية التي قد تُفْهم – خطأً - أنها تمس نوايا "صاحب الفكرة"!!
    فمن يقول بأن "الوحي" يأتي في ترتيبه من حيث مصدريته للمعرفة "الثالث" على قائمة المصادر، ويحدد في منهجه طبيعة العلاقة التي تحكم ذلك المصدر بالمصدرين الآخرين، هو لا يداري ولا يمارس أي تورية يخفي وراءها نوايا غير معلنة، بل هو يصرح ويعلن ويعترف ويوضح بمنتهى الجلاء!!
    من جهة أخرى فإن من كان في موقفه من الوحي، "التقدير ظاهرا" و"التدمير باطنا"، لم يكن ليختلف عن "المؤمن ظاهرا" و"الكافر باطنا"، وهذا هو المنافق يا سيدي، والمنافق في "الدرك الأسفل من النار". فهل أن ورود هذه العبارة في ختام هذا التعقيب، اتهام لصاحب الفكرة بالنفاق "على نحو غير مباشر"؟! أظن أن حوارا من هذا النوع، يخفي قدرا من "الانفعال المكتوم"، بدأ يدخلُنا في مساحاتٍ انطباعية غير مأمونة العواقب، لأنها غير علمية!!
    إن منطلقات كهذه قد تحرمنا من "الأحكام الموضوعية والمحايدة". ومثل هذا الحرمان وقع فيه الكثيرون من مسلمي وإسلاميي هذه العصور، عندما جعلتهم منطلقات "محاكمة النوايا"، و"افتراض الأجندات المسبقة"، لا يتعاملون مع الكثير من المنجزات الفكرية لعديد المفكرين بحيادٍ كافٍ للاستفادة منها، بدل معاداتها وفقط. فلأن هؤلاء "الكثيرين" – كما نوَّهْتُ – انطلقوا في التعامل مع كل من "ماركس"، و"فرويد"، و"دوركايم"، مثلا، من اعتبارهم "اليهود الثلاثة" الذين لم يكونوا فلاسفة ومفكرين وعلماء، بقدر ما كانوا يهودا لهم أجنداتهم السياسية والاجتماعية والثقافية "المحددة" و"التدميرية"، فإنهم – أي هؤلاء المسلمين الذين أشرت إلى كثرتهم – عجزوا عن الاستفادة من فلسفات وأفكر ونظريات هؤلاء، والتي لو نظرنا إليها من منظور علمي مجرد، لوجدنا فيها الكثير من الأمور المفيدة والبناءة!!
    لذلك فإنني أتمنى على كل باحث ومفكر وعالم وطالب حقيقة، أن يترفع عن إصدار أحكامه على النوايا، سواء كانت أحكاما مباشرة أو غير مباشرة، وأن يسموَ عن تأطير تلك الأفكار في "أجندات خاصة" غير علمية وغير قادرة على استدراج الموضوعية والحياد في أي حوار، بل ربما أنها لا تكون "قائمة" إلا في ذهنه هو فقط!!
    فأقصى ما تتيحه أفكاري الواردة في منهجي من فضاءات معرفية، ومن دلالات أصولية، هو ما يظهر منها بشكل مباشر، ولا مكان لفكرةٍ باطنة تعني شيئا آخر غير ما تم إعلانه وعرضه في المنهج!! فالمنهج كان من المباشرة والوضوح، بحيث يعتبر من "عدم الإنصاف" وصفه بأن له ظاهرا وباطنا، فكله ظاهر يا سيدي!! والباطنية بكل أشكالها لا تعتبر في منهجي علما، ولا هي تؤدي إلى معرفة يقينية ملزمة ولا بأي حال!!
    أما بعد، فإلى مناقشة تعقيباتكم واحدا واحدا أستاذنا العزيز "ابا عامر"..
    تعقيب 1.. على عبارة..
    خلاصة القول إذن أن القِيَمَ وهي مصطلح اجتماعي أخلاقي، يُطلق على الإسقاطات الموضوعية لصفة الله،
    نص التعقيب..
    يلزم من هذا أن صفة الله تعالى ليست قيمة في حد ذاتها، وأنها ليست مستقلة في حقيقتها ودلالتها، وأنه لا حاجة بنا مثلا أن نقول في مثل قوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أن هذا القسط الذي يحاكم الله تعالى إليه عباده يوم القيامة ليس هو القسط الذي يعرفه العقل، لأنه لا يخرج عن (النماذج والصيغ القيمية في إطارها الموضوعي التطبيقي الاجتماعي).. اعتبارا لهذه القاعدة في إدراك صفات الله تعالى كيف يمكن للعقل أن يصور لنا مشهد محاكمة الله العادلة للناس يوم القيامة؟
    تعقيبي..
    المصطلحات ملك صاحبها وموردِها ومستخدمِها، بالشكل الذي أوردها فيه، وعلى الطريقة التي استخدمها بها. وبالتالي فهو لا يُحاسبُ إلا على ما حدَّدَه هو من مساحات وفضاءات لتلك المصطلحات.
    فإذا طرحتُ مصطلح "كرسي" وحَّدْدُت له معنى غير الذي تعرفه أنت لـ "الكرسي"، كأن يكون هو "الحاسوب" عندك مثلا، فليس من حقك – في سياق محاورتي ومناقشتي على تداعيات وتطبيقات مصطلح الكرسي كما حددْتُه أنا – أن تلزِمَني بما تفهمه وتعنيه أنت من الكرسي، بل أنت ملزم بمناقشتي، وبالتالي بمحاسبتي معرفيا، في ضوء دلالات مصطلحي وفضاءاته فقط.
    أما إذا استخدمتُ مصطلحا يعرفه الناس ويفهمون له معنى معينا، دون أن أحدد له أنا من جهتي معنى آخر، كأن أستخدم مصطلح "كرسي" بالمعنى الذي يعرفه الجميع، فأنا عندئذ أصبحُ مُلزما بقبول تصوراتك عنه باعتباره المصطلح ذاته الذي تفهمُه أنت. ويصبح من حقك عليَّ أن تحاكمني وتحاسبني معرفيا في ضوء ذلك، إذا نتج عن استخدامي لهذا المصطلح ما يتعارض مع ما تراه أنت، مادمنا متفقين على "العين" التي ينطبق عليها ذلك المصطلح.
    وبالتالي فعندما أسوق مصطلحا خاصا بي، وأحدد معناه والفضاءات والمساحات التي أقصد تغطيتَها به، فهذا شأني، وليس من حق أحد أن يطلق هذا المصطلح على مفاهيم ومعاني وفضاءات تخصُّه هو، ثم يلزمني بها، ويحاسبني من ثَمَّ بالقياس لما استخدمه هو فيه، فهذا ليس منهجا علميا، ولا يُنتج معرفةً تنطوي على حجيَّةٍ في موضوع الاستدلال الذي نهج هذا النهج.
    لماذا أسوق هذا العرض؟!
    لأنني في الوقت الذي أطلق فيه بمحض حريتي وإرادتي، ومن منطلق حقي المعرفي المشروع، مصطلح "القِيَم" على ما اعتبرته "إسقاطات موضوعية لصفة الله"، معتبرا هذا المصطلح من وجهة نظري "مصطلحا أخلاقيا اجتماعيا"، فإنني أفاجأ بكم تفرضون عليَّ مفهومكم للقيمة، وتستنتجون بناء على مفهومكم هذا بأنني لا أعتبر صفة الله قيمة، إلى آخر ما استنتجتموه في تعقيبكم!!
    ثم رحتم تسقطون معاني القيمة كما تفهمونها على استنتاجاتي "أنا" في ضوء مفهوم القيمة كما طرحتها "أنا"، لتحملوني فكريا مسؤوليةَ أمور لم أناقشها، ولا تعرضت لها، ولا كنت معنيا بها عندما طرحت مفهوم القيمة في عبارتي تلك!!
    فالموضوع كله – في سياقه الذي أوردتُهُ أنا – لم يكن معنيا – بحسب طبيعة الموضوع – بمناقشة "القسط الإلهي يمم القيامة كيف سيكون؟" ولا كان معنيا – في حدود ذلك الفهم وذلك التطبيق – بمناقشة "محاكمة الله العادلة للناس يوم القيامة كيف ستكون؟". لأنني عندما أردت مناقشة هذا الموضوع بصيغته التي تساءلتم عنها، طرحته في سياق مختلف تقتضيه طبيعته في "الفصل الأخير" من كتابي "تجديد فهم الإسلام"، في ضوء الحقائق التي ثبتتها في الفصلين "الأول" و"الثاني" من الكتاب نفسه، لذلك أتمنى عليكم الرجوع إليها لمعرفة تفاصيل هذا المنهج في سياقاته تلك!!
    لذلك أتساءل: هل هذا الخلط بين المصطلحات، وهل هذا التداخل في السياقات المعرفية، يُعبر عن منهج علمي في إنتاج المعرفة؟! بل هل هو قادر على إنتاج معرفة موضوعية تلامس فضاءات الحقيقة؟!
    تعقيب 2.. على عبارة..
    إن النصوص – ونقصد بها هنا نصوص القرآن والسنة – التي تصدت لاستصدار أحكامٍ بِخصوص القيم – التي هي في نهاية المطاف أحكام العقل على الأفعال الاختيارية – لم تُعَالِجْ تلك القيم بصورة تنم عن انفرادها بِحَقِّ معالجتها. فهي – أي النصوص – في هذا المقام لم تفعل شيئا أكثر من تأكيد ما قرره العقل.
    نص التعقيب..
    هذا نزول بما أسس الله تعالى عليه أحكامه على الناجين والمغرقين في كل الأمم عن منزلته الضرورية، وهو إنزال الوحي، وبعثة الرسل في مثل قوله تعالى (وكذلك أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين) يونس. فمدار مشهد التكليف ومشهد الجزاء هنا على إبراز قيمة العدل الإلهي كما هو ظاهر، لكن مداره الأول الأعظم على نفس بعثة الأنبياء بالوحي كما في الآية الأخرى في مطلع السورة: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس). فهما قيمتان اثنتان: (قيمة العدل الإلهي) الفاصل بين المرسلين والمرسل إليهم في الدنيا والآخرة، و(قيمة الفعل الإلهي) المجسد لشرط العدل. فهب جدلا أن العقل قادر على تقرير (قيمة العدل الإلهي) المقررة في الآية الأولى، وأن هذه الآية ليست سوى تأكيدا لتقرير العقل. فكيف يقدر على تقرير القيمة الثانية (الفعل الإلهي) المقررة في الآية الثانية؛ بحيث يصح الاستغناء بتقريره عن تقرير الآية ما دامت مجرد تأكيد لتقريره؟علما بأن (قيمة الفعل الإلهي) هنا (بعثة 124000 رسول ونبي)، و(إنزال قرآن وإنجيل وتوراة وزبور و..) وما لا نعرفه مما أشارت إليه الآية الكريمة: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا. ورسلا قد قصصناهم عليك ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) النساء: 163 – 164.هل يصح في ميزان الحكمة الإلهية أن (تهدر قيمة الزمن الإلهي) على هذا النحو الهائل في حين كان باستطاعة عقل واحد من عقول (المرسلين) أو (المرسل إليهم) الاستقلال بتقرير ما قررته كل الكتب المنزلة، وما قرره كل الأنبياء والمرسلين؟
    بل ألا يصير نفس (اصطفاء الله لرسله وأنبيائه) ونفس (تكلمه) سبحانه – فضلا عن الزمن المبذول في كل ذلك - بهذا الاعتبار سدى سالبا لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله؟ فإن قيل: (كون نصوص الوحي مؤكدة لتقريرات العقل لا يعني كونها فضلة). فالجواب: أن كونها مؤكدة لتقريرات العقل يقتضي حتما سبق العقل إلى إدراك ما أكدت، فما وجه حاجته إليها؟ علما بأن هذا في ميزان الحجاج اضطراب يثير احتجاج المكلف.
    تعقيبي..
    إن تعقيبكم من بدايته وحتى نهاية الآيات التي سقتموها من سورة النساء، كان عصيا على فهمي البسيط، فلم أفهم منه أي معنى يمكنني ربطه بدلالات الفكرة التي وردت في عبارتي محل انتقادكم وتعقيبكم، كي أفهم جوهر الانتقاد والاعتراض، وموطن الحجة فيه من ثمَّ. لذلك فإنني لا أستطيع أن أقول بشأنه شيئا، وأعتبر عدم فهمي ناتجا عن قصورٍ مني، لا عن عدم توضيحٍ منكم.
    ولكني مع ذلك، شعرت من خلال تَمَعُّني في الشق المتبقي من تعليقكم، بأن هناك ضربا من ضروب عدم الدقة في تصوَّر مرادي من قولي "النصوص في هذا المقام لم تفعل شيئا أكثر من تأكيد ما قرره العقل".
    ولأني كنت أتحدث عن القيم في سياق تجسيدها لأحكام العقل على الأفعال الاختيارية، فأرى من الضروري إيراد تحليلٍ يوضح موقفي من مصطلح ومفهوم "الأفعال الاختيارية"، لأنه مفهوم غاية في الأهمية، ولأنه كان واحدا من أهم الخلافات الكلامية بين متكلمي الأشاعرة ومتكلمي المعتزلة في الزمن الغابر، وقد راج في أدبيات تلك الأزمنة تحت عنوان "التحسين والتقبيح العقليان".
    ولأنه فيه في نهاية المطاف تحليل قد يكون كافيا لعرض منهجي في مسألة القيم وأحكام العقل عليها في مجال الأفعال الاختيارية ذات الدلالات الاجتماعية.
    التحسين والتقبيح العقليان، ومسألة حكم العقل على الأفعال الاختيارية..
    تعد هذه المسألة من إفرازات العلاقة المعرفية بين الوحي والعقل، (وهي العلاقة التي تم الحديث عنها مُطَوَّلاً في الفصل الأول من كتابنا "تجديد فهم الإسلام"، لذلك نتمنى الرجوع إليه). إنها التعبير التاريخي الإسلامي عن علاقة التجاذب أو التنافر بين الأدوار المعرفية لكل من العقل والوحي. إنها تُجَلِّي مظهرا من مظاهر التناحر على القيادة المعرفية مُرَكَّزَةً في جانبها التشريعي باعتباره الجانب الأكثر حضورا في تاريخ الحضارة الإسلامية.
    نستطيع القول منذ البدء بأن الفقهاء وعلماء الكلام وذوي الشأن قد انقسموا إزاء التحسين والتقبيح العقليين إلى فئتين، الأولى تعطي العقل القدرةَ على ذلك، وبالتالي فهي تجعل التشريع من اختصاصه ابتداء، جاعلة منه المرجع الأول فيه. والفئة الثانية لا تعطي للعقل هذه المقدرة، وبالتالي فهي تجعل التشريع من اختصاص الوحي أولا، ما يدفعنا إلى استعراض رأيي الفئتين بشيء من التفصيل.
    * رأي من لا يؤمنون بقدرة العقل على ذلك
    يرى هؤلاء ألاَّ حكم للعقل على حسن الأفعال وقبحها. وليس الحسن والقبح عائدين إلى أمور حقيقية حاصلة فعلا قبل ورود بيان المشرع (الله). بل إن ما حسَّنه الله فهو حسن، وما قبَّحه الله فهو قبيح، فلو عكس الله القضية فحسَّن ما قبَّحه وقبَّح ما حسَّنه، لم يكن الأمر ممتنعا ولا مستحيلا، ولانْقَلَبَ الأمر، فصار ما كان قبيحا حسنا، وما كان حسنا قبيحا.. بل إن "الشهرستاني" أحد رواد هذا المذهب شطح وتطرف حين قال في "نهاية الإقدام في علم الكلام".. "إننا لو قدَّرنا إنسانا خُلِق تام الفطرة كامل العقل دفعة واحدة، من غير أن يَتَخَلَّق بأخلاق قوم ولا تأدب بآداب الوالدين ولا تزيَّى بزي الشرع ولا تعلم من معلم، ثم عُرِضَ عليه أمران أحدهما أن الاثنين أكثر من الواحد والثاني أن الكذب قبيح. فلا شك أنه لا يتوقف في الأول، فيما يتوقف في الثاني". (عن كتاب النبوة للدكتور علي مبروك، ص 175). ولقد استدل أنصار هذا الرأي فيما استدلوا به بمسألة النسخ في الأحكام الشرعية من الوجوب إلى التحريم أو بالعكس. ولقد تزعم هذا الاتجاه من عُرفوا تاريخيا بالأشاعرة ومن دار في فلكهم.
    *رأي من يؤمنون بقدرة العقل على ذلك
    ويرى هؤلاء أن للأفعال قِيَماً ذاتية عند العقلاء، أي في العقل، بصرف النظر عن حكم الله فيها. فمنها ما هو حسن في ذاته، ومنها ما هو قبيح في ذاته، ومنها ما ليس له هذان الوصفان. والله سبحانه وتعالى لا يأمر إلاَّ بما هو حسن، ولا ينهى إلاَّ عمَّا هو قبيح. فالصدق في ذاته حسن ولحسنه أمر الله به، لا أنه أمر به فصار حسنا بسبب أمره. والكذب في ذاته قبيح ولذلك نهى الله عنه، لا أنه نهى عنه فصار قبيحا بسبب نهيه. ولقد تزعم هذا الاتجاه من عُرِفُوا تاريخيا بالمعتزلة ومن دار في فلكهم.
    من جهتنا فإننا نعتقد أن من الخطأ قبول أحد الرأيين مطلقا بدون توضيح بعض المسائل المعرفية ذات العلاقة، (مستفيدين في ذلك من مجموعة الحقائق التي توصلنا إليها في موضوع المعرفة في كتابنا تجديد فهم الإسلام، فليراجع). إن أي محاولة للبت في هذه المسألة، تقتضي منا بدايةً توضيح أوجه التحسين والتقبيح المختلفة الممكن ورودها على الأشياء، للتَّعَرُّف من ثم على ما يمكن أن يقدر عليه العقل وعلى ما لا يمكنه ذلك بخصوصه. فالحُسْنُ والقُبْحُ من حيث المبدأ لا يستخدمان بمعنى واحد، بل بعدة معانٍ نوجزها فيما يلي..
    الأول
    يُطْلَق لفظا الحسنِ والقبحِ على الأشياء ويراد بهما الكمال والنقص. وهما بهذا المعنى يقعان وصفا للأفعال الاختيارية ولمتعلقات الأفعال. فيقال مثلا.. "العلم حسنٌ والجهل قبيحٌ"، وذلك من حيث كمال النفس بالعلم ونقصها بالجهل. كما يقال.. "الكرم والحلم والشجاعة" أمور حسنة، و"البخل والغضب والجبن"، أمور قبيحة، وذلك من حيث كمال النفس بالأوصاف الأولى ونقصها بالأوصاف الثانية. والحُسْن والقُبْح بهذا المعنى ليسا – على ما نعلم – محل نزاع بين الفريقين المختلفين المشار إليهما.
    الثاني
    إن الحسنَ والقبحَ قد يُسْتَخدمان ويراد من استخدامهما الملاءمة للنفس أو المنافرة لها. وبهذا المعنى فإنهما يقعان أيضا أوصافا للأفعال ومتعلقاتها. فيقال مثلا.. "النوم على الشبع قبيح". كما يقال.. "نوم القيلولة حسن". وكل ذلك من باب ملاءمة أو عدم ملاءمة تلك الأفعال والمتعلقات للنفس. وفي هذا السياق قد يتجاوز الحُسْن والقُبْح بهذا المعنى إلى أكثر من ذلك، من حيث عدم وجوب الحسن أو القبح الطارئين الظاهرين، بل وجوبهما على ما تُتَوَقَع ملاءمته أو عدم ملاءمته للنفس، فيُحْكَم عليه عندئذ بالحسن والقبح على أساس ذلك، "كشرب الدواء المر مثلا"، فهو حسن رغم عدم ملاءمته الفورية والظاهرة والطارئة للنفس، إلاَّ أنه أكثر ملاءمة لها من حلاوة الدواء الحلو التي قد تكسبه ملاءمة طارئة بحكم عامل الحلاوة هذا. وفي تصورنا فإن الحُسْن والقُبْح بهذه المعاني ليسا أيضا موضع خلاف أو محل نزاع بين الفئتين.
    الثالث
    يُطْلَق الحسن والقبح ويراد منهما المدح والذم. وبهذا المعنى فإنهما لا يقعان إلاَّ "أوصافا للأفعال الاختيارية فقط". ومعنى ذلك أن الحَسَن هو ما استحق عليه فاعله المدح والثناء عند العقلاء كافة. وأن القبيح هو ما استحق عليه فاعله الذم والعقاب عندهم كافة. وبعبارة أخرى فإن الحَسَن هو ما ينبغي فعله عند العقلاء، وأن القبيح هو ما ينبغي تركه عندهم. وهذا هو على وجه التحديد موضوع النزاع بين الفئتين. فالذين اعتبروا أن الحُكْم بالتقبيح والتحسين داخلٌ في قدرات العقل، إنما قصدوا إلى قدرته عليهما بهذا المعنى المحدد. والذين رفضوا إعطاء العقل هذه القدرة، إنما رفضوا إعطاءَه إياها بهذا المعنى أيضا. من هنا فإننا سنعكف على تحليل هذا المعنى الأخير للحُسْنِ والقبح.. فهو بهذا المعنى ينقسم إلى الأقسام التالية..
    1 - ما هو عِلَّةٌ للحسنِ والقبحِ. ويسمى الحسنُ والقبحُ فيه بالذاتيين مثل.. "العدل والظلم"، و"الجهل والعلم"، و"الصدق والكذب". فإن العدل بما هو عدل لا يكون إلا حسنا أبدا. أي أنه متى ما صدق عنوان العدل على أمرٍ ما، فإنه لابد أن يُمْدَحَ عليه فاعله عند العقلاء ويُعَدُّ عندهم محسنا. وكذلك الظلم بما هو ظلم فإن فاعله مذموم عندهم ويُعَدُّ مُسيئا.
    2 - ما هو مقتضى للحسن والقبح، ويسمى الحسن والقبح فيه بالعرضيين، مثل.. "تعظيم الصديق"، فإنه حين ارتباطه بظلم ثالث لا يكون حسنا.
    3 - ما لا عِلِّيَّة له ولا اقتضاء فيه في ذاته للحسنِ والقبحِ أصلا. فقد يتصف بالحسن تارة إذا انطبق عليه عنوانٌ حسنٌ كالعدل، وقد يتصف بالقبح تارة أخرى إذا انطبق عليه عنوان قبيح كالظلم. وقد لا ينطبق عليه عنوان أحدهما فلا يكون حسنا ولا قبيحا، كالضرب مثلا، فإنه حسن للتأديب وقبيح للتشفي ولا حسن ولا قبيح كضرب غير ذي الحياة كـ "الحجر مثلا".
    وسوف نقوم فيما يلي بتحليلٍ دقيقٍ لمقولة التحسين والتقبيح العقليين لنحدد على ضوء ذلك التحليل دور العقل في عملية التشريع، لأن ذلك هو الثمرة المرجوة من معالجة هذا الموضوع في الأساس.
    يقول البعض.. كيف يمكن أن تكون لدى العقل قدرة على التحسين والتقبيح في الأفعال الاختيارية بينما هو يحكم أحيانا بأحكام متباينة تحسينا وتقبيحا على الفعل نفسه؟ ويسترشد هذا البعض بمثال الضرب، فيقولون إن الضرب في العقل قد يكون حسنا وقد يكون قبيحا وقد يكون لا حسنا ولا قبيحا، فهو حسن للتأديب وقبيح للإيذاء والتشفي، بينما هو لا حسن ولا قبيح إذا تعلق بغير ذي الحياة كضرب الحجر. وإذا كان للعقل هذا القدر من التضارب في أحد أحكامه على فعل واحد، فهل يصح أن يكون من ثم ممتلكا للقدرة على التحسين والتقبيح في الأفعال الاختيارية كلها بحيث يسبق النصَّ الموحى به في التشريع؟!
    إن حُسْنَ الأشياء وقبحها يتخذ وجهين رئيسين – صورتين أو حالتين – أحدهما ذاتي والآخر عرضي. فالذاتي هو الذي يَقْدِر العقل على البت فيه، وهو ما يُفترض ألاَّ يقع فيه اختلاف بين العقلاء. وهو في الاتفاق عليه كالاتفاق على أي مفردة معرفية أولية يقينية، كالقول بأن الجزء أصغر من الكل الذي أُخِذَ منه. إذ لا فرق في عقولنا بين يقيننا بهذه المفردة المعرفية، ويقيننا بأن العدل حسن وبأن الظلم قبيح. وأما التحسين والتقبيح العرضيين فإنهما يختلفان باختلاف الوجوه والاعتبارات التي يمكن أن يطالها عنوانُ فعلٍ ماَّ. إن اختلاف انطباق مفاهيم الحسن والقبح على هكذا فعل باختلاف تلك الوجوه والاعتبارات يؤدي بنا إلى التأكيد على أن حكم العقل بالحسن أو بالقبح على الفعل مجرداً من اعتباراته ووجوهه المختلفة، هو حكم لا وجود له على الإطلاق، ومن يتصور وجوده إنما يوقع نفسه في مغالطة كبيرة ترفضها الحيثيات الحقيقية للمعرفة.
    فإذا كان العقل بموجب تركيبته التي ركبه الله عليها يُفَرِّقُ حين الحكم بالحسن والقبح، بين الحكم على الضرب للتأديب والحكم على الضرب للتشفي والإيذاء والحكم على ضرب غير ذي الحياة مثلا، من حيث أنه يحكم على كل واحد من هذه الأفعال بصفته فعلا مستقلا وقائما بذاته، وإن اشترك مع الفعلين الآخرين في عنوان واحد هو الضرب..
    نقول.. إذا كان هذا هو حال العقل، فلماذا نعتبر أن اختلاف أحكامه على تلك الأفعال المشتركة في عنوان واحد في جانب واحد من جوانب مُكَوِّناتها الجوهرية، دليل على تخبطه وعلى عدم قدرته من ثم على الحكم بالحسن والقبح على كل الأفعال الاختيارية مطلقا؟
    هل من الضروري أن يكون حكم العقل على فعل الضرب هو إما بالحسن وإما بالقبح منفصلين عن اعتبارات ووجوه الضرب الممكنة، حتى نعترف بقدرة العقل على التحسين والتقبيح؟ وهل من الضروري أن يكون حكم العقل على فعل "المشي" بالحسن أو بالقبح منفصلين عن اعتبارات ووجوه المشي الممكنة، بحيث إذا تَنَوَّعَت الأحكام بتنوع الوجوه، كاختلاف الحكم على "المشي في معصية" عن الحكم على "المشي في إصلاح ذات البين" وعن الحكم على "المشي للتَّنَزُّه"، تأكد لنا القول بألاَّ إمكانية للعقل في الحكم على الأفعال الاختيارية بالحسن وبالقبح مطلقا؟!
    إن الكثير من الأفعال الاختيارية التي رُكِّبَ العقل على القدرة على الحكم عليها بالحسن أو بالقبح، يمكنها أن تتصف بتعدد الوجوه والاعتبارات. وبالتالي فإنه لا معنى لمحاولة استصدار حكم من العقل على الفعل مجردا عن اعتباراته ووجوهه تلك. فالحسن والقبح اللذين يستتبعان المدح والذم على التوالي، لا يمكنهما أن ينطبقا على مثل هكذا أفعال منفصلة عن وجوهها واعتباراتها الممكنة.
    من ناحية أخرى، فإن الفعل الاختياري الذي تتعدد وجوهه واعتباراته لا يعود فعلا واحدا فقط، بل هو في كل وجه من وجوهه وفي كل اعتبار من اعتباراته الممكنة تلك، فعل مستقل وقائم بذاته ومتكامل الجوانب الموجبة للحكم العقلي عليه، رغم الشراكة الواضحة لكل الاعتبارات والوجوه في العنوان الواحد الذي هو في الأساس اصطلاحنا نحن. وبالتالي فإن اختلاف حكم العقل حال ارتباط الفعل المراد الحكم عليه باعتبارٍ آخرَ مختلفٍ، عن حكمه عليه عند ارتباطه بالاعتبار الأول، لا يعتبر مُسَوِّغاً موضوعيا ومنطقيا لرفض مقولة قدرة العقل على التحسين والتقبيح، بإرجاع ذلك الرفض إلى دعوى تعدد أحكام العقل على نفس الفعل الاختياري المشار إليه، لأننا في الواقع بصدد أكثر من فعل.
    فالضرب للتأديب فعل مختلف تمام الاختلاف عن الضرب للتشفي والإيذاء، وبالتالي فإن حكمَ العقل على الفعل الأول بالحسن وعلى الفعل الثاني بالقبح، لا يعني أن العقل قد تخبط وحكم مرة على الضرب بالقبح ومرة أخرى بالحسن، لأن الحكمين المختلفين لم يقعا في الواقع على فعل واحد هو فعل الضرب. فالواقع يؤكد عدم وجود معنىً يستتبع المدح أو الذم لفعل اختياري عنوانه الضرب. إن الحكمين إذن قد وقعا على فعلين مختلفين هما "الضرب للتأديب" و"الضرب للتشفي"، تماما مثل وقوع معنى الحسن على فعل "المشي في إصلاح ذات البين" ومعنى القبح على فعل "المشي في المعصية"، بينما فعل المشي مجردا من اعتباريه المذكورين فإنه خال من أي معان تستتبع المدح أو الذم. وكان بإمكاننا أن نصطلح على فعل "الضرب للتأديب" بـ "الضرديب"، وعلى فعل "الضرب للتشفي" بـ "الضرشي"، فهل لو فعلنا ذلك يمكن لهذا الخلط الذي وقع فيه هؤلاء بسبب الشراكة بين الفعلين في معنى "الضرب"، ان يحدث أصلا؟!
    من الواضح إذن أن الفعلين مختلفان، وأن تصور تخبط العقل بإصداره أحكاما مختلفة عليهما هو تصور مرتكز الى عدم الدقة في الملاحظة. إن التخبط والتناقض الموجب لإسقاط أحقية العقل في استصدار أحكام التحسين والتقبيح يتحقق لو أن العقل حكم على فعل الضرب مرة بالحسن ومرة بالقبح. لكن الضرب بما هو ضرب لا حكم عليه في العقل خلافا للعدل مثلا. لقد كان من الممكن وصف العقل بالتخبط أيضا لو أنه حكم على الضرب للتشفي مرة بالحسن ومرة بالقبح، لأن الضرب للتشفي فعل اختياري متكامل يستتبع المدح أو الذم، لكن ذلك لم يحدث، لأن حكم العقل على هذا الفعل باتٌّ وقاطع وهو "القبح".
    لقد مر معنا حين تحدثنا عن مصادر المعرفة وعن علاقاتها ببعضها البعض (في كتابنا تجديد فهم الإسلام – الفصل الأول) أن للعقل حكمه على كل شيء في هذا الوجود، وأن أحكام العقل هي على نوعين. فإما الحكم بالإمكان وإما الحكم بالضرورة. وإذا حاولنا تطبيق هذه الحقيقة على الموضوع الذي نحن بصدده، فسنتوصل إلى نتيجة هامة. فالعقل لا يملك أحكاما بالتحسين أو بالتقبيح على كلِّ الأفعال الممكنة والمتصورة، كما لم يملك من قبل حكمه بالضرورة على كل المفردات الموضوعية في هذا الوجود. والعقل إذ يفتقر إلى مثل هذه القدرة فبحكم تركيبته التي قمنا فيما مضى بتقسيم أحكامه على أساسها إلى أحكام بالضرورة وإلى أحكام بالإمكان.
    ونحن عندما نتحدث عن قدرة العقل على الحكم على بعض الأفعال - قلت أو كثرت – بالحسن أو بالقبح، إنما نكون بصدد الحديث عن الأفعال التي تندرج أحكام العقل عليها في خانة "الضرورات"، أي التي تعتبر مخالفتها – أي تلك الأحكام – خطأً ومجانبة للحقيقة، لا تختلف عن مجانبة الحقيقة في مخالفة الضرورات العقلية في قضايا أخرى غير الأفعال الاختيارية، كقضايا الرياضيات مثلا.
    وإنه نظرا لكون المسائل والقضايا ذات الصفة الضرورية في ذاتها وجوبا أو استحالة، هي واضحة في العقل بصورتي الوضوح الممكنتين وهما "البداهة" و"التركيب"، فإن الأفعال الاختيارية ذات الصفة الضرورية حُسنا أو قُبحا هي أيضا واضحة في العقل بصورتي الوضوح الممكنتين وهما "البداهة" و"التركيب"، مادمنا نؤكد على أن هناك تشابها جوهريا بين شكل الضرورة العقلية في "المفردات الوجودية"، وشكل الضرورة العقلية في "الأفعال الاختيارية".
    أما الأفعال التي تندرج في إطار مساحة الإمكان العقلي، أي في إطار حكم العقل عليها بإمكان وجهي الحسن والقبح فيها، فإن البَتَّ بهذا الحسن أو بذاك القبح فيها يخرج عن اختصاصات العقل. وهذه هي – في تصورنا – حدود الموضوعية كما يقتضيها العقل نفسه. فالعقل مثلا لا يستطيع أن يحكم على فعل "شرب الخمر" أو على فعل "أكل لحم الخنزير"، ولا على فعل "العري" أو فعل "الختان" أو فعل "الزواج من الأخت" بأنها حسنة أو قبيحة لا ذاتيا ولا عرضيا. فاحتمال كون تلك الأفعال حسنة يساوي في حجمه احتمال كونها قبيحة من الناحية العقلية، فصار لزاما أن يتدخل مصدر معرفي آخر للبَتِّ فيها، على أن يكون مالكا لصلاحية ذلك بصورة يعترف بها العقل ذاته.
    وكما هو الحال في قوانين الوجود الأساسية وقوانين الرياضيات الأساسية، حيث تترتب عليها نتائج تتصف في دلالاتها المعرفية باللزوم واليقين العقليين، على الرغم من عدم وضوحها – عقلا – بمستوى وضوح تلك القوانين الأساسية نفسها. فإن قوانين القيم الأساسية "الأحكام على الأفعال الاختيارية"، تترتب عليها بالضرورة نتائج تتصف في دلالاتها المعرفية باللزوم واليقين العقليين، على الرغم من عدم وضوحها هي أيضا بنفس مستوى وضوح الأحكام البديهية المباشرة على الأفعال الاختيارية في العقل.
    وإذا كانت مؤديات ونتائج ومقتضيات قوانين الرياضيات الأساسية هي علم الرياضيات بأكمله. وإذا كانت مؤديات ومقتضيات قوانين الوجود الأساسية هي مجموعة من العلاقات والقوانين الفوقية الهامة التي تشكل في معظمها بنية تحَتْيِةَّ للعلوم الطبيعية وللتجارب العلمية، فإن مؤديات ونتائج الأحكام البديهية على الأفعال الاختيارية هي الصيغ المذهبية لمختلف النظم الاجتماعية.
    الأمر الذي يجعل الوحي غير معني معرفيا بطرح آليات للتنظيم المجتمعي المذهبي. ونقصد بالمذهب كل الصيغ النظرية للعدالة الاجتماعية. ومادام الواقع يكشف لنا عن مئات وربما عن آلاف النصوص الوحيوية التي تعرضت لمعالجة المجتمع وتنظيمه "قرآنا وسنة"، فلابد من معرفة الدور الوظيفي لهذه النصوص. (بعد أن اتضحت لنا بعض المعالم الأساسية لهذا الدور، عندما تحدثنا عن النسق التاريخي لفهم نصوص الوحي اللاَّموضوعية، وهو ما شرحناه بشكل وافٍ في كتابنا "تجديد الإسلام" في أكثر من فصل، فليراجع هناك).
    وقد يسأل سائل.. إذا كان العقل يستطيع أن يضع الصيغ المذهبية للعدالة، فلماذا لم يتوصل إليها الإنسان العاقل منذ زمن بعيد؟ ولماذا كل هذه الفجزة الزمنية؟ أليس محتوى العقل البديهي واحد عند كل البشر؟
    (وهو ما أشرتم إليه في سؤالكم في عبارة هل يصح في ميزان الحكمة الإلهية أن (تهدر قيمة الزمن الإلهي) على هذا النحو الهائل في حين كان باستطاعة عقل واحد من عقول (المرسلين) أو (المرسل إليهم) الاستقلال بتقرير ما قررته كل الكتب المنزلة، وما قرره كل الأنبياء والمرسلين؟).
    هنا يجب أن نشير إلى حقيقة أن الصيغ المذهبية التفصيلية هي نتاج معرفي تركيبي للأحكام البديهية المتعلقة بالأفعال الاختيارية "التحسين والتقبيح"، وبالتالي فإن صفة التركيبية فيها تجعلها تخضع في ظهورها إلى حيز الوعي الإنساني المباشر إلى مجموعة كبيرة من العوامل على رأسها عامل التطور بكل تداعياته، وهي في هذا المقام تشبه تماما حقائق علم الرياضيات التي رغم كونها جميعها عقلية "صرف" ويقينية مطلقة، إلاَّ أنها وبسبب انبنائها على مجموعة قليلة من القواعد الأساسية البديهية، فإنها لا تظهر جميعها إلى الوعي الإنساني دفعة واحدة، بل يُسْهِم التطور الوعيوي في التاريخ في إظهارها.
    وإذا كان علم الرياضيات يتصف بذلك، فليست هناك مشكلة في أن تتصف بالصفة نفسها كافة المجموعات المعرفية التي تشبهه في طريقة تكوينها. لا بل إن تعلق المقتضيات التنظيمية المذهبية لأحكام الأفعال الاختيارية بواقع الإنسان الاجتماعي وارتباطها به، بكل ما يتدخل في تكوين هذا الواقع من عناصر وما يؤثر فيه من مؤثرات، يجعلها أكثر عُرْضَة للاَّوضوح وللتأخر في الظهور إلى حيز الوعي الإنساني المباشر.
    تعقيب 3.. على عبارة..
    ولو لم ترد تلك النصوص محتوية على تلك الأحكام لما تغير شيئ ولبقيت الأفعال الاختيارية خاضعةً لحكم العقل، ولبقيت المواقف منها معروفة من خلاله.
    نص التعقيب..
    هذا يحتاج إلى تفصيل نفرق به بين (مواقف العقل الجزائية في الدنيا) و(مواقف العقل الجزائية في الآخرة)
    سلمنا جدلا أن العقل قادر على امتلاك ناصية أحكام الدنيا تشريعا وقضاء – وهذا نسبي إلى حد بعيد - فهل يملك القدرة على تصور قيمة العدل الأخروي فضلا عن شروطها الإجرائية هناك؟ وهل يستطيع العقل استيعاب هذا الموقف (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) فضلا عن ادعاء الاستغناء عنه، وإقامة بديل له؟وإذا كان تلك النصوص المحتوية على تلك الأحكام (نفس كلام الله) والعقل (نفس خلقه) – وهو الحق – فلحكم من أخضع الأنبياء والرسل أفعال أقوامهم الاختيارية؟ لحكم العقل أو حكم الوحي؟ فإذا كان الجواب أن إشكال التفريق المقتضي الجمع أو التوفيق بين العقل والوحي لم يكن قائما لديهم، فما الذي جعل موسى عليه السلام يعتذر للخضر عن استدراكه عليه لما (أغرق السفينة) و(قتل الغلام)؟ وإذا كانت أحكام الخضر تلك (عدلا)، فهل يستطيع العقل تفسير تعليلاته الأخيرة لها قبيل فراقه لموسى عليه السلام؟ فإذا كان يستطيع أفلم يكن مع موسى عليه من (تقريرات العقل) وهو النبي المصطفى ما يمكنه من إدراك العدل في تلك الأحكام، ويخلصه من العتاب المحرج المشعر بالعجز عن التعليل (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا)، علما بأن العجز عن الصبر فرع عن العجز عن الفهم؟
    تعقيبي..
    الشطر الأول من تعقيبكم، إلى عند عبارة " فلحكم من أخضع الأنبياء والرسل أفعال أقوامهم الاختيارية؟ لحكم العقل أم لحكم الوحي؟ فإن الإجابة والتعقيب عليه واردين فيما مر معنا من تعقيبات، فهو تكرار لها، وليس في هذا التعقيب فكرة جديدة تخرج عن نطاق ما سقناه بشأن الأفعال الاختيارية والتحسين والتقبيح العقليين ودور العقل في ذلك. كما نحيلكم بشأنه إلى ما أحلناكم إليه بشأن سابقه وهو (الفصول المحددة من كتابنا "تجديد فهم الإسلام"، فليراجع).
    أما الشطر الثاني من التعقيب، والمتعلق بوقائع قصة موسى مع "الرجل الصالح الذي آتاه الله من لدنه علما"، فإنكم تسوقونها في غير موضعها، إذ أن دلالات القصة وتفاصيلها ليس فيها من قريب أو من بعيد، ما يتعلق بموضوع الاعتراض، ألا وهو الأفعال الاختيارية وقدرات العقل بخصوصها. فالمسألة أبسط من كل التعقيدات التي حاولتم تحميلها لها انطلاقا من افتراضات مسبقة بخصوص "حالة موسى المعرفية" و"حالة الخضر المعرفية".
    فاعتذار موسى عن السؤال ناجم عن تعارضه مع شرط الاتفاق المسبق بينه وبين رجل يعتقد في قرارات نفسه أن له مبرراته على تلك الأفعال، وأنه ما رافقه إلا بسبب هذا الاعتقاد لديه، لينهل من علمه ومعرفته ورؤيته. وكل ما في الأمر أن موسى نسي لبرهة جوهر الاتفاق، أو أنه لم تتح له فرصة تخيل فضاءا كهذا لللاتفاق المبرم بينه وبين الرجل، عندما رأى أفعالا هي – حسب موروثه الطبيعي – غير مبررة.
    فالإيذاء المترتب على خرق سفينة الفقراء، وقتل غلام صغير، أمور مستنكرة بموجب العقل إذا كانت معزولة عن سياقات تبررها تجعلها مشروعة بتحقيق اعتبار المشروعية فيها، لأنها ليست من نوع الأفعال الاختيارية التي تحدثنا عنها فيما مضى وذات الأوجه الحَدِّيَّة القاطعة، بل هي من قبيبل فعل "الضرب" ذي الأوجه والاعتبارات المتعددة.
    فليس هناك في العقل ما يجعله يقرر بموجبه أن فعل "القتل" أيَّ قتل منعزلا عن اعتباراته المختلفة، هو فعل "قبيح"، لأن "القتل" قد يكون "حسنا" إذا جاء في سياقات نعرفها جميعا، كالجهاد في سبيل الله، أو "القصاص"، أو خلال مقاتلة "أهل الحرابة".. إلخ. وبالتالي فاندهاش موسى ناجم عن استعجالٍ غابت عن ذهنه بسببه اعتبارات أخرى تجعل فعل "القتل" وفعل "خرق السفينة" مبررة، فاعتذر عنه - أي عن استعجاله - وانتهى الأمر.
    ولو أن موسى رأى "الخضر" يحكم بين شخصين اختصما أمامه، بشكل ظالم بادي الظلم من حيثيات المحاكمة، ما كان سيقبل منه هذا الفعل، وما كان سيقبل منه أي تبرير له، لأن الأمر عندئذ كان سيخرج عن نطاق الأفعال الاختيارية متعددة الاعتبارات، إلى نطاق ارتكاب "الخطأ"، لذلك فإن الأفعال التي كانت محل تساؤل واندهاش من قبل موسى، والتي ما لبث أن اعتذر عن تساؤله بسببها، لم يرد فيها أي فعل من القبيل المذكور. وليس هناك فضاء أوسع ولا أبعد من هذا المعنى لاعتذارات موسى المتكررة أمام "الرجل الصالح" عليهما السلام.
    وأخيرا فإن تعقيبكم ينطوي على تناقض عجيب، يأباه النص القرآني الذي استشهدتم به ذاتُه، فإذا كان السياق القرآني المورد لقصة موسى مع الخضر من سورة الكهف، قد أخبرنا بأن موسى قد قصد ذلك الرجل ليتعلم منه، "لتعلمني مما علمت رشدا"، فكيف تستغربون ألا يكون موسى عالما ولا مدركا ولا قادرا على التعليل، بل وعاجزا عنه، على الأقل في تلك القضايا الجزئية؟!! ما قيمة أن يلتقي رجلا عالما يُفترض أن لديه علما ليس عند موسى، ويصاحبه ليتعلم منه، إذا كان موسى - لمجرد أنه نبي - مخولا بأن يعلم ويمتلك القدرة على تعليل كل ما سيحدث معه وبينه وبين الرجل؟!! لماذا قصد الرجل إذن، وما الذي سيتعلمه منه؟!!
    تعقيب 4.. على عبارة..
    وكنتيجة لكل ما سبق نخلص إلى رفض المقولة السائدة في أوساط إسلاميي هذه العصور والمستندة إلى اجتهادات إسلامية قديمة، والتي تفيد بـ "ألاَّ اجتهاد مع النص"، وأن الاجتهاد يأتي فقط فيما لم يرد فيه نص. نرفضها لنؤكد على حقيقةٍ أخرى تحمل المعنى المقابل تماما لهذه المقولة. فالنص ليس حَكَماً نهائيا، على العقل أن يعمل ويتحرك داخل إطاره، وإلاَّ فلا حاجة بنا إلى هذا العقل. بل إن العقل هو الأساس وما على النص إلاَّ أن يُفْهَم في إطار مقررات العقل.
    نص التعقيب..
    هذا ينقض دعوى الحرص على تحقيق التكامل بين النقل ومقررات العقل، لأن العلاقة بينهما صارت بهذا الاعتبار علاقة (سيد يقرر) بـ (مملوكه المطيع المدرك لحدود حمى سيده).
    تعقيبي..
    هذا تشبيه لا ينطبق على موضوعنا البتَّة، فالجوهر المرجعي في العقل بالقياس لكلٍّ من مصدري المعرفة الآخرين وهما التجربة والوحي، يقيني فلسفي قاطع. والعقل هو الذي أعطى المشروعية لكليهما في استصدار المعارف. ولا يمكن لعاقل أن ينكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخاطب عقول من أرسل إليهم بهذا الوحي، حارصا على التأكيد على المشروعية العقلية لنبوته وللوحي الذي أنزل عليه. ولا يمكن لعاقل أن يقول أن أحدا كان سيصدق الرسول أو سيقتنع برسالته إذا ما عرض مجموعة من المعارف تتعارض مع عقول العقلاء كما كانت عليه في ذلك الوقت.
    وكي لا تردون عليَّ بأمثلة كتلك التي تعودت على سماعها من البعض ممن غاب عنهم لسبب أو لآخر الفرق بين المفردة المعرفية العقلية، والمفردة المعرفية التجريبية، فيعتبرون تعارض الوحي مع الثانية تعارضا مع الأولى.. أو من بعض من غَمَّتْ عليهم المسائل، فاعتبروا "الرأي" و"الهوى" عقلا، واعتبروا بناء على ذلك أن تناقض الآراء والأهواء في مسائلَ بعينها، دليلا على تناقض العقل وانتفاء قدرته المعرفية السيادية.. أقول.. كي لا يُرَدَّ عليَّ بأمور كهذه، وكي لا أعود للحديث في الممكنات العقلية التي جعلته – أي العقل - يحيل بخصوصها إلى التجربة والوحي، لتصبح حتميات وضرورات بموجب هذين المصدرين اللاحقين، أستميحكم عذرا باستباق ذلك وإحالتكم إلى إجابة كنت قد بعثت بها على الموقع ردا على أسئلة تقدم بها الباحث والروائي الأستاذ العزيز "خليل حلاوجي"، فيها تفصيل لهذه المسألة، فتمنياتي عليكم بمراجعتها هناك تجنبا للتكرار.
    تعقيب 5.. على عبارة..
    وبناء عليه فـ "لا نص مع العقل" إلاَّ إذا أُتيِحَت فرصةُ فهمِ النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته وأنساقه المعرفية المختلفة سواء كانت أنساقا لغوية أو أسطورية أو تاريخية.
    نص التعقيب..
    هذا لازم سلطة السيد المهيمنة على نشاط مملوكه، وهذا الاستثناء (إلاَّ إذا أُتيِحَت فرصةُ فهمِ النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته وأنساقه المعرفية المختلفة سواء كانت أنساقا لغوية أو أسطورية أو تاريخية) ليس إلا تشديدا لخطوط الحمى الحمراء، لأن (فهم النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته..) لا مصدر له آخر المطاف إلا العقل، وفي هذا من التحكم والإقصاء ما يخالف أبسط مقتضيات الموضوعية المبثوثة في العقول السليمة، وما أشبه مجال (نشاط النص) هنا ببرلمانات الأنظمة السائدة.
    وما تلا هذا من كلامكم أستاذ أسامة عن (أحكام الشريعة الإسلامية) لا يخرج عن هذا النطاق الموسوم بجعل الشرع خادما ذلولا للوضع، فعسى أن يتاح الزمن للتفصيل فيه أكثر، والإجابة عن طروحه طرحا طرحا
    أعود الآن إلى قولك:
    تعقيبي..
    هذا التعقيب تابع لسابقه واستكمال له، فيحال بشأنه إليه وإلى ما تمت إحالته فيه إليه. مع تأكيدي على خفة ظل النكتة التي شبهتم بموجبها بين ما أقول به وبين البرلمانات السائدة!!!
    تعقيب 6.. على عبارة..
    إن لكل تلك العلوم التي خشيت عليها يا أستاذنا الكبير "أبا عامر" من "جرح وتعديل" و"رجال" و"مصطلح"، دورها إلى جانب العقل والقرآن في استكمال دائرة الاعتمادية لتلك النصوص في مجال الأحكام والأخبار. وهو الأمر الذي نورده فيما تبقى من تحليل آملين أن تكون فيه الإجابة المباشرة على تفاصيل أسئلتكم يا أستاذنا الكبير.
    نص التعقيب..
    فأقول: لست أخشى على تلك العلوم أستاذ أسامة لأنها أكبر من أن تحتاج إلى دفاعي عنها، وانتقاد غيري السلبي من شأنها لا ينقص من قيمتها المعرفية والحضارية مثقال ذرة.
    تعقيبي..
    ليست الخشية التي قصدتها ضربا من الاستفزاز لكم سيدي، حتى يحضركم هذا القدر من الانفعال الخفي!! وانتقاد الغير ليس بهدف الانقاص من قيمتها، بل هو بقصد الإثراء والتطوير والتعديل واكتشاف الأفضل إن وجد. وكل علوم الأرض تتطور وتنمو وتثرى وأحيانا تتغير. فأين هي المشكلة في أن تخضع هذه العلوم للأمور نفسها التي تخضع لها كل العلوم الأكثر يقينية منها كعلوم الطبيعة؟!
    لماذا نقبل انتقاد كل مناهج البحث التاريخي التي عرفها البشر، ولا نقبل انتقاد هذه العلوم، مع أنها في نهاية المطاف ليست سوى مناهج بحث تاريخي، شأنها في الجوهر شأن باقي مناهج البحث التاريخي، وإن تركزت على مساحة زمانية وجغرافية ومضمونية محددة؟! حتى لو اعترفنا بأنها كانت من أدق المناهج؟!!
    وهنا أتجاوز مؤقتا وإلى حين مجموعة كبيرة من الحقائق التي من شأنها أن تشكك في عناصر هامة من تاريخنا العربي والإسلامي، الذي تعتبر تلك المرحلة ومنتجاتها جزءا لا يتجزأ منها، تنطبق عليه كل التحفظات التي انطبقت على باقي جوانب هذا التاريخ..
    سيدي الفاضل حركة التدوين بدأت بعد منتصف القرن الثاني للهجرة، وسط ظروف خلافية وسياسية ومعتقدية وتناحرية لا يعلمها إلا الله. وإذن فنحن في معرفة تفاصيل ما قبل تلك الفترة تحت رحمة من صاغوا وكتبوا ودونوا بكل خلفياته. وكل ما يمكن لتلك العلوم أن تفعله هو أن تخفف من غلواء الكذب والتزييف والتزوير الذي تعرض له ذلك التاريخ. ولكنها لا تستطيع أن تنجز المهمة كامة وعلى أنصع وجه.
    فالبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والبيهقي وأبو داوود والترمذي والدارقطني وابن خزيمة، وغيرهم من أساطين الرواية، اختلفوا في شروط وقواعد التصيحح، وصحح بعضهم ما ضعفه غيره، ووضع بعضهم شروطا للتصحيح لم يضعها غيره.. مسلم أخذ عن البخاري، والبخاري أخذ عن مسلم، ومع ذلك اختلفا فيما صححاه كلٌّ على شروطه، ولم يقل أحدهما للآخر، "لماذا" و"ليس من حقك"، ولا أن "هذا حكر" على مجموعة دون أخرى. وما يقال هنا يقال في كل أفرع هذا العلم، فما من رجل إلا وفيه أقوال وآراء. وما لجأت إلى مرجع من تلك المراجع إلا وشعرت بالغرق في الاختلافات والتناقضات.
    ولعلك تعرف أن الأباني رحمه الله يعتبر من أكثر المتجرئين المعاصرين على البخاري ومسلم، إذا كان في تضعيف ما صححاه جرأة واعتداء، ولم يمنعه أحد. وكل ما في الأمر هو أن يورد المرء حجتَه ودليله على ما يقوله، وبعد ذلك فهذا الدين وهذا التاريخ وإبداء الرأي والاجتهاد فيه ملك وحق للجميع بلا استثناء.
    احتجت ذات مرة لتخريج وتحقيق حديث "ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية"، فانظر ماذا وجدت:

    (حديث أخرجه البخاري رقم 474 و2812، وابن حِباَّن رقم 7078 و7079، وأحمد في مسنده 3/22 و3/90 – 91، من طريق "خالد بن مهران الحَذاَّء" عن "عكرمة" عن "أبي سعيدٍ الخدري"، ولفظه: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار". وأخرجه أحمد في مسنده 3/5 وابن سعد 3/252 والطيالسي رقم 603 و2168، ومسلم رقم 2915، والنسائي في "الكبرى" رقم 8548، والبزاَّر رقم 2687، والبيهقي في "الدلائل" 2/548، من طريق "داوود بن أبي هند" عن "أبي نضرة" عن أبي سعيد الخدري"، ولفظه: "ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية"، ونحوه.
    أما الإسناد الأول فعكرمة يُحْتَجُّ به عند البخاري ولا يُحْتَجُّ به عند مسلم، لما فيه من كلام واتهام بالكذب.
    وأما الإسناد الثاني ففيه "أبو نضرة" المنذر بن مالك العبدي، وقد احتج به مسلم ولم يحتج به البخاري لما فيه من كلام، مثل كلام "ابن سعد" لما ذكره: "ليس كل أحد يحتج به".
    وأورده العُقيلي وابن عدي في الضعفاء.
    وأما "خالد بن مهران الحذاَّء" فوثَّقوه، إلا أن أبا حاتم قال: "يُكتب حديثه ولا يُحتج به". "ما معنى هذا الكلام من الناحية العلمية؟!".
    وعُرِف عن خالد بن مهران، أنه يروي أشياء لم يسمعها، فيُسقِط الواسطة.
    وأشار "حماد بن زيد" إلى أن "لفظه قد تغيَّرَ بِأَخَرَة".
    وتكلموا فيه من أجل دخوله في عمل السلطان. وضعَّفَه بن عُلَيَّة.
    وعكرمة اتهمه بالكذب "سعيد بن المُسَيِّب" و"ابن عمر"، وقال "مصعب الزبيري " عن عكرمة: "أنه يرى رأي الخوارج"، واتهمه "عطاء" فقال: "كان إباضيا"، وقال "يحيى بن معين": "إنما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة لأنه كان ينتحل رأيَ "الصَّفرِيَّة".
    وكذَّبَه أيضا "عطاء بن أبي رباح"، وكذبه "سعيد بن جبير"، و"يحيى بن سعيد الأنصاري" قال: "كان كذابا، وكان مالك لا يرى عكرمة ثقة ويأمل ألا يُؤْخَذَ عنه".
    وقال: "لا أرى لأحد أن يقبل حديثه".
    وقال أحمد: "مضطرب الحديث".
    وقال أيوب: "كان قليل العقل".
    واتهمه "طاووس" بأنه لا يتقي الله..
    "من كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني").

    وأمتنع عن التعليق على هذا القدر من الاختلاف والتباين في مواقف هؤلاء الكبار حول بعض رجال حديث صححه أحدهم وضعفه آخر!! ومثل هذا الحديث آلاف أخرى تعاني من الشيء نفسه!! فهل نحن بحاجة على إعادة إنتاج كل السس التي قام عليها ذلك العلم أم لا؟!
    وأود في نهاية تعقيبي هذا أن أورد حادثة بالغة الدلالة حصلت معي عندما كنت ما أزال طالبا جامعيا:
    كان يدرسنا أستاذ أميركي مادة "مناهج البحث العلمي"، ومنها "مناهج البحث التاريخي". وكان الرجل متمكنا من أدواته العلمية.
    أثناء إحدى المحاضرات تقدم أحد زملائي الطلاب وهو من "المغرب" بمداخلة قال فيها على ما أذكر "المعنى وليس اللفظ بالضرورة": "إننا نحن المسلمون ابتكرنا أدق منهج للتثبُّت من التاريخ، وهو منهج علم الحديث ومصطلحه"، وراح يتحدث عن علم الرجال والجرح والتعديل.. إلخ، والأستاذ ينصت.
    عندما انتهى زميلي من مداخلته التي استمع إليها الأستاذ كاملة وبمنتهى الاحترام، ابتسم وقال "بالمعنى أيضا وليس باللفظ": "أعرف ذلك جيدا يا صديقي. واعتبر هذا المنهج من أهم مناهج البحث التاريخي التي توصل إليها البشر، لكن لا يوجد منهج يستطيع إنجاز الحقيقة بالشكل الذي تدعيه، ولا حتى هذا المنهج". ثم نظر إلينا وقال: "ما رأيكم لو خضنا تجربة ممتعة الآن؟".
    استثارنا الموضوع وقبلنا بخوض التجربة، وبدأنا على الفور لعبة ممتعة للغاية، لن أنساها ولن أنسى دلالاتها ما حييت.
    خرجنا سبعة من الطلاب ووقفنا قريبا من الأستاذ متقاربين بشكل معقول. وقام الأستاذ بكتابة عبارة من سطرين على ورقة، ثم طواها وقال: "سوف أجعل زميلكم في الطرف الأيمن يقرأ الورقة ويستمر في قراءتها وتكرارها بينه وبين نفسه حتى يخبرني بأنه حفظها عن ظهر قلب. ثم سوف نتيح له الفرصة كي يلقنها همسا لزميله المجاور له، ويكررها على مسامعه حتى يخبره هو أيضا بأنه حفظها. وسوف نكرر هذه الفعلة من زميل إلى آخر، حتى نصل إلى آخر زميل لكم، ونطلب منه بعد أن ينتهي من الاستماع والحفظ، أن يسمعنا ما تلقاه من آخر سلسلة الرواة السبعة. ونكتب على اللوح ما سوف يذكره، ونقارن ذلك مع ما هو مكتوب في الفرقة في الأساس، لنلاحظ النتيجة.
    كانت لعبة غاية في الإثارة والتشويق، استمتعنا بها جميعا، لأنها بالفعل عالية الدلالة.
    نفذنا التجربة بمنتهى الشغف، ولم يأخذ منا الأمر أكثر من حوالي عشرين دقيقة في المجمل. وجاءت اللحظة التي أسمعنا فيها آخر سلسلة الرواة ما سمعه ممن قبله، ودونه الأستاذ بنفسه على اللوح، وكانت العبارة بالمعنى طبعا: "خرجت من بيتي مبكرا في مدينتي في يوم ماطر كي أذهب إلى الجامعة، لكن شوارع لوس أنجلوس كان متعبة، لأن شدة الأمطار ضايقتني خلال المشي، فوصلت متأخرا".
    وجاءت اللحظة الحاسمة التي سوف نقرأ فيها العبارة التي كتبها الأستاذ، كي نقارنها بالمتن الذي نقلته سلسلة الرواة.
    كانت النتيجة مذهلة للغاية.. العبارة المكتوبة على الورقة كانت تتحدث عن..
    "أزمة المرور في مدينة نيويورك، في أيام الثلج، ولم تذكر الجامعات سوى في سياق التأكيد على أن الأزمة أدت إلى تعطيل الدراسة في الجامعات وفي المدارس التي لم يأت الزميل على ذكرها أصلا".
    لن أعلق على هذه النتيجة بشيء غير التذكير بأن هذه السلسلة من الرواة نقلت روايتها خلال عشرين دقيقة فقط، وليس على مدى مئات من السنين، وكان الجميع مهيئون للفكرة وللهدف الذي يسعون إليه، ولم تكن لأي منهم أي أجندة تدفعه إلى التزوير، وكان احتمال الخطأ ضئيل للغاية بسبب التقارب الزماني والمكاني. ومع ذلك أنظر كيف كانت النتيجة؟!!!!
    وقل لي بعد ذلك ما تشاء عن دقة نقل التاريخ، وعن سمو هؤلاء الذين وثقوا لنا الروايات والأسانيد.. إلخ!!!
    تعقيب 7.. على عبارة..
    إن أي حديث عن منظومة القواعد التي ستمثل الركيزة المعيارية لمحاكمة المرويات المنسوبة إلى شخص الرسول، يتطلب أمرين اثنين، أولهما، القيام بتحليل مكونات جسم الرواية "أي مُكَوِّنات النص المروي" للتعرف من خلال هذا التحليل على حقيقة التنوع في هذه المكونات، وهو التنوع الذي سيترتب عليه بالضرورة تنوع مقابل في آليات المحاكمة "أي في قواعد المحاكمة".
    نص التعقيب..
    أما هذا الأمر الأول فمنطقه منكوس إذ ما كان لنا أن نعرف (جسم الرواية "أي مُكَوِّنات النص المروي) لولا السند، وهذه حقيقة بدهية تقررها سنة التاريخ، ولو أمكننا القفز على حاجز الزمن اختزالا للقرون الفاصلة بيننا وبين مصدر الحديث (النبي صلى الله عليه وسلم) لاستغنينا عن رواته. وهذا يقتضي أن أسانيد الحديث أنساب متونه، وأن تجاوز النسب يعني عدم التفريق بين الأصيل والدخيل، وبين العريق واللقيط.
    تعقيبي..
    تعقيبي هنا وعلى كل من تعقيباتكم في 8، و9، و10، و11، و12، و13، و14، يقوم على أنني قمت بالتقسيم على أساس نظري تجريدي، مع علمي بعدم وجود متن بلا سند، وبأن السند ما وضع إلا من أجل المتن، وقد وردت عندي هه العبارة الأخيرة بالحرف. وبالتالي فليس هناك ما يستدعي كل هذا التفصيل من قبلكم.
    أما ما يتعلق بالأفكار الأخرى التي عقبتم عليها، فأنا أحيلكم إلى ما ورد في التعقيب السابق وإلى كتابنا "تجديد فهم الإسلام" في الفصول ذات العلاقة، ففيها التفصيل، وأستميحكم عذرا في ذلك، كي أتجنب التكرار والإطالة، لأن المواضيع مشروحة هناك بشكل أكثر تفصيلا.
    تعقيب 8.. على عبارة..
    أما الأمر الثاني الذي يتطلبه الحديث عن قواعد محاكمة النص المروي، فهو التَّعَرُّف – انطلاقا من المرجعية المعرفية المعتمدة لدينا – على الآليات المفترض اتباعها لمحاكمة كلِّ واحد من مكونات جسم النص، المحاكمة التَّثَبُّتِيَّة التي من شأنها أن تحسم قطعا مسألة صحة أو عدم صحة نسبة ذلك النص المروي إلى مصدره الذي هو الرسول محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
    نص التعقيب..
    وهل يتصور للنص المروي صحة دون تصور حال من رواه؟ إننا لا نزال نؤكد في أداء رسالة الإعلام على المهنية والمصداقية، وهذا التأكيد لا يعني إلا شيئا واحدا، هو أمانة النقل التي لا معنى لها إلا أمانة الناقل.
    فإذا قررنا التثبت من الخبر الإعلامي وكشفنا صحته أو زيفه فإننا لا نلوم أو نشيد بذات الخبر، وإنما نلوم أو نشيد بمصدره الأول (الناقل). وهذا محل اتفاق عقلاء العالم، ولا يخفى أن علوم الحديث التي تولت صيانة مروياته لم يدفع علميتها وموضوعيتها من القرن الرابع الهجري إلى الآن سوى جماعة معدودين من غير أهل الاختصاص. وأقول (من غير أهل الاختصاص) لأن هؤلاء الجماعة المعدودون لم يستطيعوا إلى الآن الاستدراك على نظريات تلك العلوم بتفنيد معرفي شامل دقيق يضاهئ دقة المنهج العلمي الذي قامت عليه،
    فضلا عن أن ينشئوا منهجا بديلا، يمتلك مقاومة الأول وصموده المستمر إلى الآن. إن المنهج العلمي الذي تولى صيانة الحديث النبوي لم يكن مجال تجسده فكرة، أو رؤية، أو بحثا، أو مؤسسة فكرية، أو مركزا ثقافيا،
    لقد كان مجال تجسده أمة امتد حكمها حتى غمر آفاق الدنيا، وعاصرت وحاورت وناظرت وخالطت بمناهجها العلمية وحضارتها السمية أمما تخالفها ديانة وأعرافا، ولم تكن عمدتها في كل ذلك إلا تلك المرويات في صورتها الناضجة نقلا وعرضا وتوثيقا وتصنيفا في أمهات كتب الحديث، فما انتقد منهجها الشامل في التثبت من تلك المرويات مخالف فضلا عن الموافق، حتى ظهرت حركة الاستشراق التي ابتدعت في أدائها السلبي مناهج الطعن في مرويات الحديث النبوي، محاولة النيل من منهج معرفي إسلامي متكامل دون جدوى. إن محاكمة المروي بقواعد لا تدخل في اعتبارها حال راويه هدم لقواعد الدين والعلم جملة، وهو أيضا تصنيف للراوي في (طبقة غير العقلاء). لا سيما إذا كانت نتيجة المحاكمة الحكم على المروي بالبطلان عقلا وهو صحيح نقلا.
    تعقيبي..
    انظر التعقيب السابق..
    تعقيب 9.. على عبارة..
    إن ما نحن بصدد التأكيد عليه هنا من ضرورة وجود علم محدد وقواعد محددة لغرض التَّثَبُّت من صحة المرويات، قد عرفه المسلمون باسم "علم الحديث ومصطلحه"، وبالتالي فلسنا نَدَّعِي أننا ندعو إلى إبداع علم غَفِلَ عنه السابقون.
    نص التعقيب..
    محل صحة هذا ما إذا كان في السابقين – وهم جم غفير - من فطن لضرورة (علم جديد) كلا أو بعضا، وإلا فقد غفلوا عنه فعلا !!!
    تعقيبي..
    انظر التعقيب السابق..
    تعقيب 10.. على عبارة..
    ولكننا مع ذلك ندعو إلى إحداث تطوير فعال في بعض جوانب هذا العلم، بعدما أيقنا أنه بحدوده المعروفة لم يعد قادرا – في تصورنا – على الإحاطة بكافة مقاييس التصحيح التي تعتبرُ الهدفَ الأساسي من وراء كل قواعده.
    نص التعقيب..
    شرط التطوير الحفاظ على أصل المطوَّر في أقل أحوال الاعتبار، وسيأتي عند الحديث عن حديث (أطيط السماء) وحديث (حنين الجذع) أنها دعوة إلى استبعاد هذا العلم، لا إلى تطويره.
    تعقيبي..
    انظر التعقيب السابق..
    تعقيب 11.. على عبارة..
    إن كل نص رُوِيَ عن الرسول يتكون من جزءين رئيسين يمثلان معا جسم النص ككل. وهذان الجزءان هما "السند" و"المتن". أما السَّنَد فهو التوثيق التاريخي الزَّمني للنص ويتضمن سلسلة الناقلين الذين مَرَّ النص عبرهم إلى أن وصل إلى آخر من رواه. وأما المتن فهو النص في ذاته مُتَضَمِّناً الفكرةَ التي تم تناقلُها عبر الرواة مَصْبُوبَةً في قالب لغوي تعبيري معين. وما وُجِدَ السند إلاَّ من أجل المتن، بل وما تم وضع أسس التَّثَبُّت القاسية من السند إلاَّ من أجل المتن، لأن إيصالَه إلى اللاحقين هو الهدف من العملية ككل. فسند بلا متن كلام فارغ لا معنى له، لأن الناقلين والرواة إنما يفترض فيهم أنهم ينقلون نصا مُتَضَمِّناً لفكرة ما. في حين أن متنا بلا سند هو كلام له معنىً واضح
    نص التعقيب..
    هذا ليس صحيحا بالنظر إل ىأصول علم الرواية، لأن (متنا بلا سند) ليس حديثا في اصطلاح المحدثين، فلا يستحق العناية التثبتية، وهذا ما يدل على قيمة السند العلمية، ولطالما ألقيت على عهد المحدثين مرويات، فكان النقاد يقولون لرواتها: (سموا لنا رجالكم).
    تعقيبي..
    انظر التعقيب السابق..
    تعقيب 12.. على عبارة..
    وإن أمكن القول أنه غير صحيح النسبة إلى مصدره. فعدم صحة النسبة لا تُلغي المعنى عن المشكوك في صحته هذا.
    نص التعقيب..
    هذا يجعله كلاما مجردا عن صفة (الحديث)، ومقتضاه أن يصير كلام كل من تكلم قابلا لإجراءات التثبت التي وضعها المحدثون، وهذا لا يعقل، وهو هدر للوقت في أقل أحوال فساده.
    تعقيبي..
    انظر التعقيب السابق..
    تعقيب 13.. على عبارة..
    والنص الصحيح كما يفرض ذلك منطق الأمور، هو النص الذي يصح سندا ومتنا في الوقت ذاته.
    فلا صحة إذن لنص صَحَّ سنده ولم يصح متنه
    نص التعقيب..
    هذا استنتاج غير علمي ولا منطقي بناء على قولك السابق (وما وُجِدَ السند إلاَّ من أجل المتن)، وهو دليل على أن من قواعد تطوير هذا العلم لديك قطع الصلة بالكلية بين المتن والسند، وهو يقتضي أن رجال السند الصحيح أشبه بالآلات الناقلة؛ لا يعقلون ما يروون. نعم، قد يحتاج متن صح سنده إلى تأويل جامع بينه وبين مدلول نص قرآني، أو نص حديثي آخر صح سنده، وأقول (تأويل جامع) لأن هذا يقع بين النصين من نصوص القرآن، فيما يعرف بعلم (الأشباه والنظائر)، فما ظنك بنصوص الحديث. كما أنه لا صحة لنص صَحَّ متنه ولم يصح سنده.
    تعقيبي..
    انظر التعقيب السابق..
    تعقيب 14.. على عبارة..
    وإنه إذا كان النص الصحيح متنا غير الصحيح سندا لا تصح نسبته إلى الرسول بسبب عدم القدرة على التأكد من أن الرسول قد قاله أو نطق به فعلا، فإن صِحَّةَ النص الصحيح سندا وغير الصحيح متنا تسقط لاعتبار آخر مُختلف، هو استحالة أن يكون الرسول الكريم قد قاله أو نطق به من حيث المبدأ. من الناحية النظرية المجردة، قد يصح نصٌّ – في نسبته إلى الرسول – صح متنا ولم يصح سندا، بينما لا يصح نص صح سندا ولم يصح متنا، وذلك لإمكان أن يحدث خلل في سلسلة الرواة وهم يتناقلون متنا ورد من مصدره، لكن يستحيل أن يكون الرواة مصيبين في تناقلهم متنا غير صحيح، لاستحالة أن يصدر عن رسول الله أساسا متن يعارض العقل والتجربة ولا ينسجم مع أي من أنساقهما المعتمدة.
    نص التعقيب..
    هذا يخالف أقل قواعد العلم اعتبارا، فضلا عن قواعد علم الحديث، ولو كان مرد تصحيح الوحي إلى العقل والتجربة لما وصلنا ذاك الكم الهائل من الأحاديث الصحيحة، ولصححها بالعقل والتجربة عقلاء علم الحديث خلال أكثر من عشرة قرون، ولم يستبقوا منها لعقلاء زماننا غير المختصين شيئا، أو يكونون قد استبقوا نزرا يسيرا، هذا إذا كانوا في ميزان (العقل والتجربة) جامعين بين علمي المنقول والمعقول.
    تعقيبي..
    انظر التعقيب السابق..
    تعقيب 15.. على عبارة..
    بل وقد يعارض القرآن أيضا. وإذن فلا وجود في صحة المرويات عن الرسول لصحة مطلقة بأي حال. بل إن الصحة نسبية، أو لنقل أنها واقعية عملية، أي تكفي عقلا لإيجاب العمل بالنص في ضوء استحالة الصحة المطلقة.
    نص التعقيب..
    هل هذا يعني أن الصحة المطلقة في تقريرات العقل؟ وهل لديه من جبروت الفهم والإدراك ما يستطيع به استيعاب كل تقريرات الوحي؟ لا أحسبه كذلك وإن كان آية من آيات الله؛ إلا أنها لا تبلغ درجة الوحي الذي هو صفة من صفاته.
    تعقيبي..
    مع تجاوز مسألة إن كان الوحي صفة من صفات الله أم لا!! فإنني اعتقد في العقل بما لم تحسبوه فيه. ولم أر في تعقيبكم دليلا على خلافه، ومع ذلك فأعود لأحيلكم بشأن العلاقة بين الوحي والعقل ومكانة كل منهما في المعرفة إلى كتابنا "تجديد فهم الإسلام".
    تعقيب 16.. على عبارة..
    نص غير صحيح متنا، صحيح سندا، وهو نص خاطئ خطأ مطلقا، أي موجبا بصورة مطلقة لترك العمل به، ولا يمكنه أن يكون صحيح النسبة إلى الرسول رغم صحة سنده، نظرا لاستحالة أن يرد عن الرسول متن خاطئ.
    نص التعقيب..
    مقتضى هذا سلخ شطر الدين، وإسقاط آلاف الأحاديث التي صحت سندا، ولم يحالفها الحظ في إصابة رضا العقل، ولازمه إسقاط حجة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم التي قامت على قدر ضروري من النصوص الحديثية؛ تلقاها عنه الذين عاصروه ومن تلاهم من سائر القرون والأجيال المسلمة بالقبول رواية ونقدا، فأنا أتساءل: ما الذي تميزت به (عقول المتأخرين) حتى استحقت هذا التميز، بحيث أعجزت تلك المتون الصحيحة سندا (عقول العلماء المتقدمين)؟ وكان لزاما على كل مسلم مكلف أن ينتظر تقريرات العقل المعاصر كيف يفرق بين ما يجب العمل به وما لا يجب العمل به من التشريع!!
    تعقيبي..
    مادام الحديث لا يصح إلا إذا صح متنا وسندا، ومادم البحث في المتن وفق قواعد وتثبُّت جديدة – إذا كانت قواعد صحيحة – أمرا ضروريا، فلا توجد أي مشكلة في سقوط تلك الآلاف من الأحاديث التي تتحدثون عنها، لأنها في مثل هذه الحالة، لم تكن من الدين أصلا، وأننا فطنا إلى أنها لم تكن من الدين بموجب مستوياتنا العلمية والمعرفية الراهنة التي افتقر إليها القدماء.
    ترى هل الأحاديث التي ضعفها الألباني من صحيحي مسلم والبخاري ومن غيرهما من كتب الحديث الصحيحة، هي شطر من الدين سلخ منه زورا وبهتانا وافتراء، أم أنها لم تكن دينا في الأساس؟! على الأقل من وجهة نظر من تبنوا رأي الأباني فيها، هذا إذا صحت تضعيفات الألباني بطبيعة الحال.
    ولا يصح أن يُحتج هنا بالقول بأن تلك النصوص محدودة العدد وقليلة ولا تؤثر في جوهر الدين. فمثل هذا القول ليس علميا ولا منطقيا. فالمبدأ واحد.
    وإذا كان من حقنا في كل زمان ومكان أن نكتشف من العلوم والمعارف ما يساعدنا على إعادة النظر فيما نرى أن إعادة النظر فيه مطلوبة، فلن تكون العبرة عندئذ في كون هذا الذي نفعله يكون حقا إذا توقف عند حد إسقاط مجموعة من النصوص يرى البعض ألا أهمية لها، وأنه يغدو خطرا وباطلا إذا رأى هذا البعض أن فيه مساسا بما أسميتموه "شطر الدين"!!
    من جهة أخرى هل يحتج على طبيب توصل إلى علاج حقيقي لمرض كان يعالج خطأً من قبلِ مئات الأطباء غيره، بهؤلاء الأطباء، من خلال ادعاء عدم جواز أن يكونوا جميعا مخطئين؟! أم أن العلم له قواعده، والحجِّيَّة والاستدلال لهما أصولهما ومنابعهما وطرائقهما؟!
    وبالتالي، فالأبعاد المكانية الثلاثة في "الفيزياء الكلاسيكية" التي أرسى دعائمها "إسحاق نيوتن"، والتي تبعه فيها عشرات الآلاف من العلماء والفيزيائيين الذين قامت على أكتافهم النهضة العلمية في أوربا عشية انقضاء القرون الوسطى، واستمرت حتى بدايات القرن العشرين، ليست حُجَّة على البعد الزماني الرابع الذي اكتشفه "ألبرت أينشتاين" للحركة، فوسع آفاق الفيزياء بشكل غير مسبوق!!
    لا أـحد قال لأينشتاين أنت خالفت كل قواعد الفيزياء الكلاسيكية، وتطاولت على عظمة من سبقوك في علوم الطبيعة. بل عندما تأكد الجميع من صحة نسبيته في المجال الذي قدرت على تغطيته، ولمسوا نتائجها الدقيقة القاطعة، تم تحييد الفيزياء الكلاسيكية النيوتنية، ومنعها من التدخل في حركة الأجرام وقياس الأبعاد الفضائية وسرعة الضوء.. إلخ، بعد أن ثبت أن كل قواعدها لا تصلح على هذا الفضاء الكوني الجديد، وتم الاكتفاء بتطبيقاتها في المجالات المكانية ثلاثية الأبعاد فقط.
    فلا نيوتن اتهم بالغباء والتخلف لأنه لم يكن قد توصل للزمن بعدا رابعا لحركة المادة، ولا من كانوا على نظريته اتهموا بذلك، ولا أينشتاين ومن اتبع علمه اتهم بالتطاول والتعدي وتجاوز أهل العلم والاختصاص!!
    وهكذا هي كل العلوم. ولا تخرج عنه علوم التاريخ بكل أشكالها.
    تعقيب 17.. على عبارة..
    ونوضح أيضا، أننا عندما نقول أن المتن يسقط إذا عارض العقل أو التجربة أو القرآن أو أياًّ من الأنساق المعرفية المعتمدة لكل من العقل والتجربة، فإننا لا نزعم أن السابقين وهم يدرسون المتن لم يقولوا بذلك
    نص التعقيب..
    فمن قال بذلك منهم، وجعل (العقل والتجربة) مرجع طعنه في صحة المتن الصحيح سندا، وسلم له ذلك بحيث تلبس بالمشروعية، وصار قابلا لأن يعمل المكلف بمقتضاه؟ خذ مثلا أخبار (خروج الدجال) و(خروج يأجوج ومأجوج) وهي أخبار عما سيقع مستقبلا، وسيأتي حديثك عنها.. هل طعن في صحتها أحد من العلماء المتقدمين استنادا إلى (تقريرات العقل والتجربة، أو المقياس القرآن)، ثم اعتبر طعنه بحيث لم يبق للعمل بمقتضاها أثر في تصورات المسلمين ولا في سلوكهم؟؟ أم لا يزال المسلمون خاصتهم وعامتهم يقرؤون سورة الكهف ليلة الجمعة من كل أسبوع (لأنها عاصمة من فتنة الدجال) يقينا؟؟؟
    تعقيبي..
    إن تعقيبكم على ذلك النحو يلزمنا بأن نتحدث عن "نسقية الوحي" وما الذي نعنيه بها، وكيف يقوم الوحي بإنتاج المعرفة في إطار نسقيته. مع إحالتنا لكم إلى كتابنا "تجديد فهم الإسلام" للاستزادة أن شئتم. فالموضوعات هناك في الكتاب أكثر ترابطا، بحيث أنكم لو قرأتم الكتاب بالتسلسل من أوله لآخره سوف تجدون الإجابات على الكثير من التساؤلات التي تفرضها الموضوعات المجتزأة التي ترد في سياق إجابة على أسئلة أو تعقيب على تعقيبات.. إلخ.
    إن ملاحظة سريعة نلقيها على طبيعة الواقع الموضوعي الذي يمتلك العقل القدرة على معرفته وتكوين فكرة واضحة وقطعية عنه، تطلعنا على أنه الواقع الذي لا يمكن إخضاعه للحواس بالمعنى الواسع للحواس، وهو المعنى الذي يكافئ التجربة. بل إننا نجد أن التجربة ذاتها تستعين بأفكارنا العقلية عن ذلك الواقع أثناء ممارستها لدورها في الكشف عن المعرفة القادرة هي على كشفها. فقضية أن لكل حادث سببا، أو أن التناقض بمفهوم معين مستحيل، أو قضايا الرياضيات البسيطة والمركبة، أو معرفة الله ذاتا وصفة وفعلا، مع ما يقتضيه كل ذلك، وغيرها من القضايا الشبيهة ليست قضايا يمكن إخضاعها للتجربة "الحواس"، فهي ثابتة بذاتها في العقل فقط.
    أما الواقع الموضوعي الذي عجز العقل عن معرفته أو تكوين فكرة واضحة وقاطعة عنه، مُدْخِلاً إياه في دوائر مُمْكِنَاِته، فهو الواقع الذي يمكننا إخضاعه للتجربة "الحواس" إخضاعا تاما. فالعقل لا يملك بخصوص كروية الأرض عندما يُطْرح عليه السؤال بشأنها سوى القول بأنها ممكنة. كما أنه لا يملك بخصوص وجود أو عدم وجود النُّوَى في كريات الدم الحمراء لدى الإنسان سوى القول بأن الأمرين ممكنان وجائزان. أما الذي يَبُتُّ فيُكَوِّن الفكرة المطابقة للواقع، فإنما هو التجربة والتجربة وحدها. وتندرج تحت هذا العنوان كافة قضايا الطبيعة وتفاصيل الوجود التي يمكن للإنسان أن يسيطر عليها ويعرفها من ثم بوسائله المخبرية التجريبية بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.
    وهكذا يتضح لنا أن كلا من العقل والتجربة قد غطّيَا كافة حقول المعرفة، وبالتالي فكل واقع موضوعي لم تتم معرفته بالعقل فإن معرفته تتم بالتجربة.. هل يعني هذا أنه لم يبق هناك متسع لغيرهما؟ في واقع الأمر نعم، ليس الإنسان في حاجة من حيث المبدأ إلى غير العقل والتجربة نظرا لقدرتهما بحكم طبائع الأمور على تغطية كامل الوجود معرفيا. إن انتفاء هذه الحاجة واضح في ضوء الدور المعرفي الذي يلعبانه والمساحة المعرفية التي يغطيانها. وإذن فما هو دور الوحي الذي نجد له حضورا ملحا ويحاصرنا من كل جانب، وما الذي جاء ليغطيه من حيث المبدأ إذا لم تكن الحاجة إليه قائمة عبر استغناء العقل والتجربة عما سواهما معرفيا؟
    في حقيقة الأمر فإن دور الوحي في المعرفة هو دور نَسقِي، ونقصد بهذا المصطلح أن الوحي ليس له دور مستقل وقائم بذاته في المعرفة، مادامت المعرفة من حيث المبدأ في غير حاجة إليه، وأن دوره مرتبط بدور كل من العقل والتجربة، وذلك من خلال أنساق محددة تربط دوره بدوريهما. إن الوحي بهذا المعنى لا يخلق معرفة لم يخلقها غيره أو لن يخلقها غيره، ولا يُكَوِّن أفكارا عن الواقع الموضوعي لم أو لن يكونها غيره، خلافا لكلٍّ من العقل والتجربة الخالقين للمعارف بكل ما لهذه الكلمة من معاني. إن الوحي يقوم بدور النابض الذي يُنَبِّه والبنَّاء الذي يرمم. ولكن كيف ذلك وما معناه؟
    دعونا نشرح بهدوء و تؤدة المعنى العميق لمفهوم نَسَقِيًّة الوحي..
    إن قولنا بأسبقية العقل في المعرفة على ما سواه، لا يعني أن كل ما كان العلم به عقليا فهو واضح لدى العقل بتمامه وكماله منذ لحظات الوعي الإنساني الأولى الموغلة في القدم. وإلاَّ لفقد تاريخ الوعي معناه. بل إن ما نعنيه بذلك أن الإنسان وفي كل مستوى من مستويات وعيه المتحقق عبر تاريخ هذا الوعي، ينطلق من مخزونه المعرفي العقلي المتاح ليتعامل مع الواقع الموضوعي المحيط به من خلال ذلك المخزون. وهذا المخزون يتنامى باستمرار. إن كفاءة الإنسان ونضجه الفعليين في استخدام ذلك المخزون العقلي مرهونان بالنمو الحاصل فيه، وإن هذا النمو مرهون بدوره بتنامي وعي الإنسان بمحيطه في جانبه الحسي المباشر، وذلك بسبب تلك العلاقة الجدلية الخاصة القائمة في الأساس بين تنامي المعارف العقلية وتنامي المعارف التجريبية، من حيث أن كلا منهما تؤثر في الأخرى وتتأثر بها.
    فالإنسان إذ ينطلق مما لديه من معارف عقلية متاحة ومُتَوَصَّلٍ إليها في مرحلة ما، فإنه يوسع في دائرة معرفته بواقعه الحسي. وكلما اتسعت دائرة وعيه بذلك الواقع، كلما عاد ذلك بالتوسع على دائرة معارفه العقلية التي تستمر عبر هذه الثنائية الجدلية في التأثير على الواقع والتأثر به. المعارف الإنسانية تنمو إذن من خلال هذا التلامس الحاصل بين دائرتي المعارف العقلية والتجريبية. وبالتالي فكلما كانت مقدرة العقل المعرفية بموجب مستوى وعي الإنسان متدنية، أي كلما كانت مقدرة الإنسان المعرفية التجريبية متدنية أيضا بموجب ذلك المستوى ذاته، كلما اتسعت دائرة المعارف التي يتم اللجوء في كشفها وفهمها وتغطيتها إلى المصدر الثالث والمفارق الذي هو "الوحي". والعكس بالعكس، فكلما تقدم العقل وكلما تقدمت التجربة وتنامت من ثم هيمنتهما على المعرفة، كلما تقلص الدور المعرفي لذلك المصدر المفارق.
    إن هذا يعني أن ذلك المصدر – أي الوحي – لم يكن دوره يتمثل من حيث المبدأ في تغطية مساحة معرفية ما كان إلا ليغطيَها، نظرا لعدم الاستغناء الجوهري عنه في ذلك، مهما كان مستوى المعرفة العقلية الحاصل ومهما كان مستوى المعرفة التجريبية المتحقق. بل إن دوره لم يكن يتجاوز فقط تغطية مساحات معرفية تستطيع المعرفة العقلية وتستطيع المعرفة التجريبية أن تغطياها تغطية فعلية في مستويات لاحقة ومتقدمة من كفاءتهما ونضجهما. في حين أنهما لم تكونا قادرتين على هذه التغطية في مراحل سابقة بموجب مستوى الوعي المتحقق.
    فالتغطية المعرفية للوحي هي إذن استجابة مؤقتة، كما أن مهمته هي مهمة مرحلية. إنه بتعبير آخر يتحرك فقط ضمن منطقة فراغ معرفية، بدأت مع بواكير الوعي الإنساني كبيرة ثم راحت تتقلص تدريجيا، في علاقة عكسية متنامية الوتيرة مع نمو ذلك الوعي وتطوره في التاريخ، إلى أن تزول الحاجة إليه زوالاً تاما في مجال المعرفة، لأن الوجود مركب في نهاية الأمر ليكون أداة طَيِّعَة – من حيث معرفته والعلم به – بين يدي العقل والتجربة وهما يخوضان مغامرة الوعي والمعرفة في ضوء العلاقة الجدلية وعلاقة الملامسة التي أشرنا إليها فيما بينهما لتنمية المعرفة بالواقع الموضوعي.
    نلاحظ إذن أن هناك معادلة أصيلة وجوهرية تحكم عملية المعرفة في هذا الوجود، تحدث في مستويين، الأول جدلي تلامسي بين مصدريها الأساسيين والأصيلين "العقل" و"التجربة"، بحيث تنمو المعارف باضطراد من خلال هذا المستوى، مُنَمِّيَةً بالتالي دور وفاعلية كل مصدر منهما. والثاني تنافري إزاحي بين مصدرها العقلي التجريبي الأصيل من جهة أولى، ومصدرها الوحيوي الدخيل والمفارق من جهة ثانية، تتمثل طبيعته في تكامل الأول على حساب تلاشي وتضاؤل الثاني. وإنَّ كل تمدد في الطرف الأول من المعادلة ينعكس على الفور على شكل تقلصٍ في الطرف الثاني منها، أي في الوحي الذي يتأكد لنا باستمرار ومن خلال القراءة التاريخية لتطوره أنه لم يكن يحدد لنفسه دورا خارج نطاق الاستجابة المؤقتة والمرحلية لتغطية منطقة فراغ راحت تتقلص مساحتها باستمرار.
    قد يتصور البعض أن الوحي إذا كانت هذه هي مهمته – أي تغطية منطقة فراغ – فيجب أن يستمر دوره وأن لا تزول الحاجة إليه. فمادام الإنسان ينمو بوعيه باستمرار، فهذا يعني أن هناك نقصا دائما وأبديا لديه، وبالتالي فمنطقة الفراغ قائمة وستبقى مرافقة له، وهو الأمر الذي يقضي بمرافقة الوحي للإنسان دوما.. إن هذا التصور راجع في الواقع إلى عدم اتضاح مفهوم منطقة الفراغ التي ما جاء الوحي عندما جاء إلا ليغطيها.
    إن المعارف التي تتولى مصادر المعرفة الكشف عنها في هذا الوجود لا يتم النظر إليها بصفتها كتلة محددة وثابتة بدأت حصة العقل والتجربة فيها صغيرة ثم راحت تكبر وتتسع، فيما بدأت حصة الوحي فيها كبيرة ثم راحت تصغر، بشكل يعني أن محصلة المعارف في كل مرحلة هي تلك الكتلة المحددة بمجموعها الذي لم يتغير فيه سوى نصيب المصادر وتوزيع المعارف عليها من الناحية الكمية.
    إن هذا التَّسْطِيح – وهو ما يعنيه قطعا التصور السابق لمنطقة الفراغ – أبعد ما يكون عن الواقع وعن الحقيقة. فلو كان الأمر كذلك لعرف الإنسان كل شيء منذ أول وحي ولانتهى الأمر، بل لما كان هناك من معنى لتنامي معارفه العقلية والتجريبية أساسا، وبالتالي لما كان هناك من معنى للقول بمنطقة الفراغ من حيث المبدأ. بل لما كان هناك من داعٍ لأن يردنا وحي ثانٍ بعد أول وحي. ناهيك عن أن المعارف التي ينمو وعي الإنسان بتناميها هي في المحصلة غير محدودة ولا نهائية، ولا يمكن أن يغطيها مصدر ولا أن يلم بها غير الله. وبالتالي فلم يكن من شأن الوحي أن يغطي منطقة فراغ بهذا المعنى لمنطقة الفراغ.
    في كل مرة كان ينمو فيها وعي الإنسان، كانت تزداد معارفه وينعكس ذلك بالتالي على واقعه ومحيطه تغييرا وتطويرا. ورغم أن منعطفاتٍ مِفْصَلِيَّةً كثيرة مرت بحياة الإنسان كتجاوبٍ مع تنامي وعيه، إلاَّ أن منعطفا واحدا فقط من بين كل تلك المنعطفات هو الذي مثل انقلابا في كل موازين التفكير لديه، حيث كان إرهاصا حقيقيا ببدء أفول نجم الوحي وأهميته المعرفية في حياة الإنسان.
    إن الإنسان عاش حِقَبًا طويلة من تاريخه تحت وطأة تصور مفاده أن ما لا يعيه بعقله أو بتجاربه المُتَاحَيْن فهو خاضع في تفسيره لقوى فوق عقلية وفوق تجريبية تنزع إلى جعله يخضع لهيمنة الأسطورة على حياته بكل أداءاتها المُتَصَوَّرَة معرفيا ومجتمعيا. لقد كانت تتقلص دوائر هيمنة الأسطورة على حياة الإنسان كلما اتسعت دوائر العقل والتجربة، لكنها بقيت هي الملجأ المعرفي عندما يقف عقل الإنسان وعندما تعجز تصوراته التجريبية عن الفهم.
    هنا كان يأتي دور الوحي. إن منطقة الفراغ التي كان يغطيها دائما هي منطقة الأسطورة. إن الدائرة المعرفية التي كانت تفرض نفسها على الإنسان في كل مرحلة من مراحل وعيه كانت تُحْسَم لديه بما توصل إليه من معارف عقلية وأخرى تجريبية، بينما تتم تغطية الباقي بالأسطورة. والوحي كان يتدخل عندما يتدخل ليخفف من وطأة الأسطورة ومن وقعها على الإنسان في جميع نواحي حياته بما في ذلك ما ارتبط منها بالبُنَى والتنظيمات المجتمعية، أو على الأقل ليدفع باتجاه التخفيف من وطأتها، بِحِكْمَة بالغة.
    وبالتالي فقد كان من الممكن القول بديمومة الحاجة إلى الوحي كمصدر معرفي، في حالة ديمومة النسق الأسطوري في المعرفة كمالئٍ للفراغ الذي يعجز عنه العقل والذي تعجز عنه التجربة في مراحل معينة من تاريخ تناميهما المعرفي.
    ولكن ما حدث في تاريخ الوعي – وهو الذي ما كان إلاَّ ليحدث من خلال تطور كفاءة العقل والتجربة ومن خلال دور الوحي ذاته – أَنْ تَحَرَّرَ الوعي من "النسق الأسطوري" في المعرفة. بمعنى أن الوعي وصل إلى المرحلة التي أدرك فيها أن ما لا يعرفه بعقله وما لا يعرفه بتجاربه لا يمكنه أن يعرفه بغيرهما، وأن عجزه المرحلي هو عجز وسائل وليس عجزا في جوهر أداة الإدراك والمعرفة ذاتها.
    وهكذا لم يعد الإنسان يملأ منطقة الفراغ المفروضة عليه بالأساطير، بل بالبحث والتحري والتفكير والافتراضات العلمية التي يُخْضِعُهَا لتجاربه ومختبراته، إلى أن يتوصل إلى الحقيقة ليملأها بالتالي - أي منطقة الفراغ - بالحقيقة ذاتها.
    وإذن فمادام العقل ومادامت التجربة قد وصلا إلى مرحلة من تاريخ الوعي لم يعودا فيها عاجزين عن فهم دورهما المعرفي على حقيقته، بما يعنيه هذا الدور من اكتمال التصور بهيمنتهما على معرفة الواقع الموضوعي كله، فعلام الوحي إذن؟ وما الذي سيفعله؟ وأين هي منطقة الفراغ التي سوف يغطيها؟ وإلى ماذا سيستجيب في حياة الإنسان؟
    إن الوحي كان يتعامل مع إنسان تحكمه مستويات معرفية عقلية وتجريبية محددة في البعد التاريخي. ولهذا فهو لم يكن يقوم فقط بمهمة الاستجابة للمطلب الإنساني ليغطي منطقة الفراغ المعرفي بعشوائية وبدون دراية أو حكمة. بل هو كان يحرص من خلال استجابته للمطلب الإنساني التاريخي على عدم التصادم مع مستوى العقل والتجربة كما كانا يفرضان نفسيهما لحظة حضوره، كي لا يُحْرَمَ من القدرة على أداء الدور المنوط به معرفيا.
    بكلمة أخرى، فإن مستوىً عقليا وتجريبيا معينا في تاريخ المعرفة، إذا كان غير قادر على بلورة رُؤى وحلول وتفسيرات لظواهر وإجابات على تساؤلاتٍ مَّا كانت تفرض نفسها على وعيه وإدراكه – أي على وعي وإدراك الإنسان في ذلك المستوى المعرفي – فإن الإنسان كان يلجأ إلى اللاعقل وإلى اللاتجربة، أي إلى الأسطورة لتغطية منطقة الفراغ التي تُثاَرُ بشأنها تساؤلاته التي عجز عقله والتي عجزت تجاربه عن الظفر بحلول لها.
    إن هذه العلاقة الخاصة بين الإنسان وبين منطقة الفراغ المعرفي التي كانت تفرض نفسَها عليه في كل مراحل تاريخه، بسبب تقدم أسئلته دائما عن مستوى وسائل وأدوات إجاباته عليها، فيلجأ في تغطيتها إلى الأسطورة، فرضت على المصدر المعرفي المفارق "الوحي"، دورا بالغ الحساسية ومهمة دقيقة للغاية – مَثَّلَث على الدوام عنصرا من عناصر طبيعته الجوهرية – لتحقيق هدفه المنوط به في الأساس والمتمثل في توجيه مسيرة العقل الإنساني نحو الاستغناء عما سواه، بما في ذلك الاستغناء حتى عن الوحي ذاته. (كما تبين لنا في فصل "النبوة" من كتاب تجديد فهم الإسلام، فليراجع).
    إن هذه الطبيعة الجوهرية الكامنة في كيفية قيام المصدر الثالث المفارق بمهمته المعرفية في مجاورةِ عقلٍ وتجربةٍ يتناميان باستمرار، جعلت عملية الإزاحة التي يمارسها وعي الإنسان في حق المعارف الوحيوية، تتخذ لأسباب تاريخية ليس هنا مجال بحثها والخوض في تفاصيلها، أشكالا درامية من الصراع والتناحر بين تيارات معرفية متنافرة، تخفي وراء صراعها الدامي في حقيقة الأمر أشكالا عميقة من الولاءات لبُنَى مجتمعية ولتركيبات مصلحية قائمة، تُعْتَبَر مرجعيتها الأم هي الأسطورة.
    ولأن الوحي مصدر معرفي له علاقة مباشرة بالله، من حيث تدخله به في حياة الإنسان لتحقيق غاية محددة، فلا شك إذن في أن الله – و هو يعلم جيدا طبيعة الإنسان ومستويات وعيه ومتطلبات هذه المستويات من أشكال الاستجابة الوحيوية المطلوبة لتغطية مناطق الفراغ المحيطة بهذا الوعي – قد تعامل معه من خلال الوحي، على أساس ما تم ذكره من أدوار مؤقتة ومهمات مرحلية.
    ولهذا السبب أيضا فقد كان من الطبيعي أن يزخر النسق النبوي للمعرفة – وهو النَّسَق الذي عَبَّرَ عنه الوحي – بما يبدو أحيانا كثيرة منسجماً مع معطيات المعرفة اللاعقلية واللاتجريبية أو متجاوباً معها في بعض جوانبها، والتي أشرنا إليها بالأسطورة، وبِما كان ينبثق عنها في الواقع الاجتماعي من بُنىً طبقية مرتكزة إلى مصالح وامتيازات تُقسم الناس عادة إلى مُسْتَعْبِدين و مُسْتَعْبَدين، أو إلى ملوك وسليلي آلهة من جهة، وبشر عاديين خُلِقوا لخدمة هؤلاء الأنقياء من ذوي السلالات السماوية من جهة أخرى، دون أن يخطر على بال أحد أن هذا الشكل من أشكال التجاوب والانسجام الظاهريين مع اللاَّعقل ومع اللاَّتجربة، هو في الواقع من مُخَلَّفات الأنساق المعرفية الأسطورية التي كان الوحي يحاول إزاحتها من طريق العقل الإنساني خلال مسيرة تغطيته لمناطق الفراغ المعرفي.
    إن هذه الظاهرة جعلت المعطيات المعرفية الوحيوية التي من هذا القبيل، تبدو في مراحل لاحقة من تطور العقل والتجربة متعارضة مع معارفهما ذاتها وهي تتحرر تدريجيا من "النسق الأسطوري الطبقي". وهو الأمر الذي جعل الإنسان بدل أن يقف إجلالاً وإكباراً للوحي الذي عامله وهو يحاول تطويره، بمنتهى الواقعية، يحمل معاول التنكر له ولوظيفته العظيمة في التاريخ، مُتَّهِما إياه بأنه غير علمي وغير عقلاني. وكأنه يريد من الأب كي يكون أبا حقيقيا أن يشنِّف آذان طفله الرضيع بإلياذة هوميروس بدل إبهاجه واستدراج فرحته وسعادته بأصوات الألعاب الطفولية الرقيقة الناعمة، أو أن يروي له بعد أن أصبح في الخامسة من عمره رواية الجريمة والعقاب لـ "دايستوافيسكي" بدل إلهاب خياله البريء السابح في الغموض، بقصص العجائب والغرائب ومغامرات الأبطال الرائعين الذين أنقذوا الأطفال من الغيلان ومن طيور الرخ الضخمة ومن كل العناقى (جمع عنقاء).
    تُرَى هل كان الأمر سيستقيم بالنسبة للأب إن هو فعل ذلك كي يربي طفله ويعلمه وينمي معارفه ومداركه وهو في أمس الحاجة إلى تدخله المؤثر في حياته؟ إن الإنسان المعاصر – المادي تحديدا - وهو يتنكر للوحي للأسباب التي ذكرناها، ليس أكثر من ولد عاق هاله ما رآه في حياته الواعية الراشدة من أمور تختلف عن بعض ما علمه إياه أبوه في صغره. ولأن وعيه ورشده لم يساعداه على فهم السر الكامن وراء الأسلوب الذي اتبعه معه أبوه في طفولته، فقد حمل لواء العقوق والتمرد والتنكر، ظنا منه أن هذا هو ما يتطلبه واقع رشده ووعيه كي يكون منسجما معه.. فيا لحماقته!
    ولقد ظهر جَلِياًّ من خلال تعامل الوحي الأخير مع البشر، كما ورد على لسان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في أكثر من موقع، أن هذا النهجَ أصيلٌ في مهمة النبوات عموما. فهناك مواقف ألمَح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى أن ما حال بينه وبين فعلِ شيء معين، أو دونَه والأمرَ بأمرٍ محدد، هو علمه بأن قومه "كانوا حديثي عهدٍ بجاهلية"، وهو ما يعني أن أخذَ تأثيراتِ المعطيات الأسطورية وتداعياتها المعرفية على الصعيدين العقلي المجرد والاجتماعي بعين الاعتبار، كان حاضرا أثناء التنزيل وخلال كل مراحل التشريع ومناسبات إيراد الأخبار وإصدار الأحكام.
    ومن ذلك مثلاً رغبته عليه الصلاة والسلام – التي كتمها في نفسه ولم يَبُحْ بها إلاَّ لقلة مُقَرَّبَة من أصحابه أدرك أنها الأقدر على فهمه واستيعابه من بين كل المسلمين – بهدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام، في إشارة تعبق بالرمزية، إلى أن أُمَّتَه رغم اختتام مسيرة الوحي السماوي بها وفيها، ما تزال بعيدة عن جوهر النهج الإبراهيمي في صِيَغِه الكاملة والتامة.
    ناهيك عما كان يرد على لسان عائشة أم المؤمنين – وهي الأقرب إلى النبي عليه الصلاة والسلام – في معرض تعقيبها على بعض الأحكام التي راحت مع مرور الوقت تبدو غريبة لبعض المسلمين من ذوي البصيرة الشفافة، من أن الكثير من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ربما ما كانوا ليلتزموا بتشريعٍ معينٍ لو جاء على نحوٍ مُحددٍ من الجذرية والخروج عن نواميس العرب التقليدية المعهودة خروجا تاما. ولا نعتقد أن أم المؤمنين كانت لتتفَوَّهَ بشيء من ذلك، لو لم تكن قد فهمت من رسول الله أفكاراً من هذا القبيل.
    إن إنصاف هذا المصدر المعرفي العظيم "الوحي"، بعد أن عرفنا حقيقة دوره إلى جانب دور كل من العقل والتجربة، يقودنا إلى ضرورة فهمه وفهم معارفه المُعْلَنَة، أو بكلمة أخرى إلى ضرورة فهم الكيفية التي قام من خلالها بملء مناطق الفراغ المتساءَل عنها من قِبَلِ الإنسان عبر التاريخ، عندما كان هذا الأخير يعجز عن تغطيتها بعقله وبتجاربه.
    إن الوحي في واقع الأمر عبأ منطقة الفراغ المعرفية التي نتحدث عنها عبر لجوئه إلى نسقين فرعيين هما.. "النَّسَق الموضوعي" و"النَّسَق اللاَّموضوعي". أما النَّسَق الموضوعي فهو النسق الذي من خلاله عرضَ الوحي معارفَ عقلية وتجريبية حقيقية، وإن لم تكن مِماَّ توصلت إليه مدارك الإنسان بعد. إن هذا العرض الوحيوي قام إماَّ بسبب التساؤل من قبل الإنسان عن أشياء محددة كانت تحيِّره، وإماَّ بسبب التبرع المعلوماتي من قبل الوحي لأغراض متنوعة. كما أن العرض جاء موضوعيا متوافقا مع ما سوف تؤدي إليه التجارب أو مع ما سوف يتوصل إليه العقل، وغير غارق في الأسطورية، بسبب عدم اندراج الموضوع مَحل العرض تحت عنوانٍ من العناوين التي قد يثير عرضُها بهذه الصورة بلبلةً لدى المُتَلَقين، بسبب إمكان تعارض صورةِ العرضِ تلك مع مستويات الوعي الإنساني المتحققة لحظة نزول الوحي، والتي تكون مُفْعَمَة بالنَّفَسِ الأسطوري عادةً.
    إن الموضوعات المعرفية محل هذا العرض هي بتعبير آخر تلك التي لم يقم الإنسان عادة بتغطيتها من خارج عقله وتجاربه بالأساطير أو بتداعياتها الطبقية على الصعبد الاجتماعي، أو هي تلك الموضوعات التي وإن غطتها لدى الإنسان نزعات معرفية ذات طبيعة أسطورية أو طبقية، فإنها لم تكن في حياته من العمق والخطورة، بحيث لم يكن مما يُخْشَى منه أن تتعارض خلخلتها أو زعزعتها مع الغرض العام والغاية المرجوة من تدخل الوحي في حياة الإنسان في الأساس.
    ولا يمكننا في هذا المقام أن نستدرك على الله ونناقشه فنحدد له ما يعتبر مناسبا التدخل فيه بالوحي من خلال نسق ماَّ مما لا يعتبر كذلك، فلن نكون أكثر منه إطلالاً على الوجود وعلى الحياة ولا حتى على ماضينا كيف كان، وماذا كان يتطلب من أشكال تدخلٍ وَحْيَوِيَّة من قِبَلِه. إن الله أوسع منا رؤية وأكثر منا علما وأدق منا قراءة للواقع الإنساني ودراية بالنفس الإنسانية وبالوعي ومتطلباته في كل لحظة من تاريخ البشر، وهو في كل ذلك أكثر تجردا وحيادا.
    إن أي شخص يريد أن يفهم بمنتهى الموضوعية ما الذي كان يفعله الله بالضبط عندما كان يتدخل بوحيه عموما، فإن عليه تَخَيُّلَ نفسه ابن الزمن الذي تدخل الله فيه بالوحي ليعرف من ثم مدى تأثير الوحي في حل مشكلاته المعرفية وهو – أي الوحي – يتعامل معها، وليحرص على عدم الوقوع في مطب وَهْمِه أنه يفعل ذلك بينما هو يفكر بعقل ابن القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد.
    أما النسق اللاَّموضوعي الذي قام الوحي من خلاله بتغطية مناطق الفراغ المعرفي، فهو في الواقع نسق غير عقلي وغير تجريبي. أي أن وعي الإنسان في مراحل متقدمة من ظهور هذا النسق الوحيوي في حياته سيكتشف أنه نسق غطى مساحة تساؤلاته بطريقة تتعارض مع مقررات العقل ومع مؤديات التجارب التي توصل إليها. وهذا النوع من الأنساق الوحيوية هو الذي يثير ذلك القدر من المعضلات المعرفية التي يمكن أن تًعْزَى إليها عبر التاريخ الفلسفي للإنسان كل العثرات التي وقع فيها أولئك الذين لم يتمكنوا من الخروج من المأزق وهم يحاولون التوفيق بين العقل والوحي وفهم دور كل منهما في صناعة الوعي الإنساني.
    إن أنصار الوحي وإن كانوا يُجْهِدون أنفسَهم في البحث في نصوصهم ومنقولاتهم عما يثبتون به النَّسَق الموضوعي في التغطية الوحيوية للمعرفة، لما في ذلك من انتصارٍ لهم ولوحيويتهم، وهذا ما يُعرف لدي "القرآنيين" خاصةً بالإعجاز العلمي في القرآن، فإنهم تحت تأثير هذا النهج يلجأون إلى البحث عن تخريجات مَمجوجة للنصوص وللمنقولات التي تغطي المعرفة من خلال النسق اللاَّموضوعي، وذلك حفاظا منهم - حسب ظنهم - على تماسك وتوازن النص والمنقول في مواجهة أعدائه ومنكريه الذين يقفون مطولاً عند الأنساق اللاَّموضوعية فيه لإثبات أسطوريته، ومن ثم عدم صحته، وذلك بتعارضه – من وجهة نظرهم – مع حقائق العقل والعلم. وهؤلاء يقفون من ثم موقف المتشكك واللامبالي من تلك المعارف التي تمت تغطيتها موضوعيا في زمن لم يكن مستوى المعرفة الإنسانية يشير إلى إمكان أن يعلم بها الإنسان.
    إن النتيجة هي أن كل واحد من الطرفين إنما لجأ في نهاية الأمر إلى اللاَّعقلانية كي يحاول النجاة بلاعقلانية موقفه من الانهيار. فالوحيويون الذين تغمرهم السعادة عندما يرون في الوحي نصوصا موضوعية أكبر من طاقة الإنسان المعرفية لحظة حضوره – بما يعزز لديهم الاعتقاد بلابشريتها – تستغرقهم اللاَّعقلانية مُجددا وهم يحاولون إنقاذ الأنساق اللاَّموضوعية، ماداموا يجهلون حقيقة ما كان يحدث أثناء نزول الوحي.
    ومنكرو الوحي الذين تغمرهم النشوة وهم يرون في الوحي نصوصا غير موضوعية وأسطورية تخدم فلسفتهم في اعتباره لا إلهيا ولا سماويا، ومجرد هلوساتٍ بشرية أفرزها الخوف والجهل وأفرزتها المصالح السائدة، يغرقون في بحور أشد إظلاما من اللاَّعقلانية من سابقيهم وهم يحاولون تفسير الأنساق الموضوعية غير مفهومةِ التوقيت بالنسبة لهم، بتصورات أكثر استهتارا بالعقول من أساطير الوحي بعقولهم، وذلك من خلال نسبة قوى وإمكانات خارقة إلى من يسمونهم واضعي النصوص، أي الأنبياء عند من يؤمنون بالنبوات.
    والخلاصة أنه لا فرق بين من يحاول تفسير نصٍّ لا موضوعي من نصوص الوحي بمستويات القرن العشرين المعرفية، وبين ذلك الذي يحاول تفسير نص موضوعي من نصوصه بمستويات القرن الخامس بعد الميلاد المعرفية، إذا كان الأول يريد إثبات الوحي فيما يريد الثاني إنكاره، لأن كليهما سيلجآن إلى اللاعقلانية حتما. فلا مستوياتنا المعرفية بمعناها المباشر قادرة على فهم اللعبة المعرفية وراء ورود نص أسطوري من نصوص وحيٍ مثل القرآن، ولا هي قادرة على تفسيرها. ولا مستويات المعرفة قبل أكثر من ألف سنة قادرة على فهم وتفسير نصوص تتحدث عن أصل الكون وعن أعماق البحار وعن مراحل تطور الجنين وعن طبقات الأرض بصورة تبدو غريبة في دقتها. إن المسألة كلها لا تُفهم إلاَّ في السياق المعرفي الذي يحدد للوحي دوره الحقيقي وكيفية أدائه لهذا الدور من ثم.
    إن الوحي من خلال دوره ومهمته ليس مَعْنِياًّ بأن يكون متطابقا مع معطيات العقل والتجربة كما ستتحقق هذه المعطيات في عصور لاحقة على حضوره، فلا هذا هو دوره ولا هذه هي مهمته في الأساس. وما كان ليكون متعارضا معها دوما أيضا. إن الوحي مَعْنِيٌّ بالدرجة الأولى بأن يكون منسجما تمام الانسجام مع العقل والتجربة كما يكون عليه حالهما لحظة تدخله، أما حالهما فيما بعد تدخله، فإن الذي يحدد ما يجب أن تكون عليه المسافة المعرفية بينه وبينهما إنما هو دور الوحي، هذا الدور التكميلي الدافع والمنظم والضابط والمُرَمِّم للواقع بحكمة بالغة وبإيجابية اقتضتها المصلحة في ضوء علاقات وقوانين التطور.
    إن وحيا من النوع الأول، المتطابق دوما مع الحقيقة العلمية والعقلية كما هي لحظة حضوره وكما ستكون عليه فيما بعد حضوره وإلى الأبد، ولو على حساب المستويات المعرفية للبشر وقت تدخله في حياتهم لتوجيهها التوجيه السليم نحو الغاية الكلية من الخلق عبر الوسيلة النبوية، هو وحي لسنا في حاجة إليه، لأنه حري به أن يكون موجها لغير عالم البشر ومُرَبِّياً لغير بني الإنسان، وهو مع ذلك وحي لم تأت به السماء في يوم من الأيام على ما نعلمه من مسيرتها الطويلة، راجين أن نصحح في ذلك إن كنا مخطئين، ولكن بدون إعياء رؤوسنا بأبشع أنواع التأويلات الباعثة على الإحساس بالدوار المعرفي، لذلك فإننا لن نُعْيِي أنفسنا في الحديث عن هذا النوع من الوحي الذي لا يوجد إلا في أدمغة الواهمين.
    أما وحي من النوع الثاني المتعارض دوما مع تلك الحقائق، فهو ليس وحيا إلهيا بل مجموعة من الأكاذيب لفقها كذابون أفاقون ونسبوها إلى الله زورا و بهتانا، ولن تنقذها من كونها كذلك كل محاولات التأويل والتوفيق المصطنعة التي يلجأ إليها المؤمنون بها، والتوراة الموجودة بين أيدينا حاليا هي أوضح دليل على هذا النوع من أنواع النصوص المكذوبة على الله والتي حاول أصحابها على مدار التاريخ تحريرها بمختلف الوسائل والحيل من كمٍّ الكذب الذي يُغَلِّفُها. إلى أن فجعنا عشرات المفسرين والمؤرخين المسلمين باعتمادها مرجعا للتفسير وللتأريخ.
    أما القرآن فيمثل النوع الأول المتوازن الذي أثبت بمجموعة النصوص الموضوعية التي احتواها، أنه وحي انتبه إلى المستقبل، وبمجموعة النصوص الأسطورية التي لم يخلُ منها، أنه لم ينس حقيقة تعامله مع قوم كان من السهل على عقولهم تصديق أن الوثن قد يكون مسكونا بروح تقربهم إلى الله زلفى، أو أن مسحة يد رجل مبارك على وجه امرأة عاقر قد يجعلها تلد بعد أسبوعين فقط.
    إن الوحي بطبيعته إذن يحتوي على هذا وعلى ذاك، على الحقيقة وعلى الأسطورة، على الصرامة وعلى التوفيقية، على المذهبية وعلى التاريخية. فالإنسان لا يمكنه أن يتربى أو أن يتعلم أو أن ينمو إلاَّ من خلال هذه المتناقضات وهي تعمل في جسده وفي نفسه وفي عقله حفرا ونحتا وتجميلا، زحفا به نحو الغاية المرجوة، ألا وهي الرشد والبلوغ والاستغناء عما سوى ذاته، بكل ما تزخر به هذه الذات من قوى وإمكانات مهولة وعظيمة، أولى بالله أن يكون الأكثر علما بها ووعيا بكيفية توظيف الوجود تدريجيا كي يستخرجها من أعماقه، لتؤدي دورها فيه حسبما أراده هو سبحانه منذ اللحظة التي خلق فيها هذا الكون.
    من هنا إذن فإن التعامل مع أي نصوص منقولة ومنسوبة إلى الوحي، بعد أن تكون قد اجتازت امتحان الثبوت السندي، يجب أن يقوم عند ثبوت لا موضوعيتها، على ضوء ثلاثة أنساق عقلية تجريبية فرعية، ولكن من الدرجة الثانية، وهي "النَّسَق الأسطوري" و"النَّسَق اللغوي" و"النَّسق التاريخي". فما هي دلالة معالجة نصوص الوحي غير الموضوعية على ضوء كل واحد من هذه الأنساق؟
    إن الإنسان منذ بواكير وعيه الأولى الموغلة في القدم ولغاية بلوغه سن الرشد الوعيوي واستغنائه عما سوى عقله وتجاربه، وهو ما بدأ يحصل – نسبيا – وما سيحصل كليا في المستقبل، هو شبيه تماما بالإنسان الفرد منذ لحظة ولادته ولغاية بلوغه سن الرشد الموجب لتحمله المسؤولية واستغنائه عن تدخل مربيه ومعلميه في حياته بناءً وتشكيلاً وتوجيهاً.
    ليس من إنسان إلاَّ و يتذكر بكل الفخر والاعتزاز والمحبة والعرفان أحضان جدته الدافئة وهي تدثره كل ليلة بتلك القصص الخيالية عن الأبطال والبطلات الأسطوريين، حاثَّةً خياله البريء على السباحة في المجهول والغريب، وعلى بناء منظومات القيم والأخلاق الحميدة في داخله مع مرور الأيام والسنين.
    ومع أن كل واحد منا يدرك منذ بلوغه سن الرشد أن كل ما حدثته به جدته كان مجرد أساطير وقصص خيالية لا أساس لها في الواقع، إلا أن أيا منا لا يرى مع ذلك أن جدته كانت تكذب عليه أو تسيء إليه، أو أنها كانت تستغل براءته، دافعة به إلى براثن الجهل والتخلف ومعاداة الحقيقة. بل إننا جميعا نرى أن من مقومات توازننا الإنساني وتكاملنا البُنْيَوي جسدا ونفسا وعقلا، ذلك الأثر السحري العجيب لأساطير الجدة العزيزة.
    فتَرانا إذن ندرك – بوعينا المتحقق – أسطورية ما قالته الجدة، ننحني إجلالاً لذكراها، لأنها بأساطيرها تلك عبَّأتنا بالمعاني وبالقيم وبالحِكَم. يكفينا أن نعترف أن الأدباء والرواة الذين يقيمون إنتاجهم ورسالتهم في الحياة على الخيال الذي تأسس لديهم من خلال الأساطير والأحداث غير الواقعية، هم من أكثر الناس عبقرية وتأثيرا في واقع الحياة.
    كما يكفينا أن نذكر في هذا السياق أن كل أطفال العالم المسيحي الغربي، وهم يمثلون عندما يكبرون النموذج الأوضح لأكثر البشر اندماجا مع الحقائق العلمية ومع العلوم ومع فضاءات التطور، يبيتون ليلة الخامس والعشرين من ديسمبر من كل عام منتظرين هدايا "بابا نويل"، الشخصية الأسطورية المتربعة على عرش أساطير البشرية كلها. فلا نحن رأينا ذلك أثر عليهم سلبيا، ولا نحن رأيناهم هم أنفسهم عندما أصبحوا آباءا، حاولوا أن يحرروا أطفالهم من هذا الوهم، بل استمروا يدمجونهم فيه، لبث روح الحب والخلق الحسن والتسامح في نفوسهم، وهي الصفات التي تأتي شخصية "بابا نويل" عندما تأتي، لتكريم الأطفال الذين يتصفون بها.
    وأيضا فمن منا لم يوبِّخْه والده أو يهدده إن هو أتى بأعمال معينة مَشِينَة بأنه سوف يكسر أضلاعه أو يهدم البيت فوق رأسه، أو ربما إذا كان الوالد أكثر قسوة بأن يلقيه في النار أو بأن يحرمه من النوم؟ ومن منا يا ترى يجرؤ على الادعاء بأنه لم يأت في طفولته بأعمال مشينة كتلك؟ ومع ذلك فسقوف بيوتنا لم تهدم لا على رؤوسنا ولا على رؤوس غيرنا، وأضلاعنا لم تمس في يوم من الأيام، وربما أن الكثيرين منا لم يروا النار المتأججة إلاَّ في الأحلام التي كانوا يرونها عقب حكايات الجدات في ليالي الشتاء الباردة. وترانا الآن نقف احتراما لهذا الوالد الشديد لأنه بتهديداته تلك علمنا الكثير من الأمور والمفاهيم والقيم التي لولاها لكنا ربما رواد حانات وملاهٍ ليلية لا نصحو من السكر، أو مجرمين تطاردهم العدالة أو انطوائيين معزولين عن الناس.
    وأيُّ عاق هذا الذي ينكر الجهد المضني الذي بذلته والدته وهي تعلمه بهدوء وتؤدة كيف يرتدي ثيابه، وكيف يأكل بدون أن يصدر أصواتا مزعجة تؤذي مسامع شركاء المائدة، وكيف يستخدم الحمام، وكيف ينظف أدواته ونفسه، وكيف يرحب بالضيوف، وكيف يودعهم، وكيف يجامل الناس ويتودد إليهم، وكيف يعامل الأصدقاء والصديقات، وكيف يجلس، وكيف يقوم، وكيف يعتذر، وكيف.. وكيف.. وكيف..
    رغم أن معظم ذلك كان يضايقنا ويزعجنا ويثير ضجرنا وتأففنا الدائمين، نظرا لعدم رغبتنا في الانضباط والالتزام بالتعليمات التي نراها تقيدنا وتحجر على حرياتنا وانطلاقنا. ومع ذلك فإننا لا نسجد إذا سجدنا لغير الله إلا لأمهاتنا اللواتي صنعننا بالفعل بالصورة التي تسعدنا الآن في حياتنا. ولولاهن لما أتقنا في حياتنا شيئا، ولكنا عالات ربما حتى على أنفسنا. ومع كل الضجر الذي كان ينتابنا من قيود الأمهات ومن توجيهاتهن التي لا تنتهي، هل هناك قيمة في حياة أيٍّ منا أسمى وأعظم وأجل مما تمثله له أُمُّه.
    إذا كان الإنسان في تاريخه الطويل هو الطفل في تاريخ تَكَوُّنِه ما بين الولادة والرشد، فإن الوحي في تاريخ هذا الإنسان هو، "الجدة والأب والأم"، في حياة ذلك الطفل وهو يزحف صوب الرشد والبلوغ. تمثل الجدة وحكاياها "النَّسَق الأسطوري" في التغطية الوحيويةللمعارف، ويمثل الأب وتهديداته "النَّسَق اللغوي" فيها، فيما تمثل الأم وصبرها الدؤوب على مشاكساتنا ومشاغباتنا التي لا تنتهي، "النَّسَق التاريخي". فكيف ذلك؟
    عندما لا يكون نص الوحي موضوعيا، أي عندما لا يكون متطابقا مع المقتضيات المعرفية للعقل وللتجربة التي توصَّل إليها الإنسان وإن يكن في زمن لاحق لزمن نزول الوحي، فهو نص يُبْرِزُ دلالته القابلة للفهم والتفسير من خلال "اللغة" أو "الأسطورة" أو "التاريخ".
    يكون النص مُجَلِّياً لمعناه من خلال "النَّسَق اللغوي" إذا كانت لا موضوعيته تجد لها تفسيرا وقبولا في البُنَى اللغوية التي يستخدمها، بحيث تنحل اللاَّموضوعية في تلك البُنَى.
    فإذا كان العقل مثلا يؤكد على أن العقاب في الحياة الآخرة يمتنع أن يكون دائما ومتواصلا لأيٍّ من بني البشر. فإن ورود نصوص وحيوية تتحدث عن العقاب في تلك الحياة بصيغة.. "وما هم بخارجين من النار"، أو بصيغة.. "كلما نضجت جلودهم أبدلناهم جلودا غيرها".. إلخ، يُظْهِرُ تعارضا مع الحقيقة العقلية، وبالتالي فإنها تغدو نصوصا لا موضوعية. ونحن إزاء لا موضوعيتها أمام خيارين، فإما أن نسقطها من حيث المبدأ باعتبارها لا تصح سندا إلى مصدرها وهو الله الموحِي بها، وإما أن نجد لها مخرجا في واحد من الأنساق الثلاثة المذكورة سابقا. ومن الواضح أن فهم هذه النصوص من خلال النَّسَق اللغوي أمر ممكن. إن الوحي هنا يمثل دور الأب. (أنظر كتابنا تجديد الإسلام فصل "النعيم والعقاب").
    نَصُّ الوحي من جهة أخرى يكون مُجَلِّياً لمعناه من خلال "النَّسَق الأسطوري"، إذا كانت لا موضوعيته تجد لها تفسيرا وقبولاً في البُنَى الأسطورية للوعي الإنساني، بحيث يمكن حل تلك اللاَّموضوعية في تلك البُنَى.
    فإذا كانت الحقائق العلمية التجريبية تؤكد على أن الإنسان الواعي هو نتاج عملية تطور طويلة ومديدة في المادة انتقلت بها عبر مليارات السنين من طور إلى آخر، إلى أن أوصلتها إلى هيئة وصورة الوعي، "المادة الواعية". فإن ورود نصوص وحيوية تتحدث عن أصل الإنسان باعتباره خُلِقً فجأة بهيئته هذه وبموجب قرار علوي بعيد عن حقائق التطور، وذلك في الجنة، مع توابع القصة المعروفة عن آدم وزوجه وإبليس، يثير تعارضا مع الحقائق العلمية والتجريبية.
    وبالتالي فإن تلك النصوص تغدو لا موضوعية. ونحن إزاء لا موضوعيتها أمام خيارين اثنين أيضا. فإما أن نُسقط تلك النصوص من حيث المبدأ من ناحية الثبوت السندي، وإما أن نجد لها مخرجا في واحد من الأنساق الثلاثة المذكورة فيما مضى. ومن الواضح أن هذه النصوص – التي أوردت قصة آدم وإبليس ونشأة الإنسان وموضوع التكليف والخطيئة ومعركة الخير والشر بين الإنسان والشيطان – قابلة لأن تُفْهَمَ في ضوء النَّسَق الأسطوري. خاصة وأن هذه الأسطورة – أسطورة الخطيئة والصراع بين شخصية الشيطان والإنسان - رافقت الإنسان منذ بواكير وعيه. وهو الأمر الذي يجعل الوحي معنيا لا بإقصائها معرفيا بل بتوظيفها عبر التاريخ لصالح غايته ولصالح الإنسان عموما. وهو قد فعل. إن الوحي هنا يقوم مقام الجدة وحكاياها. (التفاصيل حول هذا النسق في فصل النبوة من كتاب "تجديد فهم الإسلام").
    وأيضا فإن النص يكون مُجَلِّياً لمعناه من خلال "النَّسَق التاريخي" إذا كانت لا موضوعيته تجد لها تفسيرا وقبولا في البُنَى التاريخية للوعي الإنساني، بحيث يمكن حل تلك اللاَّموضوعية في تلك البُنَى.
    فإذا كانت الحقائق العقلية تؤكد مثلا في حدودها المذهبية على أن العدالة في إطار العقوبات الدنيوية تتجه إلى رفض عقوبة الإعدام على الجرائم أياًّ كانت تلك الجرائم، أو على أن تلك العدالة في إطار النظام الاجتماعي تتجه نحو إلغاء الملكية الفردية من المجتمع أو رفض استرقاق الإنسان للإنسان أو إلى إشراك المحكوم في الحكم.. إلخ. فإن ورود نصوص في الوحي تنظم الحياة المجتمعية في الميادين المذكورة بصورة تختلف عن الإطار المذهبي العقلي للعدالة في الكثير أو في القليل، سيثير تعارضات بين العقل والوحي. وبالتالي فإن تلك النصوص تغدو لا موضوعية. ونحن إزاء لا موضوعيتها نجد أنفسنا مرة أخرى أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما. فإما أن نُسْقِطَ تلك النصوص سندا ونعتبرها بالتالي غير صحيحة النسبة إلى مصدرها الموحِي بها وهو الله، وإما أن نجد لها مخرجا في واحدٍ من الأنساق الثلاثة المذكورة سابقا.
    ومن الواضح أن نصوص الأحكام المجتمعية في الوحي قابلة لأن تُفْهَم في ضوء النَّسَق التاريخي "التطوري"، الذي مفاده تنظيم المجتمع في كل مرحلة وزمان بالصورة الأكثر ما تكون قدرةً على الدفع باتجاه الصيغة العقلية الهدف، والأقل ما تكون هزاًّ وخلخلةً للبُنَى المجتمعية وهي تتطور وتنمو نحو تلك الصيغة. وهو ما يعني أنها أقدر ما تكون فاعلية في تحقيق الغاية من الوحي في الأساس.
    إن الوحي في مجال النسق التاريخي يمارس دور الأم وهي تصبر على عادات طفلها وعلى صعوبة استجابته لما تغرزه فيه من عادات جديدة، وعلى مشاكسته المستمرة وهي تسعى إلى الوصول به إلى عاداتٍ أسمى وأفضل، جعلتها نصب عينيها كهدف تصبو إليه وكغاية لا تحيد عنها، صبرا وتوجيها ومراقبة. (تراجع فصول "الاقتصاد، و"نظام الحكم"، و"العقوبات" في كتاب تجديد فهم الإسلام).
    وإننا إذا كنا لا نحس تجاه أساطير جداتنا وتهديدات آبائنا وإصرار أمهاتنا الدؤوب على السمو بعاداتنا وبأخلاقنا، إلا بكل احترام وتبجيل وعرفان بالجميل، فليس أقل من أن نعترف بذلك إزاء تلك الأبوة العارمة والأمومة الدافقة والغرائبية الساحرة التي مارسها الوحي معنا وهو ينتقل بنا خطوة خطوة على سلم البلوغ والرشد.
    من جهة أخرى فإن وصولنا إلى سن الرشد واقتناعنا من ثم بأن كلا من أمهاتنا وآبائنا وجداتنا قد أنهوا أدوارهم التأثيرية في حياتنا رغم لاعقلانية ولاعلمية الكثير من الأنساق المعرفية التي مارسوها معنا كي نصل إلى هذا السن الذي اكتشفنا فيه فجأة، هذه اللاعقلانية واللاعلمية.. نقول.. إن اقتناعنا هذا، لا يعني اقتناعاً بسَخَف مراحل ما قبل النضج أو بكذب ما كنا نُزَوَّدُ به خلالها من معارف. بل هو يعني إيمانا راسخا وعميقا بأن الذي حصل هو الذي كان يجب أن يحصل لأنه الأقدر من بين كل ما يمكننا تصوره من طرق وأساليب تعليمية وتربوية على خلق أناسٍ متوازنين عاقلين وفاعلين في حياتهم، سواء لأنفسهم أو للآخرين الذين يشاركونهم الواقع الذي يعيشون فيه.
    وكما أن أساطير الجدات ألهبت خيالنا الذي كان يجب أن يُلْهَبَ، فكذلك النَّسَق الأسطوري في الوحي. وكما أن صرامة آبائنا علمتنا الالتزام والمسؤولية وأبعدتنا عن الانحراف والاستهتار، فكذلك النَّسَق اللغوي في الوحي. وكما أن صبر الأمهات أوصلنا من أكثر مراحلنا بدائية وغوغائية وفوضوية في السلوك والعادات، إلى أكثرها رقيا وسموا وتطورا، فكذلك النسق التاريخي في الوحي. إنها أنساقٌ كانت رغم لاموضوعيتها ضرورية بحكم طبيعة الإنسان وهو يتطور، لمرافقته كي تصنع منه إلها صغيرا استغنى حتى عن تدخل خالقه في حياته.. فكم يحبنا الله ونتنكر له.. وكم يصبر علينا ونشاكسه.. نعم لقد قالها الله العظيم ذات مرة.. "وما قدروا الله حق قدره". (لمزيد من التفاصيل بهذا الخصوص يُراجَع فصل النبوة من كتاب "تجديد فهم الإسلام").
    تعقيب 18.. على عبارة..
    بل إننا نزعم أن قضايا جديدة دخلت في معاني التعارض مع العقل ومع التجربة ومع أنساقهما المعرفية، وبالتالي مع القرآن ذاته، فرضتها التوسعات الهائلة التي حصلت في المساحات المعرفية الخاصة بالعقل وبالتجربة، وهو الأمر الذي يدعونا إلى أخذ هذه التوسعات بعين الاعتبار، في سياق تحديد معاني التعارض النَّصِّي مع المرجعيات المعرفية المذكورة.
    نص التعقيب..
    لازم هذا أن حصول تلك التوسعات مستمر، وأن أخذنا إياها بعين الاعتبار متحول تبعا لتطورها، وأن انقراض تلك المتون الصحيحة سندا سيزداد حتما، وهذا سيجعل التكليف ألوهية لــ (العقل والتجربة) لا لله الأول والآخر.
    تعقيبي..
    تراجع بشأن هذا التعقيب تعقيباتنا السابقة بخصوص العلاقة بين العقل والوحي.
    تعقيب 19.. على عبارة..
    بما أن العقل لا يتصور أن لله أعضاء، فلا يصح نصٌّ عن رسول الله ينطوي متنه على إشارةٍ إلى أن لله أعضاء، إذا لم يكن هذا المتن قابلا لأن يُفْهَم على وجه المجاز بدون تأويل صارخ لا تحتمله اللغة "أي في إطار أحد الأنساق اللغوية". وبالتالي فما يقال مثلا أنها أحاديث تكلمت عن كشف الساق يوم القيامة معتبرة أن الساق هي "ساق الله"، إنما هو كذب على الرسول ، لتَضَمُّن متون مثل هذه الأحاديث تَجسيدا وتشبيها مُخالفا للعقل في حق الله
    نص التعقيب..
    كذب العقل وأهله في هذا كذبا صريحا، وكم في (السعي الحثيث في دفع التشبيه والتجسيد) من (تعطيل)، وكم يبقى لله جل وعلا من عناصر الحقيقة الإلهية إذا جرد مما وصف به نفسه، فضلا عما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم؟؟
    تعقيبي..
    يراجع بهذا الخصوص أهم فصل من فصول كتابنا "تجديد فهم الإسلام" وهو فصل "الله"، ففيه كل ما يحتاجه المهتم من تحليل دقيق لتصور العقل عن "الذات الإلهية" و"صفتها" و"فعلها" وعلاقة "المكان والزمان" بذلك، وكيف ولماذا خلق الله المادة، ودور الوعي والإرادة، ومكانة الفعل الإنساني، ومكانة الزرق والأجل ومفاهيمها، في ضوء الرؤية الجديدة التي يعرضها الكتاب.. إلخ.
    تعقيب 20.. على عبارة..
    وبِمعنى أكثر دقة، فإن مثل هذه النصوص لو كانت قرآنية لأمكن فهمها في إطار نسق أسطوري غير تجريدي
    نص التعقيب..
    وهل يصح في عقل سليم اعتبار الأخبار القرآنية التي لا يدركها العقل أساطير؟؟ ليتني أكون هاهنا مخطئا في فهم المراد. وألتمس منك أستاذ أسامة – استنادا إلى تقريرات العقل والتجربة ، وما ذكرت من مقتضيات المقياس القرآني – إفادتي في تفسير قوله تعالى (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) لا سيما وأن في التعقيب حث المخاطبين على استعمال العقل في إبصار سر الآية المشار إليها في هذا النص القرآني من سورة البقرة. وكذا قوله تعالى من سورة النمل: (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم) لا سيما وأن في استدراك الهدهد (تعقلا واضحا). وكذا قوله تعالى من سورة من نفس السورة: (حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أبها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) لا سيما وأن في تحذيرها بني جنسها (تعقلا بالغ الرقي). وعسى أن لا تقول أستاذ أسامة أن هذه الأخبار مجرد أمثال أو أساطير. وقد آثرت التمثيل بهذه النصوص صيانة للنصوص القرآنية المشتملة على صفات الله تعالى.
    تعقيبي..
    يراجع تعقيبنا عندما تحدثنا عن نسقية الوحي. مع التركيز على دلالات وأبعاد النسق الأسطوري.
    تعقيب 21.. على عبارة..
    وبالتالي فلا تصح عن رسول الله الرواية التي يقال أن الرسول اختبر فيها إيمان وإسلام جارية بأن سألها "أين الله؟"، لأن هذه الرواية التي أشارت فيها الجارية – مُجيبةً عن مكان الله – إلى السماء، أي إلى الأعلى، تنطوي على مخالفة للمعقول مادامت قد حددت مكانا يوجد فيه الله ومكانا لا يوجد فيه. ولا يجوز أن يصدر عن رسول الله أمر كهذا فيه من التشبيه والتحجيم والتَّحْييزِ لله ما لا يتصوره العقل، خاصة وأن النص لا يحتمل تأويلا يُحَوِّله إلى المجاز بصورة يُفْهَم معها في إطار النسق اللغوي، وأن القرآن لم يتحدث عن ذلك الموضوع بشكل من الأشكال لاعتباره مفهوما ضمن "النسق الأسطوري".
    نص التعقيب..
    عجبا .. أي اعتزال هذا ؟تالله لو ترك وصف الله تعالى للعقل لما كان الرب – تعالى علوا كبيرا - إلا هباء، ولما كان هو الرب الذي يعرفه المسلمون، تعالت ذاته وصفاته وأفعاله عن التعطيل.
    تعقيبي..
    لست أدري إن كان فهمي بأنكم تصفوني باتباع المعتزلة ومعتقداتهم هو فهم صحيح أم أنني مخطئ في فهمي – وهو ما أتمناه – ليس لأني أعتبرهم "ضالين" كما يفعل أهل السنة والأشاعرة عادة، بل فقط لأني لست معتزليا بالمرة. ففي الأمر من قبلكم – إن كان ما فهمته صحيحا - استعجال لا أرضاه لأستاذنا الكبير "عبد الرزاق أبو عامر". فالحكم على شخص بأنه يتبنى معتقدات فرقة من الفرق، يتطلب تحريا أكبر بكثير من مناقشة سؤال وردٍّ عليه، ولو حصل ذلك منكم لوجدتم انني أخالف المعتزلة أكثر مما أخالف الأشاعرة، مع أنني في النهاية أخالف الجميع في كثير من معتقداتهم. ولعل أكثر من أخالفهم هم الشيعة والمتصوفة، لأسباب تتعلق بمنهجي ذاته، وبسبب كونهم أبعد المسلمين عن التفكير العقلاني والعلمي. فالمسألة تحتاج منكم سيدي إلى بعض التريث والتحري.
    تعقيب 22.. على عبارة..
    وما يقال عن هذه الرواية يقال وبالمنطق نفسه عن رواية أخرى تحدثت عن رؤية المؤمنين لله يوم القيامة. فمادامت هذه الرواية قد حَيَّزَت الله فإنها وللأسباب السابقة نفسِها رواية لا تصح.
    نص التعقيب..
    وهل يصح بالمنطق نفسه إيمان بيوم القيامة أو اليوم الآخر؟ إذ كيف يتصور تولي الله الحكم يومئذ دون حضور يصح معه مخاطبة المكلف ومحاورته (مكانكم أنتم وشركاؤكم)، وإشعاره بالحكم (ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون)؟ فإذا كان هذا الحضور المشترط - في حكم العقل - لتلك المحاورة بحاجة أيضا إلى تأويل مجازي، فوجود يوم القيامة نفسه بحاجة إلى تأويل مجازي يخرجه عن المستحيلات التي كلما ضاق العقل بخبر رده إليها. وما أعظم العبرة في (تجربة الإمام الجويني العقلية) إذ آلت آخر المطاف إلى اختياره الموت على (عقيدة عجائز نيسابور).
    تعقيبي..
    يراجع كتابنا "تجديد فهم الإسلام" فيما يتعلق بصفة الله وذاته وفعله في فصل "الله"، وفصل "الروح"، وفصل "البعث"، فهناك القدر الكافي من الإجابات. وربما بعد ذلك يكون الحوار أجدى وأنفع.
    تعقيب 23.. على عبارة..
    ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن النص القرآني الذي يبدو متعارضا في ظاهره مع معطى العقل بخصوص الموضوع الذي يعالجه لا يتم فهمه في ضوء "النسق الأسطوري" إلاَّ بعد فهمه في ضوء "النسق اللغوي" أولا، فإن استعصى النص على هذا النسق يتم بعد ذلك دمجه في معطيات الأسطورة. أي أن ما يُمكن أن يُظَنَّ أنها آيات قرآنية تحدثت عن وجود الله في السماء أو عن النظر إليه يوم القيامة ليتسنى لنا القول بإمكانية فهم الأحاديث التي ناقشناها هنا في إطار الأسطورة أو في إطار "النسق الأسطوري"، هو ظن في غير مَحله، لأن آيات من مثل، "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"، أو من مثل، "ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات"، هي آيات رغم ما يبدو من تعارض معطاها المباشر مع معطى العقل، إلاَّ أنها لا تستعصي على اللغة، ويعتبر فهمها في إطار "النسق اللغوي" أمرا مُمكناً
    نص التعقيب..
    وماذا يغني فهمها في إطار النسق اللغوي إذا كان هذا الفهم لا يرقى بإيماننا إلى اعتبارها واقعا أخبر عنه الرب المستوي إلى تلك السموات استواءه اللائق بألوهيته جل وعلا؟ إن النسق اللغوي لا ينشئ عقيدة ولا يزيلها، والإيمان على أساسه لا يُدخل في الإسلام ولا يُخرج منه، فكيف نحتكم إليه في تقرير أركان الإيمان بالغيب؟ أم أن هذا العقل الملجئ إليه يستوي في ميزانه الإيمان وعدمه؟؟
    تعقيبي..
    تراجع تعقيباتنا على نسقية القرآن، مع مراجعة كتابنا في الفصول المذكورة في التعقيب السابق.
    تعقيب 24.. على عبارة..
    نقول.. بما أن العقل لا يتصور ذلك، فلا يصح نص عن رسول الله ينطوي متنه على إشارة إلى أحداث وتنبؤات مستقبلية تتضمن بشكل أو بآخر تدخلا لعنصر الإرادة في تكوينها – أي تلك الأحداث – وبالتالي فلا صحة مطلقا لأي نص مروي عن الرسول يتحدث عن المستقبل "المهدي، الدجال، نزول المسيح، ظهور الدابة، ظهور يأجوج ومأجوج، الملاحم، اقتتال الصحابة، الفتن، ما سيحدث لآل البيت،.. إلخ". خاصة وأن القرآن الكريم قد تحرر تماما من وقع الأسطورة في هذا الميدان من التنبؤات ،
    نص التعقيب..
    وهل هناك فرق في لزوم التصديق بما أخبر به القرآن بين الأحداث الآتية والأحداث السابقة؟
    تعقيبي..
    لدي مفهوم مختلف في "العلم الإلهي" يتيح لي هذا التفريق، وهو وراد بالتفصيل والتحليل الدقيق في فصل "الله" من كتابنا "تجديد فهم الإسلام" فليراجع هناك. وهو بالمناسبة – أي موضوع العلم الإلهي – من أهم الموضوعات التي تم التطرق إليها في صفة الله في المنهج الذي يعرضه كتابنا المذكور.
    تعقيب 25.. على عبارة..
    وبناء على ما سبق فإننا نرى أن كافة الروايات المنسوبة إلى الرسول بخصوص التاريخ الماضي وبخصوص عالم الغيب غير التنبئي، هي روايات غير صحيحة المتون إذا انطوت متونها تلك على إضافات معلوماتية وأَحْداثية على ما في النصوص القرآنية التي تعرضت لها بالإجمال والعموم، فيما تُقْبَلُ المتون الشارحة مجرد شرح لما بدا غامضا من تلك الأخبار القرآنية. أما بخصوص ضوابط الفصل بين المتن الشارح والمتن المضيف للمعلومات فهي واضحة ولا لبس فيها، إذ يجب أن يقتصر الشرح على توضيح ما هو موجود من معلومات دون إضافة أي معلومة جديدة. ومن الأمثلة على ذلك، موضوع "الجن" وقصة "آدم والشيطان" و"عذاب ونعيم الآخرة" و"أحداث يوم القيامة والبعث والنشور" و"قصص الأنبياء والرسل والأمم الغابرة". فمثل هذه القضايا يُقْتَصَرُ في معرفتها الوحيوية على النص القرآني إضافة إلى النص الرسولي الشارح الذي لا ينطوي على معلومة جديدة. إن هذه القضايا الخبرية ومثيلاتها، بعضها فُصِّل في القرآن وبعضها أُجْمِلَ. الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أن الله فصل ما اقتضت حاجتنا أن يفصله، وأجمل ما اقتضت حاجتنا أن يجملَه وحسب. وبالتالي فلا معنى لقيام الرسول بتفصيل ما أجمله الله، لأن الله إذا كان يفصل ما يرى تفصيله ضروريا دون إحالة مسألة التفصيل إلى الرسول، فلاشك إذن في أن امتناعه عن التفصيل عندما أجمل، لن يكون بسبب رغبة منه في إحالة التفصيل إلى الرسول، بل بسبب عدم حاجتنا إلى التفصيل أصلا، لا منه سبحانه ولا من رسوله عليه الصلاة والسلام.
    نص التعقيب..
    لا يقال هذا في حق رسول أنزل عليه النص الذي يبينه، إذ هو أعرف به من غيره، وأدرى بالقدر التبييني التفصيلي الضروري لتبليغ رسالته، وبمعنى آخر إذا كان سند متن حديث من الأحاديث المفصلة لما أجمله القرآن صحيحا فمعنى هذا أنه قد وقعت روايته على ألسنة ناقليه من أولهم إلى آخرهم - وإلا فلا معنى لقولنا (إنه صحيح) – فأول متهم بالغفلة عن بطلانه الصحابي – إذا سلمنا باستحالة تحديث النبي صلى الله عليه وسلم به - أليس في الصحابة – وقد عمت البلوى بهذا الصنف من الأحاديث – ذو عقل راجح يكشف بطلان الحديث المفصل لمجمل القرآن، وهو يعرف أن من (خصائص كمال عقل النبي صلى الله عليه وسلم الاكتفاء بما اكتفى به القرآن)؟؟
    تعقيبي..
    هذه من القواعد الأصولية الجديدة التي اقتضاها منهجنا في التجديد. فبإمكانكم مراجعة الفصول المتعلقة بالأمر في كتابنا سالف الذكر، وهي الفصول التي تتحدث عن "الرسول" صلى الله عليه وسلم.
    تعقيب 26.. على عبارة..
    والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو.. إن حدث المعراج إن حصل لهو أشد أهمية وأكثر عموما للبلوى من حدث الإسراء، فلماذا يذكر الله الإسراء بوضوح تام فيما لم يذكر المعراج بنفس مستوى الوضوح والقطع؟ لا بل لماذا يخبر عن الإسراء في سورة، فيما يخبر عما يُظَنُّ مجرد ظن أنه "معراج" في سورة أخرى؟ أي لماذا لم يتم الإخبار عن الحادثتين معا إذا كانتا حصلتا في الليلة نفسها؟ هذا إذا افترضنا أنه بالفعل أخبر عن المعراج من غير وضوح في سورة النجم!!والأدهى والأمر أن المسلمين يربطون بناء على مَرْوِياَّتٍ صحيحة عندهم سندا، لورودها في صحيحي البخاري ومسلم، بين حادثة المعراج وبين فرضية الصلاة في القصة الغريبة وغير المنطقية والأشبه بمساومة بين الرسول محمد وربه بواسطة نبي آخر هو موسى الذي لعب دورا أشبه بأدوار السماسرة والوسطاء والعرابين.
    نص التعقيب..
    هذا غمز لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام في صورة تنزيه– قصده الكاتب أم لم يقصده - وإلا فليس في كتب التفسير على كثرتها واختلاف مذاهب مصنفيها الفكرية والمذهبية جراءة على إبطال أحاديث الإسراء والمعراج الصحيحة، أفيدخلون في عموم المسلمين المتورطين في مغبة الغفلة عن (المقياس القرآني)؟ إن أقل مفاسد تطبيق (المقياس القرآني) الإيقاع بين الأمة وبين نبيها على نحو يجرؤها عليه، ويفت في عضد إيمانها به وبالقرآن الذي أنزل عليه.
    تعقيبي..
    أعترض واحتج على اتهاكم لي بغمز الأنبياء يا سيدي. واستغرب توصيفكم لي على هذا النحو، سواء كان هناك قصد أو غير قصد مني كما ذكرتم، أي أنكم لم تكتفوا باعتباري غامزا إذا كنت ناويا فعل ذلك وقاصدا إياه، بل حتى لو لم أكن ناويا الغمز، فأنا في نظركم غامز، وغمز الأنبياء في عقيدتنا إهانة لهم، وإهانتهم كبيرة وقلة أدب معهم ومع مقام نبوتهم!!
    كيف يكون حرصي على تنزيه موسى عليه السلام غمزا؟!
    على هذا الأساس لا نستطيع معرفة الصدق من الكذب في أي شيء يكتب أو يقال، ونستطيع افتراض الغمز في الذات الإلهية حتى لدى من ينزه تلك الذات، لمجرد أن وجهة نظرنا في التنزيه لم تتطابق مع وجهة نظره!! وهذا مخالف لحرية الفكر وأدب الاختلاف، وهو وضع يفترض طرفا محددا هو الحق والمعيار المطلق، ومن سواه يستحقون الخضوع لأحكامه واتهاماته التي يعتبرها معيارية!!
    فعندما أورد اعتراضي على حادثة رأيت أنها لا تصدر عن نبي لأنها حادثة فيها غمز في ذاتها، أكون في الواقع منزها ومبرئا ومدافعا، لا غامزا ومدينا ومتهما!!!
    أنا أنزه النبي موسى عليه السلام، بالتأكيد على عدم صحة رواية تصوره بتصوير لا يليق.
    الغمز بمعناه الفعلي يتحقق لو أنني اعتبرت الحادثة صحيحة، وحاولت الدخول منها ومن اعتباري لصحتها، إلى تخطيء النبي الذي فعلها وغمزِه. والأمر على خلاف ذلك تماما.
    كان الأجدر يا سيدي أن ترد على وجه اعتراضي نفسه على الحادثة، لا أن تتهم دفاعي عن نبي بأنه غمز فيه!!!
    وعلى العموم فإن تعقيبكم هذا مليء بالاتهامات الغريبة. إذ كيف يمكن اتهامي بأني أوقع بين الأمة ونبيها وأجرئها عليه، وأنا أدافع عنه وأبرئه مما أراه غير لائق بمقامه العالي، وأحاول وضعه في المكان الذي فهمت أن الله وضعه فيه؟!!
    ألا تكون المكانة العالية لرسولنا الكريم إلا بقبول توصيفكم وتوصيف من تعتبرونهم مرجعيات، لعلو المكانة؟! لماذا لا يكون هذا التوصيف الذي يعطي الرسول أكبر من حجمه ودورا أكبر من دوره، هو التوصيف الذي يجرئ الأمة على الله ذاته سبحانه وتعالى، من وجهة نظر من يعتبرون أن الله لم يمنح رسوله تلك الصلاحيات ولا تلك السلطات التشريعية والإخبارية؟!! ألا ترون معي سيدي أن هذا المدخل انطباعي وغير علمي ويسوقنا إلى مناطق لا تليق بنا كباحثين وطلاب حقيقة؟!
    تعقيب 27.. على عبارة..
    فإذا علمنا أن الصلاة في الفهم السائد هي أهم فرائض الإسلام، فهل يعقل أن ترتبط بحادثةٍ غير محسومة قرآنيا، في الوقت الذي يحسم فيه القرآن قضيةً أقل أهمية وأقل فائدة منها حسبما هو وارد إلينا، وهي حادثة الإسراء التي لم يترتب عليها حسب النص القرآني أيُّ حكم اجتماعي أو تَعَبُّدي ذي أهمية كالصلاة؟!إن هذا التحليل الذي نقدمه لنموذج من نماذج تعارض الأخبار القرآنية مع الأخبار الواردة عن رسول الله بهذا المستوى من الوضوح، ليؤكد لنا على ضرورة البحث من جديد في مسألة المعراج وما يشبهها من المسائل للتأكد من صحتها قرآنيا بالدرجة الأولى. ونحن لسنا معنيين بأن نجزم هنا بعدم صحة حادثة المعراج
    نص التعقيب..
    لكنك تقيم على ذلك عقيدة يستحيل أن تنتظر الحسم إلى ما لا نهاية له من الزمن، ويكفي تطبيق ما سميته (المقياس القرآني) لتقرير بطلانها بالقوة.
    تعقيبي..
    يُرجى مراجعة تعقيباتنا السابقة بخصول العقل والوحي والأنساق المعرفية للوحي للوقوف على حقيقة الموضوع الذي ينفي الحاجة إلى الفكرة الكامنة في هذا التعقيب.
    تعقيب 28.. على عبارة..
    بل نحن نثير تساؤلات مشروعة حولها كنموذج معرفي، فقد تصح وقد لا تصح، ولكننا نصر على ألاَّ تصح إلاَّ قرآنيا وبوضوح تام بناء على المنهج الذي اتبعناه في تحديد أشكال علاقة التكامل بين القرآن والسنة.
    نص التعقيب..
    بناء على استنتاجك هذا؛ لماذا تأخر الحسم في صحتها أو عدم صحتها، ولم يثر أحد من المفسرين (تساؤلات مشروعة حولها كنموذج معرفي) إلى الآن؟ وإذا كانت تساؤلات مشروعة فلتخرج لنا بــ (مشاريع تفسير مشروعة) كـ (مشروع) محمد عابد الجابري رحمه الذي ضاقت بهم مكتبة علوم القرآن، ولتكن تفاسير بنفس النفس المعرفي الذي صنفت به كتب التفسير المعروفة المعتمدة إلى الآن في تلقي وتلقين علم التفسير في المدارس الشرعية، والجامعات، والمعاهد، وحلقات الدرس العامة والخاصة.. إن آفة القرآنيين الجدد أنهم ينزهون النص المقدس عن أن يكونوا أهلا لتفسيره، لكنهم في المقابل يسقطون قدسيته بمثل (المقياس القرآني) على نحو يجعل قدسيته مجرد طلاء.
    تعقيبي..
    عندنا إلى أينشتاين ونيوتن، والطبيب المكتشف. أرجوكم أن تعودوا لتراجعوا بعض تعقيباتنا السابقة فما أوردتموه في بعض هذا التعقيب لأنه مكرور. أما بخصوص "تفسير القرآن"، فمن أدراكم أنني لست أعد مشروعا ضخما في هذا الأمر أسأل الله أن يجعل في العمر بقية لإتمامه؟!
    تعقيب 29.. على عبارة..
    ولعل من أغرب الأمثلة وأكثرها إثارة للدهشة مما يندرج تحت هذا البند من بنود المقياسية القرآنية على صحة نسبة المتون الخبرية إلى الرسول، مقولة "عذاب القبر". فعذاب القبر كما هو وارد في المتون الخبرية المروية عن الرسول – علاوة على أن فيه مغالطات واضحة بمقاييس العقل
    نص التعقيب..
    من المتهم بإنتاج هذه المغالطات إذا كان الحديث الواصف لعذاب القبر صحيحا سندا؟؟
    تعقيبي..
    تفرضون عليَّ الصحة بمقاييسكم. بينما عذاب القبر لا يصح بمقاييسي التي نتحاور حولها والتي رددت بخصوصها على جميع تعقيباتكم بما أرى أنه يبقيها ملزمة لي. هذا إذا تجاوزنا عن أن هناك من بين حملة المقاييس السائدة من له في عذاب القبر نظرة تختلف عن نظرتكم!!
    تعقيب 30.. على عبارة..
    إن عذاب القبر مسألة حساسة وهامة وخطيرة إن وُجِدَت، بحيث لا يجوز أن تترك بمجملها وبتفصيلها لنص غير قرآني يعالجها، مادام النص القرآني قد تعرض بالإخبار والتحليل لما هو أقل أهمية منها من أخبار وأحداث. فهل يعقل مثلا أن يخبرنا الله بإسهاب عن الموت والولادة وعن الطبيعة والكون وعن الجنة والنار وعن يأجوج ومأجوج وعن ناقة صالح وعن هدهد سليمان وعن كلب أهل الكهف، ويهمل بالكامل أيَّ حديث عن عذاب القبر الذي يتضمن مقولة العذاب القريب الأجل بكل الأهوال والرعب المرفقين بهذا النوع من العذاب في النصوص المنقولة عن الرسول؟!بكل تأكيد فإن هذا مما لا يعقل. وبالتالي فلا نتصور أنه يصح متن عن الرسول الكريم بخصوص عذاب القبر. وعلى من يريد بَحثَ المسألة أن يبدأ من كتاب الله، فإن وجد فيه ما يفيد صراحة بموضوعية هذا العذاب، وبعد إحداث المطابقة بين ما قد يكون موجودا بهذا الخصوص في كتاب الله وبين العقل ومواقفه منه، فعندئذ نقبل من الرسول الكريم القيام بشرح الغامض وفق ما ثبتناه في البند السابق من المقياسية القرآنية على التثبت من صحة المتن الخبري المنسوب إلى الرسول. ولكن للأسف فإن مقولة عذاب القبر تفتقر إلى الشرطين معا، فلا هي مقبولة عقلا ولا هي موجودة أو منصوص عليها قرآنا من ثم حتى يكتسب الرسول حق شرحها من حيث المبدأ.ج – أمر ثالث هام يتسبب – في تصورنا – في سقوط المتن المروي عن الرسول وفق المقياس القرآني في التثبت من صحة المتون الخبرية، وهو أن يكون المتن متعارضا مع النص القرآني أو مكرسا لمعانٍ ولمفاهيم غير تلك التي يكرسها ذلك النص. وكمثال واضح على ذلك نتناول مقولة "آل البيت"، التي يحدد لها القرآن الكريم معنىً واضحا في سورة الأحزاب، ليأتي النص المنسوب إلى الرسول الكريم محددا لها معنى آخر وضاربا بالمعنى القرآني عرض الحائط.ولتوضيح الأمر نقول.. إن الآيات المعنية من سورة الأحزاب حددت آل البيت بنساء النبي، بعد أن وجهت إليهن مجموعة من الأوامر والتعليمات، موضحةً في ختام الخطاب الموجه إليهن سبب ذلك بإرادة الله في تطهيرهن، ذاكرة لهن وصف "أهل البيت". ومع ذلك تفاجئنا رواية "الكساء" المنسوبة إلى الرسول عن أم سلمة إحدى نساء النبي، بأنه يعتبر آل البيت هم فاطمة والحسن والحسين وعلي ين أبي طالب فقط، في قصة استيقاظه من النوم فزعا ثم ضمه لهؤلاء وتغطيته لهم بالكساء، مُعتبرا أن الآية القرآنية التي ذكرت أهل البيت إنما هي تقصدهم تحديدا. لا بل إن الرواية تُمعن في الاستخفاف بعقول المسلمين، عندما تذكر لنا أن أم سلمة طلبت من الرسول أن يجعلها من أهل البيت المزعومين هؤلاء، فيرفض مُحاولا استرضاءها بشيء آخر.فسبحان من أعطى لنبيه حق نزع الصفات التي أعطاها هو لعباده. فالله يعطي لأم سلمة بصريح القرآن صفةَ أهل البيت، ويريدون منا أن نصدق أن محمد بن عبد الله يتحدى الله وينزعها منها قاصراً إياها على غيرها!! لا بل هو يتبرع بهذه النسبة الشريفة لسلمان الفارسي حينما يقول.. "سلمان منا آل البيت"، ويحرم منها أم سلمة التي لم تكن في حاجة إلى أن تطلبها منه عليه الصلاة والسلام أصلا بعد أن حصلت على هذا الشرف بمرسوم رباني صدحت به آيات سورة الأحزاب. لسنا ندري كيف يُرادُ لنا أن نصدق بأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، يتوقف عن الإجابة على الأسئلة التي تطرح عليه قبل أن يزوده الوحي بها، ليبادر بمخالفة صحيح القرآن في مسألة كهذه؟!هنا إذن نجد تعارضا صارخا وحادا مع صريح القرآن. ونستغرب أشد الاستغراب عندما نلمس تكريسا لهذا التعارض، بحيث أن تاريخ المسلمين هو في الجانب السوداوي منه صراع على السلطة بين أهل البيت وأشياعهم من جهة، وبين أعداء أهل البيت ومعارضيهم من جهة أخرى. أي أن هذا التاريخ بُنِيَ على كذبة نُسِبَت إلى الرسول الكريم مُعاَرِضَةً أشد المعارضة لصريح القرآن.
    نص التعقيب..
    وكم عاصر أحداث هذا التاريخ من الصحابة وخيار التابعين، وكم صنف في التأريخ لأحداثه، ونقدها من كبار العلماء، بناء على منهج معرفي دقيق متكامل. وما (أغباهم) جميعا إذ فاتهم اكتشاف تلك الكذبة. أي إزدراء هذا بتاريخنا وتراثنا ومناهجنا المعرفية الراسخة.
    تعقيبي..
    أنا لم أقل، ولا منهجي هذا يقول بأن الصحابة عاصروا تلك الكذبة أو أي كذبة أخرى أو انهم نشأوها. لو دققتم في بعض تعقيبتتي، ستفهمون جيدا أنني أعتبر تاريخ بدء التدوين وهو النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، مسوغا كافيا لتبرئة تلك الأجيال الأولى من تهمة اختراع المغالطات والسكوت على الخطإ. ومع ذلك فلا يرد على فكرة مسنودة بالدليل، إلا بفكرة مقابلة مسنودة بالدليل، أو بدحض الدليل الذي استندت إليه الفكرة التي تريدون تفنيدها، وفق مرجعية متفق عليها. ولا أظن أنني اتفق معكم في أن ما أعتبره أخطاء من أخطأوا – إذا أخطأوا في نظري – هي حجة علي لمجرد أنكم تعتبرونهم لا يخطئون ولا يتفقون – أو معظمهم على الأقل – على خطإ!!
    تعقيب 31.. على عبارة..
    إن تغطية الجيوب لا تتطلب بالضرورة اللباس المتعارف على تسميته بالزي الشرعي أو بالحجاب.
    نص التعقيب..
    من مظاهر الإعجاز التشريعي الإسلامي أن النصوص المشتملة على الأحكام تستمد صحتها ومشروعيتها الواقعية من مصدرين اثنين: المصدر العلمي ذي الصلة بصحة سند الحديث المشتمل على الحكم. والمصدر العملي الدال على انسجام ذلك الحكم – كما يؤديه المكلف - مع مقتضيات عقله، ثم يقع إطراد ذلك الأداء على نحو واحد في أجيال الأمة، وكل حقب وجودها، فيزداد ذلك الحكم قوة ورسوخا، ويصير له امتداد رسالي يشكل حصنا حضاريا دائما ترتطم على سوره المتين العالي كل محاولات النيل من شرعيته.ومن الأمثلة على ذلك (حجاب المرأة المسلمة) أو (نقابها)، فلا تزال المرأة المسلمة العربية والغربية والشرقية ترتديه، ولا يزال ذا حيز بارز في كل مكان؛ يضاهئ سائر أشكال الزي النسائية في الساحات والأسواق والجامعات والإدارات منذ أن عرف الإسلام إلى الآن، وفي مسوغات أدائه الشرعية من طاقة التحدي ما يضمن استمراره إلى قيام الساعة. فلم يصر (القرآنيون) على الاستخفاف بعقول الأمة؟أليس في إصرار منقبات فرنسا على أن يكن حرائر بنقابهن – متحديات نظام التغريم - دليلا على طاقة علمية وعملية ذاتية يحيا بها هذا التشريع؟؟
    تعقيبي..
    في الجزء الأول من تعقيبكم تعرضون موقفا فقهيا مستندا إلى قواعدكم وأصولكم التي تعتمدون عليها – وهذا حقكم – لكن هذا لا يلزمني، لأنني حددت فكرتي في لباس المرأة في ضوء تطبيق قواعدي التي قعدتها وأصولي التي أصلها منهجي. وبالتالي فأنا غير ملزم بغير نتائجها ما لم أتراجع عنها بموجب نقاش فيها وحولها يثبت لي خطأها، وهذا ما لم يحدث حتى الآن عبر كل تعقيباتكم التي اطلعت عليها. بل وعبر كل النقاشات الجادة وغير الجادة التي خضتها مع كل من أراد مناقشتي في الأمر.
    أما الشق الثاني من تعقيبكم فيدل على أنكم تردون على غيري، فأنا لم أناقش ما يبدو أنكم تعلقون عليه. ولم أقل أن المرأة يجب أن تخلع النقاب أو الحجاب، أو أن تتنازل عنه، أو أن ما فعلته فرنسا حق أو باطل!! بل العكس هو ما قلته: "أن من حقنا أن نكتفي بزيادة الرسول على حد القرآن الأدنى، أو أن نزيد عليه إذا رأينا ذلك مناسبا وضروريا، أو أن ننقص عنه، على ألا ينقص اللباس عن حده الأدنى المذكور في القرآن". مع تأكيدي على أن المسألة لا تحدد اعتباطا، بل بقرار الأمة عبر ذوي الرأي وأصحاب الحق في اتخاذ القرارات فيها. وإذن فمن أين اعتبرتم أن تعقيبكَم هذا يرد على ما قلته وناقشته؟! بينما أنا لم أقم بأكثر من تحليل النصوص وقراءتها بشكل اعتبره عقلانيا، لأصل الى الحد الأدنى الذي ذكرته؟!!
    تعقيب 31.. على عبارة..
    وإذن فإنه يحق للمسلمين حيثما كانوا زمانا ومكانا أن يضيفوا ما يشاءون على الحد الأدنى المنصوص عليه في القرآن الكريم كلما تطلبت ظروفهم ومصالحهم ذلك، حتى لو أضافوا إضافات أكثر من تلك التي أضافها الرسول.
    نص التعقيب..
    وما الذي يمنع غير المسلمين إذا كانوا أصحاب (عقول ناضجة) قادرة على قراءة ظروفهم قراءة استرتيجية أشمل وأعمق. وقادرين على (فقه مصالح المسلمين) أكثر من المسلمين؟؟يذكرني هذا بمقترحات بوش النظرية والعملية على المسلمين - بعد أحداث سبتمبر – المجسدة لـ (تحسين صورة الإسلام)، وما قصة إمامة المرأة ببعيدة.
    تعقيبي..
    يبدو أن بعض الأمور قد غَمَّت عليكم سيدي.
    قضايانا نحن من يقررها، وقضاياهم هم من يقررها.
    لكل إنسان أن يبدي رأيه في أي شيء.
    فكما أننا نعطي لأنفسنا الحق في تقييم حضارتهم وسلوكهم وقيمهم وأديانهم.. إلخ. لا يوجد هناك أي مُسَوِّغٍ لمنعهم من أن يفعلوا الشيء نفسه معنا. لكن هذا شيء، والقبول بما يرونه فينا وتطبيقه والأخذ به، شيء آخر، والفرق بين الأمرين كبير وشاسع. قد ينبهوننا – بحسن نية أو بسوء نية – إلى شيء جميل نرى نحن وفق آليات اتخاذ القرار لدينا أنه يناسبنا فنأخذ به.
    لكني على العموم لا أرى شيئا من ذلك قد حصل، وما أظنه سيحصل. فكل أمة أدرى بقضاياها، وبمشكلاتها وبما يصلح لها وبما لا يصلح.
    مع العلم سيدي أننا أكثر أمة في العالم تعطي لنفسها الحق في التدخل في ثقافات الآخرين وأديانهم وحضاراتهم وسلوكاتهم وتقييمها. أما عندما يعطي الآخرون رأيهم فينا وفي ديننا وقرآننا – بصرف النظر عن صحة أو عدم صحة ما يقولونه – نستشيط غضبا إذا لم يعجبنا الأمر، ونبدأ في ابتداع المؤامرة، وعرض الأمور في سياقات غير منطقية..
    وعلام كل هذا؟! كلنا بشر، ولكل منا رأيه في الآخرين وفي ثقافاتهم. وبالقدر الذي نعتبر أنفسنا أتباع الحق والحقيقة، هم أيضا يعتبرون أنفسهم كذلك.. فلماذا نفترض أن التعامل يجب أن يكون على أساس أننا وحدنا من يحق لنا ادعاء الحقيقة، ولست هنا أتحدث عن امتلاكها، لأن أحدا وحدة لا يمتلك الحقيقة كاملة، ولا حتى المسلمين، منذ وفاة النبي محمد عليه الصلاة والسلام وحتى الآن!!
    تعقيب 32.. على عبارة..
    وبعد..
    فأرجو أن يكون قد اتضح ألا خوف على ما يصح من السنة باستخدام العقل. وأن المسألة برمتها لم تكن إسقاطا للعلوم التي وضعها المسلمون بهدف غربلة المأثورات وتنقيح التواريخ، ولا كانت إسقاطا للكتب الأمهات – كما أسميتموها – كصحيح البخاري وغيره، بل كانت إعادة إنتاج لهذه العلوم بشكل يُفَعِّلُها ويُطَوِّرُها ويجعلها قادرةً – من وجهة نظرنا – على مواكبة منجزات العقل والتجربة، لجعل محاكمتها للنصوص محاكمة أكثر موضوعية، وإعادة تقييم وقراءة لتلك – الأمهات – وفق المنهج الجديد، وهذا حق علمي مشروع، ومنهج بحثي محايد.
    نص التعقيب..
    بل الشكل المقترح قبلكم لتطوير علوم الحديث يسقط جدواها ، ومقاصدها بالكلية ، لأنها ببساطة لو أعملت (مقياسكم القرآني) وحده لصارت مصنفاتها عناوين بدون محتويات، فأهلها – كالبخاري مثلا – بتطبيق (المقياس القرآني) - سيضطرون عمليا إلى إسقاط جل الأحاديث التي رحلوا راكبين المشاق العظام لتلقيها وتصحيحها، فإذا خلت مصنفاتهم من محتوياتها فسيضطرون علميا إلى التنكر لمناهجهم، والاستهانة بعقولهم التي كانت سببا في إهدار أوقاتهم وأعمارهم في تدوين أحاديث؛ هي في الواقع أكاذيب. فكيف يصح مع هذا (إعادة إنتاج تلك المصنفات والمناهج، وتفعيلها، وتطويرها) وهي عدم، أو شبه عدم؟ إن شرط إعادة إنتاج الشيء استبقاء أصله، وأصل تلك المصنفات – كصحيح البخاري – (حدثنا) أي أسانيد ومتون، فأي تناقض أعظم من تناقضك؟ تدعو إلى (إعادة إنتاج) صحيح البخاري - مثلا – بنفس (المقياس القرآني) الذي تبطل به كل أحاديثه.
    تعقيبي..
    هذا تعقيب مكرر ليس فيه جديد، تراجع بخصوصه تعقيباتنا السابقة ذات العلاقة.
    تعقيب 33.. على عبارة..
    أما بخصوص النصين المذكورين، وهما الحديث 2312 من سنن الترمذي، والحديث 1169 من صحيح ابن ماجة للألباني..فالأول المتعلق "بسجود الملائكة"، لا يصح لديَّ، لأن متنَه انطوى على معلومات وتفاصيل عن عالم الملائكة إضافية على ما أورده القرآن بخصوص ذلك العالم، وهذا ما لا يصح بموجب قاعدة "المقياس القرآني في صحة نسبة النصوص الخبرية" التي ذكرناها سابقا. وعندما لا يصح النص متنا فلا قيمة لسنده. ومثل هذا النص، كل النصوص التي يمكن أن تنطبق عليها هذه القاعدة.
    نص التعقيب..
    تذكرت بقولك (لا يصح لدي) حرصك على تطميني بأن لا أخشى على علوم الحديث، والآن تأكد لي تطمينك بقولك (لدي) لأني أيقنت أنه لو كان إليك مرد إخراج هذا الحديث الصحيح وأمثاله لأسقطته استنادا إلى مقياسك القرآني – نصحا للأمة – فلا خشية على أحاديث قيض الله لنقلها أحرصهم على صيانتها إلى أن تصل إلى أمة صاحبها وقائلها الأول صلى الله عليه وسلم غضة طرية كما نطق بها، وذلك تبرئة للذمة، ونصحا للأمة، وشهادة على أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أنزل إليه من ربه. فقولك أستاذ أسامة عن حديث (أطيط السماء): (لا يصح لدي) أكبر دليل على صحته، لأن الانتقاد السالب إذا تفرد مصدره وشذ صار موجبا. ومثل هذا يصح أن يقال أيضا عن حكمك على حديث (أنين الجذع) لأنه آخر المطاف لا يصح لديك.
    تعقيبي..
    لم أجد في هذا التعقيب فكرة أناقشها أو أعقب عليها. فما رأيت سوى الأمنيات والانطباعات. كما أنني لم أفهم عقليا وعلميا كيف يمكن للانتقاد السلبي – مع تحفظي على لفظة سلبي في هذا السياق – أن يصبح موجبا لمجرد كونه وحيدا وشاذا عن الأغلبية. وأين تقع مكانة الدليل العلمي والمرجعية المعرفية والمحاججة والاستدلال إذن، إذا كنا سنرفض الرأي الآخر والاجتهاد المغاير بإجراء عملية حسابية نعرف من خلالها من مع ومن ضد، لنسير مع الأكثرية؟! ترى هل نحن في برلمان نتشاور حول مشروع قانون، ونتخذ القرارات بالأغلبية؟ّ! هل هكذا تتجلي الحقيقة في المعرفة؟! ليتي أفهم!!
    تعقيب 34.. على عبارة..
    خلاصة القول أستاذي الكبير، أنني أطبق القواعد التي شرحتها سابقا على كل النصوص، وما تحكم به تلك القواعد ألتزم به معرفيا. ومن أراد أن يعترض، فليعترض على القواعد نفسها، وعلى المنهج نفسه، فإن تمكن من دحض هذه القواعد وهذا المنهج، فأنا معه أبحث وأياه عن الحق والصواب حيثما كان. وإلا فالنتائج منسجمة مع المنهج وقواعده.
    نص التعقيب..
    ليتك أستاذ أسامة ذكرت لمنهجك أصلا له صلة قريبة أو بعيدة بعلوم الحديث وعلوم القرآن، أو أصلت له بناء على مقررات تلك العلوم بشقيها القرآني والحديثي. لا أقول هذا تعصبا أو دعوة إلى التقليد، ولكن تقديرا لأئمة مجتهدين سبقوك إلى العناية بعلم الحديث وعلم التفسير، علما بأن تقديرك الإجمالي لهم لا يكفي، بل إن لازم تفاصيل منهجك تبديل مناهجهم بمنهجك.
    تعقيبي..
    التعقيب السابق نفسه يصلح هنا.
    تعقيب 35.. على عبارة..
    فإلى ذلك الوقت أرجو أن أكون تمكنت من توضيح بعضٍ من رأيي ومنهجي بخصوص ما شغلك أستاذي الكبير "أبا عامر".ولك مني كل تقدير واحترام.
    نص التعقيب..
    بالغ امتناني وتقديري لاهتمامك أستاذ أسامة، وإن الذي يشغلني حقيقة هو أن أجد المزيد عن (مصطلح السيرة النبوية)، لأعضد به ما توصلت إليه في بحثي لنيل الدكتوراه، وهو أن السيرة النبوية علم مستقل عن علم الحديث، يستحق ما ناله مصطلح ( الحديث ) من دراسات وأبحاث مستفيضة. أما ما تفضلت بإيراده مفصلا هاهنا فإنه لا يشغلني لأني مستيقن وجه الحق فيه، وزاد استيقاني باكتشاف أصول وفروع اختلافي معك فيه، فبضدها تتميز الأشياء.
    تعقيبي..

    يبدو أن ليس لدي شيء أقوله مضافا إلى ما سبق وأن ذكرته بخصوص سؤالكم حول "السيرة النبوية"، وهل هي علم مستقل عن "علم الحديث" أم لا. فما زلت أرى أنها لا تمتلك مقوماتاستحقاق الانفصال عن ذلك العلم. لا بل تراءى لي أمر آخر أرجو أن أوضحه في هذه العجالة..
    فكأن السيرة هي الحاضنة لكل العلوم بحيث يمكن لكل العلوم الشرعية أن تنفصل عنها، ولا يتاح لها هي أن تنفصل لوحدها وتستقل بنفسها. فأحداث السيرة هي تاريخ 23 سنة من عمر الرسالة جسدتها حركة الرسول وأصحابه في تفاعلهم مع واقعهم ومحيطهم في مختلف مراحل الرسالة التي تبدأ بالبعثة وتنتهي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
    ومن المعروف أن كل لحظات السيرة ارتبطت ليس بالأحداث بصفتها أحداثا فقط، بل بورود أخبار وأحكام في مختلف المناسبات، عبر تلك الأحداث وعبر صيرورة الجماعة المسلمة وهي تتفاعل تلك التفاعلات. أي أنه ما من موقف من مواقف السيرة إلا وارتبط، إما بمسألة فقهية أو بسبب نزول، أو بخبر عن شيء ما يخص العقيدة أو التاريخ.. إلخ. وبالتالي فالعلوم الشرعية الأخرى، والتي من الواضح أنها ارتبطت في ولادتها وتطورها وتكونها بالسيرة كأحداث وكتواريخ، هي التي ستبدأ بالانفصال عنها كلما توفر لكل علم منها ما يستدعي انفصاله.
    لذلك تعتبر كتب المغازي والسِّيَر – على ما أعلم – من أقدم التصانيف. وفي ضوء السيرة وأحداثها والانفصال عنها تكونت علوم مثل "الفقه" و"التوحيد" و"أصول الفقه.. إلخ. ألا يبدو هذا الذي بدا لي وكأنه يعطي للسيرة صفة الوعاء النقلي للإسلام ككل، وبالتالي لكل علومه، تماما كما كانت الفلسفة بالنسبة لكل العلوم؟!
    لست أدري إن هي إلا خاطرة، أرجو أن تساعدكم على خوض غمار هذه المغامرة التي تبدو شيِّقَة على كل حال. ولعل ما أفهمه من بروز كتابين مهممين في ما عرف بفقه السيرة يدل على ذلك. وكأن كلا من "محمد الغزالي" و"محمد سعيد رمضان البوطي" في كتابيهما اللذين يحملان العنوان نفسَه "فقه السيرة"، ما يولد الانطباع إلى أن هذين العالمين الكبيرين تنبها إلى وعائية السيرة للفقه بالدرجة الأولى، أو له باعتباره شغلهما دون غيره من العلوم الشرعية؟!
    أرجو أن أكون قدمت في هذا العرض العاجل ما يفيد.
    كما أنني أرجو أن أكون التزمت في تعقيباتي على تعقيباتكم، حدود اللياقة مع أستاذ كبير ومشروع عالم مُفَوَّه ومكتنز بالمعرفة الشرعية، مثل "عبد الرزاق أبو عامر"
    ولكم مني بالغ تقديري واحترامي ومحبتي
    أسامة عكنان


    أسئلة مهندس الاتصالات "فراس الحكيم"
    أستاذ أسامة أجدك محاورا ممتازا وتملك من الصبر ماتحمد وتغبط عليه وهذا يشجعني على المزيد من الحوار وبعد: ما تعريف "القرآنيون" من وجهة نظرك؟ والقاديانية؟ والمعتزلة؟ وما القواسم المشتركة بينهم؟ وهل هم أيضا قد حكـّموا العقل في مفاهيمهم؟
    الإجابة
    أشكرك على الإطراء الذي قد لا أستحقه يا فراس، وبعد،
    القرآنيون، حسب ما أعلم هم مجموعة من المسلمين المعاصرين، ممن يقال أنهم يُسقطون السنة من التشريع، ولا يعتبرونها مصدرا من مصادره.
    القاديانية هي فرقة ظهرت بين مسلمي الهند إبان الاحتلال البريطاني، وقد تعاونت كثيرا مع الاحتلال ضد مصالح البلاد وأهلها. ولا تؤمن بانتهاء النبوات وتقر بأن زعيم الطائفة يعتبر نبيا.
    المعتزلة، هي فرقة من أهم الفرق التي عرفت في التاريخ الإسلامي، وقد انقرضت مع عشرات الفرق التي انقرضت. وقد عرف عنها أنها من أكثر الفرق استخداما للعقل في فهم الدين في تلك الأزمنة.
    لا توجد في العالم فئتان مختلفتان في كل شيء، أو فرقتان متفقتان في كل شيء. إلا أن القواسم المشتركة بين هذه الفرق مختلفة من طائفة إلى أخرى. فالقاديانية بعيدة جدا عن فرق المسلمين كافة لأنها تهدم ركنا هاما من أركان الإسلام، وهو أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء والرسل وخاتمهم. فضلا عن الخلافات في أمور أخرى. أما القرآنيين والمعتزلة ربما يتقاربون في أن كلا منهم يعتمد على العقل أكثر من غيرهم، حتى لو اختلفوا فيما بينهم في مستويات استخدام العقل. من جهتي لا أعرف الكثير عن القرآنيين، لذلك لا أستطيع أن أتحدث عنهم بأكثر مما ذكرت.
    وفي النهاية. لا يوجد هناك من لا يستخدم العقل منطلقا لفلسفته أو منهجه حتى لو ادعى ذلك. فقوة العقل كمنطلق للمعرقة قوة قاهرة لا ينجو منها أيٌّ كان وإن حاول.
    ولك الشكر
    أسامة عكنان

صفحة 9 من 13 الأولىالأولى ... 7891011 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. لقاء الفرسان مع الباحث/محمد عيد خربوطلي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 11:24 AM
  2. لقاء "مصر المحروسة" مع أسامة عكنان
    بواسطة أسامة عكنان في المنتدى تسجيلات الفرسان المسموعة والمرئية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-13-2013, 05:54 AM
  3. لقاء الفرسان مع الباحث/مصطفى إنشاصي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 37
    آخر مشاركة: 02-13-2013, 02:23 PM
  4. لقاء الفرسان مع الباحث/خليل حلاوجي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 38
    آخر مشاركة: 09-29-2011, 08:46 PM
  5. نرحب بالأستاذ الباحث/ أسامة عكنان
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-29-2011, 07:21 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •