الشعب الفرعوني !
بقلم: أـ د . حلمي محمد القاعود
...............................................
لي صديق عزيز يغضب مني دائما كلما دافعت عن شعبنا المظلوم ، وأبعدت عنه مسئولية المحنة التي يعيشها منذ مئات السنين ، تحت سياط الجلادين والطغاة والمغامرين والأفاقين والمستبدين . إنه يؤمن بالأثر : كيفما تكونوا يولّ عليكم ، فضلا عن الآية الكريمة " إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ " ( الرعد : 11 ).
يقول صديقي : انظر إلى الشعوب التي كانت تحت الحكم الشيوعي الدموي في بولندة ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا والاتحاد السوفيتي وبلغاريا وألبانيا .. حتى زامبيا وكينيا وجمهوريات الموز ، فضلا عن إيران وأفغانستان وميانمار وتايلاند ؛ كلها شعوب تتحرك ، وتغير بيدها ولسانها وقلبها ، إنها تنهض وتتقدم وتنطلق إلا مصر المحروسة ، فهي مثل "شارون" في غرفة الإنعاش منذ زمان بعيد لا يموت ولا يحيا ، هناك من يطالب بفصل الأجهزة الواصلة إلى قلبه ومخه حتى يموت ويستريح ويريح ، ولكن هناك من يرى ضرورة بقائه ليكون فزاعة مخيفة ولو لم تحدث أثرا ، المهم أن يبقى جثة هامدة لا تتحرك حتى يوقن الآخرون أنها ستنهض في يوم ما وتقف على قدميها ، وربك قادر على كل شيء ..
أقول لصاحبي : إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، فيزداد غضبا نبيلا ، ويشتعل انفعالا كريما ، ويذكرني بالآية الكريمة " إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ " ( القصص: 8 ) ، فأقول له : " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا .. " ( القصص: 4 ) ، فيؤكد على أن فرعون ليس هو الحاكم وحده الذي يفرق ويمزق ويستبد ، ولكنه موجود في البيت والمدرسة والجامعة والعمل والشارع ، والحقل والسوق ، في تجارة الحديد والأسمنت والخشب ، وسيارات الميكروباص والنقل ؛ التريلا والمقطورة التي تقتل الألوف كل عام ،وضحاياها أكثر من ضحايا الحروب والمعارك العسكرية ، ومثلها العبارات المتهالكة والطائرات الخردة والقنوات الفضائية التي تبيع الرذيلة والناس تستسلم لها استسلاما كاملا ، ونواب الشعب الذين يصفقون للقوانين الظالمة التي تصادر حرياتهم ، وتقنن الاستبداد ، وتعتصر ناخبيهم وتقلب جيوبهم بحثا عن ملاليم ، وتفسح الطريق أمام اللصوص الكبار كي ينهبوا ثروة البلاد والعباد من أراض ومحاصيل ومنتجات ومصانع ، وأبواق النظام الذين لا يكلون ولا يملون من ترديد الأكاذيب ، وتصوير الأحوال على أنها فل الفل وعال العال..
وحين أحاول تهدئة صديقي العزيز ، و أقول له إن القرآن الكريم وصف فرعون بأنه كان من المفسدين ، وأطلب منه ألا يتحامل على الشعب البائس المسكين الذي تحمل ما لم يتحمله شعب آخر على ظهر الأرض ؛ ينظر إليّ بعين العتاب والأسى كأنه يتوعدني توعّد المحب الذي يتمنى ألا يقول لحبيبه إلا ما يرضيه ، ولكنه لا يملك ما يقوله ، ثم يفهم صديقي أني أريد أن أهدئ وتيرة الحوار ، أو أغير الموضوع ، ولكنه يرد بحزن شفيف :
ألم تقرأ قوله تعالى : " فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ " ( الزخرف : 54 ) ، والفسق كما تعلم وأعلم هو الخروج عن المنهج والتشريع والعقيدة ، وتأمل التوكيد الثقيل المشدد – على وزن السجن المشدد !- بإن المشددة والضمير ، والجملة الاسمية ووجود الموصوف والوصف الظاهرين ، والقوم الفاسقون ، أو الشعب الفاسق ، هو الذي خرج عن الفطرة والاستقامة والمنهج ، وانحرف إلى طريق الفساد والأنانية والهروب من الواجب ، وعدم تحمل المسئولية ، وإلقاء التبعة على الآخرين ، والاكتفاء بالولولة واللطم والصياح ولوم السلطة والاعتقاد أن ما نعانيه من بؤس وتعاسة هو قدر لا مفر منه ، وقضاء نافذ لا حيلة فيه ولا مرد له ، ومؤامرة من الجن والإنس لا قبل له بها ، إنه شعب لا يفكر إلا في بطنه ومصلحته وفائدته . أما الآخرون فليذهبوا إلى الجحيم ...
أقول لصاحبي : سامحك الله ! كيف تفسر إذا هذه الرغبة العارمة لدى الملايين من شعبنا في العمل والتفوق والتعاون والتراحم ، ولكنهم لا يجدون من يأخذ بيدهم أو يستجيب لهم أو يوجههم إلى طريق السلامة .. أتراهم وهم ينجحون في الخارج ويلمعون وبعضهم يأتي إلينا بجوائز عالمية مرموقة .. يقفون في موضع المتهم الذي تتولى توجيه الاتهام إليه ؟
يزفر صاحبي زفرات حارة تكاد تحرق ما حولها ، ويقول بأسى عاتب :
أنت تجادلني ، وإني لواثق أن أعماقك تحوي سخطا أكثر من سخطي ، وغضبا أقوى من غضبي ، ولكنك مشهور بالهدوء والصبر والتحمل ، وكان معروفا عنك في شبابك قدرتك على الامتصاص ، لتطحن الأحداث في رأسك ، وتستخلص منها الدلالات والنتائج بعد أن تهضم الأسباب والمقدمات .. أقول لك إن شعبنا أعطى التفكير إجازة طويلة ، ويريد من يفكر عنه بالنيابة ، ومن يتولى قضاياه بالنيابة ، ومن يدافع عنه بالنيابة . انظر مثلا : نحن نسلم أمورنا للدول الكبرى .. نطلب من أميركا وروسيا حل مشكلاتنا مع الغزاة ، ننسحب إلى أعماقنا ، ونغلق الأبواب ، كي نترك للآخرين مهمة العمل واتخاذ القرار بالنيابة عنا ، ليس في السياسة وحدها ، بل في الاقتصاد والتعليم والصناعة والتجارة والاستثمار ؛حتى الزراعة التي كنا أول شعب في العالم مارسها وقننها ، وصدر خبراته فيها إلى شعوب الأرض ، ننتظر اليوم شذاذ الآفاق الغزاة ليقدموا لنا تجاربهم فيها ، علما أن كليات الزراعة ومعاهد البحوث تمتلئ مخازنها بآلاف الأبحاث ( ماجستير ودكتوراه وغيرها) ، تقتات عليها الفئران وابن عروس والفأر النرويجي ، لأن أحدا لا تعنيه صفحاتها وما تضمه من خبرات وتجارب ونتائج !
ثم لماذا تذهب بعيدا ، وقد أطلق صاحبك الراحل " يوسف السباعي " – رحمه الله – صيحته الداوية قبل خمسين عاما أو يزيد حين صرخ في مصر : يا أرض النفاق ! .. انظر حولك تجد شعبا يحنو على الغريب والعدو ، ويقسو بعضه على بعض بصورة لا مثيل لها في العالم ، كل من يتعامل في الشارع في المكتب في أي مكان يستخدم قسوة أو فظاظة غير مسبوقة ، كل شخص يسحق الآخر بالكلمة واليد واللسان والفعل ، ومع ذلك انظر حولك تجد النفاق معششا في كل النفوس والأركان ، لأن شعبنا يعبد الأقوياء ، ويدوس الضعفاء ، وقد امتد النفاق ليكون للصوص والمنحرفين والأفاقين والكذابين ، ولم يعد قاصرا على نفاق الأقوياء والكبراء ومن بيدهم مصالح الناس وأقواتهم . قلّب وجهك تر النفاق منهجا له أصوله وقواعده ومخرجاته ، فقد صار بديلا للإخلاص والاستقامة والرشد والجدية ورضا الله . أقول لك : مات كاتب معروف وعالم مشهور قبل أسابيع ، فلم تهتم به الجامعة التي ينتسب إليها ، ولكن ابن أخته الوزير ، وابن أخته رئيس الجامعة الأخرى ، وأقاربه المهمين في جهات عليا هم الذين دار حولهم الاهتمام في سرادق العزاء ، وأعمدة الصحافة ، وبرامج الهواء .. أما الراحل الكريم فكان المناسبة التي أتاحت لجيوش المنافقين أن تدق الكعب وتضرب " تعظيم سلام " للمسئولين الكبار الذين لا يساوون جميعا بعض خالهم الراحل في علمه أو فكره ! ولكن القوم ترجموا المثل الشعبي الذي يتحدث عن كلب العمدة الذي خرجت القرية كلها لتدفنه يوم مات ، أما العمدة نفسه حين توفاه الله فلم يخرج أحد في جنازته ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ...!
قلت لصديقي وقد أجهده الغضب : لا تغضب مني يا أبا خليل ؛ سأقول لك ما قاله خليل الرحمن : " إني معي ربي سيهدين" (الشعراء :62). "رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين " ( الشعراء : 82 ) ، وأستأذنك لألحق بالطائرة كي أطوف إن شاء الله بالكعبة الزهراء علّ الله ييسر لي الطواف ، ويُسخّر من يأخذ بيدي بعد أن أصبحت ضعيفا مجهدا ، لا أقدر على الكلام أحيانا .. ولله عاقبة الأمور .
حاشية :
صبيان الكنيسة في صحافة التعري والسيراميك مازالوا يشنون حملاتهم المغرضة على المساجين الذين يقال إنهم تهربوا من الضرائب ، ولكنهم يتجاهلون عمداً رجال الأعمال النصارى وتهربهم من الضرائب ويتجاهلون جرائم تجارة الأطفال المحرمة دينيا ودوليا ؛ المتهم فيها بعض من ينتسبون إلى الكنيسة ،بل يحللون هذه التجارة الحرام، وسكتوا عن جريمة تسليم الفتاة التي أسلمت واسمها عبير لتلحق بأخرى اسمها وفاء قسطنطين ، خرجت من سيطرة الدولة لتدخل تحت سيطرة الجمهورية الدينية السوبر .. بعض هؤلاء الصبية يريد أن يكون أستاذا جامعيا للأسف !
...........................................
*المصريون ـ في 3/3/2009م.