مرحبا من جديد بك أستاذ أسامة
وإني لأغبطك على دقة عرضك ، وقدرتك الفائقة على التفريع الدال على الشمولية في منهج تناولك للقضايا
لا سيما وأنك تضيف إلى إجاباتك على أسئلة السائلين ما يحتاج إليه المتلقي مما له صلة منهجية بسؤاله ، فتقع الفائدة على نحو أشمل وأجلى .
سأقتبس من إجابتك المستفيضة الماتعة ما له صلة بموضوع سؤالي استثمارا للوقت الذي لا يسمح الآن بتناول كل التفصيلات بالتعليق والتعقيب ، وما لم أورده من كلامك لا يخرج عن كونه لازما أو مقتضى لما أوردت ، وقد جعلت المقتبَس بلون مغاير ( بني ) ، وتحته تعليقي عليه .
خلاصة القول إذن أن القِيَمَ وهي مصطلح اجتماعي أخلاقي
يُطلق على الإسقاطات الموضوعية لصفة الله،
يلزم من هذا أن صفة الله تعالى ليست قيمة في حد ذاتها ، وأنها ليست مستقلة في حقيقتها ودلالتها ، وأنه لا حاجة بنا مثلا أن نقول في مثل قوله تعالى ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) أن هذا القسط الذي يحاكم الله تعالى إليه عباده يوم القيامة ليس هو القسط الذي يعرفه العقل ، لأنه لا يخرج عن ( النماذج والصيغ القيمية في إطارها الموضوعي التطبيقي الاجتماعي ) ....
اعتبارا لهذه القاعدة في إدراك صفات الله تعالى كيف يمكن للعقل أن يصور لنا مشهد محاكمة الله العادلة للناس يوم القيامة ؟
إن النصوص – ونقصد بها هنا نصوص القرآن والسنة – التي تصدت لاستصدار أحكامٍ بِخصوص القيم – التي هي في نهاية المطاف أحكام العقل على الأفعال الاختيارية – لم تُعَالِجْ تلك القيم بصورة تنم عن انفرادها بِحَقِّ معالجتها. فهي – أي النصوص – في هذا المقام لم تفعل شيئا أكثر من تأكيد ما قرره العقل.
هذا نزول بما أسس الله تعالى عليه أحكامه على الناجين والمغرقين في كل الأمم عن منزلته الضرورية ، وهو إنزال الوحي ، وبعثة الرسل في مثل قوله تعالى ( وكذلك أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ) يونس
فمدار مشهد التكليف ومشهد الجزاء هنا على إبراز قيمة العدل الإلهي كما هو ظاهر ، لكن مداره الأول الأعظم على نفس بعثة الأنبياء بالوحي كما في الآية الأخرى في مطلع السورة : ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس )
فهما قيمتان اثنتان : ( قيمة العدل الإلهي ) الفاصل بين المرسلين والمرسل إليهم في الدنيا والآخرة
و ( قيمة الفعل الإلهي ) المجسد لشرط العدل
فهب جدلا أن العقل قادر على تقرير ( قيمة العدل الإلهي ) المقررة في الآية الأولى ، وأن هذه الآية ليست سوى تأكيدا لتقرير العقل
فكيف يقدر على تقرير القيمة الثانية ( الفعل الإلهي ) المقررة في الآية الثانية ؛ بحيث يصح الاستغناء بتقريره عن تقرير الآية ما دامت مجرد تأكيد لتقريره ؟
علما بأن ( قيمة الفعل الإلهي ) هنا ( بعثة 124000 رسول ونبي ) ، و ( إنزال قرآن وإنجيل وتوراة وزبور و.. ) وما لا نعرفه مما أشارت إليه الآية الكريمة : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا . ورسلا قد قصصناهم عليك ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) النساء : 163 – 164 .
هل يصح في ميزان الحكمة الإلهية أن ( تهدر قيمة الزمن الإلهي ) على هذا النحو الهائل في حين كان باستطاعة عقل واحد من عقول ( المرسلين ) أو ( المرسل إليهم ) الاستقلال بتقرير ما قررته كل الكتب المنزلة ، وما قرره كل الأنبياء والمرسلين ؟
بل ألا يصير نفس ( اصطفاء الله لرسله وأنبيائه ) ونفس ( تكلمه ) سبحانه – فضلا عن الزمن المبذول في كل ذلك - بهذا الاعتبار سدى سالبا لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله ؟
فإن قيل : ( كون نصوص الوحي مؤكدة لتقريرات العقل لا يعني كونها فضلة )
فالجواب : أن كونها مؤكدة لتقريرات العقل يقتضي حتما سبق العقل إلى إدراك ما أكدت ، فما وجه حاجته إليها ؟ ؛ علما بأن هذا في ميزان الحجاج اضطراب يثير احتجاج المكلف .
ولو لم ترد تلك النصوص محتوية على تلك الأحكام لما تغير شيئ ولبقيت الأفعال الاختيارية خاضعةً لحكم العقل، ولبقيت المواقف منها معروفة من خلاله.
هذا يحتاج إلى تفصيل نفرق به بين ( مواقف العقل الجزائية في الدنيا ) و ( مواقف العقل الجزائية في الآخرة )
سلمنا جدلا أن العقل قادر على امتلاك ناصية أحكام الدنيا تشريعا وقضاء – وهذا نسبي إلى حد بعيد - فهل يملك القدرة على تصور قيمة العدل الأخروي فضلا عن شروطها الإجرائية هناك ؟
وهل يستطيع العقل استيعاب هذا الموقف ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) فضلا عن ادعاء الاستغناء عنه ، وإقامة بديل له ؟ .
وإذا كان تلك النصوص المحتوية على تلك الأحكام ( نفس كلام الله ) والعقل ( نفس خلقه ) – وهو الحق – فلحكم من أخضع الأنبياء والرسل أفعال أقوامهم الاختيارية ؟ لحكم العقل أو حكم الوحي ؟
فإذا كان الجواب أن إشكال التفريق المقتضي الجمع أو التوفيق بين العقل والوحي لم يكن قائما لديهم ، فما الذي جعل موسى عليه السلام يعتذر للخضر عن استدراكه عليه لما ( أغرق السفينة ) و ( قتل الغلام ) ؟
وإذا كانت أحكام الخضر تلك ( عدلا ) ، فهل يستطيع العقل تفسير تعليلاته الأخيرة لها قبيل فراقه لموسى عليه السلام ؟ ، فإذا كان يستطيع أفلم يكن مع موسى عليه من ( تقريرات العقل ) وهو النبي المصطفى ما يمكنه من إدراك العدل في تلك الأحكام ، ويخلصه من العتاب المحرج المشعر بالعجز عن التعليل ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) ، علما بأن العجز عن الصبر فرع عن العجز عن الفهم ؟ .
وكنتيجة لكل ما سبق نخلص إلى رفض المقولة السائدة في أوساط إسلاميي هذه العصور والمستندة إلى اجتهادات إسلامية قديمة، والتي تفيد بـ "ألاَّ اجتهاد مع النص"، وأن الاجتهاد يأتي فقط فيما لم يرد فيه نص. نرفضها لنؤكد على حقيقةٍ أخرى تحمل المعنى المقابل تماما لهذه المقولة. فالنص ليس حَكَماً نهائيا، على العقل أن يعمل ويتحرك داخل إطاره، وإلاَّ فلا حاجة بنا إلى هذا العقل.
بل إن العقل هو الأساس وما على النص إلاَّ أن يُفْهَم في إطار مقررات العقل.
هذا ينقض دعوى الحرص على تحقيق التكامل بين النقل ومقررات العقل ، لأن العلاقة بينهما صارت بهذا الاعتبار
علاقة ( سيد يقرر ) بـ ( مملوكه المطيع المدرك لحدود حمى سيده )
وبناء عليه فـ "لا نص مع العقل" إلاَّ إذا أُتيِحَت فرصةُ فهمِ النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته وأنساقه المعرفية المختلفة سواء كانت أنساقا لغوية أو أسطورية أو تاريخية.
هذا لازم سلطة السيد المهيمنة على نشاط مملوكه ، وهذا الاستثناء ( إلاَّ إذا أُتيِحَت فرصةُ فهمِ النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته وأنساقه المعرفية المختلفة سواء كانت أنساقا لغوية أو أسطورية أو تاريخية. ) ليس إلا تشديدا لخطوط الحمى الحمراء ، لأن ( فهم النص بصورة لا تتعارض مع محتوى العقل ومعطياته .... ) لا مصدر له آخر المطاف إلا العقل ، وفي هذا من التحكم والإقصاء ما يخالف أبسط مقتضيات الموضوعية المبثوثة في العقول السليمة ، وما أشبه مجال ( نشاط النص ) هنا ببرلمانات الأنظمة السائدة .
وما تلا هذا من كلامكم أستاذ أسامة عن ( أحكام الشريعة الإسلامية ) لا يخرج عن هذا النطاق الموسوم بجعل الشرع خادما ذلولا للوضع ، فعسى أن يتاح الزمن للتفصيل فيه أكثر ، والإجابة عن طروحه طرحا طرحا
أعود الآن إلى قولك :
إن لكل تلك العلوم التي خشيت عليها يا أستاذنا الكبير "أبا عامر" من "جرح وتعديل" و"رجال" و"مصطلح"، دورها إلى جانب العقل والقرآن في استكمال دائرة الاعتمادية لتلك النصوص في مجال الأحكام والأخبار. وهو الأمر الذي نورده فيما تبقى من تحليل آملين أن تكون فيه الإجابة المباشرة على تفاصيل أسئلتكم يا أستاذنا الكبير.
فأقول : لست أخشى على تلك العلوم أستاذ أسامة لأنها أكبر من أن تحتاج إلى دفاعي عنها ، وانتقاد غيري السلبي من شأنها لا ينقص من قيمتها المعرفية والحضارية مثقال ذرة .
إن أي حديث عن منظومة القواعد التي ستمثل الركيزة المعيارية لمحاكمة المرويات المنسوبة إلى شخص الرسول، يتطلب أمرين اثنين، أولهما، القيام بتحليل مكونات جسم الرواية "أي مُكَوِّنات النص المروي" للتعرف من خلال هذا التحليل على حقيقة التنوع في هذه المكونات، وهو التنوع الذي سيترتب عليه بالضرورة تنوع مقابل في آليات المحاكمة "أي في قواعد المحاكمة".
أما هذا الأمر الأول فمنطقه منكوس إذ ما كان لنا أن نعرف ( جسم الرواية "أي مُكَوِّنات النص المروي ) لولا السند ، وهذه حقيقة بدهية تقررها سنة التاريخ ، ولو أمكننا القفز على حاجز الزمن اختزالا للقرون الفاصلة بيننا وبين مصدر الحديث ( النبي صلى الله عليه وسلم ) لاستغنينا عن رواته .
وهذا يقتضي أن أسانيد الحديث أنساب متونه ، وأن تجاوز النسب يعني عدم التفريق بين الأصيل والدخيل ، وبين العريق واللقيط .
أما الأمر الثاني الذي يتطلبه الحديث عن قواعد محاكمة النص المروي، فهو التَّعَرُّف – انطلاقا من المرجعية المعرفية المعتمدة لدينا – على الآليات المفترض اتباعها لمحاكمة كلِّ واحد من مكونات جسم النص، المحاكمة التَّثَبُّتِيَّة التي من شأنها أن تحسم قطعا مسألة صحة أو عدم صحة نسبة ذلك النص المروي إلى مصدره الذي هو الرسول محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
وهل يتصور للنص المروي صحة دون تصور حال من رواه ؟
إننا لا نزال نؤكد في أداء رسالة الإعلام على المهنية والمصداقية ، وهذا التأكيد لا يعني إلا شيئا واحدا ،
هو أمانة النقل التي لا معنى لها إلا أمانة الناقل .
فإذا قررنا التثبت من الخبر الإعلامي وكشفنا صحته أو زيفه فإننا لا نلوم أو نشيد بذات الخبر ،
وإنما نلوم أو نشيد بمصدره الأول ( الناقل ) .
وهذا محل اتفاق عقلاء العالم ، ولا يخفى أن علوم الحديث التي تولت صيانة مروياته
لم يدفع علميتها وموضوعيتها من القرن الرابع الهجري إلى الآن سوى جماعة معدودين من غير أهل الاختصاص .
وأقول ( من غير أهل الاختصاص ) لأن هؤلاء الجماعة المعدودون لم يستطيعوا إلى الآن الاستدراك على نظريات تلك العلوم بتفنيد معرفي شامل دقيق يضاهئ دقة المنهج العلمي الذي قامت عليه ،
فضلا عن أن ينشئوا منهجا بديلا ، يمتلك مقاومة الأول وصموده المستمر إلى الآن .
إن المنهج العلمي الذي تولى صيانة الحديث النبوي لم يكن مجال تجسده فكرة ،
أو رؤية ، أو بحثا ، أو مؤسسة فكرية ، أو مركزا ثقافيا ، ...
لقد كان مجال تجسده أمة امتد حكمها حتى غمر آفاق الدنيا ، وعاصرت وحاورت وناظرت وخالطت بمناهجها العلمية وحضارتها السمية أمما تخالفها ديانة وأعرافا ، ولم تكن عمدتها في كل ذلك إلا تلك المرويات في صورتها الناضجة نقلا وعرضا وتوثيقا وتصنيفا في أمهات كتب الحديث ، فما انتقد منهجها الشامل في التثبت من تلك المرويات مخالف فضلا عن الموافق ، حتى ظهرت حركة الاستشراق التي ابتدعت في أدائها السلبي مناهج الطعن في مرويات الحديث النبوي ،
محاولة النيل من منهج معرفي إسلامي متكامل دون جدوى .
إن محاكمة المروي بقواعد لا تدخل في اعتبارها حال راويه هدم لقواعد الدين والعلم جملة ،
وهو أيضا تصنيف للراوي في ( طبقة غير العقلاء )
لا سيما إذا كانت نتيجة المحاكمة الحكم على المروي بالبطلان عقلا وهو صحيح نقلا .
إن ما نحن بصدد التأكيد عليه هنا من ضرورة وجود علم محدد وقواعد محددة لغرض التَّثَبُّت من صحة المرويات، قد عرفه المسلمون باسم "علم الحديث ومصطلحه"، وبالتالي فلسنا نَدَّعِي أننا ندعو إلى إبداع علم غَفِلَ عنه السابقون.
محل صحة هذا ما إذا كان في السابقين – وهم جم غفير - من فطن لضرورة ( علم جديد ) كلا أو بعضا ، وإلا فقد غفلوا عنه فعلا !!!
ولكننا مع ذلك ندعو إلى إحداث تطوير فعال في بعض جوانب هذا العلم، بعدما أيقنا أنه بحدوده المعروفة لم يعد قادرا – في تصورنا – على الإحاطة بكافة مقاييس التصحيح التي تعتبرُ الهدفَ الأساسي من وراء كل قواعده
شرط التطوير الحفاظ على أصل المطوَّر في أقل أحوال الاعتبار ، وسيأتي عند الحديث عن حديث ( أطيط السماء ) وحديث ( حنين الجذع ) أنها دعوة إلى استبعاد هذا العلم ، لا إلى تطويره .
إن كل نص رُوِيَ عن الرسول يتكون من جزءين رئيسين يمثلان معا جسم النص ككل. وهذان الجزءان هما "السند" و"المتن". أما السَّنَد فهو التوثيق التاريخي الزَّمني للنص ويتضمن سلسلة الناقلين الذين مَرَّ النص عبرهم إلى أن وصل إلى آخر من رواه. وأما المتن فهو النص في ذاته مُتَضَمِّناً الفكرةَ التي تم تناقلُها عبر الرواة مَصْبُوبَةً في قالب لغوي تعبيري معين. وما وُجِدَ السند إلاَّ من أجل المتن، بل وما تم وضع أسس التَّثَبُّت القاسية من السند إلاَّ من أجل المتن، لأن إيصالَه إلى اللاحقين هو الهدف من العملية ككل. فسند بلا متن كلام فارغ لا معنى له، لأن الناقلين والرواة إنما يفترض فيهم أنهم ينقلون نصا مُتَضَمِّناً لفكرة ما. في حين أن متنا بلا سند هو كلام له معنىً واضح
هذا ليس صحيحا بالنظر إلىأصول علم الرواية ،لأن ( متنا بلا سند ) ليس حديثا في اصطلاح المحدثين ، فلا يستحق العناية التثبتية ، وهذا ما يدل على قيمة السند العلمية ، ولطالما ألقيت على عهد المحدثين مرويات ، فكان النقاد يقولون لرواتها : ( سموا لنا رجالكم ) .
وإن أمكن القول أنه غير صحيح النسبة إلى مصدره. فعدم صحة النسبة لا تُلغي المعنى عن المشكوك في صحته هذا.
هذا يجعله كلاما مجردا عن صفة ( الحديث ) ، ومقتضاه أن يصير كلام كل من تكلم قابلا لإجراءات التثبت التي وضعها المحدثون ، وهذا لا يعقل ، وهو هدر للوقت في أقل أحوال فساده .
والنص الصحيح كما يفرض ذلك منطق الأمور، هو النص الذي يصح سندا ومتنا في الوقت ذاته.
فلا صحة إذن لنص صَحَّ سنده ولم يصح متنه
هذا استنتاج غير علمي ولا منطقي بناء على قولك السابق ( وما وُجِدَ السند إلاَّ من أجل المتن ) ، وهو دليل على أن من قواعد تطوير هذا العلم لديك قطع الصلة بالكلية بين المتن والسند ،
وهو يقتضي أن رجال السند الصحيح أشبه بالآلات الناقلة ؛ لا يعقلون ما يروون .
نعم ، قد يحتاج متن صح سنده إلى تأويل جامع بينه وبين مدلول نص قرآني ، أو نص حديثي آخر صح سنده ،
وأقول ( تأويل جامع ) لأن هذا يقع بين النصين من نصوص القرآن
فيما يعرف بعلم ( الأشباه والنظائر ) ، فما ظنك بنصوص الحديث .
كما أنه لا صحة لنص صَحَّ متنه ولم يصح سنده.
وإنه إذا كان النص الصحيح متنا غير الصحيح سندا لا تصح نسبته إلى الرسول بسبب عدم القدرة على التأكد من أن الرسول قد قاله أو نطق به فعلا، فإن صِحَّةَ النص الصحيح سندا وغير الصحيح متنا تسقط لاعتبار آخر مُختلف، هو استحالة أن يكون الرسول الكريم قد قاله أو نطق به من حيث المبدأ.
من الناحية النظرية المجردة، قد يصح نصٌّ – في نسبته إلى الرسول – صح متنا ولم يصح سندا، بينما لا يصح نص صح سندا ولم يصح متنا، وذلك لإمكان أن يحدث خلل في سلسلة الرواة وهم يتناقلون متنا ورد من مصدره، لكن يستحيل أن يكون الرواة مصيبين في تناقلهم متنا غير صحيح، لاستحالة أن يصدر عن رسول الله أساسا متن يعارض العقل والتجربة ولا ينسجم مع أي من أنساقهما المعتمدة
هذا يخالف أقل قواعد العلم اعتبارا ، فضلا عن قواعد علم الحديث ، ولو كان مرد تصحيح الوحي إلى العقل والتجربة لما وصلنا ذاك الكم الهائل من الأحاديث الصحيحة ، ولصححها بالعقل والتجربة عقلاء علم الحديث خلال أكثر من عشرة قرون ، ولم يستبقوا منها لعقلاء زماننا غير المختصين شيئا ، أو يكونون قد استبقوا نزرا يسيرا ، هذا إذا كانوا في ميزان ( العقل والتجربة ) جامعين بين علمي المنقول والمعقول .
بل وقد يعارض القرآن أيضا. وإذن فلا وجود في صحة المرويات عن الرسول لصحة مطلقة بأي حال. بل إن الصحة نسبية، أو لنقل أنها واقعية عملية، أي تكفي عقلا لإيجاب العمل بالنص في ضوء استحالة الصحة المطلقة.
هل هذا يعني أن الصحة المطلقة في تقريرات العقل ؟ ..
وهل لديه من جبروت الفهم والإدراك ما يستطيع به استيعاب كل تقريرات الوحي ؟ ..
لا أحسبه كذلك وإن كان آية من آيات الله ؛ إلا أنها لا تبلغ درجة الوحي الذي هو صفة من صفاته .
نص غير صحيح متنا، صحيح سندا،
وهو نص خاطئ خطأ مطلقا، أي موجبا بصورة مطلقة لترك العمل به، ولا يمكنه أن يكون صحيح النسبة إلى الرسول رغم صحة سنده، نظرا لاستحالة أن يرد عن الرسول متن خاطئ.
مقتضى هذا سلخ شطر الدين ، وإسقاط آلاف الأحاديث التي صحت سندا ، ولم يحالفها الحظ في إصابة رضا العقل ، ولازمه إسقاط حجة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم التي قامت على قدر ضروري من النصوص الحديثية ؛ تلقاها عنه الذين عاصروه ومن تلاهم من سائر القرون والأجيال المسلمة بالقبول رواية ونقدا ، فأنا أتساءل : ما الذي تميزت به ( عقول المتأخرين ) حتى استحقت هذا التميز ، بحيث أعجزت تلك المتون الصحيحة سندا ( عقول العلماء المتقدمين ) ؟ ، وكان لزاما على كل مسلم مكلف أن ينتظر تقريرات العقل المعاصر كيف يفرق بين ما يجب العمل به وما لا يجب العمل به من التشريع !! ..
ونوضح أيضا، أننا عندما نقول أن المتن يسقط إذا عارض العقل أو التجربة أو القرآن أو أياًّ من الأنساق المعرفية المعتمدة لكل من العقل والتجربة، فإننا لا نزعم أن السابقين وهم يدرسون المتن لم يقولوا بذلك
فمن قال بذلك منهم ، وجعل ( العقل والتجربة ) مرجع طعنه في صحة المتن الصحيح سندا ، وسلم له ذلك بحيث تلبس بالمشروعية ، وصار قابلا لأن يعمل المكلف بمقتضاه ؟
خذ مثلا أخبار ( خروج الدجال ) و ( خروج يأجوج ومأجوج ) وهي أخبار عما سيقع مستقبلا ، وسيأتي حديثك عنها ..
هل طعن في صحتها أحد من العلماء المتقدمين استنادا إلى ( تقريرات العقل والتجربة ، أو المقياس القرآن ) ، ثم اعتبر طعنه بحيث لم يبق للعمل بمقتضاها أثر في تصورات المسلمين ولا في سلوكهم ؟؟ ..
أم لا يزال المسلمون خاصتهم وعامتهم يقرؤون سورة الكهف ليلة الجمعة من كل أسبوع ( لأنها عاصمة من فتنة الدجال ) يقينا ؟؟؟ ...
بل إننا نزعم أن قضايا جديدة دخلت في معاني التعارض مع العقل ومع التجربة ومع أنساقهما المعرفية، وبالتالي مع القرآن ذاته، فرضتها التوسعات الهائلة التي حصلت في المساحات المعرفية الخاصة بالعقل وبالتجربة، وهو الأمر الذي يدعونا إلى أخذ هذه التوسعات بعين الاعتبار، في سياق تحديد معاني التعارض النَّصِّي مع المرجعيات المعرفية المذكورة.
لازم هذاأن حصول تلك التوسعات مستمر ، وأن أخذنا إياها بعين الاعتبار متحول تبعا لتطورها ، وأن انقراض تلك المتون الصحيحة سندا سيزداد حتما ، وهذا سيجعل التكليف ألوهية لــ ( العقل والتجربة ) لا لله الأول والآخر .
بما أن العقل لا يتصور أن لله أعضاء، فلا يصح نصٌّ عن رسول الله ينطوي متنه على إشارةٍ إلى أن لله أعضاء، إذا لم يكن هذا المتن قابلا لأن يُفْهَم على وجه المجاز بدون تأويل صارخ لا تحتمله اللغة "أي في إطار أحد الأنساق اللغوية". وبالتالي فما يقال مثلا أنها أحاديث تكلمت عن كشف الساق يوم القيامة معتبرة أن الساق هي "ساق الله"، إنما هو كذب على الرسول ، لتَضَمُّن متون مثل هذه الأحاديث تَجسيدا وتشبيها مُخالفا للعقل في حق الله
كذب العقل وأهله في هذ ا كذبا صريحا ، وكم في ( السعي الحثيث في دفع التشبيه والتجسيد ) من ( تعطيل ) ، وكم يبقى لله جل وعلا من عناصر الحقيقة الإلهية إذا جرد مما وصف به نفسه ، فضلا عما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم ؟؟ ..
وبِمعنى أكثر دقة، فإن مثل هذه النصوص لو كانت قرآنية لأمكن فهمها في إطار نسق أسطوري غير تجريدي
وهل يصح في عقل سليم اعتبار الأخبار القرآنية التي لا يدركها العقل أساطير ؟؟
ليتني أكون هاهنا مخطئا في فهم المراد ...
وألتمس منك أستاذ أسامة – استنادا إلى تقريرات العقل والتجربة ، وما ذكرت من مقتضيات المقياس القرآني – إفادتي في تفسير قوله تعالى ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) لا سيما وأن في التعقيب حث المخاطبين على استعمال العقل في إبصار سر الآية المشار إليها في هذا النص القرآني من سورة القرة .
وكذا قوله تعالى من سورة النمل : ( ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) لا سيما وأن في استدراك الهدهد ( تعقلا واضحا ) ..
وكذا قوله تعالى من سورة من نفس السورة : ( حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أبها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) لا سيما وأن في تحذيرها بني جنسها ( تعقلا بالغ الرقي ) ...
وعسى أن لا تقول أستاذ أسامة أن هذه الأخبار مجرد أمثال أو أساطير ..
وقد آثرت التمثيل بهذه النصوص صيانة للنصوص القرآنية المشتملة على صفات الله تعالى ..
وبالتالي فلا تصح عن رسول الله الرواية التي يقال أن الرسول اختبر فيها إيمان وإسلام جارية بأن سألها "أين الله؟"، لأن هذه الرواية التي أشارت فيها الجارية – مُجيبةً عن مكان الله – إلى السماء، أي إلى الأعلى، تنطوي على مخالفة للمعقول مادامت قد حددت مكانا يوجد فيه الله ومكانا لا يوجد فيه. ولا يجوز أن يصدر عن رسول الله أمر كهذا فيه من التشبيه والتحجيم والتَّحْييزِ لله ما لا يتصوره العقل، خاصة وأن النص لا يحتمل تأويلا يُحَوِّله إلى المجاز بصورة يُفْهَم معها في إطار النسق اللغوي، وأن القرآن لم يتحدث عن ذلك الموضوع بشكل من الأشكال لاعتباره مفهوما ضمن "النسق الأسطوري".
عجبا .. أي اعتزال هذا ؟ ..
تالله لو ترك وصف الله تعالى للعقل لما كان الرب – تعالى علوا كبيرا - إلا هباء ، ولما كان هو الرب الذي يعرفه المسلمون ، تعالت ذاته وصفاته وأفعاله عن التعطيل .
وما يقال عن هذه الرواية يقال وبالمنطق نفسه عن رواية أخرى تحدثت عن رؤية المؤمنين لله يوم القيامة. فمادامت هذه الرواية قد حَيَّزَت الله فإنها وللأسباب السابقة نفسِها رواية لا تصح.
وهل يصح بالمنطق نفسه إيمان بيوم القيامة أو اليوم الآخر ؟ إذ كيف يتصور تولي الله الحكم يومئذ دون حضور يصح معه مخاطبة المكلف ومحاورته ( مكانكم أنتم وشركاؤكم ) ، وإشعاره بالحكم ( ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) ؟ ، ... فإذا كان هذا الحضور المشترط - في حكم العقل - لتلك المحاورة بحاجة أيضا إلى تأويل مجازي ، فوجود يوم القيامة نفسه بحاجة إلى تأويل مجازي يخرجه عن المستحيلات التي كلما ضاق العقل بخبر رده إليها ..
وما أعظم العبرة في ( تجربة الإمام الجويني العقلية ) إذ آلت آخر المطاف إلى اختياره الموت على ( عقيدة عجائز نيسابور )
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن النص القرآني الذي يبدو متعارضا في ظاهره مع معطى العقل بخصوص الموضوع الذي يعالجه لا يتم فهمه في ضوء "النسق الأسطوري" إلاَّ بعد فهمه في ضوء "النسق اللغوي" أولا، فإن استعصى النص على هذا النسق يتم بعد ذلك دمجه في معطيات الأسطورة. أي أن ما يُمكن أن يُظَنَّ أنها آيات قرآنية تحدثت عن وجود الله في السماء أو عن النظر إليه يوم القيامة ليتسنى لنا القول بإمكانية فهم الأحاديث التي ناقشناها هنا في إطار الأسطورة أو في إطار "النسق الأسطوري"، هو ظن في غير مَحله، لأن آيات من مثل، "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"، أو من مثل، "ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات"، هي آيات رغم ما يبدو من تعارض معطاها المباشر مع معطى العقل، إلاَّ أنها لا تستعصي على اللغة،
ويعتبر فهمها في إطار "النسق اللغوي" أمرا مُمكناً
وماذا يغني فهمها في إطار النسق اللغوي إذا كان هذا الفهم لا يرقى بإيماننا إلى اعتبارها واقعا أخبر عنه الرب المستوي إلى تلك السموات استواءه اللائق بألوهيته جل وعلا ؟ .. إن النسق اللغوي لا ينشئ عقيدة ولا يزيلها ، والإيمان على أساسه لا يُدخل في الإسلام ولا يُخرج منه ، فكيف نحتكم إليه في تقرير أركان الإيمان بالغيب ؟ .. أم أن هذا العقل الملجئ إليه يستوي في ميزانه الإيمان وعدمه ؟؟ ..
نقول.. بما أن العقل لا يتصور ذلك، فلا يصح نص عن رسول الله ينطوي متنه على إشارة إلى أحداث وتنبؤات مستقبلية تتضمن بشكل أو بآخر تدخلا لعنصر الإرادة في تكوينها – أي تلك الأحداث – وبالتالي فلا صحة مطلقا لأي نص مروي عن الرسول يتحدث عن المستقبل "المهدي، الدجال، نزول المسيح، ظهور الدابة، ظهور يأجوج ومأجوج، الملاحم، اقتتال الصحابة، الفتن، ما سيحدث لآل البيت،.. إلخ". خاصة وأن القرآن الكريم قد تحرر تماما من وقع الأسطورة في هذا الميدان من التنبؤات ،
وهل هناك فرق في لزوم التصديق بما أخبر به القرآن بين الأحداث الآتية والأحداث السابقة ؟ ..
وبناء على ما سبق فإننا نرى أن كافة الروايات المنسوبة إلى الرسول بخصوص التاريخ الماضي وبخصوص عالم الغيب غير التنبئي، هي روايات غير صحيحة المتون إذا انطوت متونها تلك على إضافات معلوماتية وأَحْداثية على ما في النصوص القرآنية التي تعرضت لها بالإجمال والعموم، فيما تُقْبَلُ المتون الشارحة مجرد شرح لما بدا غامضا من تلك الأخبار القرآنية. أما بخصوص ضوابط الفصل بين المتن الشارح والمتن المضيف للمعلومات فهي واضحة ولا لبس فيها، إذ يجب أن يقتصر الشرح على توضيح ما هو موجود من معلومات دون إضافة أي معلومة جديدة. ومن الأمثلة على ذلك، موضوع "الجن" وقصة "آدم والشيطان" و"عذاب ونعيم الآخرة" و"أحداث يوم القيامة والبعث والنشور" و"قصص الأنبياء والرسل والأمم الغابرة". فمثل هذه القضايا يُقْتَصَرُ في معرفتها الوحيوية على النص القرآني إضافة إلى النص الرسولي الشارح الذي لا ينطوي على معلومة جديدة .
إن هذه القضايا الخبرية ومثيلاتها، بعضها فُصِّل في القرآن وبعضها أُجْمِلَ. الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أن الله فصل ما اقتضت حاجتنا أن يفصله، وأجمل ما اقتضت حاجتنا أن يجملَه وحسب. وبالتالي فلا معنى لقيام الرسول بتفصيل ما أجمله الله
لأن الله إذا كان يفصل ما يرى تفصيله ضروريا دون إحالة مسألة التفصيل إلى الرسول، فلاشك إذن في أن امتناعه عن التفصيل عندما أجمل، لن يكون بسبب رغبة منه في إحالة التفصيل إلى الرسول، بل بسبب عدم حاجتنا إلى التفصيل أصلا، لا منه سبحانه ولا من رسوله عليه الصلاة والسلام.
لا يقال هذا في حق رسول أنزل عليه النص الذي يبينه ، إذ هو أعرف به من غيره ، وأدرى بالقدر التبييني التفصيلي الضروري لتبليغ رسالته ، وبمعنى آخر إذا كان سند متن حديث من الأحاديث المفصلة لما أجمله القرآن صحيحا فمعنى هذا أنه قد وقعت روايته على ألسنة ناقليه من أولهم إلى آخرهم - وإلا فلا معنى لقولنا ( إنه صحيح ) – فأول متهم بالغفلة عن بطلانه الصحابي – إذا سلمنا باستحالة تحديث النبي صلى الله عليه وسلم به - ، أليس في الصحابة – وقد عمت البلوى بهذا الصنف من الأحاديث – ذو عقل راجح يكشف بطلان الحديث المفصل لمجمل القرآن ؛ وهو يعرف أن من ( خصائص كمال عقل النبي صلى الله عليه وسلم الاكتفاء بما اكتفى به القرآن ) ؟؟ .
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو.. إن حدث المعراج إن حصل لهو أشد أهمية وأكثر عموما للبلوى من حدث الإسراء، فلماذا يذكر الله الإسراء بوضوح تام فيما لم يذكر المعراج بنفس مستوى الوضوح والقطع؟ لا بل لماذا يخبر عن الإسراء في سورة، فيما يخبر عما يُظَنُّ مجرد ظن أنه "معراج" في سورة أخرى؟ أي لماذا لم يتم الإخبار عن الحادثتين معا إذا كانتا حصلتا في الليلة نفسها؟ هذا إذا افترضنا أنه بالفعل أخبر عن المعراج من غير وضوح في سورة النجم!!
والأدهى والأمر أن المسلمين يربطون بناء على مَرْوِياَّتٍ صحيحة عندهم سندا، لورودها في صحيحي البخاري ومسلم، بين حادثة المعراج وبين فرضية الصلاة في القصة الغريبة وغير المنطقية والأشبه بمساومة بين الرسول محمد وربه بواسطة نبي آخر هو موسى الذي لعب دورا أشبه بأدوار السماسرة والوسطاء والعرابين.
هذا غمز لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام في صورة تنزيه– قصده الكاتب أم لم يقصده -، وإلا فليس في كتب التفسير على كثرتها واختلاف مذاهب مصنفيها الفكرية والمذهبيةجراءة على إبطال أحاديث الإسراء والمعراج الصحيحة ، أفيدخلون في عموم المسلمين المتورطين في مغبة الغفلة عن ( المقياس القرآني ) ؟ .. إن أقل مفاسد تطبيق ( المقياس القرآني ) الإيقاع بين الأمة وبين نبيها على نحو يجرؤها عليه ، ويفت في عضد إيمانها به وبالقرآن الذي أنزل عليه ..
فإذا علمنا أن الصلاة في الفهم السائد هي أهم فرائض الإسلام، فهل يعقل أن ترتبط بحادثةٍ غير محسومة قرآنيا، في الوقت الذي يحسم فيه القرآن قضيةً أقل أهمية وأقل فائدة منها حسبما هو وارد إلينا، وهي حادثة الإسراء التي لم يترتب عليها حسب النص القرآني أيُّ حكم اجتماعي أو تَعَبُّدي ذي أهمية كالصلاة؟!
إن هذا التحليل الذي نقدمه لنموذج من نماذج تعارض الأخبار القرآنية مع الأخبار الواردة عن رسول الله بهذا المستوى من الوضوح، ليؤكد لنا على ضرورة البحث من جديد في مسألة المعراج وما يشبهها من المسائل للتأكد من صحتها قرآنيا بالدرجة الأولى. ونحن لسنا معنيين بأن نجزم هنا بعدم صحة حادثة المعراج
لكنك تقيم على ذلك عقيدة يستحيل أن تنتظر الحسم إلى ما لا نهاية له من الزمن ،
ويكفي تطبيق ما سميته ( المقياس القرآني ) لتقرير بطلانها بالقوة ..
بل نحن نثير تساؤلات مشروعة حولها كنموذج معرفي، فقد تصح وقد لا تصح، ولكننا نصر على ألاَّ تصح إلاَّ قرآنيا وبوضوح تام بناء على المنهج الذي اتبعناه في تحديد أشكال علاقة التكامل بين القرآن والسنة.
بناء على استنتاجك هذا ؛ لماذا تأخر الحسم في صحتها أو عدم صحتها ، ولم يثر أحد من المفسرين ( تساؤلات مشروعة حولها كنموذج معرفي ) إلى الآن ؟ .. وإذا كانت تساؤلات مشروعة فلتخرج لنا بــ ( مشاريع تفسير مشروعة ) كـ ( مشروع ) محمد عابد الجابري رحمه الذي ضاقت بهم مكنبة علوم القرآن ، ولتكن تفاسير بنفس النفس المعرفي الذي صنفت به كتب التفسير المعروفة المعتمدة إلى الآن في تلقي وتلقين علم التفسير في المدارس الشرعية ، والجامعات ، والمعاهد ، وحلقات الدرس العامة والخاصة ..
إن آفة القرآنيين الجدد أنهم ينزهون النص المقدس عن أن يكونوا أهلا لتفسيره ، لكنهم في المقابل يسقطون قدسيته بمثل ( المقياس القرآني ) على نحو يجعل قدسيته مجرد طلاء
ولعل من أغرب الأمثلة وأكثرها إثارة للدهشة مما يندرج تحت هذا البند من بنود المقياسية القرآنية على صحة نسبة المتون الخبرية إلى الرسول، مقولة "عذاب القبر". فعذاب القبر كما هو وارد في المتون الخبرية المروية عن الرسول – علاوة على أن فيه مغالطات واضحة بمقاييس العقل
من المتهم بإنتاج هذه المغالطات إذا كان الحديث الواصف لعذاب القبر صحيحا سندا ؟؟
إن عذاب القبر مسألة حساسة وهامة وخطيرة إن وُجِدَت، بحيث لا يجوز أن تترك بمجملها وبتفصيلها لنص غير قرآني يعالجها، مادام النص القرآني قد تعرض بالإخبار والتحليل لما هو أقل أهمية منها من أخبار وأحداث. فهل يعقل مثلا أن يخبرنا الله بإسهاب عن الموت والولادة وعن الطبيعة والكون وعن الجنة والنار وعن يأجوج ومأجوج وعن ناقة صالح وعن هدهد سليمان وعن كلب أهل الكهف، ويهمل بالكامل أيَّ حديث عن عذاب القبر الذي يتضمن مقولة العذاب القريب الأجل بكل الأهوال والرعب المرفقين بهذا النوع من العذاب في النصوص المنقولة عن الرسول؟!
بكل تأكيد فإن هذا مما لا يعقل.
وبالتالي فلا نتصور أنه يصح متن عن الرسول الكريم بخصوص عذاب القبر. وعلى من يريد بَحثَ المسألة أن يبدأ من كتاب الله، فإن وجد فيه ما يفيد صراحة بموضوعية هذا العذاب، وبعد إحداث المطابقة بين ما قد يكون موجودا بهذا الخصوص في كتاب الله وبين العقل ومواقفه منه، فعندئذ نقبل من الرسول الكريم القيام بشرح الغامض وفق ما ثبتناه في البند السابق من المقياسية القرآنية على التثبت من صحة المتن الخبري المنسوب إلى الرسول. ولكن للأسف فإن مقولة عذاب القبر تفتقر إلى الشرطين معا، فلا هي مقبولة عقلا ولا هي موجودة أو منصوص عليها قرآنا من ثم حتى يكتسب الرسول حق شرحها من حيث المبدأ.
ج – أمر ثالث هام يتسبب – في تصورنا – في سقوط المتن المروي عن الرسول وفق المقياس القرآني في التثبت من صحة المتون الخبرية، وهو أن يكون المتن متعارضا مع النص القرآني أو مكرسا لمعانٍ ولمفاهيم غير تلك التي يكرسها ذلك النص. وكمثال واضح على ذلك نتناول مقولة "آل البيت"، التي يحدد لها القرآن الكريم معنىً واضحا في سورة الأحزاب، ليأتي النص المنسوب إلى الرسول الكريم محددا لها معنى آخر وضاربا بالمعنى القرآني عرض الحائط.
ولتوضيح الأمر نقول.. إن الآيات المعنية من سورة الأحزاب حددت آل البيت بنساء النبي، بعد أن وجهت إليهن مجموعة من الأوامر والتعليمات، موضحةً في ختام الخطاب الموجه إليهن سبب ذلك بإرادة الله في تطهيرهن، ذاكرة لهن وصف "أهل البيت". ومع ذلك تفاجئنا رواية "الكساء" المنسوبة إلى الرسول عن أم سلمة إحدى نساء النبي، بأنه يعتبر آل البيت هم فاطمة والحسن والحسين وعلي ين أبي طالب فقط، في قصة استيقاظه من النوم فزعا ثم ضمه لهؤلاء وتغطيته لهم بالكساء، مُعتبرا أن الآية القرآنية التي ذكرت أهل البيت إنما هي تقصدهم تحديدا. لا بل إن الرواية تُمعن في الاستخفاف بعقول المسلمين، عندما تذكر لنا أن أم سلمة طلبت من الرسول أن يجعلها من أهل البيت المزعومين هؤلاء، فيرفض مُحاولا استرضاءها بشيء آخر.
فسبحان من أعطى لنبيه حق نزع الصفات التي أعطاها هو لعباده. فالله يعطي لأم سلمة بصريح القرآن صفةَ أهل البيت، ويريدون منا أن نصدق أن محمد بن عبد الله يتحدى الله وينزعها منها قاصراً إياها على غيرها!! لا بل هو يتبرع بهذه النسبة الشريفة لسلمان الفارسي حينما يقول.. "سلمان منا آل البيت"، ويحرم منها أم سلمة التي لم تكن في حاجة إلى أن تطلبها منه عليه الصلاة والسلام أصلا بعد أن حصلت على هذا الشرف بمرسوم رباني صدحت به آيات سورة الأحزاب. لسنا ندري كيف يُرادُ لنا أن نصدق بأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، يتوقف عن الإجابة على الأسئلة التي تطرح عليه قبل أن يزوده الوحي بها، ليبادر بمخالفة صحيح القرآن في مسألة كهذه؟!
هنا إذن نجد تعارضا صارخا وحادا مع صريح القرآن. ونستغرب أشد الاستغراب عندما نلمس تكريسا لهذا التعارض، بحيث أن تاريخ المسلمين هو في الجانب السوداوي منه صراع على السلطة بين أهل البيت وأشياعهم من جهة، وبين أعداء أهل البيت ومعارضيهم من جهة أخرى. أي أن هذا التاريخ بُنِيَ على كذبة نُسِبَت إلى الرسول الكريم مُعاَرِضَةً أشد المعارضة لصريح القرآن.
وكم عاصر أحداث هذا التاريخ من الصحابة وخيار التابعين ، وكم صنف في التأريخ لأحداثه ، ونقدها من كبار العلماء ، بناء على منهج معرفي دقيق متكامل ... وما ( أغباهم ) جميعا إذ فاتهم اكتشاف تلك الكذبة ...
أي إزراء هذا بتاريخنا وتراثنا ومناهجنا المعرفية الراسخة
إن تغطية الجيوب لا تتطلب بالضرورة اللباس المتعارف على تسميته بالزي الشرعي أو بالحجاب.
من مظاهر الإعجاز التشريعي الإسلامي أن النصوص المشتملة على الأحكام تستمد صحتها
ومشروعيتها الواقعية من مصدرين اثنين :
المصدر العلمي ذي الصلة بصحة سند الحديث المشتمل على الحكم .
والمصدر العملي الدال على انسجام ذلك الحكم – كما يؤديه المكلف - مع مقتضيات عقله ، ثم يقع اطراد ذلك الأداء على نحو واحد في أجيال الأمة ، وكل حقب وجودها ، فيزداد ذلك الحكم قوة ورسوخا ، ويصير له امتداد رسالي يشكل حصنا حضاريا دائما ترتطم على سوره المتين العالي كل محاولات النيل من شرعيته .
ومن الأمثلة على ذلك ( حجاب المرأة المسلمة ) أو ( نقابها ) ، فلا تزال المرأة المسلمة العربية والغربية والشرقية ترتديه ، ولا يزال ذا حيز بارز في كل مكان ؛ يضاهئ سائر أشكال الزي النسائية في الساحات والأسواق والجامعات والإدارات منذ أن عرف الإسلام إلى الآن ، وفي مسوغات أدائه الشرعية من طاقة التحدي ما يضمن استمراره إلى قيام الساعة ..
فلم يصر ( القرآنيون ) على الاستخفاف بعقول الأمة ؟ ..
أليس في إصرار منقبات فرنسا على أن يكن حرائر بنقابهن – متحديات نظام التغريم -
دليلا على طاقة علمية وعملية ذاتية يحيا بها هذا التشريع ؟؟ ..
وإذن فإنه يحق للمسلمين حيثما كانوا زمانا ومكانا أن يضيفوا ما يشاءون على الحد الأدنى المنصوص عليه في القرآن الكريم كلما تطلبت ظروفهم ومصالحهم ذلك، حتى لو أضافوا إضافات أكثر من تلك التي أضافها الرسول.
وما الذي يمنع غير المسلمين إذا كانوا أصحاب ( عقول ناضجة ) قادرة على قراءة ظروفهم قراءة استرتيجية أشمل وأعمق .. وقادرين على ( فقه مصالح المسلمين ) أكثر من المسلمين ؟؟ ..
يذكرني هذا بمقترحات بوش النظرية والعملية على المسلمين - بعد أحداث سبتمبر – المجسدة لـ ( تحسين صورة الإسلام )، وما قصة إمامة المرأة ببعيدة ..
وبعد..
فأرجو أن يكون قد اتضح ألا خوف على ما يصح من السنة باستخدام العقل. وأن المسألة برمتها لم تكن إسقاطا للعلوم التي وضعها المسلمون بهدف غربلة المأثورات وتنقيح التواريخ، ولا كانت إسقاطا للكتب الأمهات – كما أسميتموها – كصحيح البخاري وغيره، بل كانت إعادة إنتاج لهذه العلوم بشكل يُفَعِّلُها ويُطَوِّرُها ويجعلها قادرةً – من وجهة نظرنا – على مواكبة منجزات العقل والتجربة، لجعل محاكمتها للنصوص محاكمة أكثر موضوعية، وإعادة تقييم وقراءة لتلك – الأمهات – وفق المنهج الجديد، وهذا حق علمي مشروع، ومنهج بحثي محايد.
بل الشكل المقترح قبلكم لتطوير علوم الحديث يسقط جدواها ، ومقاصدها بالكلية ، لأنها ببساطة لو أعملت ( مقياسكم القرآني ) وحده لصارت مصنفاتها عناوين بدون محتويات ، فأهلها – كالبخاري مثلا – بتطبيق ( المقياس القرآني ) - سيضطرون عمليا إلى إسقاط جل الأحاديث التي رحلوا راكبين المشاق العظام لتلقيها وتصحيحها ، فإذا خلت مصنفاتهم من محتوياتها فسيضطرون علميا إلى التنكر لمناهجهم ، والاستهانة بعقولهم التي كانت سببا في إهدار أوقاتهم وأعمارهم في تدوين أحاديث ؛ هي في الواقع أكاذيب ..
فكيف يصح مع هذا ( إعادة إنتاج تلك المصنفات والمناهج ، وتفعيلها ، وتطويرها ) وهي عدم ، أو شبه عدم ؟
إن شرط إعادة إنتاج الشيء استبقاء أصله ، وأصل تلك المصنفات – كصحيح البخاري – ( حدثنا ) أي أسانيد ومتون ، فأي تناقض أعظم من تناقضك ؟ .. تدعو إلى ( إعادة إنتاج ) صحيح البخاري - مثلا – بنفس ( المقياس القرآني ) الذي تبطل به كل أحاديثه ..
أما بخصوص النصين المذكورين، وهما الحديث 2312 من سنن الترمذي، والحديث 1169 من صحيح ابن ماجة للألباني..
فالأول المتعلق "بسجود الملائكة"، لا يصح لديَّ، لأن متنَه انطوى على معلومات وتفاصيل عن عالم الملائكة إضافية على ما أورده القرآن بخصوص ذلك العالم، وهذا ما لا يصح بموجب قاعدة "المقياس القرآني في صحة نسبة النصوص الخبرية" التي ذكرناها سابقا. وعندما لا يصح النص متنا فلا قيمة لسنده. ومثل هذا النص، كل النصوص التي يمكن أن تنطبق عليها هذه القاعدة.
تذكرت بقولك ( لا يصح لدي ) حرصك على تطميني بأن لا أخشى على علوم الحديث ، والآن تأكد لي تطمينك بقولك ( لدي ) لأني أيقنت أنه لو كان إليك مرد إخراج هذا الحديث الصحيح وأمثاله لأسقطته استنادا إلى مقياسك القرآني – نصحا للأمة – فلا خشية على أحاديث قيض الله لنقلها أحرصهم على صيانتها إلى أن تصل إلى أمة صاحبها وقائلها الأول صلى الله عليه وسلم غضة طرية كما نطق بها ، وذلك تبرئة للذمة ، ونصحا للأمة ، وشهادة على أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أنزل إليه من ربه .
فقولك أستاذ أسامة عن حديث ( أطيط السماء ) : ( لا يصح لدي ) أكبر دليل على صحته ، لأن الانتقاد السالب إذا تفرد مصدره وشذ صار موجبا .
ومثل هذا يصح أن يقال أيضا عن حكمك على حديث ( أنين الجذع ) لأنه آخر المطاف لا يصح لديك ..
خلاصة القول أستاذي الكبير، أنني أطبق القواعد التي شرحتها سابقا على كل النصوص، وما تحكم به تلك القواعد ألتزم به معرفيا. ومن أراد أن يعترض، فليعترض على القواعد نفسها، وعلى المنهج نفسه، فإن تمكن من دحض هذه القواعد وهذا المنهج، فأنا معه أبحث وأياه عن الحق والصواب حيثما كان. وإلا فالنتائج منسجمة مع المنهج وقواعده.
ليتك أستاذ أسامة ذكرت لمنهجك أصلا له صلة قريبة أو بعيدة بعلوم الحديث وعلوم القرآن ، أو أصلت له بناء على مقررات تلك العلوم بشقيها القرآني والحديثي .. لا أقول هذا تعصبا أو دعوة إلى التقليد ، ولكن تقديرا لأئمة مجتهدين سبقوك إلى العناية بعلم الحديث وعلم التفسير ، علما بأن تقديرك الإجمالي لهم لا يكفي ، بل إن لازم تفاصيل منهجك تبديل مناهجهم بمنهجك ..
فإلى ذلك الوقت أرجو أن أكون تمكنت من توضيح بعضٍ من رأيي ومنهجي بخصوص ما شغلك أستاذي الكبير "أبا عامر".
ولك مني كل تقدير واحترام
بالغ امتناني وتقديري لاهتمامك أستاذ أسامة ، وإن الذي يشغلني حقيقة هو أن أجد المزيد عن ( مصطلح السيرة النبوية )
لأعضد به ما توصلت إليه في بحثي لنيل الدكتوراه ، وهو أن السيرة النبوية علم مستقل عن علم الحديث
يستحق ما ناله مصطلح ( الحديث ) من دراسات وأبحاث مستفيضة ..
أما ما تفضلت بإيراده مفصلا هاهنا فإنه لا يشغلني لأني مستيقن وجه الحق فيه ،
وزاد استيقاني باكتشاف أصول وفروع اختلافي معك فيه ، فبضدها تتميز الأشياء .
مودتي وتحيتي