7
في الطريق، غيّرت عيناء رأيها ورغبت في تواصل السير، رغم ما قالته السيدة عن تصفّح الجريدة على مهل في مقهى، بقيت تتصفح العناوين الرئيسية كشخص هارب من إشارات إضاءة العبور، تقرأ عنواناً وتترك ثلاثة، المشي بحركات روتينية، تقود جسداً لا يتجرأ في تحديد اتجاه، أي اتجاه فيه ما يحوّل الغياب الى منعطف محدد، بعيداً عن خارطة الغربة ووقاحة انتظار مشئوم.
بعض الجُمل لا تعني لها شيئاً، لكنها كانت تطيل الوقوف أمام جملة واهية أو شيء يُفلت من حبل الكلمات التي تلتف عليها. بدأت من آخر صفحة أهملت اشتعال قلبها في زاوية الأبراج. برج الدلو، تعرف مسبقاً أن صاحبه غير محظوظ، وأنه عاطفي وذو شأن. وعلى حذر من خوفها قلبت الجريدة إلى الصفحة الأولى، كان الموت بين سطورها وعلى حبرها.
مدّت عيناء رقبتها، وأربعة أقدام تقود امرأتين إلى مقطوعة غنائية دون عنوان، عزف ثنائي، استغراب عيناء من حماية دولة عربية لمرؤوسين سابقين في الدولة.
ـ لا تستغربي، حين قلت البعثيين ،أقصد من تلوثوا بدمائنا الشريفة وليس كل البعثيين..هم الآن يتجوّلون بكامل حريتهم وبتقدير من الدول الحامية، وهذا ما قصده (الشيرازي)؛ حين قال:
- ما معنى الإحسان للمسيئين؟
- أنا أعتقد أن الذي يساهم في إيواء المجرمين، يقع عليه ذنــــب المشاركة في الجريمة. ويعني أنهم معترفون بعدم أحقية الإنسان العراقي بكرامته، نحن يا ابنتي في زنا كوني، و المسئولون عن الزنا نعامات تخبئ رؤوسها في الرمال تاركة مؤخراتها للريح ، ألم أقل إننا في زنا كوني.
ـ وأنا أعيش في سجن يكونني نقطة تافهة، سجنت قلبي مع رجل يعتبر كلمة أحبك؛ نوعاً من تنازل الرجولة. مهما توسعت الشوارع برقعتها الخضراء، تبقى في عيني أضيق من خُرم الإبرة، مادمت لست معه.
ـ أنت مجرد وهم من أوهامه، وأنتما الاثنتان فكرة، مجرد فكرة. وعليك أن تفهمي ذلك، فكرة وكلمات.
ـ نحن فكرة مَن؟ الكاتبة أم الرسام؟ ولمَ تتلاعب بمصيرنا؟
ـ لا تقلقي، أنا أيضاً فكرة.
وضعت عيناء يدها على جبين السيدة:
- يبدو أن سهرك البارحة أصابك بحمّى.
- لست أهذي، وما أقوله حقيقة، كلنا ندور في عقارب ساعتها، ومتى تلاحمت تلك العقارب أغلقت الكتاب وأنهت الرواية.
- تبدين غامضة اليوم، ولمَ أنتِ على علم؟ ولماذا اختصتك بالذات؟
- أنا مرآة نفسها، وخلجات صدرها.
- هل كل الروايات فيها من كُـتّابها؟
- الكثير.. وإلا أصبحت مجرد حشو معلومات.
- هل تعرفين شكل الخاتمة؟
- لقد بدأت عملها من نقطة قريبة إلى الخاتمة.
- هذا شيء مغرٍ.
تصادمت الرغبات في روح عيناء حول معرفة نهاية حبها، هل سيقره وليد ويقبل به؟ هل أكوام الألم التي سبّبها لها ستستفزّه لمعرفة أي حب أحبّته؟ لمحت في وجه السيدة شيئاً من الاصفرار:
ـ ما بك يا سيدة راوية؟
ـ أرغب في العودة إلى الدار، أحب أن أختلي بنفسي.
ـ لاحظت أنك ترغبين في الوحدة، هل لديك أصدقاء؟
ـ حال عودتنا ذكريني أسمعك أغنية نقلتها عن كتاب للشاعر (ج. ج. غنج)؛ اسمها أناشيد من الحياة.
ـ لا أستطيع الانتظار، ماذا تقول الأغنية؟
ـ اسمعي:
صديقي الطبيب جعلني مريضاً
صديقي المحامي جعلني أفكر
أفضل أصدقائي قام بخدعته القديمة
ولهذا صرت أبحر منفرداً ضدّ العاصفة.
ـ يا..ه، ما أروعها من كلمات.
نزل المطر خفيفاً لدى انعطافهما يميناً باتجاه الشارع الآخر، انتشت راوية، لها عشق خاص للمطر. منذ أن كانت طفلة تحادثه، تسمع لغته، لعبه على الأشجار والجدران والحشائش، ترنيم شجيرات صغيرة (أتعرفين أي حزن يبعث المطر؟؛). ومثل من يتفحّص شيئاً عثر عليه للتو، قالت:
- أسرعي، لا بدّ من الاختلاء.
بدت متعثرة الكلمات، تغيّرت بشكل مفاجئ، لاحت عليها إشارات غريبة وأصبحت كخيمة بلا أوتاد، شيء ما شدها إليه بقوة، أخفت وجهها بيديها، كطفل جرّوه من حضن أمه، صارت تخاف العيون؛ ثوبي، ثوبي، أين ثوبي؟
ـ نحن في الشارع سيدتي، وعلى عتبات العمارة، سندخل.
ـ ثوبي، ثوبي، ألم أقل لك أسرعي؟
فتحت باب الشقة بقوة، وجدت عند المدخل رسالة، قرأتها بيدين راجفتين، مرفق مع الرسالة صك باسمها،
ـ انظري يا عيناء، (رجفت شفتاها كأنها تلمّ الكلام لـمّاً) في بريطانيا إذا نسيت حقك، تذكرك به الدولة وتقدمه لك ولو بعد حين، وباعتذار عن التأخير. فكيف ستعتذر لنا دولنا على ضياع إنسانيتنا؟
ـ سيدتي، اهدئي. هذه رسالة ثانية لك.
ـ ابتعدي عني (وقرأت عنوان الرسالة من الخلف). إياك الاقتراب مني.. (دخلت الغرفة زاعقة) ، أغلقي الباب، أطفئي النور، أطفئيه بسرعة.
أخافها تصرف السيدة، يداها تشيران إلى لا شيء، وعيناها شاردتان، لا تدري ما دهاها. طرقت الباب؛ هل أطلب لك طبيباً؟ (لا جواب) هل تتناولين أدوية معينة؟ قولي أين تضعينها، وأنا أحضرها.. (لا جواب).
أرادت أن تسمع شيئاً يطمئنها، وقفت خلف الباب حائرة، سكنت، تحوّلت إلى نهر من العواطف. وقفت على حين غرّة، الحاضر شائخ، والماضي لحظة عابرة. تمدّدت على الأريكة، تكوّمت حـــول روحها وتشبثت بها، علـّها تعثر لديها على قوة تستنجد بها، تكررت حالتها بين الانكماش والرجفة والوقوف. تعدّى النهار حدود النصف، ولا جواب من راوية. فاتخذت عيناء قراراً بتحدّي خوفها، إذ لا بدّ من مساعدة هذه المرأة الجميلة. اقتحمت تردّدها، وطرقت الباب:
- ست راوية، لقد حلّ المساء، ألستِ بحاجة إلى شيء؟
- لا، شكراً، سأحاول دخول الحمام.
نطـّت من الفرحة حالما سمعت الصوت، وحمدت الله لكونها بخير، تنفست الصعداء وجلست خائرة القوى لفرط الفرحة.
لم تمر سوى لحظات، وإذا بالسيدة تفتح الباب حاملة بيدها ملابسها، راقبت دخولها الحمام، وتابعت خرير الماء المتدفق من الدش. مضى ربع ساعة، دون أن تسمع حراكاً، ربع ساعة آخر مضى وما يزال صوت الماء وحده، وتبعته دقائق، كادت تنهض بعدها لفتح الباب، لكن صوت الماء توقف.
خرجت راوية، أرادت عيناء الإمساك بطرف حديث، فلم تظهر أمامها نقطة أو فاصلة. البداية ضالة، وصياغة الكلمات انتهت إلى أبجدية غير معروفة.
اللجوء إلى زاوية الصمت غير مستحب في ساعة مثل هذه.
جلستا قريبتين من بعضهما، معزولتين في ألمهما. عقارب الساعة تهرب من العاشرة مساء، والسيدة جالسة على كرسي من الصمت، شربت شاياً وأكلت سندويشاً أعدته عيناء، وأشباح ذكرى عقيمة تمرّ، تسفو الريح بامرأة وتقلع أوتادها المرتكزة.
تنفّست عميقاً ثلاث مرات، تلتها ثلاث أخر، عادت لصفاء عابر كهدوء موجة من هياج بحرها. هدوء القلـِق المرتاب، أغمضت عينيها، وصدرها يعلو ويهبط كحمامة تبني عشاً على حائط قديم، ثم فتحتهما بابتسامة متسائلة:
- أين وضعت الرسالة الثانية؟
- قفزت عيناء فرحة :
- حمداً لله على سلامتك.
وناولتها الرسالة المخبأة في مزهرية فارغة قرب التلفزيون:
- ممّن سيدتي هذه الرسالة؟ هل هي من شخص محب؟
- بل من طبيب.
- أتشكين من شيء؟
- صحتي جيدة، أنا حديد، انظري (وفردت طولها) حديد، ولكن أصبح كالنملة حين تعاودني النوبة.
- ـ أية نوبة؟
- إنها حكاية قديمة لا أريد إزعاجك بها.
- بل ستقصّينها علي كلها الليلة.
- حكايتي، أم حكاية السيدة التي زارتني البارحة وأرّقتني؟ الحكايات كثيرة.
صمتت لتتذكر شيئاً.
- .. آ.. آ.. اليوم الاثنين، وغداً لنا مجلس ثقافي.
- أين؟ أتأخذينني معك؟
- هنا، في شقتي المتواضعة.
- وأين سيجلسون وكيف؟
- في أي مكان، على الأريكة، على الأرض، يقف واحد ويجلس غيره بالتناوب. المهم أن نكون مع بعض، ويكون لنا حوار وموضوع.
لم تشأ إزعاج السيدة بالأسئلة، خشيت عليها من نسمة الليل، فأغلقت النافذة، وجلست قربها مقرفصة، تنظر الى التلفاز، وتعبث بـ(الريموت كونترول)؛ علـّها تجد ما يسلـّيها. انبسطت أساريرها لسؤال السيدة عن ذكرى:
- هل اتصلت بذكرى؟
- أجل، وهي مطمئنة علي بعد أن وصفتك لها. وقالت لي لقد وجدت ضالـّتك، أما أنا فوجدت من أنتقم منهم وأجعلهم يركعون تحت قدمي، بل يلعقون أصابعي، و بالتفال أمسح صلعاتهم وهم ويتلمظون، وأسرق منهم ما أريد؛ المال، الشرف، الرفعة، الكذب، الحقيقة. وقد اعتذرت لي لأنها لم تجد حقيقة لديهم، كلهم مجرد خدعة.
- هل اتفقتما على شيء؟
- رجتني أن أسألك السماح لها بزيارتك يوماً.
- لا يا ابنتي، دعيها تقضي أوقاتها كيفما تشاء بعيداً عن بيتي.
- أعرف، أعرف السبب سيدتي، ولكن لماذا وافقت على لجوئي إليك؟
- أنت لستِ بزانية، أنت ظل وألوان وهوس فنان لا يكتمل نضوجه الفني إلا بالزنا.
- وهي مثلي لا ذنب لها، كما إنك توجهين تهمة للفنانين.
- ما قصدت طعن أحد، بل الواقع هو الصحيح في الزمن المقلوب، ولو لم يرسمها وليد لرسمها غيره. ثم ما سرّ وليدك؟ ألم تسالي نفسك عن سبب تأجيل معرضه إلى حين اكتمال صورتكما؟
- لا علم لديّ.
- لأنه لا يكتمل فنه ولا ينضج إلا بامرأة، وامرأة مثل ذكرى. ألم يعشقها ويتركك تتعذبين؟ ألم يتلذّذ بأشجانك الموؤدة؟
- الشرف والحب بين يديه، وعيناه على الحرام.
- كل ممنوع مرغوب، ولا تنسي أنه رسمني زانية.
- أي ممنوع، في شريعة الرجال كل شيء محلـّل. أنا رجل إذاً من حقي معاشرة من أريد. أنا رجل يحل لي النظر في وجه كل امرأة. أنا رجل لو علا صوتي لا ريب في ذلك. وتطول قائمة الأنا والمحلـّلات، وأحبّ أن أجيبك على الشق الثاني من سؤالك:
- أدخلتك بيتي لكونك ضحية حبك والشكل الذي أعطاك إياه وليد، فلا جرم لك فيه، كنت فقط لاكتمال لوحة الزنا.
- معذرة، أنا لا أفهم كل كلام الأدباء، دائماً يفلسفون الأمور ويعطونها أبعاداً وتأويلات يصعب على فهمها.
سألت عيناء عن ديوان للشاعر مقبول رسول:
- أعتقد أنه صديقك، رأيت عليه إهداء خاصاً لك.
أجابتها راوية:
- وسيأتي غداً، في مجلسنا ستجدين المتواضــــــــــع والمغرور. أما مقبول فيشطب كل الشعراء لأنهم في رأيه شويعرون، وهو ربّ الشعر.