منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 5 من 5 الأولىالأولى ... 345
النتائج 41 إلى 46 من 46
  1. #41

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    6

    أفاقت عيناء باكراً، فتحت ذراعيها على آخرهما، ومسحت عنها غشاوة النعاس. لاحظت أن السيدة بالكاد تجرجر خيط النوم إلى جفنيها، محدقة للاشيء في سقف الغرفة، كأنها منغلقة على ذاتها.
    قرأت عيناء في جو الغرفة الهادئ ضفة جديدة، ومساحة للطمأنينة. شعرت أنها بحاجة إلى الكلام، وتشكلت ذكريات وليد كحبات العنب الرطبة. ذكريات وصمت، أصباغ وثرثرة، أزرار على فستان أحمر، طفولة. وحركاته، معرضه وخلاصه، الارتياح والدفء إلى جواره، إطلاقه شرارات الإبداع، إلغاؤه لها، كل خطوة يخطوها، وخفة دمه؛ الحاضر والماضي يأخذان شكل الانتظار، وقد تراكمت الأحداث والعناصر والموضوعات والصور.
    أدارت عينيها في أرجاء المكان، صالة مفتوحة على ركن اتخذ شكل غرفة، وفسحة صُفّت فيها أواني المطبخ وغسالة صغيرة وطباخ صغير، فتشكلت الفسحة على هيئة مطبخ. انتبهت لصورة وضعتها راوية قرب السرير، رجل وسيم يقف قربها واضعاً يديه على كتفها بحنان، وراوية جالسة على كرسي خشبي في حضنها طفل صغير، ولها وجه دمّرته الخيبة وأحزان العطش.
    نهضت عن الأريكة والشمس تنعكس عن ذكرياتها، تطلعت في الصورة ملياً، أعادتها إلى مكانها واستدارت لتدخل الحمام. وكمن استذكر شيئاً، رجعت إلى الصورة ثانية، حاولت مسحها وتنظيفها، لا بدّ أن السيدة تنظفها في اليوم عشرات المرات. الولد يشبه السيدة، الأنف الصغير نفسه، ونفس الشعر واستدارة الوجه، سبحان الله فالق البذرة. دخلت الحمام وأخذت دشاً دافئاً، مسحت وجهها وشعرها بالفوطة، توقفت قليلاً، ثم واصلت حركاتها تحاول كشف سرّ السيدة.
    كانت تتلمس موسيقاها من الداخل، إنسانة مثقفة وقارئة جيدة، هذا واضح من مكتبتها ومنطقها، اللون الفضي على شعرها زادها وقاراً رغم أن وقته لم يحن، سلوكها، تفاصيل وجهها، مشيتها وابتسامتها، تفردها بأنوثة ذات عمق خاص بها وحدها.
    أعدت عيناء كوبين من الشاي، وجلست قرب صورة امرأة تحبسها جدران متقاربة، تمّ اعتبارها شقة، لو قارنت بينها وبين ببيوت العراق لما زادت عن اعتبارها ركناً في مطبخ. شدّها عنوان كتاب تناولته من المكتبة وجلست لتقرأ.
    أخذت تتصفح الكتاب بهدوء، خوفاً على غفوة خطفتها راوية وتمـدّدت معها هاربة من ثقل شيء سهّرها حتى الصباح. رشفت من الفنجان، سقطت قطرة منه .
    على صحائفه
    غرق الفجر ومات
    في غبار الصلوات
    لكن في التخمين
    في خطرات البال
    يصعد من آبار الطين
    وجه الأطفال.
    كم تحب السيدة هذا الشاعر، أرجعت الكتاب إلى مكانه، ثم أعادته لتقرأ آخر السطور منه؛ (هل الحب وحده مكان لأنانية الموت؛ وماذا أسمّيك يا موت)؟
    راقت لها التساؤلات، أعادت الكتاب إلى مكانه، رأت كتباً كثيرة للشاعر نفسه. المجموعتان الشعريتان وكتابان باللون الأسود والرصاصي (أمس المكان الآن)؛ كتاب الحصار، أول الجسد آخر البحر، تنبأ أيها الأعمى، الثابت والمتحول بأربعة أجزاء، أغاني مهيار الدمشقي. فتحت كتاب (أول الجسد آخر البحر).
    لا يتوقف جسدها عن تغيير حدوده وتوسيعها
    لا يقين لها إلا في نرد الحبّ.
    في هذه اللحظة أفاقت السيدة، أبعدت عنها نوماً لم تقبض عليه جيداً:
    - عمت صباحاً يا عيناء.
    - صباحك بألف خير، عيناك متورّمتان سيدتي؟
    - لم أنم البارحة.
    - ما الذي أرّقك؟
    - وجه امرأة.
    - أتراه وجهي؟
    - الوجوه كثيرة بكثرة المآسي.
    - رفعت عيناء صوتها لتسمعه السيدة من خلال الدش:
    - أتحبين أدونيس إلى هذا الحد؟
    - جاء الصوت مخفيا هادئا .
    - إنه عالمي، أركن إليه في فرحي ووجعي، إنه شاعري المفضل؛ اسمعي يا عيناء:
    - نعم.
    - هذا الشاعر نبي عصره، افتحي التلفاز من فضلك، نريد أن نعرف أخبار الدنيا.
    المذيع في النشرة الإخبارية:
    - في الساعة السابعة من صباح اليوم، انفجرت سيارة مفخخة قرب مدرسة للأطفال راح ضحيتها عشرة أطفال وثلاث نساء ورجلان.
    - تناثر الماء من شعرها، فقد خرجت مسرعة وأغلقت التلفاز .
    - ما أقبح رسالة الصباح. يا إله الأطفال، جاءتك أفضل هدية ترفرف بنقائها.
    سرى في عمودها الفقري برد طاعن، وهاجس خضّها ورجّها رجاً. دارت حول نفسها محمومة، تخلق افتراضات لا وجود لها:
    - ماذا لو انقلبت الدنيا الآن؟
    أجابتها عيناء:
    - إنها مقلوبة. وها هو الله يرينا الآخرة بالتقسيط وينذرنا بدنوّ الساعة، لكن مَن يتعظ؟
    - لفت شعرها إلى الخلف، وكضفة بلا قرار جاهدت لتجعل عيناء مبتسمة، تصنّعت الابتسام:
    - ها، قولي لي أين تحبين الذهاب؟ هل ترغبين بزيارة المواقع التي أخذك إليها صابر مع ذكرى؟ أظنك لم ترغبي في سوهو، أعتقد أنه حدثك عن كولن ولسن ورواية (ضياع في سوهو)؟
    - يا سيدتي كلٌ له ضياعه وسوهوه، فأنا ضعت مع وليد.
    - أجابتها السيدة :
    - وأنا ضعت في الحياة.
    - صحيح واعذريني لتطفلي، يبدو أنك تحملين على أكتافك حطام الدنيا، فما سرّ ابتسامتك الحزينة؟ ومن الطفل الذي في حضنك في الصورة؟ إن كان ابنك فأين هو الآن؟
    - على هونك، كيف أجيب على أسئلتك دفعة واحدة؟
    فرّ قلب السيدة من مكانه، اقتربت منها عيناء محدقة في عينيها:
    - تبدوان أحسن الآن.
    - من؟
    - عيناكِ، ألا تخبرينني عن المرأة التي أرّقتك طوال الليل؟
    - الليلة سأقصّ عليك حكايتها، هذا إذا رغبت أن يغادرك النوم.
    - وأحبّ أن أسمع عنك أيضاً، اذا سمحت بذلك سيدة راوية .
    فتحت الثلاجة، وتناولت منها تفاحة، راحت تقضمها بشهية، والسيدة تخاطبها قائلة:
    - البحث عن مصداقية نشرات الأخبار في المحطات العربية خطوة محصورة بين اتجاهين، قنوات تزوّر الحقائق بقدر عدد الدولارات المدفوعة، وقنوات تقودها نعرة طائفية، ونحن عاجزون حيال ما يدور حولنا.
    تذكرت ذكرى، وطلبت من عيناء الاتصال بها وإخبارها عن مكانها، وإلا أصابها القلق، فأجابتها :-
    - مازال الوقت مبكراً، فبعد سهرتها الماجنة ستصحو الساعة الثانية أو الثالثة ظهراً.
    أرادت السيدة أن تمتحن رغبتها:
    - هل أنت راغبة في العودة إلى بيت صابر؟
    - أعوذ بالله، لن أرجع حتى أكمل عدّتي في بيتك، أبداً.. من بيتك إلى بيت وليد.
    - عدّتك، هل أنت مطلّقة؟
    - أقصد مدتي خارج الإطار، تريدين التوضيح أكثر؟
    - شكراً أنا أعرف التفاصيل.
    ارتدي ملابسك لنتجوّل قليلاً، أرغب في شراء جريدة وقراءتها في مقهى قريب.

  2. #42

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    7


    في الطريق، غيّرت عيناء رأيها ورغبت في تواصل السير، رغم ما قالته السيدة عن تصفّح الجريدة على مهل في مقهى، بقيت تتصفح العناوين الرئيسية كشخص هارب من إشارات إضاءة العبور، تقرأ عنواناً وتترك ثلاثة، المشي بحركات روتينية، تقود جسداً لا يتجرأ في تحديد اتجاه، أي اتجاه فيه ما يحوّل الغياب الى منعطف محدد، بعيداً عن خارطة الغربة ووقاحة انتظار مشئوم.
    بعض الجُمل لا تعني لها شيئاً، لكنها كانت تطيل الوقوف أمام جملة واهية أو شيء يُفلت من حبل الكلمات التي تلتف عليها. بدأت من آخر صفحة أهملت اشتعال قلبها في زاوية الأبراج. برج الدلو، تعرف مسبقاً أن صاحبه غير محظوظ، وأنه عاطفي وذو شأن. وعلى حذر من خوفها قلبت الجريدة إلى الصفحة الأولى، كان الموت بين سطورها وعلى حبرها.
    مدّت عيناء رقبتها، وأربعة أقدام تقود امرأتين إلى مقطوعة غنائية دون عنوان، عزف ثنائي، استغراب عيناء من حماية دولة عربية لمرؤوسين سابقين في الدولة.

    ـ لا تستغربي، حين قلت البعثيين ،أقصد من تلوثوا بدمائنا الشريفة وليس كل البعثيين..هم الآن يتجوّلون بكامل حريتهم وبتقدير من الدول الحامية، وهذا ما قصده (الشيرازي)؛ حين قال:
    - ما معنى الإحسان للمسيئين؟
    - أنا أعتقد أن الذي يساهم في إيواء المجرمين، يقع عليه ذنــــب المشاركة في الجريمة. ويعني أنهم معترفون بعدم أحقية الإنسان العراقي بكرامته، نحن يا ابنتي في زنا كوني، و المسئولون عن الزنا نعامات تخبئ رؤوسها في الرمال تاركة مؤخراتها للريح ، ألم أقل إننا في زنا كوني.
    ـ وأنا أعيش في سجن يكونني نقطة تافهة، سجنت قلبي مع رجل يعتبر كلمة أحبك؛ نوعاً من تنازل الرجولة. مهما توسعت الشوارع برقعتها الخضراء، تبقى في عيني أضيق من خُرم الإبرة، مادمت لست معه.
    ـ أنت مجرد وهم من أوهامه، وأنتما الاثنتان فكرة، مجرد فكرة. وعليك أن تفهمي ذلك، فكرة وكلمات.
    ـ نحن فكرة مَن؟ الكاتبة أم الرسام؟ ولمَ تتلاعب بمصيرنا؟
    ـ لا تقلقي، أنا أيضاً فكرة.
    وضعت عيناء يدها على جبين السيدة:
    - يبدو أن سهرك البارحة أصابك بحمّى.
    - لست أهذي، وما أقوله حقيقة، كلنا ندور في عقارب ساعتها، ومتى تلاحمت تلك العقارب أغلقت الكتاب وأنهت الرواية.
    - تبدين غامضة اليوم، ولمَ أنتِ على علم؟ ولماذا اختصتك بالذات؟
    - أنا مرآة نفسها، وخلجات صدرها.
    - هل كل الروايات فيها من كُـتّابها؟
    - الكثير.. وإلا أصبحت مجرد حشو معلومات.
    - هل تعرفين شكل الخاتمة؟
    - لقد بدأت عملها من نقطة قريبة إلى الخاتمة.
    - هذا شيء مغرٍ.
    تصادمت الرغبات في روح عيناء حول معرفة نهاية حبها، هل سيقره وليد ويقبل به؟ هل أكوام الألم التي سبّبها لها ستستفزّه لمعرفة أي حب أحبّته؟ لمحت في وجه السيدة شيئاً من الاصفرار:
    ـ ما بك يا سيدة راوية؟
    ـ أرغب في العودة إلى الدار، أحب أن أختلي بنفسي.
    ـ لاحظت أنك ترغبين في الوحدة، هل لديك أصدقاء؟
    ـ حال عودتنا ذكريني أسمعك أغنية نقلتها عن كتاب للشاعر (ج. ج. غنج)؛ اسمها أناشيد من الحياة.
    ـ لا أستطيع الانتظار، ماذا تقول الأغنية؟
    ـ اسمعي:
    صديقي الطبيب جعلني مريضاً
    صديقي المحامي جعلني أفكر
    أفضل أصدقائي قام بخدعته القديمة
    ولهذا صرت أبحر منفرداً ضدّ العاصفة.
    ـ يا..ه، ما أروعها من كلمات.
    نزل المطر خفيفاً لدى انعطافهما يميناً باتجاه الشارع الآخر، انتشت راوية، لها عشق خاص للمطر. منذ أن كانت طفلة تحادثه، تسمع لغته، لعبه على الأشجار والجدران والحشائش، ترنيم شجيرات صغيرة (أتعرفين أي حزن يبعث المطر؟؛). ومثل من يتفحّص شيئاً عثر عليه للتو، قالت:
    - أسرعي، لا بدّ من الاختلاء.
    بدت متعثرة الكلمات، تغيّرت بشكل مفاجئ، لاحت عليها إشارات غريبة وأصبحت كخيمة بلا أوتاد، شيء ما شدها إليه بقوة، أخفت وجهها بيديها، كطفل جرّوه من حضن أمه، صارت تخاف العيون؛ ثوبي، ثوبي، أين ثوبي؟
    ـ نحن في الشارع سيدتي، وعلى عتبات العمارة، سندخل.
    ـ ثوبي، ثوبي، ألم أقل لك أسرعي؟
    فتحت باب الشقة بقوة، وجدت عند المدخل رسالة، قرأتها بيدين راجفتين، مرفق مع الرسالة صك باسمها،
    ـ انظري يا عيناء، (رجفت شفتاها كأنها تلمّ الكلام لـمّاً) في بريطانيا إذا نسيت حقك، تذكرك به الدولة وتقدمه لك ولو بعد حين، وباعتذار عن التأخير. فكيف ستعتذر لنا دولنا على ضياع إنسانيتنا؟
    ـ سيدتي، اهدئي. هذه رسالة ثانية لك.
    ـ ابتعدي عني (وقرأت عنوان الرسالة من الخلف). إياك الاقتراب مني.. (دخلت الغرفة زاعقة) ، أغلقي الباب، أطفئي النور، أطفئيه بسرعة.
    أخافها تصرف السيدة، يداها تشيران إلى لا شيء، وعيناها شاردتان، لا تدري ما دهاها. طرقت الباب؛ هل أطلب لك طبيباً؟ (لا جواب) هل تتناولين أدوية معينة؟ قولي أين تضعينها، وأنا أحضرها.. (لا جواب).
    أرادت أن تسمع شيئاً يطمئنها، وقفت خلف الباب حائرة، سكنت، تحوّلت إلى نهر من العواطف. وقفت على حين غرّة، الحاضر شائخ، والماضي لحظة عابرة. تمدّدت على الأريكة، تكوّمت حـــول روحها وتشبثت بها، علـّها تعثر لديها على قوة تستنجد بها، تكررت حالتها بين الانكماش والرجفة والوقوف. تعدّى النهار حدود النصف، ولا جواب من راوية. فاتخذت عيناء قراراً بتحدّي خوفها، إذ لا بدّ من مساعدة هذه المرأة الجميلة. اقتحمت تردّدها، وطرقت الباب:
    - ست راوية، لقد حلّ المساء، ألستِ بحاجة إلى شيء؟
    - لا، شكراً، سأحاول دخول الحمام.
    نطـّت من الفرحة حالما سمعت الصوت، وحمدت الله لكونها بخير، تنفست الصعداء وجلست خائرة القوى لفرط الفرحة.
    لم تمر سوى لحظات، وإذا بالسيدة تفتح الباب حاملة بيدها ملابسها، راقبت دخولها الحمام، وتابعت خرير الماء المتدفق من الدش. مضى ربع ساعة، دون أن تسمع حراكاً، ربع ساعة آخر مضى وما يزال صوت الماء وحده، وتبعته دقائق، كادت تنهض بعدها لفتح الباب، لكن صوت الماء توقف.
    خرجت راوية، أرادت عيناء الإمساك بطرف حديث، فلم تظهر أمامها نقطة أو فاصلة. البداية ضالة، وصياغة الكلمات انتهت إلى أبجدية غير معروفة.
    اللجوء إلى زاوية الصمت غير مستحب في ساعة مثل هذه.
    جلستا قريبتين من بعضهما، معزولتين في ألمهما. عقارب الساعة تهرب من العاشرة مساء، والسيدة جالسة على كرسي من الصمت، شربت شاياً وأكلت سندويشاً أعدته عيناء، وأشباح ذكرى عقيمة تمرّ، تسفو الريح بامرأة وتقلع أوتادها المرتكزة.
    تنفّست عميقاً ثلاث مرات، تلتها ثلاث أخر، عادت لصفاء عابر كهدوء موجة من هياج بحرها. هدوء القلـِق المرتاب، أغمضت عينيها، وصدرها يعلو ويهبط كحمامة تبني عشاً على حائط قديم، ثم فتحتهما بابتسامة متسائلة:
    - أين وضعت الرسالة الثانية؟
    - قفزت عيناء فرحة :
    - حمداً لله على سلامتك.
    وناولتها الرسالة المخبأة في مزهرية فارغة قرب التلفزيون:
    - ممّن سيدتي هذه الرسالة؟ هل هي من شخص محب؟
    - بل من طبيب.
    - أتشكين من شيء؟
    - صحتي جيدة، أنا حديد، انظري (وفردت طولها) حديد، ولكن أصبح كالنملة حين تعاودني النوبة.
    - ـ أية نوبة؟
    - إنها حكاية قديمة لا أريد إزعاجك بها.
    - بل ستقصّينها علي كلها الليلة.
    - حكايتي، أم حكاية السيدة التي زارتني البارحة وأرّقتني؟ الحكايات كثيرة.
    صمتت لتتذكر شيئاً.
    - .. آ.. آ.. اليوم الاثنين، وغداً لنا مجلس ثقافي.
    - أين؟ أتأخذينني معك؟
    - هنا، في شقتي المتواضعة.
    - وأين سيجلسون وكيف؟
    - في أي مكان، على الأريكة، على الأرض، يقف واحد ويجلس غيره بالتناوب. المهم أن نكون مع بعض، ويكون لنا حوار وموضوع.
    لم تشأ إزعاج السيدة بالأسئلة، خشيت عليها من نسمة الليل، فأغلقت النافذة، وجلست قربها مقرفصة، تنظر الى التلفاز، وتعبث بـ(الريموت كونترول)؛ علـّها تجد ما يسلـّيها. انبسطت أساريرها لسؤال السيدة عن ذكرى:
    - هل اتصلت بذكرى؟
    - أجل، وهي مطمئنة علي بعد أن وصفتك لها. وقالت لي لقد وجدت ضالـّتك، أما أنا فوجدت من أنتقم منهم وأجعلهم يركعون تحت قدمي، بل يلعقون أصابعي، و بالتفال أمسح صلعاتهم وهم ويتلمظون، وأسرق منهم ما أريد؛ المال، الشرف، الرفعة، الكذب، الحقيقة. وقد اعتذرت لي لأنها لم تجد حقيقة لديهم، كلهم مجرد خدعة.
    - هل اتفقتما على شيء؟
    - رجتني أن أسألك السماح لها بزيارتك يوماً.
    - لا يا ابنتي، دعيها تقضي أوقاتها كيفما تشاء بعيداً عن بيتي.
    - أعرف، أعرف السبب سيدتي، ولكن لماذا وافقت على لجوئي إليك؟
    - أنت لستِ بزانية، أنت ظل وألوان وهوس فنان لا يكتمل نضوجه الفني إلا بالزنا.
    - وهي مثلي لا ذنب لها، كما إنك توجهين تهمة للفنانين.
    - ما قصدت طعن أحد، بل الواقع هو الصحيح في الزمن المقلوب، ولو لم يرسمها وليد لرسمها غيره. ثم ما سرّ وليدك؟ ألم تسالي نفسك عن سبب تأجيل معرضه إلى حين اكتمال صورتكما؟
    - لا علم لديّ.
    - لأنه لا يكتمل فنه ولا ينضج إلا بامرأة، وامرأة مثل ذكرى. ألم يعشقها ويتركك تتعذبين؟ ألم يتلذّذ بأشجانك الموؤدة؟
    - الشرف والحب بين يديه، وعيناه على الحرام.
    - كل ممنوع مرغوب، ولا تنسي أنه رسمني زانية.
    - أي ممنوع، في شريعة الرجال كل شيء محلـّل. أنا رجل إذاً من حقي معاشرة من أريد. أنا رجل يحل لي النظر في وجه كل امرأة. أنا رجل لو علا صوتي لا ريب في ذلك. وتطول قائمة الأنا والمحلـّلات، وأحبّ أن أجيبك على الشق الثاني من سؤالك:
    - أدخلتك بيتي لكونك ضحية حبك والشكل الذي أعطاك إياه وليد، فلا جرم لك فيه، كنت فقط لاكتمال لوحة الزنا.
    - معذرة، أنا لا أفهم كل كلام الأدباء، دائماً يفلسفون الأمور ويعطونها أبعاداً وتأويلات يصعب على فهمها.
    سألت عيناء عن ديوان للشاعر مقبول رسول:
    - أعتقد أنه صديقك، رأيت عليه إهداء خاصاً لك.
    أجابتها راوية:
    - وسيأتي غداً، في مجلسنا ستجدين المتواضــــــــــع والمغرور. أما مقبول فيشطب كل الشعراء لأنهم في رأيه شويعرون، وهو ربّ الشعر.

  3. #43

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    8


    سبح الليل فوق الشبابيك، تسلـّل الى أشيائهم الصغيرة، رسم ظلـّه على صورة تجمّع عائلة صغيرة، رائحة الوقت المتعب طرقت باب حقولهم، بين لحظة وأخرى تخرج من دواليب السيدة حكايات بعيدة بثيابها القديمة، وحكايات لمـّا تزل تحوك ثيابها، نهار أحب شتاءه وبين خريف وصيف كتبت جملاً لم يفهمها الوقت، فداس عليها وعبر كضوء محطات خانتها القـطـُر.
    دموع تخوفت من جفونها، على أذرع الليل الأخطبوطية، قمر باهت يمارس تلصصه من بين فتحات الستارة، لا شيء يعنيه غير تفاصيل الشكوى ومناجاتها لإنسانية مبتورة، ويعود إلى مخبئه بهدوء.
    لاحظت السيدة متابعة عيناء بشغف لكتاب بين يديها، فأرادت معرفة ما تقرؤه عيناء.
    ـ ماذا تقرئين يا عيناء؟
    ـ اعذريني عن فضولي، قرأت شيئاً من مخطوطة أظنّها لك.
    ـ هل تبدأ من سبح الليل فوق الشبابيك؟
    ـ هي كذلك.
    ـ استمتعي بها واعذريني، أرغب في اللجوء الى الفراش. إذا رغبتِ مشاركتي السرير، لا مانع، فيه متسع يكفي اثنتين.
    واصلت عيناء القراءة وهي ماشية، ووقفت قرب السرير. شدها مقطع جميل، بينما السيـــدة رمت جسداً رجرجته غربته وهدّته الوحدة، وكرّرت أربع مرات مقطعاً شعرياً لمحمود درويش؛ (لم يبق في تاريخ بلدي ما يدل على حضوري أو غيابي ).
    تحشرجت عبرات في صدرها، وواصلت بصوت متهدج: ويواصلون البحث عن قبري. ثم وجهت كلامها لعيناء:
    - تخيّلي، الجميع اتفقوا على موتنا. ألا يكفي أرض العراق ما شربته من دم على مرّ العصور؟ والله لو فيهم ذرة شرف لهابوا منظر الأطفال المدفونين مع لعَبهم، أطفال دُفنوا أحياء، أي حساب وعقاب نطلبه لمجرمين مارسوا شذوذهم الأخلاقي؟
    ـ أنا يا سيدة راوية أعتبر الأحزاب العراقية قد ساهمت بصمتها في انهيار العراق، ثم أين كانت ولماذا لم تتحرك أمريكا من قبل؟
    ـ العراق مثل بطن الأم، تنجب الصالح والطالح، البيئة العراقية مصدر حركات إصلاحية تنحو نحو المساواة منذ زمن، مثل (حركة بابك الخرّمي، ثورة الزنج، الحركة القرمطية، المعتزلة الداعية لحرية الفكر، إخوان الصفا بأفكارهم الإبداعية، أهل الحق ) والقائمة تطول حتى عصر قريب. لكن أسلافنا مجّدوا أسطورة الرجل الواحد، واليوم تفنّنوا بتشريدنا، لنبقى نثر أحزاب تلاحق ذاكرتها وتبتكر لها ذرائع تبقيها حية.
    مسكت عيناء من كتفها، ودنت منها حتى راحت تشم أنفاسها:
    - ثقي لو كان لدينا ما يكــفي من الوعـــــي لأدركنا وهم الأحزاب، هم مجرد حشو في معدن الحرية الوهمية. لو غربلتهم لوصلت الى نتيجة مرعبة، الشعب دائماً ضحية تطرفهم السياسي والديني وغبائهم المتذاكي، والحياة مجرد محطة وصفارة قطار تعرّت عرباته.
    وضعت عيناء المخطوطة أرضاً، واعتدلت في جلستها:
    ـ سيدة راوية ما رأيك بالتطرف الديني؟
    ـ أنا شخصياً أمثل الحالة برجل مجذوم بُترت ذراعه بينما الأخرى تهرشها الحكّة، تمزقه من الداخل ولا يقوى على لمسها، بين وقت وآخر يحطّ ذباب على جسده، يتلذّذ بدبيب النمل ويستأنس بهرش الذباب، ينثر جسده قشوراً ودماً، ينتابه شعور القرف. كل ما يملكه هو البصق على خياله وتوسله بالذباب هيا، أهرش.. أهرش؛. هل فهمت قصدي؟. من أين جاء الذباب، أية ريح حملته؟ أي أيادٍ هيأته للهرش؟
    أياد صديقة بثوب عدو، أياد عدوة بثوب صديق، أو أياد استدرجته لتغلق بوجهه باب الحياة، لا تستغربي يوماً إذا رأيت إعلاناً في التلفزيون أو دعاية عن أظافر للهرش.
    ـ آراؤك أعجبتني وطريقة وصفك للأشياء، ألا تنشرينها في الصحف أو تطبعينها ككتب؟
    ـ عزيزتي كتبت كثيراً وقرأت الأكثر، ولا شيء مما كتبته أو قرأته أعاد لي كرامتي. اسمعي قرأت مرة شعراً يصف زعماءنا، وتنطبق القصيدة كلها عليهم، وخاصة مجنون العراق.
    قضى أوقات جنونية خلقت منه بطلاً
    إلا أنه في النهاية
    كان ضحية جنونه
    وهذا ما جعله البطل.
    ـ أنت مولعة بالشعر، هل توقفت عند أحد غير أدونيس؟
    ـ تعجبني تساؤلات محمود درويش.
    (يا موت هل هذا هو التأريخ )؟
    ـ لم أسمع بشارع أو مدرسة سُميت باسمه، ألا يستحق ذلك؟
    ـ بل يستحقها وأكثر، لكن عندما يموت. أما وهو حي فالشوارع والمدارس والقاعات الثقافية تُسمى باسم حكامها.
    ـ إي والله سمعت وليداً يقول العراق بلد الرشيد.
    ـ ومن قال إن الرشيد عراقي ليُنسب العراق إليه؟ الشوارع يجب أن تسمي بأسماء أبنائها، من كدحوا وجاعوا وتاهوا فيها، هم سلالة سومر وأور. هل نسمّي الخليفة عبد الرحمن الداخل اسبانياً، وهل نُسبت اسبانيا له؟ لذا أحب تساؤلات درويش لأنها تفيض فيّ تساؤلات أكبر وأوسع. إمبراطورية امتلكت الأرض، قسمت الحياة لسنين وشهور، اكتشفت الكتابة والفلك.. و.. ننسبها ببساطة لبدوي قادم من الصحراء؟ بدوي غازٍ؟ أليست هذه كذبة التاريخ؟ ثم من يدري ربما سيقال في الغد:
    العراق بلد بوش؛ وسيصدق الجيل القادم اللعبة، ويقرأ الأطفال في المدارس عن بوش العظيم الذي حمى الإسلام وصلـى وحج، وعاد يطوف حول جواريه يمارس شريعة ما ملكت أيمانه مدافعاً عن حرية الإنسان وكرامته.. هذا التاريخ المبرقع.
    الوقت يمرّ كما تمرّ لحظة المواجهة مسرعة على رقاص ساعة دون حواس، بعيداً عن استدراك الكفاية من دم لم يتحمل ضجته والتصق بالتراب، لم يعد بمستطاعه أن يتحول إلى أمنية بين أسنان مهشمة.
    الانفعالات وإن جاءت متوترة، وقفت مريرة مخدوعة بين الحقيقي والمزيف، مرةً بحجة غسل العار، ومرة خانها شرف من صدّر الغجريات الى الخليج على دفعات من سفن الكرامة المحملة بأعضاء البترول التناسلية.
    كانت السيدة تتأمل عيناء وهي تنتقل من فكرة لفكرة، مفضلة حديث راوية وصياغتها الجميلة، إذ وجدت في حديثها نصاً أدبياً يمسّ أوتار قلبها، وهي تطيل النظر في وجهها كتلميذ قُدم إليه شرابٌ مرٌ وحلوٌ في وقت واحد. لم تكد تنهض السيدة راوية لتسترجع جلستها على الفراش حتى تململت وتأففت، ثم استرجعت حكاية مرّ عليها وقت طويل، لكن فضول عيناء لمعرفة سبب صمت السيدة وعزلتها قطع حديث السيدة من لحظة بدايته:
    ـ سيدة راوية، لماذا تفضلين الصمت في جلوسك؟
    أجابتها:
    - يقول (طاغور):
    (أنا طريق تصغي في صمت الليل إلى خطأ الذكريات).
    وأنا أصغي لنفسي، الصمت ليس ضعفاً أبداً، إنه اكتشاف للحقائق، وساعة التأمل هي صفاء الاكتشاف.
    ـ لم أسمــــع وليداً يذكر مثـــــل كلامك، بل كان يهــــذي دون صمت، وأنت تفلسفين الصمت؛ هذا غير معقول.
    ـ بل فلسف على طريقته.
    ـ كيف؟
    ـ هل تذكرين مرة حين توجه إلى لوحة بيضاء لم تنقرها ريشته، وصفعها كمن يصفع مذنباً وقال لها؛ البياض عار؛ ثم خلط مزيجاً من ألوان دون تحديد، وراح يرعد؟ كان يكره البياض.
    ـ هل معنى هذا أن وليداً فلسف البياض؟
    ـ أبداً يا ابنتي، بل يخافه، لأن البياض هو القاضي الوحيد الذي يكتشف عجز الرجال ويقاضيهم. أنا مثلاً أحب لوحة بيضاء دون إطار أو لون وأرغب أن تتوسط المعرض، أي معرض، لأنها لا تتواطأ مع أسئلة الزائرين للمعارض الفنية. ومن يقف أمامها مستفسراً، يحاول سرقة سره هو واكتشاف اعتذاره لنفسه أمام الصفاء.
    ـ لم أفهم سيدة راوية.
    ـ إنها فلسفة البياض الصحيح في المعارض الخطأ، على فكرة متى سيكون معرض وليد؟
    قال لي ولشقرائه يوم تركناه بأنه اتفق على أن يكون معرضه بعد ثلاثة عشر يوما ، ولا تزال في ثيابنا مساحات بحاجة إلى ريشته .
    سيدة راوية ، أرجو أن تقبلي توسلي وتضرّعي .
    - على ماذا ؟
    - أتوسل أن تحكي حكايتك الليلة أو ليلة الغد.
    ومثل ليل فقد حلمه الأبيض التفتت السيدة يائسة :
    - غداً سأكون متعبة، ففي الصباح لي موعد مع طبيبي النفسي وسأرجع منه مرهقة الأعصاب، ولا أدري كيف سيكون مزاجي،
    لو وجدتني متوترة لا تخاطبيني ولا تستفزيني، أنا سأكلمك من تلقاء نفسي. أما عصراً ، فلنا جلستنا الثقافية .
    - وماذا ستقرؤون فيها ؟
    - أحيانا نقرأ أشعارنا ونناقشها، وأحياناً يأتي أحدهم بديوان أو رواية ونقرؤها ونستعيد أجمل الأشياء في مناقشتها.
    ألا تتكلمون بالسياسة ؟
    - اتفقنا جميعا على أن نترك يوماً أو ساعات للروح ولمتعة النفس.
    كلنا بحاجة لذلك ، لذا وافق الجميع على هذا الطرح .
    لازمت صمتها وتركت عيناء حائرة بين سؤال يدور في خلدها ، وأسئلة تلحّ عليها فتكتمها . وحين رأت عيناء أن السيدة مستغرقة في صمتها ، قررت هي بدورها الصمت .

  4. #44

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1


    9

    حين أفاقت في الصباح ، لم تجد السيدة ، بحثت عن حقيبتها اليدوية فوجدت مكانها فارغا ، تطلعت لساعة يدها ، كانت تشير إلى التاسعة والنصف ، فاستدركت إن السيدة مع طبيبها .
    بعد اغتسال واحتساء فنجانين من القهوة، ورغبة منها في مسايرة جلساء اليوم، حاولت قراءة بعض المقتطفات من الكتب، اقلها تفهم بعض ما يدور في الجلســـــة، فشرعت في حفظ بعض عناوين الكتب والمقدمات لكتب أخرى حتى مضى من الوقت ثلاث ساعات في انتظار عودة السيدة.
    ذرعت المكان جيئة وذهابا ً، رددت أبياتاً من الشعر في محاولة حفظها كي لا تبدو بلهاء في الجلسة، توقفت أمام المرآة، صادفتها امرأة أخرى، رفعت خصلة من شعرها متدلية على جبينها وزمّت شفتيها :
    - من أنت ؟ مسحت المرآة بكم قميصها .
    - لستِ جرسا ً، أنت مجهولة ، راحلة أم مرحلـّة ؟
    -من أنتِ؟ هزت إصبع يدها اليمنى كمن يحذ ّر من شيء:
    -أنتِ سؤال بلا جواب.
    سمعت صوت المفتاح يدور، وقبضة الباب تتحرك، دخلت راوية مرددة كلام عيناء الذي سمعته وهي عند الباب ؟
    أية أسئلة تريدين؟ لا تخاطبي المرآة ثانية، إنها خرساء، فانا قبلك سألتها ولم تجبني .
    عمّن كنت تبحثين ؟ أنت كاتبة وشاعرة وتعرفين نفسك جيداً ، أما أنا فلست أدري من أكون ، أنا أنا مجرد لون يا سيدة راوية .
    وضعت السيدة كيساً من الفاكهة والخضار ، وبضعة أكياس من الفستق والجوز والكازو ، غسلت خيارة وناولتها لعيناء ، وطلبت منها وضع دواء جلبته معها قرب السرير .
    -ما هذا ؟ أهو دواؤك الجديد؟
    -دعك منها، إنها أقراص لمنع .. لمنع ( ولم تكمل )
    تناولت عيناء الخيــــارة وقضمت منها قطعة كبيرة وراحت تلوكها على عجل ، وهي تتطلع لكيس الدواء وابتسامة على فمها ؟
    ـ لمنع الحمل؟
    رفعت كم قميصها بعض الشيء ، تنفست بعمق كمن يشهق :
    ـ هل سمعت بحبوب منع الوطن؟
    وضعت يدها فوق صدرها ، عيناء يا بنت :
    - هذه الحبوب نتعاطاها لننسى هذا (وأشارت إلى قلبها) وكي لا نلتحم به.
    - لم ترتبك النظرات ولم تهدأ ، بل أرادت التجرؤ على الأسئلة، ثم ضاعت بين محاولة السيدة تلافي أي سؤال وطلبها تهيئة الجلسة، وكانت يداها ترتجفان. سألتها عيناء ما إذا كانت بحاجة إلى تناول الدواء، شكرتها وأوضحت لعيناء:
    - أنا أسمّي هذا الدواء دواء التصبير ويصفونه (للـدبرشن) أقصد التوتر العصبي، وما هو إلا مهدئ للجسد.
    - تظل الروح تحوم حوله، تبصق على بلاهته وسكونه، وتحترق منه وفيه. تقف بالطريق المعاكس له، روح زوبعة في سجن مهدود ثم تحترق وحدها.
    ـ لو كان كل الناس مثلك سيدة راوية لاحترقوا، أنت عاطفية زيادة عن اللزوم.
    ـ وهذا ما يذبحني.
    تشاركتا في إعداد وجبة غداء سريعة. السيدة تتذكر أشياء تشعرها بألمها فتغير ملامحها، وتحاول إخفاء الألــــم. أما عيناء، فأعدت بشكل جميل جلسة العصر، ووضعت المكسرات في أوانٍ صغيرة، ثم خطر ببالها أن تسأل السيدة عن عمل كتابي سابق لها، وفرحت بردّ السيدة أنها ستهديها نسخة من روايتها المطبوعة بعنوان (أقصي الجنون الفراغ يهذي ).
    ـ أهي لك؟
    ـ إنها لي وللسيدة التي أخبرتك عنها.
    تحاول عيناء الاستذكار.. آ.. آ.. الروائية التي ستُنهي حكايتنا، أظنّك قلتِ لي مرة إنّ خاتمتنا ستكون في المعرض.
    ـ سنرى ما يحصل، لا تستعجلي الأمور. بقي لديك أربعة أيام، ومازال لدينا متسع من الوقت للخوض في تفاصيل كثيرة.
    ـ هل يعون ما يفعلون؟
    ـ مَن يا عيناء؟
    ـ انظري.
    أشارت إلى اثنين يتشاجران بعد نقاش حاد، أحدهما يصف الآخر بالملحد والمضلـّل.
    ـ ألم أقل لك اتركي التلفاز؟،
    ـ لكن الله يقول : (ولا تنابزوا بالألقاب ) ويقول: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان).
    ـ يا ابنتي هذا الفسوق بعد الفسوق، دعك منهم، واقرئي الرواية. اقرئيها دون أسئلة، لأني أرغب في قراءة عميقة لموضوع سنتناوله اليوم.
    ـ تفضلي، ولكن..
    ـ نعم، ولكن.. قرأت عليه إهداء جميلاً من الكاتبة الى قارئة مجهولة لمَ، أهو لكِ؟
    ـ ربما قصدت الى قارئة ستجد ذاتها ضمن العمل، واصمتي. أرجوك..
    لطمت فمها بكفّها، وخرجت فقاعات هواء ليس لها سؤال، تركت الصمت يأخذ مساحته في المكان.
    خطرت ذكرى على بال عيناء، فاستعجلت نفسها ورددت الأرقام بصوت عال، ثم أغلقت الخط مفكرة ، ما الذي ستقوله لذكرى ، الراغبة في زيارة السيدة، كما إنها تعرف مسبقاً ردّ السيدة عليها حين تخبرها برغبتها، وستقول لها إنك مجرد فكرة. سمعتها منها مراراً؛ أنت لست حقيقية، أيامك معدودة. والمرأة التي تكون مجرد فكرة طارئة، هل تستخفّ بالحياة أم الحياة تستخف بها ؟
    تمنّت أن تقتل وليداً وتقتل نفسها، فقد نفّذت له رغبته وأصبحت نسخة منه (كوبي)، تنطق بلسانه، تفكر بعقله، وترغب برغائبه. وهي من تكون؟ ماذا تحب، ماذا تكره، كيف ترغب أن تكون؟ ما الذي يبكيها ويفرحها؟ إصلاحها، عطبها، من له ومن يحويه؟ وهي ظل لرجل مهووس بغيرها.
    أعادت التلفون إلى الطاولة، وحاولت استرجاع بدايتها، ومن البداية أرادت أن تعرف نهايتها؛ أعليها أن تستعد لحزن جديد؟ السيدة منهمكة بقراءتها، وهي تحاول الابتعاد عن وهمها حادثتها محادثة العارف بما يجول بخاطرها :
    - أجل، أجل، أيامك معدودات. واتصلت بذكرى.
    رجعت إلى الهاتف ثانية تلبية لطلب السيدة :
    - ذكرى اشتقت إليك.
    واستمعت لحديث طويل عن لقاءاتها مع الأثرياء ومغامراتها.
    ـ لا تنسى يا ذكرى،. أيامنا الباقية أربعة فقط.
    ـ أين سنلتقي في آخر يوم؟
    سمعت وتكلمت، وأيدت معرفتها للمكان والزمان؛ اتفقنا إذاً.
    ساعة ونصف من الخصوصية التي لا تفي بغرضها، استماع لثرثرة عاهرة لا يجدي ولا ينفع. ضجرت السيدة، فالصوت يقطع عليها تسلسل أفكارها. استدركت عيناء الموقف:
    - سأتصل بك لاحقاً.
    بعد انتهاء المكالمة وجدت في عيون السيدة رغبة في الاستفسار عن ذكرى، فقالت لها قبل أن تسأل:
    - هذه المرأة عدوّة نفسها.
    ـ كيف؟
    ـ إنها تجري وراء غزوها للجيوب والعقول. والغزو هو الغزو سيدة راوية، لقد تعدّدت الأسباب والغزو واحد. لقد حكت لي حكايات تقشعر لها الأبدان، تحدثت عن الجنس دون حشمة، ما شأني أنا بالطريقة التي تمارس بها الجنس مع عشاقها، وأعتقد أن من يضع سرّه في غرفة في فندق أو شقة مفروشة، يترك سريره في البيت مشاعاً.
    ـ حكيمة عيناء، رغم قصر تجربتك في الحياة.
    ـ حكمة العورات لا تحتاج إلى تجربة، لكن لماذا نسمّيها عورات، الله وضع سرّ الحياة فيها؟
    كلما زاد تعلّقها بالسيدة راوية، شعرت بشوق وألم موجع في الوقت نفسه، تحاول استفزاز السيدة للتمتع بحديثها الجميل الذي لا يخلو من فلسفة وحزن وسعة معرفة، وفي كل لحظة تقاطع السيدة التي رغبت في استمرارها بالقراءة:
    ـ لم تجيبيني سيدتي، ما هو رأيك بأن الله وضع سر الحياة في العورات ونحن نخجل من ذكرها؟
    ـ الله جعل الكون كله قائماً على ثنائيات الأشياء، وباكتمالها دون نقص من أحد يستقيم الكون. هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ، يذكرنا بوحدة الإنسانية وتكاملها (وخلقنا من كل زوجين اثنين)؛ جمع المتناقضات جسدياً ليكتملا، وباكتمالهما تتوحد الحياة.
    حمدت عيناء ربها وشكرته على حفظها، فقد وهبها قوة لتصون نفسها من سوء الحياة رغم مغرياتها. حياة محدودة ابتدأت بشكل الزنا ورأته أمامها، تأرجحت بفرحتها، وشعرت بأهمية الوقار والعفة، وأهمية الحب الحقيقي، فقد اختارت البقاء قربه.
    الإلغاء إن جاء من حبيب يصبح كالهياج المزدهر بألمه، يتّزن ويترنح ويئنّ في آن واحد، انصياع جميل بابتهاجه الفوضوي، الأصوات المحفورة في الذاكرة تصبح بضبابياتها مجرد وهم في حضور صورة الحبيب.

  5. #45

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    10


    ليل راوية يطول ، تتدافـــع ساعاته المظلمة وتحتدم،بقيت السيدة بأنينها، تتقلب وتتحرك باتجاهين، تتنفس بعمق وتسند ظهرها إلى الحائط وتفرد صدرها. يتحرك نهداها الطائشان بخبث تحت قميصها البنّي، تفرك شعرها وتمرّر أصابعها من خلال خصلاته الناعمة، وحين تتكلم مع عيناء تخرج كلماتها مبحوحة لعمق صمتها واستغراقها في القراءة.
    خرجت من فمها كلمات معسولة بإعجابها مما قرأته:
    - الله، ما أروعك يا جلال الدين الرومي، اسمعي عيناء ماذا يقول:
    - (إن الله يهب جناحين لمن تخلى عن حصاد الجسد ).
    - استعدي لجلسة اليوم، هيا لنغيّر ملابسنا.
    ارتدت راوية جاكيتا مقلماً من جهة واحدة في الصدر بأقلام بيضاء رفيعة، كما ارتدت تحته ثوبا بسيطا، ومشطت شعرها كالمعهود، إذ سحبته إلى الوراء وجمعته بـ" بمشبك" خاص للشعر. أما عيناء التي خرجت من بيت صابر بثوبها الذي عليها، شاركت السيدة ثيابها الوقورة وإن بدت عريضة عليها قليلاً، كما أظهرتها أكبر من عمرها الفتي. أخذت تضفر شعرها ضفيرة واحدة، جعلتها تتدلّى على صدرها، وكرّرت شكواها من الشعر الطويل.
    كانت شكواها حجة واهية لتدخل إلى بداية سؤال :
    - ألا يزعجك الضيوف؟ خاصة شجارهم ونقاشهم، وقد أخبرتني بأنه ينتهي إلى خصام أحياناً، لولا تدخلكم؟
    - لولا الضيوف لكانت البيوت قبراً؛ هكذا يقول جبران. وضيوف الأدب هم ضيوف الروح، إني أكره الحياة التي ليس فيها أديب أو شاعر.
    - كلهم فقر وعوز مثل وليد، حبيبي صورة مصغرة من جمع الأدباء.
    - لا تتكلمي عنهم هكذا. خُذي مثلاً تلك الشجرة التي عودتني أن أقف أمامها كل صباح، انظري.. أليست خضراء زاهية بلونها الأبيض، تستشفّ من النهار صفاءه ومن الليل حكمته.
    - بلى والله لقد أغوتني حال دخولي.
    - هكذا هم أهل الإبداع، يتألمون وتبتئس قلوبهم،، لتزهو سماؤهم في عيون القارئ كما الشجرة تماماً. هل جرّب أحد أن يسأل الشجرة عن انفعالاتها، أوجاعها مع الريح، آلامها مع البرد، شعورها ساعة تورّدها؟. أبداً، لا لشيء، إننا لم نتعوّد على سؤال أنفسنا أولاً. أنا شخصياً أسأل الورود، أقف أمامها أغازل جمالها. علاقتي معها تثير استغراب صديقاتي، علاقتي مع الطبيعة والله علاقة خاصة لا يصلها الإنسان العادي.
    لطالما ضحكت علي إحدى الصديقات وهي تشاهدني أحدث نفسي، وتسألني: ما بك يا راوية؟ فأجيبها: لا شيء، كنتُ أحدث الله، أو كنت أسأل وردة. أغضب غضباً شديداً لقطع الزهور من أغصانها.
    ـ أنت غريبة الأطوار،. وليت الناس جميعاً بمثل شفافيتك.
    تغيّر الهدوء إلى ضجيج، الكثير من الأخبار عن الأحوال الخاصة، والكثير من الانفعالات، تخمة الأخبار السياسية الجرداء جعلتهم يبتعدون عن تفاصيلها المتفككة. جلس اثنان منهم على الأرض متخذين من كرسي خشبي مسنداً لهما، إذ تركا الكرسي لضيفة أخرى شاركتهم بساطة اللبس والشعر وحسن الخلق.
    بعد طرقـــــات خافتة يضرب الإيقــــــــاع ويحول المكان إلى قيامة، تعدّدت الوجوه، واهتزّت الأيدي مصافحة عيناء، حيث أثار جمالها الحضور. كل ما تعرفه أنهم أصدقاء للسيدة راوية، فلا بدّ أنهم أدباء، شاعر على حافة بئر ينسج كلمته، أو كاتب ضاق بجسده فراح يبحث عنه مثل تأريخ مهجور. كانوا سبعة رجال وامرأتين، وكانت عيناء تنظر نظرة حائرة غير قادرة على التحرّر وفكّ لغز مصطلحات غريبة عليها، وكأنها في اتساع غير قادرة على لملمة جناحيها فيه.
    ثلاث ساعات خافت فيها عيناء من ظلها، إذ لم تسمع عن ظل يواجه صاحبه، وكانت تخاطب نفسها وكان الظل يستهزئ منها:
    - أنت مجرد ظل عابر.
    لم ترَه يشبهها أو يأخذ هيئتها، كان انكساره على الحائط كعملاق. ظلّت غارقة معه، لولا انتباهها لشاعر توسّط المكان وراح ينشد :
    هل أختار بابي الأخيرَ؟
    أنا مسمار نفسي
    علـّق عليّ حوائجي البسيطة
    باحثاً عن جدار
    أنا مَن فرّت يداه منه
    كيف أكتب بما لا يصدّقني به أحد؟
    علا التصفيق وأطرقت الرؤوس وتنهّدت الصدور، بعد حدوث تصادم في الأمنيات وتلاحم حلمٍ بصدور فرغت من فرط ما تمنّته. وبقي السؤال الوحيد يدور في خوائها.. غــــادروا مودعين بابتسامة، كفكفت السيدة راوية عبثهم، ولملمت أعقاب سجائرهم المتناثرة. ساعدتها عيناء بغسل الصحون والمنفضات، جرحت عيناء إصبعها وهي تغسل قدحاً كُسرت حافته. لفّته بورق التنظيف وعصرته.
    لكن السيدة طلبت منها أن تضع عليه شريطاً من البلاستر، كما رجتها رمي القدح في صندوق الزبالة. وبهدوئها المعهود، ومثل قطعة حلوى رُشّ عليها ماءٌ مرٌ، جلست على كرسي في المطبخ تتأمل عيناء وتسألها:
    - هل استعذبت الجلسة، أم صعبت عليك حواراتهم؟
    - أجابتها عيناء وهي تربط إصبعها المجروح
    - نعم، ولا. وهذا الشاعر مزّقت قلبي قصيدته.
    - هذه ليست قصيدته، إنه يحفظها ويردّدها في كل جلسة.
    - لمن هي؟
    - للكاتبة التي ستطبق الجدران علينا، إنها امرأة صموت ومتفجّرة في الوقت ذاته.
    - توقعت أنها قصيدته، ومن تكون الكاتبة هل تعرفين اسمها؟
    ابتسمت راوية وراحت تسترجع مشهد الشاعر كيف وقف كأنه يعزف معزوفته، تلفّظ القصيدة وكأنها خبزة طازجة خرجت للتو.
    سحبت راوية كتاباً لكولن ولسن (الفن واللافن) قائلة:
    - ستجدين الجواب هنا.
    ـ أنا في حاجة لعمر جديد كي أتعايش معكم سيدة راوية.
    مسحت قطرات ماء عالقة على الطاولة وقالت لها:
    - في هذا الكتاب ستجدين أن الأدب الحقيقي هو حبس دهر في عبارة. سأعدّ طعاماً بسيطاً، هل تشاركينني؟
    - بكل سرور، فأنا جائعة. وأتمنى بعد إنهاء الطعام واستراحة بسيطة أن نبدأ من حكايتك سيدتي، هل تمانعين؟
    - لا أمانع. بالمناسبة، حين كنت خارج المنزل أخبرتني ذكرى عند مكالمتي أن محموداً الصحفي يسأل عني دائماً ولم تخبره عن حكايتي؛ لماذا لم أجده بين أصحابك؟
    ـ سمعت عنه ولم أختلط به، له جلساته ولي جلسائي. يقول إمرسون:
    - ( الأخلاق الحسنة هي بعض تضحيات بسيطة). لكن المعادلة مع محمود تختلف، فالأخلاق السيئة تبدأ من تضحيات بسيطة، ثم تكبر وتتسع الهوّة إلى أن تصل الكرامة ، ومثل هؤلاء لا يدخلون بيتي.
    ـ أنت تذكرينني بوليد، أنتم الموهوبون الحقيقيون. أما الوصوليون أمثال محمود، فهم.
    ـ هم في المرتبة الأمامية، ونحن في آخر الركب؛ أمرٌ مذهل أليس كذلك؟
    رغبة بالاستماع، وعودة لمتاعٍ قديم تركته راوية في صرّة قماش أزرق، استخدمته غطاء لرأسها وهي بين جدران السجن.. كان الحاضر يستطيل ويمدّ رقبته لماضيه.

  6. #46

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1


    فصــــــــل
    بحر يتسع في إصبع


    التلفاز
    إسفنج يمتصّ طالع الحقيقة .

صفحة 5 من 5 الأولىالأولى ... 345

المواضيع المتشابهه

  1. ثلاثة هن راجعات إلى اهلها
    بواسطة راما في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-09-2012, 06:18 AM
  2. السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3
    بواسطة وفاء عبدالرزاق في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 09-05-2010, 05:36 PM
  3. امسيات ادبية للاديبة وفاء عبدالرزاق في مصر
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الأدبي العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-10-2010, 08:53 PM
  4. قراءة في مجموعة وفاء عبدالرزاق الجديده / نقط
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 03-01-2010, 08:06 PM
  5. نرحب بالاديبة/وفاء عبدالرزاق
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-07-2009, 07:17 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •