منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 3 من 5 الأولىالأولى 12345 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 46
  1. #21

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    6
    علاوي أحد أصدقائه الذين استقروا في الإمارات منذ السبعينات، وأصبح تاجراً الآن وذا نفوذ في البلد. كاد أن يُغمى عليه فرحاً حين شاهده ذات يوم
    صدفة، وهو يتجول في محلات (ماركس أند سبنسر)؛ في شارع أوكسفورد).
    ـ علاّوي.. ماذا تفعل هنا؟ متى وصلت؟ ما هي أحوالك؟ هل أنت وحدك أم مع نسوان؟
    ـ وليد.. يا للصدفة الجميلة، وأنت ماذا تفعل هنا؟
    ـ جئت لأبحث عن امرأة أرسمها، وأنت؟. للتسوق أكيد.
    خرجــا معاً، كانــت سيارة بسائقها في خدمته، أشار للسائق بالانطلاق والتوجــه إلى مطعــم (مســـقوف ) .
    بعد تذوق أطيب الأكلات وألذها قررا أن يلتقيا ليلاً في دار مراكش، هناك ألذ المأكولات المغربية والشيشة. هل تعرف المكان جيداً يا وليد؟
    ودعه وليد مؤكداً على معرفته المكان وعلى الذهاب إلى هناك لانتظاره في التاسعة مساء.
    معدته لم تألف مثل هذا الأكل، فثارت عليه مترجمة رفضها بآلام حادة، صاحبها قيء وصداع. فقرر عدم الذهاب حسب الموعد قائلاً:
    -هذا أحسن، ألم معدتي لم يكن من التخمة بل من فراغ الجيب.
    المفروض أنا من يضيّف، هو الزائر وأنا ابن البلد. ثم إذا ذهبت هناك هل أتركه يدفع عني، وأنا لا أملك سعر علبتين من البيرة ؟ يا الله، هذا أفضل. شكراً أيها المغص المنقذ، خلصتني من ورطة كبيرة،من الدفع ومن سيل لعابي على النساء وعلى حديثي عنهن:
    -الصدر بضّ، الشعر ناعم، المؤخرة مدوّرة، تفعل ما ترغب به، هي في خدمتك، بينما زوجتي.. ثم يصمت علاوي.
    التقط قطعة لحم بالشوكة وقبل أن يضعها بفمه يبرر لي سبب خيانته لزوجته:
    صحيح أنا أحبها بجنون، لكنها أكلة واحدة، يا أخي ملــّيت كل يوم بامية، بامية.. إي هم يشتهي الواحد اللحم الروسي الذي غزا شوارع الإمارات ودوائرها ومحلاتها؛ ثم أنا مللت من اللحم الفلبيني.
    ( حين كانا في المطعم ، كان يضع قطعة من لحم الكباب في صحن وليد ويقول له) :
    - كُل يا وليد، كل. هذا لحم إنجليزي.. ويغمز له، أكيد ذقت اللحم الإنجليزي؟
    تمدّد وليد على فراشه، وراح يقرأ رسالة عبد الحق التي وصلت صباحا، قرأها أربع مرات، ثم الخامسة، استفزه شعر عبد الحق، تخيل صورة ما، ودخل المرسم، يستعيد الكلمات ثم يرسمها. يتناول الألوان، ويضع حرفاً على شكل قوس، وتمرّ الساعات.. يقف يتطلع ، يرسم، يشعل سيجارة ، يشرب قليلاً من البيرة، يضعها أرضاً ويواصل .
    أذهله سحر اللوحة، إنها كيان وليست ألواناً فقط، لا بل قصيدة، لغة بالألوان. يحدث لوحته، يقف وهو يسند ظهره إلى الحائط : وينك يا عبد الحق، وينك تجي وتشوف بيت الشعر الذي قلت فيه:
    خضّبتُ المستباحَ
    حمّلتُه ميعادكَ وانفلقتُ.
    - ها هي انفلقت..
    كل المستباح، من رجولتنا إلى أرضنا. ثورة ألوان.
    أحمر، أخضر، أصفر، أزرق؛ سأسمّيها المستباح؛ ولن أعرضها في أي معرض، هي لي.. يجب أن أعلّقها على هذا الحائط. لا، في غرفة نومي، لا.. هي هدية يا عبد الحق، هدية.
    وراح وليد يدير قرص التلفون، بعد ثلاثة أرقام تطلـّع إلى ساعته، وجد أن الوقت غير ملائم، فقرر الاتصال بعبد الحق غداً.
    لم يلتقِ بعبد الحق في سوريا، لكنه التقى به في كلية الآداب في بغداد، وتصادقا بعد أن التقت أفكارهما وآلامهما. كان يلحظ ألماً دفيناً في عيني عبد الحق، وبعد توطد الصداقة حكي له كل شيء، وصارا لا يفترقان. لكن فرّقهما السجن، من وقتها لم يسمع عنه أي شيء، إلا مفاجأة عبد الحق له عبر الهاتف في لندن.

  2. #22

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    7
    كانت أمه قاسية جداً، تضربه كثيراً وبعنف. كانت تعكس مشاكلها العائلية وسخطها على عائلة زوجها التي تغار منها لكونها جميلة، ولكونها استحوذت على قلب أبيه. لم يكن متعلقاً بأمه، بل بأبيه الذي كان عاملاً في شركة البيبسي كولا، ثم شرطياً، ثم سائق تكسي. كان متفوقاً في المدرسة، وخاصة في دروس اللغة العربية، وكان موضع اهتمام مدرس اللغة العربية، حيث أهداه مجموعة قصصية لـ(فهد الأسدي).
    هرب من البيت إثر ضرب و إهانة من والدته، وسكن عند عمته.
    كانت طفولته في (الشاكرية ). و كانت ( الشاكرية ) عرصات وصرائف للعمال والفلاحين النازحين من الجنوب، ليس فيها مدارس أو مراكز صحية. وعندما كان أحمد حسن البكر رئيساً للوزراء، انتقل مع عائلته إلى مدينة الثورة، أرض مهجورة متعاطفة مع عبد الكريم قاسم ، وفي عام 1963 اعتقل الحرس القومي الشباب من جيله، ورحّلوه بعد هجوم على بيت عمته وسحل زوج العمة بدمه. ثم خرج بعد شهور من الاعتقال والتحقيق، حيث لم يعثروا على ما يدينه.
    كانت ميوله دينية في بادئ الأمر، لكن القراءات في فترة عبد الرحمن عارف، لِنجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس وغيرهم أبعدته وهو في سن المراهقة عن الحس الديني، ونتيجة تأثير الأقارب والأصدقاء الذين ينتمون للحزب الشيوعي، والذين كانوا يزودونه بالكتب وهو في سن السابعة عشرة، أصبح شيوعياً، ثم عضواً في اتحاد الطلبة.
    في سنة 1972 تعرف في جامعـــــة بغداد على فتاة سمراء، معه في القسم نفسه، وتزوجها بعد ذلك، وفي السنة ذاتها قُدّم ضده بلاغ بأنه ضمن خلية حزبية تتآمر على اغتيال قائم مقام مدينة الثورة. واعترف عليه شيوعي سابق من المنطقة بعد تعذيبه، وعلى مجموعة من الشباب.
    حين داهموا بيت عمته مرة ثانية، لم يجدوه في البيت. وسجل اسمه إثر هذه التهمة الملفقة مع الممنوعين من دخول الجامعة، فطلب منه الحزبُ الاختفاءَ لمدة سنة.
    في أول سنة له في الجامعة، كوّن مع أصدقاء له من شعراء وكتاب ورسامين أصبحوا معروفين الآن (جمعية اتحاد أدباء مضاد) ؛ رغم أن بينهم من بعثيين والشيوعيين. ولقاءاتهم في مقهى المثقفين في بغداد حمّسته على كتابة الشعر ومواصلة الثقافة. ومن خلال اتحاد الطلبة توطدت علاقته مع جريدة (طريق الشعب) وتم ترشيحه للحزب قبل السن القانوني.
    إثر تسرب معلومات لوالدته عن مكان الجريدة ، جاءت إليه وزارته في مقر جريدة طريق الشعب ، وأصبحت العلاقة بينهما إثر تلك الزيارة، رغم توترها، فيها شيء من الألفة وحنان الأم.
    إلا إنه بقي في بيت عمته، ثم انتقل بعدها إلى بيت ابنة عمته التي تكبره بكثير، أرملة استشهد أخوها إثر اعتقاله سنة 1963 مع مجموعة القيادة المركزية بعد أن حقن في رأسه إبراً أودت به إلى الجنون ثم الموت.
    أما هي فقد كانت توزّع المناشير في علاّقة ،الخضار وهي ذاهبة تتسوق، كانت غاية في الجمال، وحادة الذكاء، وتحب الحزب بشكل تلقائي وعفوي، وصاحبة نكتة.
    تزوج عبد الحق سنة 1979 وفي السنة ذاتها ترك العراق، قدّم على جواز سفر بصفته عاملاً بكفالة قدرها خمسة آلاف دينار، ووقع على وثيقة صحية لكونه ذاهباً للعلاج في بلغاريا ثم السياحة في تركيا، وعقوبة تكذيب هذه الوثيقة هي الإعدام. في الحدود بقوا ليلة كاملة، بعد أن أعياهم السفر من الموصل إلى دهوك. نقطة إبراهيم الخليل كانت مرحلة الشك في سفرته، سمحوا لزوجته بالعبور لوحدها. سمحوا للمرافق أن يمر، بينما أمروا المريض أن يرجع مع شقيق زوجته الذي قادهم إلى نقطة الشك بسيارته مدعياً أنه صاحب تكسي.
    انتقل مسرح التدبير للخروج من العراق إلى والد الزوجة، رجل بسيط صاحب محل لبيع وتصليح الزجاج ، يمرّ عليه ضابط يعمل في الجوازات. فطلب منه جواز سفر جديداً لصديق اسمه مظلوم، وأعطاه صورة شخصية لعبد الحق، وحين سأله الضابط عن صاحب الصورة أكد أنه عامل بناء، لكن الضابط أصرّ على أنه صحفي، وأنه شاهد صورته في جريدة طريق الشعب.
    فأقسم له:
    - لا والله يا أبو مخلص، هذا رجل بسيط لا يعرف طريق الشعب ولا طريق الحكومة.
    عندها وافق الضابط على ذلك، وقبض قيمة الجواز مئة دينار، وهو يقول: إكراماً لك يا عم أسقط حقي في الأجرة، لكنْ لدي عمل صباغة في الدار وأريده أن يقوم بذلك.
    انتقل عبد الحق من القلم إلى الفرشاة، يلطـّخ هنا ويعربد هنـــــــاك، ولمدة شهر كامل. غادر بعدها إلى سوريا، ومن سوريا التحق بزوجته في بلغاريا.
    هناك أصيب بإحباط ، كانت بلغاريا بالنسبة إليه صدمة حضارية وثقافية، فبينما كان فرحاً ومتهيئاً نفسياً لمشاهدة بلد ديمقراطي مقارنة بالوطن، وجد شيئاً آخر، لكن العيب لم يكن في البلد، بل في الناس، كانوا نصّابين باسم الرفاق، أين الرفاق الذين عهدهم في العراق؟ فلاحون وعمال ، مثقفون وبسطاء، أين هم؟ من هم الحقيقيون ومن هم المزيفون؟.
    إنه يعرف الكثير منهم والذين جاهد معهم، وتوقف واعتقل معهم.
    ترفـّع على الصغائر واهتمّ بالانتماء، بانتمائهم ابتعد عن التشكيك بالآخر كما كانوا يفعلون. سلبية الأحزاب بالحكم وسلبية البيروقراطية والزجر والأوامر جعلته ينهار، إلى درجة أنه لم يقوَ على ممارسة الجنس مع زوجته لمدة سنة، بعد أن خضع لجلسات علاج لدى طبيب نفسي.

  3. #23

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    8
    من الصعب أن يجد المرء القدوة والمثل ينهار في نظره، رغم أن الكثير من النساء والرجال ضحوا من أجل قناعاتهم وانتمائهم الحقيقي والمبدئي.
    كانت تراوده صورهم وهو في المصحة ، منها صورة تلك المرأة الجميلة، زوجة صديقه الذي يسكن في مدينة الثورة. كان لا يستطيع أن يلتقي معها في البيت أو في مدينة الثورة كي لا يكشف صلتها الحزبية معه، فيواعدها في ساحة النصر.
    سابقاً كانت العباءة العراقية هي ستر المرأة، والغانيات هنّ من يرتدين القصير والعاري من أجل جلب الزبون. ولكن في أعوام السبعينات تخفـّت المومس في العبــــــاءة، وصار ارتداء المرأة لملابس محتشمة يُعدّ جذباً للتحرشات والمعاكسات. تعرضت تلك الرفيقة للإساءة، وكان الراغبون في امرأة يسألونه، وهو يسير معها لتوصيل خبر أو تعليمات حزبية، عن أجرة الساعة بصفته القواد، المرافق.
    لقد تعرضت للاعتقال والتعذيب، وسمع في بلغاريا أنها ماتت صامدة ولم تخبر عن رفاقها، كما سمع عن إعدام شقيق زوجته الذي وقع على كفالته بأن المعلومات الكاذبة التي قدّمها هي معلومات صحيحة. قصته تكفي أن ينتظر قليلاً، ويكفّ عن الكلام. لذا لم يكمل عما عانى في بلغاريا، وظنّ أن هذه المعلومات تزيد إحباط وليد، فاختصرها في رسالته الطويلة.
    أخبره أن الأوامر اقتضت إرساله إلى اليمن، وأرسل عن وضعه في اليمن ديواناً شعرياً يترجم فيه كل شيء، سمّاه "الصهيل المبتور".
    ثم وضع نقطة سوداء كبيرة في نهاية الرسالة، وترك ملاحظة يشرح فيها كيف عرف عنوانه من صديق يعمل في الصحافة في ألمانيا، فكانت تلك اللحظات بالنسبة إليه لحظات استثنائية أن يعرف عن صديقه الفنان. كما أن الصديق ذاته دبّر له عملاً معه ، وراح ينشر أشعاره مترجمة إلى اللغة الألمانية، ومرة بالعربية. *

    عاين وليد يمنة ويسرة، فوجد أشرطة تسجيل مرمية أرضاً حيث يعتبرها أشرطة غسل الذاكرة، أدار المسجل بعد أن وضع فيه شريطاً لأغانٍ قديمة، وترك هاجس المرأة يعبث بمخيلته.
    غمرته نشوة جنونية وهو يحاول الوصول إلى حلمة متوردة، كلما انتهي من رسم امرأة من المخيلة مزقها، وبحث عن أخرى. يقترب منها،تسحره عيناها،تزحف النشوة إلى جسده وهو يحرك الكرسي الهزاز ويداعب شفتيها.
    تسير يده ببطء، تقرأ وجنتيها ورقبتها، يمرر طرف إصبعه على زندها وعظمات رقبتها ناحية الظهر، ينزلق إصبعه في ممر العظمات ويستقر عند قراءة المفرق، آخر عظمة تتربع بين تلـّين من اللحم الأبيض.
    خطوط جديدة تزيح اللحم البضّ عن مخيلته، فتأتي عابرة ودون استئذان صورة "علية"، يفتح عينيه ويهرب من صورتها القديسة، يجلس على الأرض، ومعه ثلاث علب من البيرة، يضعها أمامه دفعة واحدة، ويضع عشرات من السنين في خزانة قلبه.
    يقضم أظافره بأسنانه، لا يجد أمامه غير صورة الفراغ، يفرك عينيه باحثاً عن لون. يبرهن لنفسه أنه مازال يتنفسها ويشم رائحتها:
    - تعالى، تعالى يا علية ، تعالى ولو في الحلم.
    يسند ظهره إلى حافة الأريكة، يندف شعره الذي تركه على سجيته دون حلاقة أو صبغة، يستحضر كل ما يمتّ" لعلية" بصلة، فيجده عصياً عليه، يتمدّد على الأرض كسفينة لا تجرؤ على الإبحار، يجلب له خمس علب أخرى، ويتركها قرب الثلاث الفارغة. ثم يرجع لسفينته، ليعطيها قليلاً من جرأة، وحين عصت.. حثـَّها، ولما استكبرت، دفعها إلى حافة الرمل ، انزلقت قليلاً إلى الماء.
    أغمض عينيه بارتخــــاء ساخن، كانــــت على صدره اثنتان تجددان القُبل، وختم الشفتين يزيّن رقبته ويديه وبطنه العارية. نفَـَس حار، وشعر أشقر أُسدِل على وجهه، شمّ رائحة عطر لم يشمه من قبل ، نساء هاي ستريت كنزكتن، أجورد رود، بيكاديللي، الناصرية، بغداد ، لم يجده على بطاقات السفر اليومية وعلى تذاكر الطائرات. بينما سمراء متمردة بشعرها المتمرد، تطوقه وتشمه، وتصطك أضلاعه بأضلاعها، ويكاد أن يحيي الميت فيه.. فإذا بعربدة جاره السكير تستقر في رأسه وتعيد إليه صحوته .
    أفزعته الوحشة والفراغ بينما العزلة أصابته بالخرَس، لم يجد أثراً لقُبل. تفحّص بطنه، فتح منخاريه ليشم رائحة امرأة، لم يجد أية شفة تتصدق عليه بقبلة، كان قلبه بوسعه أن يتسع لحلم استثنائي. وكاد أن يدخل صدر الشقراء، يخترق نبضات قلبها ويدخل.
    دار في الصالة عشر دورات، دخل غرفة نومه، شعر برقصة على أصابعه. عضّ شفتيه ومدّهما، عضّ الفرشاة الصغيرة، ابتعد مسافة مترين، تحسس يده المبتورة، سكت، فاض في قلبه شيء غريب،أحسّ بجسارة سؤال في صدره : ما الذي يمكنه أن يصور امرأة تفضح النهدين؟ امرأة هي غايتي وجرحي العابث باللذة.
    التفّ حول نفسه، وقف أمام المرآة :
    - هذه اللوحة الأخيرة، وسأعلن عند إتمامها عن معرضي، وأدعو إليه أصدقائي المقربين؛ لقد نالت مني العزلة ونلت منها ما يكفي. نعم يا (دافنشي)،العزلة هي الحرية، وصدقتَ حين قلت:
    - ( إذا كنت وحيداً فأنت تملك نفسك، وإذا كنت مع رفيق واحد فلن تملك إلا نصفك ).

    بعد حمّام دافئ، فتح صدره لهواء الشرفة، صرخته اليوم أكبر من صدره، وجدها تهتزّ مع الشجر على مرأى من الهواء لسعته البرودة، زرّ بلوزته الرمادية ضامّاً صدره إليه، قبل أن يغلق النافذة أخذ نفَساً عميقاً، وأغلقها بهدوء، أعدّ كوباً من الشاي، استخرج رسائل قديمة وصوراً قديمة لأهله، تضاعف حجم السؤال حين وجد صورته في الناصرية، ابتسم لنخيلها:
    - أيتها الجميلة يا ناصريتي الموقرة، سأحفرك في مجرى الروح.
    - احمرّت عيناه، واحتقنت وجنتاه، تطلـّع إلى المنفضة، وجد السيجارة قد أكلت نفسها. خطا نحو مرسمه فرحاً : أيتها اللوحة خُذيني إليك.
    سألته الحبيبة: لا بدّ أن أطير على جناحيك.
    لم يسمعها، هيّئ له أن صوت "علية" مرّ قرب ريشته المغموسة في اللون الأحمر، سأل وجه أمه من الفرشاة، دهش حين وجد الوجه يبتسم له قائلاً:
    - جِدْ نفسك يا بني، جدها. هيا ارسم، مازال في الوقت متسع، ومازال في العمر نفَسٌ لعزف ناي.
    ضرب جبينه براحته اليمنى:
    - مازلت تحلم يا وليد، خذ ما يكفي من اللون، خُذ ما يكفي من النسيان ، ما يكفيك من الذكــّر وارسم.
    بعد أن شعر بالجوع يعصر معدته، تطلع إلى ساعة يده، وجدها تشير إلى السادسة مساء. لم يعبأ بالوقت الذي مرّ، ولم يعِـر للجوع أهمية ،استسلم للألوان، اهتدى إلى شعاعها ، راح يهذي كمن يحادث شخصا حقيقياً :
    - سأرسمكِ كما رأيتك في الحلم أيتها الشقراء، مومسٌ بحفنة امرأة.
    - سمرائي أين ساعدك الجميل، سأرسمه صيحةً تعرّي إطارك، واعذريني فقد قلت سأرسمك وأجسّد شقرائي، هذه حكمة الرجال حين يصبحون عبيداً لسراويلهم. أرسمكما لتمثلا الحرب، وسأردّه إلى ضميره وضمير سادته واعذريني حبيبتي "علية"، لن تموتي حرباً إثر حرب، لقد حفرتك في مجرى الدم، لا تقوليّ؛ يهذي أو يثرثر.
    شمّ رائحة نساء مختلفة المصدر، عجين أمه، غطاء رأسها. بعثر ملابسه أرضاً بعد أن داهمته سخونة الرائحة، صوت أنثوي يصبّ بمصبّات الجسد. اقتربت منه حورية سمراء، دنت من رقبته وقبّلتها، شقراء ضمّت رأسه بين نهديها، دارت به دوامة مومس، بينما مومس ثانية تتبادل معه سكرته، تعيد له النصف الخالي من العمر، وتسكره معها ثانية.
    لم يدرِ ِ كم مضى من الوقت، لكنه حين أفاق إلى نفسه، اكتشف أنه جالس في ركن قريب جداً من اللوحة المربعة الشكل. غمس فرشاة جديدة باللون الأصفر: شعرك كالحصان سأتركه يلتفّ على عنقك، الفجر يخاف من القمر، أنتِ قمري.
    فتح ثلاثة أزرار من ثوبها، فبانت استدارة النهدين البضّين:
    - ويحك يا وليد أمازلت تحدّث لوحاتك؟،
    غيّر طبعك هذا، وإلا أكلتك الألوان؛ لن تحتاج لوليد آخر.
    مرّر إصبعه بين نهديّ الشقراء بينما السمراء ظلـّت تراقبه، وعيناها تكادان تأكلانه. سحب كـمّ فستانها، ليظهر الكتف عارياً محدثا لوحته:
    - في الناصرية حين يتعرّى الكتف يعني يا قاتل يا مقتول، والدماء تصل الرُّكب، فالعار لا بدّ أن يُغسل. أما في لندن فالأكتاف العارية ببلاش، والنـهود النافرة على قفا من يشيل

  4. #24

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    أحسّ بثقل قدميه، تحرك ببطء باتجاه التلفاز، سمع صوتاً يناديه:
    - عيناك متورمتان يا وليد، خُذ قسطاً من الراحة.
    رجع ووقف قبالة الصورة، أغمض عينيه، تذكر أنه اشترى زجاجة عطر غالية الثمن (Givenchy) لغانية رافقها ثلاثة أيام ، وحين وجدته غير قادر عن إحياء ميّت بين فخذه تركته هاربة من فشله .
    جلب العطر إلى شقراء اللوحة، الأنثى وحدها تنصت لهمسه الخفي ، رآها بالقرب منه تسيل نظراتها عليه ، التصق بها ورشه على عنقها، اقترب من شحمة أذنها وقبّلها عليها، اشتعل مصباح جسده، احتاج لاحتراق، سمع صوت المطر وهو يعانق الأشجار، أبعده عن سطوة الجسد، لكن رائحة الأنثى اتجهت صوبه، اقتربت منه، شمّ أنفاسها، بذل جهداً لمقاومتها.. رمت شالها البرتقالي، بحركتها العفوية تفتقت أزرار ثوبها، وضغطت على خدّه، ثوب أزرق وجسد بض، عناق الضدّين، تآمر عليه.
    أطبقت السمراء شفتيها على شفتيه، وطبعت قبلة حلوة، لكن عينيه شاخصتان باتجاه حلمة وردية وثدي نفر من ثوبه الأزرق.
    صلـّى فؤاده بمحراب الأنثى، لصق وجهه في سُرّة الشقراء، وبحركة عفوية أبعد عنه ذات الرداء الأحمر. يرتاح لصوت أعماقه، نده شقراءه :
    - خلـّصيني منك.
    أسكتته بإشارة من إصبعها الرقيق الملمس، لمع جسدها في الظلمة: ماذا ستفعل بالسمراء؟
    ـ فقط ضربات فرشاة.
    سمع صوتاً آخر يناديه باسمه، كلـّمه وليد في صمته:
    - ويحك وليد، صرتَ تـكلـّم نفسك. الله يلعن الوحدة ، وتتهيأ أيضا ؟
    رشّ لوناً ذهبياً على إطار الصورة المركون أرضاً:
    - الشقراء رمزٌ للغواية.
    تردّد الصوت ثانية؛ وليد.. وليد.
    ـ يا رب أنا لم أكلـّم نفسي إذاً مَن أنتما؟ هل أنتما من الجن؟
    ـ وهل لرجل مثل وليد وثقافته أن يؤمن بالجن؟
    ـ نحن امرأتاك، اقترب من اللوحة.. هل تسمعنا جيداً؟ نريد أن نعقد معك اتفاقاً.
    ـ عن أي اتفاق تتحدثان؟
    فرك عينيه، وفرك أذنيه، كي يُبعد عنه التهيّؤ. سمعهما مرة ثانية، وثالثة وعاشرة:
    ـ نريد الخروج من عالمك، لنا رغبة في التجوال والطواف في شوارع لندن.
    ـ لكنكما مجرد ألوان، نساء من ألوان.
    ـ نعرف ذلك.. امنحنا حريتنا ولو لمرة واحدة، ألستَ تحبّ الحرية وتحبّ المرأة المتمردة؟
    ـ إننا نعلن العصيان عليك، ونتمرّد على إطارك الذي هيأته، كما نتمرد على سجن أفكارك.
    تقدمت السمراء إليه :
    - أرجوك.
    قبّلته على جبينه.. ارتعش لدبيب القبلة في بدنه.
    تحسّست الشقراء بطنه:
    - أرجوك.
    قالتها بصوت خفوت يسيل لعاب الذكور له، ومدّت يدها تمسّ عضوه من خارج البنطلون. قال لها:
    - إلى أين تذهبين، إنه معطـّل؟
    أشارت إلى السمراء بفكّ أزرار قميصه، وأخذته بين ذراعيها:
    - لا بدّ أنك تعيش في أحلام اليقظة.
    استسلم لها وهي تنزع ثوبها الأزرق، وتقف أمامه عارية وفتحت زنـّاّر بنطلونه، اهتزت الأشجار قرب النوافذ، واهتزّ معها زجاج الشبابيك حين سمعها تهمس في أذنه:
    - كم أنت جميل يا وليد.
    رغم استغراب السمراء مما يجري وما فعلته دون قصد منها، ارتاحت لأوامر الشقراء، جرّته من يده، وأجلسته على الأريكة، ثم جلست على ركبتيه، حرارة جسده تُشعل جسدها، أدنت طرف أنفها من أنفه، شمّت أنفاسه، واعترفت بعشقها.
    شفتاه فتحهما بذهــول، واســترجع آخر حرفين سمعهما من كلامها (I love you). إنه بلا زوجة، بلا "علية" الحبيبة، وبلا شهقة يفرز فيها سائل ذكورته. إنه مجرد قطعة من أثاث الشقة، وخرائط لا ورق ولا جدران ولا حول لها لترسم نفسها.
    أدار عينيه حول محتويات الشقة، طاولة صغيرة، أريكة قديمة، سرير مخذول، مسجل وبعض أشرطة مبعثرة، تلفاز، ثلاجة، لوازم مطبخ. وهو، وألوان تتجول حسب إرادته، قماش الكنفز، وخشب ومسامير. قال لها:
    - اقرصيني، اقرصيني ، أريد أن أعرف إن كنت في يقظتي أم..
    - وضعت إصبعها على شفتيه كي لا يكمل، وارتمت على صدره، سمراء بشعر أسود طويل وثوب أحمر وثديين نافرين، وتركته يكتشف جسد الشرق: جلدكِ ناعم، ناعم.. يا.
    تركها وفتح ذراعيه للشقراء:
    - وجلدكِ أيضاً، أنت غريبة أليفة.
    استكشف محاكاة أخرى للجسد، نقاط خفيفة بيضاء علقت بأصابعه، بينما علق لون أزرق في شعر صدره ورقبته، إذ مازال اللون طرياً لم يجفّ، كما أن هناك جزءاً من ثوب السمراء مازال أبيض لم يصبغه بالأحمر. الدهشة والحب و غير الواقع واللامعقول والشال البرتقالي، شلـّوا تفكيره، لكنّ الشقراء وهي تعبث وتلعب بشعره، ثم تنحني إلى شعر أسفله، علقت بأصابعها بعض شعيرات راحت تنفخها في الهواء، وتطلب منه السماح لها بالخروج إلى شوارع لندن. فردّ عليها دون أن يعرف سبب خضوعه لها : سأفعل لكن بشرط :
    ـ اشترط، نحن موافقتان على شروطك كلها (بصوت واحد).
    ـ أمنحكما اثني عشر يوماً، على أن تعودا قبل تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً، ولن أقبل التأخير ولو دقيقة واحدة. لقد حجزت القاعة، وحدّدت يوم العرض بعد ثلاثة عشر يوماً من الآن.
    ـ نوافق.
    ركضتا فرحتين، دخلت الشقراء غرفة نومه وخرجت مسرعة، أمسكت السمراء من يدها؛ هيا.. هيا.. قبل أن يرجع في قراره.
    ركض خلفهما، وأعطى السمراء بطاقة فيها عنوانه واسمه، مشى حافياً على أرض المطبخ، سخّن ماء و وضع فيه كيساً من ورق الشاي، لم يكن مقتنعاً بما سمع ورأى، ولما سمع حركة، ركض مسرعاً إلى شقرائه، قبّلها من وجنتها وضمّها إلى صدره:
    - احترسا، ففي الخارج غابة من ذئاب. (وشدّ على يدها):
    - لا تنسى أني أعبدك.
    ردّت عليه السمراء: وأنا كذلك، أحببتُك منذ أن كنتُ فكرة تدور في رأسك.
    رجع إلى كوب الشاي، وضع قليلاً من السكـّر، وتذكر أنه لم يطلق عليهما أي اسم. التفت راجعاً، لم يجد أحداً. وحين لم يجد غير انكسار الضوء على النافذة، عاد إلى الثلاجة، استخرج ثلجاً ووضعه في قدح كان فوق الثلاجة، صبّ الويسكي عليه، وشربه دفعة واحدة. ثم سكب الشاي في مغسلة المطبخ، ضرب رأسه وجبينه، وترك السيجارة تحرق أصابعه، وراح يلوم نفسه :
    ـ كيف تركتهما تغادران؟ لماذا ضعفت لرجائهما ؟ وكيف طرأت لهما فكرة الخروج؟
    - ويحكَ لستَ بالكفء للعشق، لامرأتين فيهما طفولة ألوانك.
    تذكر أن لديه حبوب (فاليوم)؛ فتناول حبّـة من (دوز العشرة)، وهو يردد :
    - ما أغباك يا وليد، فاليوم و وسكي، ستنام نوم أهل الكهف.
    ألم حاد في قدميه، انتقل إلى كل عضو من أعضاء جسده، ضغط بيده على عضوه الذكري، ألمه كثيراً:
    - أتؤلم الرجولة؟ خاطبه واستمرّ ضاغطاً:
    - لا ترفع علَمك، دعه في سباته.. حين اختمرت رجولتي كنتُ أخبّئ علمي بين فخذي لئلا يفضحني أمام أمي وأختي، تركته يضمّ رأسه بملابسي الداخلية التي نزعتها وغسلتها ثم نشرتها تحت السرير، وغادرت مسرعاً إلى المدرسة، حيث وصلت متأخراً، كان علَم المدرسة مرفوعاً والأولاد تجلـّوا بالنشيد الوطني:
    موطني موطني. كنت أخفي عضوي عن والدتي استحياء، واليوم أخفي وجهي عن عضوي استحياءً.

  5. #25

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    فصــــــــــل
    اكتشاف إبليس


    نحن حقيقة عارية،
    وهم عراةٌ بلا حقيقة .

  6. #26

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    1


    لم تكونا على يقين حين نطقتا بكلمة الخروج من اللوحة، كان يجذبهما الغريب والقضايا التي تسمعان عنها من وليد. وجدتا نفسيهما أمام حلم جديد بمخلوقاته الغريبة، لأنهما وضعتا أمام المحك. كانت الأشياء تبدو أصغر حجماً في مخيلتهما، وكانت تلك الاستنتاجات غير مرتكزة إلى قاعدة، أو حدث أو قِبلة.
    كانت السمراء تعارض قرار الشقراء بكل قواها، تريد أن تبقى إلى جوار وليد، وكانت هانئة رغدة بما اختاره لها، كل حدودها القصوى هي أنامله،استكشافها لملامحه وانفعالاته.وقفت بدهشتها من عالم تتعرف عليه لأول مرة :
    ـ هذا يعني أننا في ورطة؟ انظري إننا بحاجة إلى قدر كبير من المعرفة لتمييز وجود العابرين، والمحلات والتساؤلات التي تشوش أفكارنا.
    فأجابتها الشقراء مكملة:
    - والبضائع المعروضة بالفاترينات، قطرات المطر، الهواء الذي يشق صدر الفضاء، أسماؤنا التي لا نعرفها.
    مدّت يدها كمن يلتقط حبات من عقد، وتابعت تجمع قطرات المطر في كفها، ارتجفت لرقصة المطر على راحة يدها، وتأملت إشارة العبور، ضوء أخضر بشكل رجل، راقبت عبور المشاة باتجاهين متعاكسين، رجل يعبر بمظلته السوداء ترافقه امرأة تأبط ذراعها، عجوز بآلته الموسيقية أخذ ركناً في الشارع، امرأة ذات شعر أجعد مصبوغ باللون الأحمر الفاقع تباعد بين فخذيها وهي ماشية وكأنها نهضت للتوّ من تحت رجل، مؤخرتان محشورتان ببنطلون الجينز، بدا كأنه مدهون عليهما.
    عبرتا مسرعتين، وصعدتا الحافلة من الجهة المقصودة. أمسك أحدهم بيد ابنه وجرّه بقوة، بينما الطفل احمرّت وجنتاه غضباً، يرتدي بنطلونا أزرق وقميصاً زهري، تعلو وجهه سمرة وشعر رأسه المتجعد أخذ شكل قبعة.
    قررت الشقراء أن تضع أول لبنة لها في شارع حياتها الجديدة، لها الحق الثاني أن تختار ما تريد، منذ هذه اللحظة هي ملك نفسها، ولا وصاية لوليد عليها. يمرّ من أمامها شكل لم تتعود عليه، يبدو رجلاً في انتصاب قامته، لكن لوزة رقبته، وصدره النافر بثديين لا تعرف من أين جاء بهما، ومساحيقه المفروشة على وجهه، أظافره الطويلة المطلية؛ جهلها التام بذلك جعلها في حيرة، فوليد لم يذكر مثل هؤلاء أمامها.
    رأت في الوقت ذاته، عند توقف الإشارة وإعلانها اللون الأحمر، سيدة تجاوزت الإشارة الحمراء راكضة باتجاهها وبيدها أوراق وقلم، أوحت إليها أنها تدوّن ما يجري وما تشاهده باللحظة والتوقيت. وقفت برهة تنظر في وجهيهما، سلـّمت: مرحباً.
    ابتسمت وغادرت، لم يصلا لمعرفة هويتها، ولماذا حيّتهما، غادرت دون أن تعرّف بنفسها.
    - هذه عادة غريبة.. قالت السمراء، فقد سمعت وليداً يقول إنّ في بلاده تسمع التحايا والسلامات في أي وقت ممن تعرفه ولا تعرفه؛ استدارت مستفسرة :
    ـ ولمَ خصّتنا بالسلام دون غيرنا؟
    ـ ربما كانت تنوي المساعدة.
    وحالما لاحظت صمتنا، استأنفت، فنحن لم نردّ على تحيتها.
    ـ أمعقول أننا في الخارج؟
    (وجّهت سؤالها للشقراء):
    - لمَ لا نختلط بالناس، نحاول أن نكون جزءاً منهم.
    فردت عليها الشقراء:
    - سأحاول أن أبدّل كل شيء، أظنك خائفة؟
    ـ أجل وكأني غريقة بعيدة عن اليابسة ولا مجداف لدي، هل تظنين أننا تسرّعنا؟.
    ـ لا، لن يخيب أملنا يا سمرائي منذ البداية، نريد أن نرى لندن، نرى عالم وليد، ألستِ تعشقينه؟ تعرّفي على عالمه.
    ـ أشعر أني أريد دخول الحمام، كما أني جائعة أيضاً.
    استغربتا رؤية رجل يرتدي دشداشة قصيرة دون الركبة بشبر، ولحيته الطويلة، وشعره الأسود الطويل، وآثار حرق وسط جبهته.
    سألت الشقراء
    - من هم هؤلاء؟
    ـ إنه واحد (ردّت السمراء).
    ـ بل انظري خلفه، إنهم سرب من الغربان السود.
    ـ سمعت وليداً مرة يحدث صديقه بالتلفون عن التطرف الديني وعن ظاهرة التزمّت والتعصب الديني التي ملأت أجواء العراق، وكان يردد بعد إغلاق الهاتف:
    - إنها الرجعة إلى الخلف.
    ـ ومن أدرانا أنه عراقي؟ فهذه ظاهرة كما سمعنا تعمّ العراق وسوريا والجزائر ومصر والمغرب وباكستان وإيران، وكل البلدان التي مازالت تترجم فواحشها وقتلها وسفكها الدماء باسم الدين، أي دين هذا؟ ألم تلاحظيه كيف التهمنا بعينيه؟ إنهم يكذبون على الله.
    وليد مثلاً يكره المومس، لكنه رسمنا مومسات، إنه يختار موديلاته في حدود أفكاره وبإمكانه أن يحلم. كم حاول معنا مراراً ووصل إلى درجة القذف، لكنه لا يقدر حتى على اختيار حلمه، لا يصنع رجولته حتى في الحلم
    ـ لمَ تذكرين وليداً بالسوء؟
    أجابتها الشقراء:
    - سأقتل ذلك البغل العاجز دون شك.. آه لو أني لستُ من بنات أفكاره، لخنقته.
    أدارت السمراء وجهها غاضبة، رجعت إلى هدوئها، وقد مرت بهما امرأة في نهاية الخمسين، كانت بثياب أنيقة، بدت كمن أنجز مهمة زمنية وتصالح مع الوقت، طلت شفتيها الغليظتين بحمرة وردية. حدث ضجيج وقعت إثره شابة في العشرينات أرضاً، صاحت امرأة سوداء البشرة، سمينة الردفين والصدر:
    - امسكوه لقد سرق حقيبتها ودفعها أرضاً.لكنه ذاب في الصراخ، وضاع صوت يطلب النجدة، كما ضاع وجهه مع حافلة اخترقت الشارع ومرّت. وأمام إحدى الحافلات تعالت أصوات رجال يهدّئون من غضب رجل تشاجر مع زوجته، كان الرجل في حالة دفاع عن النفس، لم يكن على لسانه سوى:
    كل تلك الثقة التي منحتك إياها، وتخونينني؟
    فتجيبه:
    ليس لديّ أدني علم عن ما تقوله، من أين جئت بهذا الادعاء يا ظالم؟.
    وحين انخرطت في البكاء، جاء صوته متقطعاً وعقلانياً:
    - إنه افتراض، افتراض يا عزيزتي. وأنت السبب بذلك، لأني لم أعد أحظى باهتمامك كالسابق.
    عند حافة الطريق وقف رجل عجوز يهذي، بينما آخر يكلـّم نفسه وكأنه يوجه لوماً لآخر أمامه ويخاطبه زاعقاً:
    - إنّ الملكة أعطتكم أشكالكم، وأعطتكم مفهوماً لخلق دولة، لكنها لم تعطني شكلي.
    ثم أشار بإصبعه إلى أحد المارة مهدّداً :
    -هذا تدبير، هذا تدبير.
    قالت السمراء:
    -إنه ليس بمجنون، اسمعي كلامه، إنه منطقي.
    ردّت عليها الشقراء :
    - سأخنقه في كابوسه.
    -مَن؟ هذا المعتوه؟
    - وليدك.
    - لكنه يحبك أنتِ، ويعبدك.
    - إنه يجد فيّ زهوه الإعلامي وزهوه الفني، أحبّيه أنت وانتظري ابتسامة بائسة من عينيه. إنه فريسة حياته الرتيبة وعجزه الجنسي، ماذا تتصورين، هل هو عاقل؟. إنه يصور عجزه برسم ثلاث غنيات، واحدة بقيت معه في مرسمه أتمّها قبلنا، ونحن. إنه يريد أن يؤكد لأصدقائه وللناس أنه رجل عادي وله عشيقات، ونحن دليل رجولته.
    ـ إنه إنسان ضعيف يا عزيزتي، وهذه القسوة لا يعشقها منك، فقد هفا قلبه لكل مسامات جلدك.
    ـ إنه كغيره أيتها الغجرية.
    ـ من تقصدين؟
    ـ هؤلاء الصرعى نتيجة تصفية حسابات الحكام لشعوبها، وتصفية أحزاب تراجعت وتعدّ عدها التنازلي متوهمة نصراً إيجابياً، ثم ضاعوا وضيّعونا معهم.
    ـ اتركيه لي أنا.. يكفيني حبه.
    ـ قولي بصراحة، هل تحبينه لأنه أسمر مثلك؟
    ـ هذا ما لا تعرفينه أنت، الحب لا يفرّق بين الألوان، إنه نبوءة الروح والجسد، وهذه اللغة بعيدة أنت عنها كل البعد.
    ـ حين يقترن الحب بالجسد يموت.
    ـ يا عزيزتي، العشاق الآن مأزومون بسراويلهم وليس في قلوبهم. الرجل قلبه سروال، ومنطقه سروال، وحلمه سروال.
    ـ هذا منطق من لم يجرّبه، هل بإمكانك فصل ضوء الشمعة من خيطها؟.
    ـ طبعاً لا.
    ـ إي هذا هو الحب، الضوء هو الروح والخيط هو الجسد، حين يحترقان تصير الأرض قافلة دخان.
    ـ الله يحمينا من دخانك.. فأنا جائعة، تعالي نشتري شيئاً لنأكله.
    ـ من أين لنا بالمال؟
    ـ سرقت بعض النقود من جيب وليد، أتذكرين ساعة أغمض عينيه، وقتها أخذت من جيب بنطلونه هذه الورقة. ورغبت أن أنزع هذا الفستان وأرتدي الثوب الأخضر المعلـّق في الصورة، رغبت أن أعصى رغباته، فطوال أيام وليالٍ كان يطارد جسدي، يقطـّع أوصالي ويوصلها ثانية، يمحو ويضيف. كلهم شرسون، يتلذذون بالتقطيع ابتداء من الجسد والقلب، وانتهاء بالكرامة. المهم أن يسيل لعابهم، أما كيف، فلا يهم.
    كنت أمامه طوال الوقت جسداً لم يتعرّف عليه أحد قبله، يمحوه حين يشعر بعجزه، ويضيف إليه اللون حين يشعر بقدرته في لحم نفسه بنفسه. هل تذكرين القصائد التي كان يتلوها بصوت عالٍ؟. كنت أسمعه يقول :
    - (المرأة هي الوطن، والمرأة هي حرّية).
    - أية حرّية لا تستوفي شروطها إلا بغريزة السروال؟
    - الله، الله.. أنت اليوم شقراء وحكيمة، فيلسوفة. شكراً أيها الجوع الذي صنعت من المومس فيلسوفة.

  7. #27

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    2

    - الله، الله.. أنت اليوم شقراء وحكيمة، فيلسوفة. شكراً أيها الجوع الذي صنعت من المومس فيلسوفة.
    دفعت شعرها الأشقر الى ظهرها، باعدت بين الزرّين الذين تركهما وليد مفتوحين، استخرجت قلم روج من جيبها، أدارت وجهها إلى زجاج واجهة محل تقف قربه، وطلت شفتيها.
    ـ من أين حصلتِ على قلم الروج؟
    ـ كان على الطاولة في الصالة، تركه وليد منذ أن زاره فارس عبد الودود قبل شهر. اشتراه من (برتبللو) بثلاثة جنيهات، وتركه على الطاولة، أتدرين لماذا؟ ليثبت لزائريه وهم قـلـّة أنه غير عاجز جنسياً، وأن صاحبته نسيته عنده البارحة، لقد شاهدته عندما دخل عليه صديقه بعد أسبوع من زيارة فارس، دون سابق موعد. يا ربّي لقد نسيت اسمه هذا الأشرم، هل تذكرين سمعته يقول لوليد إن شفته شُرمت من التعذيب في السجون؟.
    - إي، لا عليك، تذكرت، اسمه محسن.
    ـ أكملي.
    - تظاهر أمام محسن أنه اكتشف القلم صدفة، وأبدى ارتباكه، وخبأه في غرفة نومه، بينما تغافل محسن المسكين عن ارتباك صاحبه ودخل المطبخ ليعدّ الشاي لنفسه.
    ـ لكن هل تكفينا هذه الورقة؟ إنها بعشرة باوندات فقط؟
    ـ لنجرّب.
    دخلتا مقهى في بداية الشارع بعد أن عبرتا الى الجهة الأخرى، فاحت رائحة الشاي الساخن والقهوة والمعجنات والسجائر. جلست السمراء الى إحدى الطاولات، بينما تقدمت الشقراء للشراء، فاختارت قطعتين من الكيك وكوبين من الشاي. ثم مدّت يدها لتستفسر عن الباقي. اعتذر البائع الذي تمايل كأنثى، ووضع يده على صدره قائلاً:
    Sorry, the price of cheese cake is 2.50.
    عادت لصاحبتها مبتسمة:
    - خذي، لا نملك غير هاتين القطعتين. كلي على مهلك لتمتلئ معدتك، وتحتفظ بالأكل لمدة أطول.
    على بعد من طاولتهما جلس رجل يلبس نظارة رمادية الإطار، يحتسي القهوة المضغوطة. لمحته يحدّق إليها طول الوقت، ويخصّها بنظرة جذابة بين الحين والآخر حين يرفع النظارة، وما إن تستقر عيناه على نهديها حتى يرتدي النظارة ثانية، وفي إحدى المرات غمزها بطرف عينه.
    بعد أن انتهتا من وجبتهما، خرجتا لا تعرفان إلى أين أو في أي شارع هما. اهتزّت الشقراء في وقفتها، فترجرج النهدان، ومع أول استدارة لها سمعته يسألها:
    - هل بإمكاني أن أقدّم خدمة؟ سأكون ممتناً لو قبلتما دعوتي.
    قطعة الكيك لم تشبع الشقراء، فابتسمت برضا، لكزتها السمراء، لكن لم تطعها وأجابته على الفور:
    - نحن بحاجة إلى خدمة، ومثلك قليل يا سيدي، عفواً.. ما اسم هذه المنطقة؟
    - (ماربل آرج )، هلاّ تفضلتما الى سيارتي؟
    أجابته الشقراء :
    - هذا أفضل، وأين سيارتك؟
    - تلك السوداء (وأشار إلى سيارة جميلة لامعة).
    جلست الشقراء قرب الرجل، في الكرسي الأمامي، تركت السمراء تجلس في الخلف. أعجبتها السيارة من الداخل، مقاعد مخملية رمادية اللون، خدمات لا توصف، الحواشي مذهّبة.
    ـ لا بدّ أنك رجل ثري.. (ثم استدركت)؛ لكنك كنت تجلس في مقهى متواضع.
    فتحت المرآة التي أمامها، وجدت السمراء قد لمعت عيناها بالدموع، وبدتا كلؤلؤتين على ساحل الرمش الأسود الكثيف. نظر هو في المرآة الأمامية، وخاطب السمراء :
    - تبدين جميلة بالدموع. ثم انصرف عنها بلباقة العارف شغله:- ما اسمك يا شقرائي الفاتنة؟
    ـ لا أعرف.
    ـ وما اسم صاحبتك؟
    ـ لا نعرف.
    ـ هـــم.. فهمت، لا تريدان الإفصاح عن هويتكما، هذا من حقكما. أما أنا فقد تعرّفت على أميرات حقيقيات وأمراء، لا يهم إن كان الاسم حقيقياً أم.
    قاطعته السمراء وهي تمسح دموعها :
    -أم ماذا؟ نحن لسنا أميرات، ولا نعرف اسماً لنا؛ وهذه حقيقة.
    ابتسم، وانطلق بسيارته مسرعاً. ثم تباطأ وهو يتطلع إلى ساقي الشقراء، وهي تراقبه بدورها حين كان يمدّ يده ببطء نحوها، فرفعت فستانها بصورة تبدو عفوية، واضعة ساقاً على ساق. امتدت يده إلى المقعد الأمامي ولامست كتفها، وراح يلعب بخصلات شعرها، ويمرّر أصابعه على رقبتها. ولما توقفوا عند الإشارة الضوئية، طلب منهما قبول دعوته قائلاً :
    - اليوم أحتفل بعيد ميلادي، وسأكون مسروراً لو قبلتما دعوتي.
    - لمس وجه الشقراء، التي لم تخفِ فرحتها، ولم تطلب منه التوقف عن مداعبتها، بل راحت تظهر له الموافقة الفورية، وتغريه بمزيد من المداعبة.
    واستدارت إلى صاحبتها، التي أشارت إليها بالرفض، ثم غمزت لها. لم تترك الشقراء مجالاً للرد، وقالت:
    - نحن موافقتان، أين تقع شقتك؟
    - نحن متجهون إليها، إنها في (نايتسبريدج)، وهي منطقة راقية جداً، فيها أرقى المحلات وأرقى الزبائن (وغمز الشقراء).. ها قد وصلنا.
    ـ عذراً، ما اسمك ومن أي بلد أنت؟ سألته الشقراء بغنج ظاهر.
    ـ أنا من بلاد الله، أليست البلاد العربية من بلاد الله؟
    (وفتح باب السيارة) :
    - تفضلا.
    ـ تشرّفنا بمعرفتك، المهم أنك تفهم لغتنا.
    قالت السمراء:
    - لكنه لا يذكرني بوليد.
    ـ من وليد؟
    ـ لا عليك، إنه شخص ما.. هل أعجبك شعري الأشقر، لاحظت اهتمامك به؟
    ـ بل جمالك كله أعجبني، أنت كنز يا..
    أجابته:- لا اسم لي.
    ضحك.. وقال؛ فهمت، معذرة، عفوكما.
    رافقهما إلى مدخل البناية، صعدوا إلى الطابق الثالث، الشقة (203). أدخل مفتاحه في الباب، شمّت السمراء رائحة بخور منبعثة ودخلت مع الشقراء بهدوء. علـّق الرجل مفتاحه على الطرف الأيمن لمرآة في المدخل، وفي الجانب الآخر ظهرت مرآة أخرى بإطار من الفضة الخالصة.
    صالة واسعة بأثاث فخم، سجاد عجمي، لوحات زيتية.
    أخذت الشقراء حريتها في التجوال داخل الشقة، كما أعطت لنفسها الحق للتدقيق في محتوياتها، سواء المطبخ والصالة وغرف النوم الثلاث. جرّبت الجلوس على الأسرّة ذات الأغطية الجذابة والثمينة، دخلت الحمّامات، تفحّصت الصابون وزجاجات العطر المتنوعة، جربتها واحدة واحدة، رشّت على جسمها خلطة من تلك العطور. دخلت إحدى غرف النوم، قرأت اسم زجاجة عطر (خلطة عربية) وبين قوسين دهن عود، ، وعند الباب أشار إلى الشقراء:
    ـ سأوفر كل ما تحبين.. (وبحث في وجه السمراء عن سؤال، وتابع):
    - سأحضر بيكاسو إلى هنا إذا رغبت.
    دخل غرفة ليست بعيدة عن الصالة.. اقتربت الشقراء من السمراء وسألت:
    - ما بالك متجهمة؟ لقد حصلنا على من يرعانا، أكل وشرب ومكان للنوم، ماذا تريدين أكثر؟
    ـ أريد وليداً.
    - دعي وليدك، واستمتعي بما جئنا من أجله.
    خرج الرجل يرتدي ملابس منزلية، دشداشة عربية واسعة ذات لون بيج وقماش من النوع الفاخر.
    ـ ها.. ماذا تفضلن على الغداء، هل تحبان الأكل اللبناني أم الإيراني أم الهندي؟
    أجابته الشقراء:
    - نحبّ كل شيء، هات ما يعجبك أنتَ، وستجدنا نلتهم حتى أصابعك.
    ـ أريدك أن تلتهمي شيئاً آخر.
    - ثم راح يسرد طلباته عبر الهاتف:
    - ثلاثة كباب، ثلاثة تبّولة، حمص، بابا غنّوج، زيتون ومخلّل، عرايس، وأكثِرْ من الخبز.
    - أخذ حبتين من صحن الفستق الموضوع على إحدى الطاولات الزجاجية، قشرهما وقدّم واحدة للسمراء بيد، ووضع اليد الأخرى على زندها. ثم رجع إلى الوراء قليلاً حين نفرت منه، قائلاً :
    - اهدئي ما قصدت شيئاً.. رغبت أن أسأل إن كانت هذه أول زيارة لكما في لندن.
    مشت الشقراء باتجاهه، وضعت يدها على صدره، وداعبت شاربيه:
    - دعك منها، أنا أجيبك. إنها زيارتنا الأولى والأخيرة، سنبقى اثنتي عشرة ليلة بأيامها عندك، ما رأيك؟
    ـ هذا هو مطلبي (قفز فرحا)، اتفقنا إذاً.
    ـ فهمتك؛ اتفقنا. نحن نفهم بعضنا، ألم تقل لي في السيارة أنك رجل سياسي؟
    ـ نعم.
    ـ وما دخل السياسة بالدعارة؟
    ـ ليس في الموضوع أية دعارة، لماذا تسيئين الظن؟ نحن طليقان فقط، ثم ما من فارق بين السياسة والدعارة، من حيث أنهما لفكّ الأزمات.
    عصرت شفتيه بإصبعيها المشدودين على شكل كماشة:
    - هل تقصد أن المصلحة من كل أحزاب الخراب، قومية، بعثية، شيوعية، شعوبية، تطرف ديني وأخلاقي، هي تطرف سراويل؟
    ـ يا حلوتي،،
    (وشدّها من خصرها، بينما حاولت الالتصاق بجسده، وضغطت نهديها على صدره):
    -حلبة المصارعة بين الثور والفارس سياسة أيضاً، ففي النهاية سيكون الثور هو المغلوب حسب الخطة، والملعب واللعبة معدّة لصرعه مسبقاً. والأحزاب التي ذكرتها مجرد جعجعة وصوت عال لنشر الدعارة علناً، فلماذا اختلطت عليك الأمور؟
    - وهو يمدّ إصبعه بين نهديها الملتصقين به، شعرت بمدى أهميتها، فراحت تزيد من عيار دلالها لتطلب ما تشاء:
    - الليلة حفلتك، ولا أعتقد أنك تقبل أن أستقبل ضيوفك بهذا الثوب يا.. سي..
    - ـ ناديني صابر.. اسمي صابر، شو بدك تعرفي أكثر؟ أنا من لبنان.
    - تشرفنا يا صابر، أنت إبليس بعينه. لذلك يا عزيزي إبليس أنا أحب الأبالسة.
    - وأنت هل تحبين العري؟ سأل السمراء، فلم تجب.
    - وتابعت الشقراء:
    - شكلي حلو، وقوامي جميل، لمَ أخفِه؟ لمَاذا أخفي ما وهبني إياه وليد؟
    - مين وليد؟ عم تذكروا في الرايحة والجاية وليد؟
    - صانعنا.
    - عندكم خادم اسمه وليد؟
    - لا عليك، إبليسي العزيز. مقاسي14ومقاس صاحبتي 16 .
    - على أمرك، إي و لك تقبريني.
    - ومثلما طلب الغداء على التلفون، اتصل على طريقته وحدّد الشكل والمقاس للملابس. فشعرت أن الفرصة مواتية، وصاحت الشقراء :
    - لا تنسَ الحلي أيضاً؛ خواتم وأساور، والعطور أكثِـرْ منها، أحبّ رش جسدي من إصبع قدمي حتى رأسي. (ثم تذكرت وليداً الذي يعيش على مساعدات الدولة) :
    - طز فيك، وبمنطق حزبك وسياستك يا وليد.
    (وهزت بنطلون صابر ترقّصه).
    ـ شو عم تعملي؟
    ـ أمنطق سروالك. (غيّرت مشيتها وصوتها، وأضافت قليلاً من بهارات الغنج ):
    - الوسط والسروال يعصرك منطقه، سواء بضعفه وبجبروته، وفي كلا الحالين هو ممسحة.. ممسحة ضدك.
    - لماذا الضد؟
    - إنه مستثنى شاذ غير محتمل التصريف.
    - أنت أستاذة لغة إذاً؟
    - ورماها على الأريكة مازحاً؛ استسلمتْ لرميته، تطاير ثوبها حتى وصل سرّتها. لكنها قرّرت تأجيل إرواء نظراته النهمة لما بعد الغداء، ماءت بحزن:
    - لا تنظر إليَ هكذا، نحن غرباء حتى عن ثيابنا.
    - لا تحوليها إلى نكد، دخلك، أبوس يدك.
    رنّ جرس الباب، فتحه مسرعاً، دخلت سيدة ترتدي بنطلونا بحمالتين وقميصا جميلا. وقّع لها صكاً، أخذته وخرجت معتذرة عن المقاطعة:
    - بوسة لها الشنبات، باي..
    - وقف الشقراء بكل ثقة أمام صاحبتها، وهمست في أذنها:
    - كوني طبيعية واستمتعي بوقتك.
    - مع هذا؟
    - لكني أحبه.
    - إنه لا يستحق حبك، أنت تحبينه وهو لا يشعر بعبادتك. (إي شنو قيمتها يا وردة؟)
    ليته يعرف أنك تتحمّلينه وتتحمّلين إلغاءه لك بسبب حبك له.. (أنا ما أريد واحدة ترافقني بعذابها)
    ـ أنت تتكلمين باللهجة العراقية.
    ـ هذه اللغة اللي سمعتها، كما أني صرت أعرف أحكي لبناني.

  8. #28

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    3

    أخذ المساء يلتهم الوقت، بعد وجبة دسمة وقيلولة على فراش واسع مغطى بملاءات مزركشة وجميلة. صحت السمراء على صوت طرق باب الغرفة، أيقظت صاحبتها:
    - انهضي وافتحي الباب.
    - ببطء فتحت عينيها :
    - الموعد اقترب، هيا لنستحم.
    وجدت عند الباب حقيبة الملابس، سحبتها إلى الداخل، وراحت تنتقي المقاسات، هذا 16 لك، وهذا لي.
    وكجندي ينهض مرغماً إلى ساحة التدريب، فتحت ذراعيها وتنفست بعمق، تناثر الشعر الأسود الطويل، سمعت وقع أقدام قرب الباب، فسألت صاحبتها :
    - كيف تثقين بمثل هذا الرجل؟
    - ـ أنا أثق بالشيطان ولا أثق به. قومي، لستُ بحاجة إلى نصيحة. قومي قسراً، سهواً، عمداً، فقط تزيّني واتركي لي الباقي. إننا في حياة أخرى، لم يعد أمامنا غير أن نلبس. اسمعي جرس الباب، لقد تهافتوا..
    ـ لا أستطيع أن أجرجر نفسي، لستُ لغيره، إنه يقيّدني، بل عشقه يسمّرني.
    ـ الشرقيون يدفعون أعمارهم من أجل شقراء، كل يبحث عن ما ينقصه.
    رمت لها قرطاً فضياً
    - جربى الحلَق، الفضة مع الشعر الأسود تسحر الرجال.
    - لا، هذا ثقيل، أعطني الأصغر.
    - ها.. بدأنا نلين.
    دغدغتها :
    - قومي، قومي.. اتركي قلبك وراءك، نحن هنا بالصدفة، مجرد حلم ولون، ولا تنسى أنه قد انتهي يوم من أيامنا.
    - قالت السمراء :
    - الصدفة جعلتني أمسح كرامتي من أجل مهووس بغيري.
    - أجابتها :
    - نحن جواري الحياة، سوف تتذكرين قولي. المرأة تمثال وجارية توضع على طاولة من ورد، وإذا لم تكن كذلك نبذها الرجل، لأنه يستعرض رجولته أمام التماثيل. ومن تريد أن تكون هي ذاتها لا شيئاً يريده هو أو تبعية لمن يحب ويفضلهم عليها، ستكون عاقبتها الطرقات.
    سحبت الشقراء شعرها كله عن ظهرها، وجمعته في حضنها:
    - من فرط ما نحبّ، من فرط ما نصير أو لا نصير، اتخذنا شكلا لا نعرفه علقنا نوافذنا عليه ورحنا ننتظر من يقول لنا كما قال محمود درويش:
    - من أنتَ يا أنا؟ إنه يتساءل عن نفسه، وأنا أتساءل عن الذي يراني نفسه ويسأل: من أنتِ يا أنا؟ فأردّ عليه: أنا أنتَ يا نحن.
    أجابتها الشقراء بلهجتها الفاترة:
    - التقطتِ أجمل الأشعار من معتوهك، وأحببتها، حفظتها عن ظهر قلبك؛ أنت سمراء وشاعرة.
    - جميل أن ألتقط الأجمل، لكن القبح بحاجة إلى..
    قاطعتها:
    - أحفظي القبح أيضاً.
    - بل لأشفق عليه.
    - تعالي.. إلى متى سنبقى دون أسماء؟ٍ
    - هل يا ترى يذكرنا وليد الآن؟
    - ألا يمكنك أن تتوقفي عن ذكر وليد لحظة؟ أرجوك استمتعي بوقتك.
    كان صابر يدرك أنهما ترغبان بعقد صداقة، وكان يجهد نفسه ليكون جديراً بثقتهما، فلم يمارس ضغطاً عليهما في اتخاذ أي قرار يرسمه ويطلب إليهما تنفيذه. رغب في البداية أن يلعب دور المسالم، وأن يتفانى في العلاقة ليستفيد أكثر من ما يعطي. ومع ذلك بقيت السمراء تحسّ بالغربة في داخلها.
    ـ سيداتي الحلوات.. أعتذر عن اقتحامي الغرفة والدخول دون استئذان، أرجو الاستعجال.. امتلأت الصالة بالحاضرين.
    علم أنهما جاهزتان فأسرع باتجاههما، قادهما عن يمينه ويساره، ممسكاً السمراء من يدها، وقد لفّ ساعده على خصر الشقراء. ابتسم حزن على شفتي السمراء وكأنه يستنشق ومضة كاشفة، يبحث فيها عن وليد. تعددت ضحكات الشقراء مع الجميع، فاتجهت الأنظار إلى صابر والجميلتين، همس قائلاً:
    - بماذا أقدّمكما، أقصد بأي اسم؟
    ردّت السمراء :
    - ما شأن الرجولة بالاسم؟
    غيّر سؤاله، وحوّله إلى ابتسامة باردة. كانت الصالة مليئة بمزيج من أولئك الذين تلقّوا ثقافات خاصة في التعامل مع بنات الهوى، الأسمر والأبيض ، رجال تهدّلت كروشهم وجيوبهم، نساء اغترب فيهنّ ما تحت الخصر، شعراء، موسيقيون، وكلاء شركات، منافقون ورجال نفط. قدموا لإشباع غرائزهم الجنسية وتحليل اللحم الحرام بالاسترواح النفسي، والارتباط بالسراويل حول مأدبة عشاء وكأس وضحك فاضح.
    قدمهما صابر على أنهما فنانتان ارتبطتا معه بصداقة قديمة، وقد جاءتا لزيارته والبقاء عدة أيام.
    تنوّعت المقبلات وأنواع الكحول كتنوع الحضور وهوياتهم وتفاوت درجاتهم الاجتماعية. تذكّرت السمراء وليداً وهو يناقش مرة أصدقاءه حول المسرح، إذ قال:
    - المسرح لا علاقة له بالتسلية واللهو والتهويل السياسي الدعائي، إنه مسرح الغريب المنطقي والوهمي الحقيقي، يعني خلق ضوء من كرسي خشبي.
    وتساءلت:
    - ما الذي سيفعله وليد، لو حضر، وكيف يصنّف هذا المسرح؟
    قام اثنان وطلبا من السيدتين الجلوسَ على إحدى الأرائك الواسعة، قدّم أحد الجلوس كأســــــاً من الويــــسكي إلى الشقراء فقبلته دون تردد، بينما تابعت السمراء أحاديثهم وتصرفاتهم.
    كيف يضحكون، وما الذي يضحكهم ويبهجهم، وكيف يتحاورون؛ كلهم لا يشبه كلهم.
    تقدم رجل يتصرف بميوعة واضحة إلى السمراء، ولعب بشعرها:
    - أحب الشعر الأسود.. ياي، ياي.. أنت بحاجة إلى نيو لوك؛ مسيو صابر أعطها لي يوماً واحداً، وسأجعلها أجمل نساء الكون.
    - عرفت أن اسمه صابر بحق، ولم يكذب، أو ربما هو اسم مستعار كذب به على الجميع، المهم هو صابر الآن.
    ردّ عليه صابر، وهو يصبّ لنفسه كأس فودكا:
    - دعك منها، إنها لا تحب النيولوك أو نفخ الشفاه، إليك بالأخرى
    وقدّمه لها :
    - سي جورج، فنان.
    - غالبتها ابتسامة، وبلا تفكير سألته:
    - من أي نوع؟ فحولة فنيه أم؟
    رفع سي جورج خصلة شعر تناثرت على جبهته:
    - أم من.. تقبريني، وحياتك أنا من صنف أم من.
    وضحك ضحكة هستيرية، ثم أشار إليها كمن ينكت ماء من أصابع:
    - ياي، جميلة ووقحة، ومهضومة هالصبية.
    أعطت السمراء لنفسها حرية الكلام، واستمرت تجادله وهي تراقب صاحبتها المنسجمة مع الجميع، وقد التفّ حولها عدد من الرجال:
    - كل شخص بإمكانه أن يصبح فناناً في هذه الأيام، خاصــــــة في بلدكم.
    أسهل منها ما في، لكن ليس بإمكان أي شخص أن يصبح ذكراً.
    ضحك بعضهم، والتفتوا إليها مؤيدين. لفتت انتباهها امرأة تدخّن بشراهة، بيدها كأس من الخمر تمسكه بطرف أصابعها، بينما يلمع خاتمها الماسي بشكل ملفت. كانت جالسة على طرف كرسي، وقد أرخت جسدها، وراحت تنظر الى الجميع من طرف عينيها، ومنخارها في السقف وكأنّ الله لم يخلق غيرها.. مدّت إصبعها وحيّت به السمراء:
    - أي ذكور يا أختي؟ لو الرجولة بالكروش والكؤوس لا سترجل العالم بأسره، الرجولة بالضمير.
    وأشارت لعازف بدا السكر عليه :
    - رقّصني دخلك، أحب الرقص على إيقاع ضمير مومس.
    - نفرت السمراء من كلامها، وصاحت في وجهها :
    - أنا لستُ مومساً، أتريدين أن أخبرك من هي المومس؟
    تدخل صابر لتهدئة الجو، وقدّم اعتذاره للمرأة الثرية التي راحت تشدّ وسطها بغترة أحدهم، وغمزت للشقراء وهي تطقطق بأصابعها: نحن المئة، المثنى، المفرد.. قومي معي.
    سحبت السمراء من يدها، ونزعت غترة رجل أكرش شدّت به وسط المرأة السمراء، وراحت تأمرها:
    - هزّي، هزّي.. هذا هو الحاكم الذي يفكّ من حبل المشنقة.
    - وتابعت تحريك مؤخرتها بيديها، لكن العزف توقف، مع استمرار ممانعة السمراء التي بدا أنها لم تزعج أحداً. غضبت المرأة الثرية منهم، وصـــرخت باحتقار للجميع:
    - أنا أشتريكم وأشتري مئة من هذه الحثالة النكرة.
    ورمت بأقرب مزهريـّة من الكريستال إلي رجلاً أكرش أخذ ركناً بعيداً للتدخين، فاعتدل في جلسته ضاماً ركبتيه، وهي تصيح:
    ـ أيها الأبله، أوَ تهينني هذه الساقطة وأنت تتفرّج؟
    كان مزيجاً من العظمة والخنوع، ابتسم لها مخبئاً كلامه بين شفتيه، فبدا كشخص عارٍ من أيامه، أو كقائد عسكري تساقطت أوسمته.
    أومأ صابر لأحد الخدم بإحضار كعكة الحفلة، وأشار إلى عازف العود والطبل. فصدحت الموسيقى، رغم أن السيدة ما تزال تحدج السمراء ذات الرداء الأحمر بنظرات حاقدة، وارتفع الصوت.
    (سنة حلوة يا جميل).. التفّت الكؤوس حول صابر، وارتفعت الأصوات (بصحة صابر) هَي.. هَي، سنة حلوة يا جميل.
    وزّعت صحون الكيك المزينة حسب الأولوية والمكانة والرتب الاجتماعية، لفـّت السمراء طرف ثوبها الأحمر بين ساقيها، وشدّت صحراءها على صدرها، دارت بها خجلاً، تبني لها عشاً من كبرياء. لم تجد نفسها معهم، كانوا مثل حشرات، وهي خارج المكان، بين الأسود والأحمر، تدخل نافذة أخرى.
    شدّها صوت عشش في روحها:
    - ماذا لو لم يرسمني ساقطة؟ (وراحت تلوم وليداً وتعتب عليه) لماذا لم يرسمني من بلاد النفط، مثل الرعناء المخمورة وزوجها التمثال؟
    - أيمكن أن تكون أغنيتي شرعية؟
    - سأغنـّي يا وليد، نعم سيكون الغناء شرعياً وعُري جسدي شرعياً، ولخضعتْ كل الوجوه والرقاب إلى حقيبتي.
    لكزتها صاحبتها :
    - أين كنت، ما هذا الغياب؟
    أجابتها على الفور:
    - كنت أعيد ترتيب الأشياء، أو بالأحرى كنت أطوّعها و أختار لي شكلاً، أشعر أنني بحاجة إلى البكاء.
    وضعت الشقراء كأسها على الطاولة الزجاجية، وبحركتها فاح عطرها الصارخ، اختارت وردة حمراء قطفتها من باقة زهور تتوسط الصالة، وضعتها في شعرها، مسّتها رائحة الورد، فتنفست عميقاً وضغطت على ساق صاحبتها لإشراكها في المتعة. تفحصت خلخالاً من الذهب الخالص الذي نفر من رجل (الوحلة) وهمست بأذن السمراء:
    - هل تعرفين أنني سميت المغرورة (وحلة)؟
    وكبتت ضحكة ودارت شهقتها .
    ـ اسمعي يا صاحبتي، لا تغضبين نفسك، هنا لندن، عرض البضائع الجميلة الفاخرة، عرض الأجساد. وهنا كل من حبلت ببلدها أحبت مستشفيات لندن التي لا تعتبر الابن غير الشرعي حراماً، ولا ( البوي فرند) حراماً، وهنا لا أخ رقيب ولا زوج ولا أب، إنها الأوقات السعيدة والتجديف ضد الأحجبة المزيفة والعباءات.
    بعد ليلة صاخبة، رمت كل منهما جسدها المتهالك على السرير، حاولت الشقراء محادثة رفيقتها لتُخرجها من وجومها: - نحن ضحايا البغاء، وضحايا فنان مخصي
    قاطعتها :
    - لا يا عزيزتي، لسنا ضحايا إطار لم يكتمل. كل جلساء الليلة زنازين مغلقة ، أحياء، سجناء أحرار، أوسمة ذهبية مطلية بالصدأ. نحن حقيقة عارية، وهم عُراة بلا حقيقة.. لا تتحركي، إني أسمع زحف دمه في عروقي، أجده يبحث عن القطعة التي مازالت بيضاء في فستاني، إنها سمائي الوحيدة، فغداً سيغدق علي عطايا ألوانه.
    تحركت الشقراء متململة، وتابعت السمراء:
    - ابقي ساكنة، إنه يمرّ قرب روحي.. إنه ابتسامة خاطفة على نافذتي.
    - هل أغلق النافذة؟
    - إنه هواء بارد وليس وليداً.

  9. #29

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1


    فصــــــــــل
    اكتشاف إبليس


    نحن حقيقة عارية،
    وهم عراةٌ بلا حقيقة .


    نعم صدقت....
    نكمل القراءة
    مع الف تحية اديبتنا المتميزة.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  10. #30

    رد: السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 1

    منذ أن تعرّفت على صابر ســاورها الشك بكل تصــرفاته، قلبها وعقلها لا يطاوعانها على البقاء في شقته الموبوءة. تسللت بعض خيوط الشمس من النافذة، شعرت بالدفء والصداع يوقظانها، نهضت متوجهة إلى المطبخ، فقد لمحت به صيدلية منزلية صغيرة. رأت فراش الشقراء خالياً، وهي تمشي على رؤوس أصابعها كي لا تُحدث ضجة. راودها شعور بأن صاحبتها في الحمام، لكنها سمعت صوتا من غرفة صابر، خففت من مشيتها وكأنها تبحث عن عصافير في مخبئها، صعقتها المفاجأة. اقتربت من البــاب، لصقت أذنها به بحثاً عن وضوح، تأكدت أن صديقتها في الداخل.
    تناولت حبتين من المهدئ، ثم عادت متسللة إلى فراشها، خرجت الشقراء من غرفة صابر، فبدا بريق شعرها المبعثر لامعاً. سألتها :
    - لماذا شعرك مبلول؟ هل أخذت حمّاماً للتو؟
    - نعم، حمام دافئ.
    - أنا سأدخل الحمام، لعلّ الماء والصحوة يزيلان الصداع عن رأسي.
    غابت عشر دقائق، ثم عادت بصحوة منعشة :
    - حمداً لله، يبدو أن مفعول المهدئ قد أخذ يسري في بدني ورأسي.
    واستدارت إلى صاحبتها بعد أن جلست على الفراش تمشط شعرها الأسود :
    - البارحة كنا في مهرجان، كلهم يعزفون في ناي واحد، إلا أنا وأنت لكل منا نايها الخاص.
    - سمرائي الغالية، لا بدّ أنك انتبهت البارحة إلى الصحفي الذي تابع حركاتك، لا بل أكلتك عيناه، قال إنّ اسمه محمود.
    بدت الدهشة على وجهها، إذ ليس من عادة مومس أن تسأل عن أسماء زبائنها، كما أن أسماءهم ليست حقيقية. حاولت جهد نفسها أن تسترجع صورته من بين الوجوه، تستعيد ملامح من احتساها مع كأسه، أهي النظرة القلقة نحو البغي؟. نعم، فقد رسمها معتوه الابنة غير الشرعية للحياة. ربما فكروا جميعاً بالطريقة التي ستقلع ملابسها كتفاحة ليس لها أنياب قبلية، أو خميرة ممنوعة تعجنها وتخبز فخذين جميلين. وجدت نفسها تتكلم، وصاحبتها صامتة تنظر لشرودها:
    ـ رفيقتي السمراء أرجو أن تعرفي أن الحياة هي المبغى الحقيقي، والقلب ليس له وجود هذه الأيام؛ عالم رخو يستعيض عن القلب بالحجر وبالنقود.
    ـ ماذا قلتِ؟ لست أفهم، ماذا تقصدين؟ أنا سألتك عن محمود.
    وواصلت:
    ـ التفاحة رسمها بهلوان مفتون بالفخذين، لذلك جعل منها خطيئة، وهو المغلوب على أمره، مسكين استجاب لغوايتها ورسا على شاطئ حياة آدمية، حياة أوحت إليه كيف ينزع عنه أسماء الملائكة ويعود كمقاتل في معركة، يلقي بجسده بين فخذين شبقين. القتال كله من أجل السقوط في حفرة معتمة؛ عفواً. لقد هذيت كثيراً، من حقي أن أصبح حكيمة، ولو للحظة واحدة، مومس وحكيمة؟
    ـ ألم تسمعي سمرائي المثل القائل: خذ الحكمة من أفواه المجانين؟
    لكنه لم يقل أفواه الغانيات.
    تناثر الشعر الأسود على النهدين :
    - هل أنت مَن سأله عن اسمه؟.أهو عبث النساء بالرجال؟
    - بل هو صاحب المبادرة.
    - أين نمت البارحة؟ كوني صريحة معي.
    - بصراحة، نمت مع صابر.
    - وعدتِ بعملة خاسرة، هل خسرت ما فوق السرة أم ما تحتها؟
    - كلاهما.
    ارتدت الشقراء ثوباً مشجّراً بورود بيض، وتابعت؛ السرير مملكة قانونها نهود النساء، والشاطر من يتوّج نفسه ملكاً.
    ـ تقولين مملكة؟
    - نعم، مملكة تتعرّى فيها الرعيّة كلما تعرّت المومس.
    - معك حق، أحكام وقوانين سُنّت من أجل ابتسامة في مسرح عهر البارحة. كل الأثداء الراقصة ليس فيها ثدي أم ولا قلوب حقيقية، إنها قلوب من النايلون، ولا يوجد متسع للحب، لذة جنسية فقط. أنت مثلاً، رسمك وليد مومساً أعطاك الشكل، وصابر فضّ بكارتك، أتراه اكتشف أنك مازلت بكراً؟
    - نعم، واستغرب. وزاد استغراباً عندما قلت له هذه أول مرة أنام فيها مع رجل. فقط سألني:
    - من أنت، هل أنت من اللاتي يهربن بحجابهن وينزعنه في الطائرة وجئت تعوضين الحرمان في لندن؟
    - لقد رأيت منهن الكثير، أم أنت مفلسة جاءت بهيئة مومس لتسترزق؟
    ـ إذاً، أين تقع الخطيئة الآن وعلى عاتق مَن يا شقرائي ومن هو الخاطئ الأول؟. التفاحة، صابر، وليد، أنت، الضيوف كلهم بحواراتهم العقيمة واستعادتهم لما كررته النشرات الإخبارية، غثاء السياسة، غثاء الدين وغثاؤهم.،
    ـ أنت فيلسوفة اليوم، ومن تعشق وليداً تهذي بهذيانه.
    ـ لا، ليس هذا بهذيان. أنا البارحة (واقتربت منها مؤكدة) لا تقولي أنا مجرد لون وفكرة، أنا كيان جديد رأى البارحة الشعبَ العربي ممدداً على صينية مملوءة بالرز والمكســــرات، قوزي عربى، وكان يدور حول الصينية والمقبلات اللبنانية سمسار واحد يقود القطيع.
    ـ خذي هذا الشال الأصفر اربطي به شعرك، ودعينا نفكر كيف نقضي وقتنا اليوم. ضعي أفكارك هذه في حقيبة وأغلقي عليها، ولنستمتع باليوم، هيا نخرج فأنا جائعة.
    حالما خرجتا من الغرفة، وجدتا صابراً ينتظرهما على الإفطار، وخادمة مغربية تصبّ الشاي. حيّاهما قبل أن تبادرا بالتحية، وجلستا إلى طاولة الطعام . خلال الإفطار تحدث صابر عن ليلة البارحة، وبادر بقول أدهشهما :
    - الآن أصبحت لي عائلة.
    وانتقلت نظراته إلى الوجهين.. شكرت السمراء خادمة صابر على الشاي، وطلبت إضافة المزيد من السكر.
    راحت الشقراء تعيد عليه ما قاله:
    - ستصبح لك عائلة؟
    أجاب على الفور مستدركاً استعجاله لاستدراجهما في البقاء معه:
    - أقصد أني حُرمت من العائلة، وأنتما كعائلتي.
    استبشرت أساريره وهو لا يزال يكتشف ردة الفعل حيال اللغم الذي فجّـره قبل قليل، مسح قطعة خبز بالزبد والمربى وقدّمها للشقراء، ثم أشار للخادمة أن تصبّ له مزيداً من الشاي والحليب، وراح يطرح أسئلة لا بدّ منها:
    - أعتقد أن الوقت قد حان لأعرف اسميكما، وأظن أنكما من الـ..
    - مسحت الشقراء فمها بفوطة بيضاء، وقاطعته :
    - لم يكن لنا بلد أو تأريخ أو اسم، إننا مجرد صدفة، صدفة مرّت بذهن رجل، وعلينا الآن أن نختصر الدهر باثني عشر يوماً، أمقتنعٌ أنتَ بكلامي؟
    - لا، والمصحف الشريف ومنزّله.
    - أتقسم بالله؟ من حقك
    - شو هيدا.. أنا بعرف ربي، ويمكن أعرفه أكثر من أي أحد يصلـّي عشرين ركعة في اليوم.
    - ليش لا.. الله غفر لرابعة العدوية، ويمكن يغفر لك.
    - والله كلام السمرة حلو، شو بدي من الدين لو ربنا فتحها بوشّي مثل رابعة.
    خاطبته السمراء بتخابث:
    - هل نمت جيداً البارحة؟
    - ـ جيداً جداً، نمت نوما ما في مثله.
    - نوم على النفط، ونوم على..
    - نظرت إلى وجه الشقراء، وصمتت. انتفض صابر واهتزّ قليلاً، ثم رجع إلى هدأته. أما السمراء فصحّحت ما فلت من لسانها:
    -كل الصناعات من النفط، حتى الغيوم صارت تمطر نفطاً.
    بكثير من العناية والرقة مسحت فمها بفوطة معطرة، وأوضحت رغبتها للخادمة بفنجان من القهوة، بعد إذن السيد صابر.
    أجابها: بكل سرور. (وراح يتحدث عن الخادمة):
    - تأتي حسب الطلب، أتصل بها بعد كل حفلة؛ إنها مريحة وتريحني على الآخر.
    ـ على الآخر، الآخر؟
    ـ نعم يا شقرائي الملعونة، على آخر الآخر.. لو ما لقيت وحدة مثلك يا وردة.
    خطر للشقراء أن تصنّف أنواع الراحة، كما أسعدها إطراء صابر لها. استمتعت بطرب لصوت فيروز، وطلبت من صابر أن لا يغير الشريط، وأن يكفّ عن البحث عن شريط آخر، فصوت فيروز أنعشها.
    ( زوروني كل سنة مرة، حرام تنسوني بالمرّة).
    قالت السمراء: أبإمكان المرء أن ينسى من يحب؟
    أجابها صابر: إيه.. كثير.
    ـ هذا ليس حباً، مجرد إعجاب أو جسد. الحب هنا (وضعت يدها على قلبها) هنا.. وهذا لا يُنسى.
    - سمرائي العزيزة، يبدو أنك عاشقة، ممتلئة بالعشق؟
    لم تجبه، بل تابعت مداعبتها لمزهرية الورد الجميل بأطراف أناملها، تشمه وتحتضنه. سحبت وردة بغصنها من المزهرية وضمّتها إلى صدرها كطفل يضبط مخاوفه، فالاحتضان احتواء مريح.
    الشقراء التي تعرف رومانسية صاحبتها قالت بلهجة خاصة :
    - أتحتضنين الوردة أم تحتضنك؟
    ـ كلانا يحتضن الآخر.
    قال صابر: يستطيع المرء أن يمتدح الحضن ويدينه في الوقت ذاته، حســب اللذة والانزعاج. بالفطرة نحب الأحضان ونحبّ تبعيتنا لها، ومن فرط الحب نتعلم الضعف، لذلك ننام مع الخدم ونضربهم كي لا يشهدوا ضعفنا.
    - والنفط.. بعد أن نمت معه البارحة، صفعته أم صفعك؟. أعتقد أنك صُفعت مراراً كي لا تشهد ضعفه واستسلامه لك، كم مرة جعلك النفط الشبق تقذف؟ هل قذفت نفطاً خاماً أم مكرراً؟
    ـ لشد ما تغوينني، أخافك وأخاف لسانك السليط يا شقراء. هيا، تهيئا لنقوم بنزهة جميلة. أريد أن أريكما معالم لندن، من أين ترغبان أن نبدأ؟.
    ـ لا علم لنا بالأمكنة، تركنا لك الخيار.
    ـ هيا إذاً.
    سار نحو الباب معهما، وقبل إغلاقه صاح على الخادمة :
    - تركت أجرتك على التسريحة في غرفة نومي، حين أحتاج اليك سأطلبك.
    رغبة بمعرفة التفاصيل وأسماء الشوارع والمحطات والحدائق، تركتا لصابر العنان يتنقل بهما من مكان لآخر، شارحاً كل شاردة وواردة، قد يفوّت بعض المعلومات التي يجهلها، لكنه كان مفيداً. وأخبــرهما بما يعرف حين تجوالهم في متحف الشمع، كما شرح في الطريق الى الكاتدرائية بعض الأحداث، وحين وصلوا ساعة (Big Ben) أخبرهما أنها من أشهر معالم لندن وتقع على نهر التايمز، كما ذكر لهما عند " جسر البرج "(BridgeTower) أنه أنشئ عام 1849 وهو من أرقى الجسور في العالم.
    تمشوا قليلاً، مسترجعين ما قام به صابر في متحف الشمع من تصرفات لطيفة، إذ عمد الى تقليد خنق الزعماء العرب وأخذ صور تذكارية قائلاً:
    - هنا في لندن يمكن خنق أي زعيم عربى، وسأريكما كيف يشتمونهم يوم الأحد في حديقة الهايد بارك.
    قضوا وقتاً ممتعاً، انتقلوا بعده إلى لندن آي؛ وصعدوا في الدولاب الهوائي.
    ـ صابر أين نحن الآن؟
    ـ يا شقرائي نحن أمام قصر الملكة، قصر "باكنجهام". تصورا عظمة ملكة بريطانيا، هي رئيسة دول الكومنولث والقائد العام للقوات المسلحة، لكنها لا تصدر أمراً إلا بناء على مشورة الحكومة، تماماً مثل بلداننا العربية (بصيغة هازئة).
    هنا المسكن الرسمي للملكة تُفتح بوابة القصر في أوقات معينة، ويمكن للزائر رؤية المكاتب الرسمية الفخمة التي استقبلت عبر القرون المنتفعين والأثرياء. كما ترون تجمع السياح حول البوابة، انظرا.. ها هم يتوافدون منتظرين تبادل الحرس لأمكنتهم بالملابس الرسمية التقليدية، وهناك الحديقة الملكية.

صفحة 3 من 5 الأولىالأولى 12345 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. ثلاثة هن راجعات إلى اهلها
    بواسطة راما في المنتدى فرسان التفاسير
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-09-2012, 06:18 AM
  2. السماء تعود الى اهلها / رواية وفاء عبدالرزاق 2-3
    بواسطة وفاء عبدالرزاق في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 09-05-2010, 05:36 PM
  3. امسيات ادبية للاديبة وفاء عبدالرزاق في مصر
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الأدبي العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-10-2010, 08:53 PM
  4. قراءة في مجموعة وفاء عبدالرزاق الجديده / نقط
    بواسطة يسري راغب شراب في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 03-01-2010, 08:06 PM
  5. نرحب بالاديبة/وفاء عبدالرزاق
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-07-2009, 07:17 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •