(45)
المفاجأة والصدمة
ملاحظة: لا أشير هنا إلى شخص بعينه، ولا أتهم أحداً، ولا أشهر بأحدٍ، ولا أعاتب أحداً، ولا أطلب عوضاً من أحدٍ، أنا هنا أسجل للتاريخ ما حدث بالضبط، ليظل شاهداً للأجيال، ربما يتواجد من يتعظ، ومن يتعلم.
مع نهار السبت 29/6، حاول المحقق أبو ربيع اقناعي بالاعتراف، وأكد أن كل شيئ قد انتهى، وأن عنادي بلا فائدة، وأنه يعرف ما لا أعرف، ليسألني فجأة: هل تعرف فلان (ر)؟
قلت بلا تردد: لا أعرفه؟
قال: إنه يسكن في غزة، ويعرفك جيداً، وبينكما عمل مشترك.
قلت: ولكنني لا أعرفه، وكيف يكون بيننا عمل مشترك، وأنا أسكن في خان يونس؟
قال: سأحضره لك، وستسمع منه بأم أذنك، ولكن إياك أن تنطق بحرف أثناء وجوده.
دقائق، كان (ر) يدخل غرفة التحقيق، والكيس يغطي رأسه.
سأله المحقق: هل تعرف فايز أبو شمالة يا (ر)؟
قال: نعم؟
وما علاقتك به؟
قال: أعطاني سلاح في يوم كذا، وفي المكان كذا، ورأيته يوم كذا، وصار بيننا كذا وكذا.
لم أكذبه، ولم أرد على حديثه، ولم أعلق بشيء، التزمت الصمت.
أشار المحقق للسجان كي يخرج (ر) من غرفة التحقيق، ثم سألني: ماذا تقول؟
قلت: كذاب، أنا لا أعرف هذا الشخص، هذا إنسان لم أسمع به، ولم أره من قبل، ولا صلة بيني وبينيه، وأنا أعمل مدرس، وأسكن خان يونس، ولا أعرف من أين هذا الذي تقول: إنه يسكن غزة؟ هذا الإنسان يفتري علي، ويذكر اسمي كذباً.
سخر المحقق من كلامي، ولم يحاول انتزاع أي اعتراف مني بالقوة، وقال مهدداً: غداً الأحد تأتي طواقم التحقيق، وأشار بيده إلى السجان: اشبحه بالمواسير.
عدت للشبح ثانية في المواسير التي عرفتني، وانتظرت عودتي بعد فراق عدة أيام، عدت للشبح في المواسير وأن أكظم وجع ظهري، وأتثاقل على نفسي كي تحملني ساقاي، فأنا جندي في معركة مصير، والجندي لا يشعر بالوهن أثناء القتال، الجندي يقاتل، ولا يلتفت للدم النازف من جراحه، وأمام الجندي في المعركة هدف واحد، الانتصار، وبعد ذلك فإن الوقت كافٍ للتفكير في النفس، وهنالك فرصة لمداواة الجراح.
كنت أعرف أن أمامي أياماً صعبة من العذاب، وكنت أعرف أن جسدي بعد خمسة وخمسين يوماً أقل قدرة على الاحتمال، وكنت أعرف أن عمودي الفقري نقطة ضعفي، وأن جسدي قد أعجبته الراحة في الزنازين، وتعود لأيام أن يغفو فوق بطانية، ولكنني كنت أعرف في المقابل أن الانهيار جريمة، والاعتراف احتقار لكل أيام العذاب التي عشتها.
انتظرت أن تقوم قيامتي يوم الأحد 30/6 ، توقعت هجوم المحققين في ذلك اليوم بكل وحشية، وتوقعت الذبح والخنق والضرب، ولكن المحققين أفسدوا توقعي، لقد أهملوني كل أيام الأحد والاثنين والثلاثاء 2/7، وتركوني مشبوحاً بالمواسير، أعاني أوجاعي الداخلية دون أن يتعبوا أنفسهم، لقد تركوني ثمرة فوق الشجرة، ستقع لوحدها مع الجفاف، فالتعذيب أرحم من الشبح المتواصل، لأن في التعذيب تنوع وتجديد يقضي على الرتابة، وفي التعذيب حياة وموت، مواجهة وتصدي، بينما الشبح وجع صامت، وزمن جامد.
كنت مشبوحاً في مواسير الحمام بينما كان المسلخ يعج بأحداث جسام، كنت أشعر أن تحقيقاً صعباً يجري مع آخرين، فقد كنت أسمع صراخاً، وأسمع نحيباً، وأسمع صدى الصفعات، وأسمع اصطكاك أبواب غرف التحقيق، يخرج منها المحققون ويدخلون، لقد كان الوضع في غرف التحقيق استثنائياً ومخيفاً.
استمر الحال حتى ظهر يوم الأربعاء 3/7، في ذلك الوقت الذي تكالب فيه المحققون فجأة على جسدي المنهك، لقد بدأوا التعذيب بكل قسوة وعنف، وكأن خطتهم كانت مزيداً من الوحشية والقسوة دفعة واحدة ليصير انتزاع الاعتراف مني.
تعذيب قاسٍ ومتواصل لم يسبق له مثيل، لقد صار بين يدي المحققين أدلة وشهود، وصاروا أكثر ثقة بضرورة كسري، فكان التعذيب بالخنق، والخصي، والضغط على العنق، والدوس في البطن، وكتم الأنفاس، والتغريق بالماء، تعذيب متواصل دون سؤال ولا جواب.
رغم عنف التعذيب، فقد كنت أسمع صراخاً وأنيناً من غرفة التحقيق المقابلة، كان الصراخ جهورياً، وكانت الاستغاثة قوية، وكان العذاب الواقع على الشخص الموجود في الغرفة المقابلة يوحي بأنه يتعرض لمثل ما أتعرض له أنا، فكان صراخه مفزعاً، كنت أسمع صرخاته كلما فتح باب الغرفة، ليعبر أحدهم أو ليخرج، كنت أقول لنفسي، وأنا أنتزع أنفاس الحياة من أنياب الموت: ما الذي يجري في الغرفة الأخرى؟ من هو ذلك الشخص الذي يعذب؟
وفجأة، انكتم الصراخ القادم من الغرفة المقابلة، وخيم الهدوء على المسلخ، وفجأة توقف التعذيب عني أيضاً، وابتعد عن صدري المحققون، ما الأمر؟ قلت في نفسي، ربما مات الآخر تحت التعذيب، فتوقفوا عن تعذيبي!
صمت رهيب يغطي جدران المسلخ، هدوء يضغط على أعصاب الوقت، ونقاش في الغرفة المقابلة لا أفهم مضمونه، ولكنه يصل إلى مسامعي على هيئة غمغمات لا معنى لها، فما الذي يجري؟ لماذا توقفوا عن تعذيبي؟ ما العلاقة بين عذابي والغرفة الأخرى؟ لماذا تركني المحققون ملقى على الأرض، وذهبوا إلى الغرفة الأخرى.
طال زمن الصمت، وانشغل المحققون بالغرفة الأخرى، لقد كنت فرحاً بيني وبين نفسي، وأقول: الحمد لله، لقد أنشغلوا عني بغيري، وتركوني ألتقط أنفاسي، الحمد لله أنهم اهتموا بذلك الشخص أكثر مني، ليمتص نقمتهم، ويخطفهم عني قليلاً.
كنت ألتقط الحدث بأذني، وأتوقع الأسوأ حين أجلسني المحققون، ورفعوا الكيس عن رأسي، لقد كانوا فرحين، ويضحكون، ويهنئون بعضهم، وقال لي كبيرهم بتهكم وسخرية: خلاص يا فايز، انتهى كل شيء، لدينا كل التفاصيل، لا نريد أن تعترف، لسنا بحاجة لاعترافاتك.
لم أجب، وانتظرت أن يواصل المحقق حديثه، فالأمر مريب.
ابتسم "أبو ربيع" وأظهر أمامي مجموعة رسائل تنظيمية سرية، وسألني: ما هذا؟
لم أجب، ولكنني ارتعبت، وسقط قلبي مغشياً عليه.
قال المحقق "أبو ربيع": أليست هذه هي رسائلك السرية إلى التنظيم، يا فايز؟ أليست هذه هي الشيفرة التي بينك وبين التنظيم؟ ألم تكتب بخط يدك هذا الكلام، لقد أمسكنا بالسلاح والرسائل والرجال، وراح يعدد أمامي حقائق مدهشة، ويقول: لم يبق شيء.
لقد أصابني الذهول، وانعقد لساني، لقد أصابتني الخيبة، وحطت على كتفي عصافير الانكسار، فأنا أعرف أن ضرورة العمل الفدائي تقضي بأن أحرق كل الرسائل السرية التي تصلني من التنظيم، وقد حرقتها أولاً بأول، وكنت أعرف أن أبسط قواعد العمل التنظيمي تقضي بحرق رسائلي السرية فوراً، فما هذا الذي أمام عيني؟
لقد ارتعبت حين رأيت خط يدي على الورق، لقد مت حين رأيت أوراقي السرية التي كتبتها من زمن بعيد، وقد تجمعت كلها في يد المخابرات الإسرائيلية.
آهٍ من الحزن الذي يسقط على الرأس دفعة واحدة! آهٍ من الوجع الذي يرتد كالزلزال، فيحطم كل الأشياء الثمينة! آهٍ على سهري وجوعي واحتمالي واحتراق مفاصلي! آهٍ على قلبٍ تمزق على ألأوراق السرية! واحسرتاه على ظهري الذي انكسر، كي أحفظ السر، ولا أنشر خبر.