لحظة الفراق الاصعب مع الزملاء والقراء
وفرحة السلاطين ووعاظهم التي لن تطول
عبد الباري عطوان
اليوم يمر اسبوع على اعلان استقالتي، واصر على كلمة استقالتي، ووداعي لاحبائي القراء، واسرة "القدس العربي"، ومغادرتي مقر الجريدة المتواضع للمرة الاخيرة، بعد رحلة عمل استغرقت ربع قرن تقريباً.
ما اطول هذا الاسبوع، بل لا ابالغ اذا قلت انه الاطول في حياتي المهنية والشخصية، دقائقه تمر بطيئة، ثقيلة، مملة، وما زاد في بطئها الكتابة اليومية، والتواصل الممتع مع القارئ، والحدث ايضا، في مثل هذه المرحلة التي تتسارع فيها التطورات، والمفاجآت، في مصر وسورية على وجه الخصوص.
لم اكتشف هذا المخزون الهائل من الدموع لدي الا بعد ان دعوت زملائي في "القدس العربي" مساء يوم الاربعاء الماضي، الى اجتماع عام حتى اخبرهم بقرار الاستقالة، واشرح لهم ما هو متاح شرحه من الظروف والاسباب المحيطة بها، فهؤلاء اسرتي واصدقائي وزملائي الذين رافقوني، او بالاحرى رافقتهم مسيرة من العمل الدؤوب الحافل بالمطبات الصعبة لاكثر من 25 عاماً. بعضهم احتفلنا بزواجه معا، والبعض الآخر عدناه في مرضه، وثالث شاركناه حزنه وألمه لفقد عزيز، ورابع تحولقنا حوله سعادة بصدور كتاب او ديوان شعر او رواية.
تبادلنا سفح الدموع في لحظة حب وحنان متبادل، حاولت ان اتماسك، ان ابدو صلبا، وانا اختار كلماتي بعناية وباقتضاب شديد، وهذا ليس من طبعي على أي حال، ولكن الطبع يغلب التطبع، وخرجت عن النص غير المكتوب، وجاشت العواطف، ولم يعد هناك مجال لاخفائها.
اعترف بانني كنت اعرف ان لدي محبين كثرا، كما ان لي اعداء، وبعض الحاسدين ايضا وهم قلة ولله الحمد، ولكنني لم اتوقع هذا الحجم الكبير من المحبين قراء وزملاء الذين غمروني باتصالاتهم الهاتفية، او من خلال ردودهم على كلمتي الوداعية، التي كتبتها بلغة عاطفية في لحظة تأثر نادرة.
***
غمرني الزملاء ايضا، وبعضهم اعرفه، والبعض الآخر لم التقه او اعرفه، غمروني بمحبتهم، وصدق مشاعرهم، سواء من اسرة "القدس العربي" الصغيرة او الاسرة الاعلامية والثقافية الاكبر، ومن مختلف انحاء العالم، وادين لهؤلاء جميعا بهذه المحبة والتقدير والاحترام واعتذر عن عدم ذكر الاسماء لكثرتها وهذا شرف كبير، وقلادة تطوق عنقي سأظل اتشرف بها.
لم اتفاجأ مطلقا، بان مسؤولا عربيا واحدا لم يتصل بي، او يذرف دمعة عواطف واحدة، وبت على يقين ان هؤلاء كانوا، ومن يقف في خندقهم من كتاب السلاطين ووعاظهم، الاكثر سعادة وطربا بهذا القرار.
قرار الاستقالة طبعا. وهذه السعادة من قبل هؤلاء اكدت لي مجددا انني اسير على الطريق الصحيح، ومن عنده هذا الرصيد الضخم من محبة الزملاء والقراء لا يحتاج الى السلاطين ووعاظهم.
هذه العواطف الصادقة الجياشة ذكرتني بتجربة صحافية لا يمكن ان انساها، فقد وصلتنا انباء ان الشاعر الكبير نزار قباني يحتضر، وان وفاته باتت مسألة ساعات او ايام معدودة، فقررنا في الصحيفة ان نخصص صفحات في صحيفتنا "القدس العربي" لاستطلاع رأي الكتاب والمثقفين في الرجل وارثه الادبي الضخم وابداعه الشعري الذي اطرب الملايين. ولكن الرجل لم يمت، وكتب له الله عمرا جديدا لاسابيع معدودة، فاسقط في يدي، والزميلين امجد ناصر وحسام الدين محمد الشاعرين والمسؤولين عن القسم الثقافي، في الصحيفة، فقررنا نشر المادة الرثاء والرجل على قيد الحياة.
زارني في لندن الصديق المبدع محمود درويش وارادني ان ارافقه في زيارة للكبير قباني في مستشفى سانت توماس اللندنية، واعترف ان نزار قباني لم يكن صديقي معرفتنا محدودة، وفوجئت بمدى سعادته، اي نزار، بما نشرناه عنه من شهادات، حتى انني كنت نجم الجلسة حتى اخجلني اطراؤه لي وللصحيفة خاصة امام قامة كبيرة مثل قامة محمود درويش الذي شعرت انني تقدمت عليه.
***
تذكرت هذه الواقعة، وانا اقرأ "تأبين" الزملاء لي حيا، (اقولها من قبيل المزاح)، وكنت مثل نزار قباني الاسعد بهذا "التأبين"، فهناك من قال "الصحافة بعد عبد الباري عطوان" وآخر تمنى لي الراحة وقضاء وقت ممتع مع الاسرة بعد قراري التقاعد، وثالث كتب يطمئن على صحتي اعتقادا بان مغادرتي نتيجة تدهور فيها ورابع عزا الامر الى تهديدات بالقتل.
اقسم بالله انني احببت وتأثرت بجميع هذه المقالات، حتى ان زوجتي، التي تحملتني ثلاثة عقود، وما زالت، طلبت مني ان اتوقف عن قراءة هذه المقالات وردود الاحبة القراء، لانها شاهدتني اكثر من مرة اجهش بالبكاء، او تهطل دموعي بصمت.
هذا الرصيد الكبير من المحبة هو الذي دفعني الى قطع اجازتي الجبرية، واعود الى الكتابة على صفحتي على "الفيسبوك" وحسابي على "التويتر" بمعدل مقال كل يوم، حيث شعرت ان ردي يجب ان يكون مواصلة التواصل والكتابة مع اجمل رصيد في حياتي وهو القراء والزملاء، حتى امحص خياراتي الاخرى وبعض العروض، وهي قليلة على اي حال، للعودة مجددا عبر منبر آخر وقريبا باذن الله.
الى السلاطين ووعاظهم اقول بأن فرحتكم لن تعمر طويلاً، والى القراء الاحباء اؤكد لهم اننا سنلتقي مجدداً، لنواصل صلات المحبة، فلن اعتزل الكتابة مطلقاً، طالما استمرت محبتكم، وسأظل في خندقكم وقاضاياكم التي هي قضاياي ايضاً، حتى اللحظة الاخيرة من حياتي، التي آمل ان تطول حتى ارى هذه الامة منتصرة على اعدائها وهو نصر قريب باذن الله
خبر مؤسف بحق لكننا نرى أنكم أستاذ عبد الباري ستكون كما أنت فصفحاتكم كانت الوطن العربي ونفوس الملايين الذين أنتظروا وسيفعلون كما هم دائما صوت حر ّ
تقديرنا لكم أستاذ ..مازلت قريبا من الجميع