منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123
النتائج 21 إلى 26 من 26
  1. #21

    رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد

    حياة أميرة عثمانية في المنفى"20"
    يا سلمى بنت خيري رؤوف،وخديجة مراد السلطانة. هل تقبلين بأمير،بن أمير علي من بادلبور،وعائشة سليم آباد زوجا لك؟ هل تقبلين؟"كلا .. لا أريده".وتظن سلمى أنها أعلنت صوتها فيما قالت. ولكن النسوة بقين كما هن،حولها. وضاقت صدرا،وبدأت تبحث بعينيها عن زهراء : فلا تجد أمامها إلا الراني عزيزة بوجهها القاسي. وعليها أن تجيب. وفجأة تلاحظ أنها حتى الآن كانت تمثل،تمثل دور الخطيبة،ولكنها في الحقيقة،كانت تحتفظ بقرارها لآخر لحظة،عندما تستطيع أمام الشيخ (المولوي) أن ترى أمير،وتقرأ ما في نفسه من خلال عينيه .... فهل خدعوها! .. أو أنها خدعت نفسها وأخطأت؟ (..) – سلمى هل تريدين أن تقبلي ... "كزوج".وعاد الصوت يتكلم،أولا يَدعون لها لحظة للتفكير؟ وتشعر بأن النسوة حولها يضحكن ملء أفواههن،ويسخرن بنظرات عيونهن. "لعلهن ظنن أني خائفة؟".- بلى أريده.أتراها هي سلمى،التي تكلمت. لقد أعاد الشيخ جملته ثلاث مرات. وثلاث مرات سمعت نفسها تقول : نعم،بصوت المصمم،حتى إن النساء بدأن ينظرن بعضهن إلى بعض وكأنهن يقلن : أي أسلوب غريب يستخدم،لدى فتاة تتزوج!ولكن الحفلة كلها لم تدم أكثر من خمس دقائق. (..) ومن جديد،عادوا فدهنوا جسمها بالعطور،وألبسوها الغارارا الحمراء والمذهبة،غارارا المتزوجات. وعلقوا بعنقها وأذنيها،عددا كبيرا من الحلي الماسية،ووضعوا في زنديها عشرات من الأساور الذهبية،تملأها من الرسغ حتى المرفقين. بل إن رجليها أثقلت بسلاسل ذهبية،وكذلك باهماها{هكذا!!} فقد جعلا يلمعان بالأحجار الكريمة. ولم يعد ينقصها إلا الماسة الوحيدة التي توضع في الأنف الأيمن. والتي لا تكون العروس جميلة إلا بها. ولكنها قبل ذلك ببضعة أيام،عندما جاءت النساء ليثقبن أنفها،صرخت صرخات احتجاج،كانت من القوة بحيث أنهن تركنها،وتخلين عن عملية الثقب.ولكن الشمس قد علت في الأفق،وها إن سلمى،مزينة كوثن معبود،وغارقة في غرارتها القاسية من كثرة التطريز،تنتظر. فهي جاهزة. فهل يتفضل راجاها الجميل،بأن يأتي أخيرا؟ولكن سلمى ليست مستعدة تماما تماما. ذلك أن امرأة تقترب منها ،ماسكة بيدها،مسكة دينية،وشاحا من الموسلين الأحمر،مغطى بستارة من الورد والياسمين،فوقها أشرطة مذهبة. وهذا هو وشاح الزوجة،الذي سيغطي وجهها،طيلة حفلة الزواج. وتشعر سلمى أنها تكاد تختنق،تحت هذا الحجاب المثلث،ولكنها تعرف اليوم أنها لا تستطيع أن ترفض هذا الشيء الذي يرمز إلى الصفة {هكذا} العذرية.وبدأت الفتيات تغني. ثم تأني يدان قويتان فترفعانها وتنقلانها بنعومة،كأنها صرة صغيرة من اللون القرمزي والمذهب،إلى ما تحزر أنه سيكون الفناء المركزي للزينانا. ومن خلال حجابها ترى كرسي العرض يتبوأ منصة. وبألف عناية يضعونها فيه. وبدءا من هذه اللحظة،لم يعد يجوز لها أن تأتي بحركة،ولا أن تتنهد أبسط التنهيد. إذ يعتبر أنها ليست شيئا آخر غير الرقة،والضعف،والاستسلام المنتظر. (..) وتبتسم سلمى ابتسامة مسكينة،محاولة أن تدفع الدوار عن نفسها،فتسمع من يقول لها : - اخفضي عينيك،فالعروس المتواضعة لا ينبغي لها أن تضحك!والراني عزيزة،في قمة الاستنكار : "هذه الحمقاء الصغيرة على وشك أن تفضحنا. أولا تفهم أن من قلة الحياء أن تعرب عن سعادتها،لدى انتقالها من حياة العزوبية إلى حياة الزوجية. وكذلك من المعيب أن يظهر عليها شيء من البؤس،لما لذلك من إساءة إلى أسرتها الجديدة؟".{هذه والله الورطة!!! ويقولن لماذا تثور المرأة وتتمرد؟!!}ومع ذلك فإن هذه الأشياء بسيطة يسهل فهمها. ويزداد الحر أكثر فأكثر،فتتنفس سلمى بعناء ..(..) ترى كم ظلت مغمى عليها؟ إنها لا تعرف.(..) .. أمير!وكانت النساء ترش على قدمي الراجا،ذلك الماء الذي تحممت به الخطيبة،ثم انسحبن باحترام. فتقدم بخطوات خفيفة إلى الكرسي العرائسي،حيث تنتظره سلمى،ويجلس بجانبها،مع الحذر من أن يمسها. أما هي فإنها لا تراه،ولكنها تحس بأنفاسه،القصيرة نسبيا. أيكون في مثل حالها من الهيجان؟ ولقد غطوهما بشال واسع،يخفيهما عن أنظار الناس : وفوق رأسيهما كانت تقف امرأة تحمل القرآن،وبين رجليهما وضعت مرآة. وفي هذه المرآة سيرى كل منهما الآخر لأول مرة."أترفع حجابها،إنه ينتظر هو أيضا ليرفع حجابه. وأخيرا سأراه،فمم الخوف؟". وتتابعت على أنظار سلمى صور مخيفة : فتحت حجاب زوجها،يختفي وجه كوجه القرد،تظهر عليه حبات الجدري ... كما لو أنه مخلوق عجيب. وهي تحسه تعرف أنها تحسه. فكيف لم تحزره من قبل؟ ولهذا رفض أن يقابلها قبل الزواج! أما الصورة. فهي مزيفة وقد أرسلت لمجرد الإقناع. وما من مرة ظهرت لها يدها ثقيلة إلى هذه الدرجة،عندما جمعت كل قواها،لتحملها إلى حجابها. ولما لم يكن أمير ينتظر إلا هذه الإشارة،فإنه أسرع،بحركة خفيفة،فكشف هو حجابه. أما في المرآة فإن وجهه الحار كان ينظر إلى عينين زمرديتين مبللتين بالدموع. ولم تنتظر سلمى نهاية الصلاة. فما إن شعرت أن الحفلة انتهت وجدت نفسها بين أيدي نساء يمسكنها،ويضعنها على الهودج إلى جانب زوجها.ومن خلال الستائر التي كانت تحجبها عن الأنظار،هاهي الآن ترى مسيرة المدعوين (..) ورفعت سلمى الحجاب عن وجهها،وهي على الفيل،بعيدة عن الأنظار الطفيلية وعن النقاد. ونظرت إلى زوجها،مندهشة سعيدة. وهو أيضا لم ينس أن ينتهز الفرصة،فتخلص مما وضعوه على رأسه من المزعجات،وابتسم لها كالمتواطئ معها. فغمر الفرح قلب المرأة الشابة : يبدو إذن أنه يفهمها،ويعرف كم هو صعب أن تتحمل هذا كله.وتوقف الفيل. ثم ركع ببطء،في الحين الذي وضعوا على جنبه السلم الذهبي. أما الخدم والحشم فإنهم (أو إنهن) ينتظرون سلمى،في الطابق الأرضي،لكي يحملوها إلى الأجنحة المخصصة لها. وتحاول أن تتخلص منهم،وتريد أن تمشي. ولكن أمير،الذي كان وراءها،يتدخل ويقول : - إن عليك أن تحترم التقاليد!وكانت هذه أول جملة تبودلت بينهما. ولن تنساها. أما غرفة الزوجية فإنها اختفت تحت أكوام الأزهار. وهناك صوان من الفضة،وضعت فيه فواكه،وسكاكر،صففت كالأهرامات. أما في محارق العطور،الموضوعة في جهات الغرفة الأربع،فيُستهلك المسك والصندل.) {ص 384 - 389 }. كما قفزنا فوق ما لا يخص القارئ غير (المتطفل)،فإننا سوف نقوم بعدة قفزات .. مبتدئين بالحفل الذي أقيم بعد أسبوعين من العرس : ( أما الراني عزيزة،المتألقة،كما لو أن الناس يحتفلون بانتصار شخصي لها،فتأمر وتطلب : وها إن أكواما من"البالايكي جيلوريان"- وهي مخاريط من الكريمة الطرية،المحشوة بالجوز والمعطرة بالهال – والحلوى،والموتانجان – وهي مربى صنعت من لحم الجدي – وكل أنواع الحلوى المخصصة لطعام العرس،تقدم،مرصوفة بشكل فني،على صوان من الفضة المطلية بالذهب.){ص 407}.ثم إلى حفلة حضرتها سلمى وأمير،لدى السير هاري ويغ – حاكم المحافظات المتحدة – وهناك نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي.. بدأت السهرة بداية حسنة : إذ قدم الكبد المعجون وخمرة السوترن،وطير الدرج المسقي بخمر البورغواني المسكر. ذلك أن السيد الحاكم يحسن الاستقبال،ثم إنه حسن التصرف مع النساء. إلى أبعد مدى. وكانت سلمى قد نسيت تقريبا،أن مصاحبة الرجال،شيء سار جدا،وخاصة عندما تشتعل في العيون تلك الشرارة الصغيرة،فتشعر من جديد أنها امرأة.){ص 419}. ليس بالضرورة أن يدقق أحد على تلك الأسطر التي تبدو للناظر وكأنها قد لونت باللون الأحمر!! ولا يتسرب إلى ذهن أحد وجود إشارة إلى الاختلاط ... أو – ربما – الرغبة المحمومة لدى البعض للاختلاط .. كأن يقول قائل : إذا عرف السبب بطل العجب ... كلي أمل ألا يتسرب إي من تلك الأوهام إلى ذهن القارئ ... فنحن هنا نحاول رسم صورة لحالة الترف لدى حكام الهند من الوطنيين والمستعمرين على السواء .. مقابل الفقر المدقع لدى عامة السكان ... حتى أن سيدة قدمت صغيرتها لسلمى لتحتفظ بها .. وتلك طريقة لــ(التملك) كانت موجودة في الهند حتى منعها الإنجليز .. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيفي إستانبول،رأت سلمى،خلال طفولتها،الشقاء،وفي درجة من القسوة،مثل التي تراها في الهند. ولكن هذا الشقاء كان بسبب الحرب التي كانت منذ سنين تعصف بالبلاد. كان ذلك"وضعا استثنائيا"يناضلون ضده،ويعرفون أنهم سيتغلبون عليه. أما هنا،ففي كل يوم،يموت آلاف الأطفال من الجوع،وهذا واقع مقبول،متوقع،داخل في عادات الناس. والعكس هو الذي يستغربه الناس. وتتساءل سلمى : من يعرف؟ ربما أن الأغنياء تقوى شهيتهم لأنهم يعلمون أن الطعام امتياز،وفرط السِمن علامة على لوضع الاجتماعي؟ أو يكون هنالك لذة للأغنياء بالغنى،لو لم يكن هناك فقراء يذكرونك في كل لحظة،بأنك من المحظوظين؟ ){ص 514}. نعود إلى الاحتفالات التي أقيمت بعد أسبوعين من عرس سلمى .. (ومن حسن الحظ بالنسبة إليها،أن هذه الاحتفالات ستختصر بعض الشيء،لأن فترة الحزن،في شهر محرم،ستبدأ قريبا،والحزن هنا على مقتل الحسين {عليه السلام} حفيد النبي {صلى الله عليه وسلم} عام 680،مع أسرته كلها،على يد جيش الطاغية يزيد. وسيبكي المسلمون الشيعة سبعة وستين يوما على ذلك الذي يعتبرونه الوريث الروحي للنبي {صلى الله عليه وسلم} – ذلك أن الخلفاء الثلاثة الأوائل ،المبجلين جدا لدى السنة،هم مجرد مغتصبين في نظرهم. وخلال سبعة وستين يوما لا تشهد العين احتفالا،ولا حليا،ولا ثيابا ملونة،بل تشهد مسيرات جنائزية،ومجالس،أي اجتماعات للصلاة،يقوم خلالها مرتلون،موهوبون للألم،بانتزاع طوفانات من الدموع،يذرفها الحضور،وهم يتذكرون مأساة كربلاء،وفضائل الشهداء. وتشتهر لوكنوف،في الهند كلها،بالجمال الواخز،لهذه الاحتفالات.){ ص 408 }.في احتفال الحاكم الذي نقلنا منه ما يتعلق بالطعام .. طبعا وعنايته بالنساء!! في ذلك الاحتفال،وجدت سلمى نفسها بين مجموعة من النساء الإنجليزيات ... وكن يتطلعن لدعوة هذه (الأميرة) – سمعن من ناداها بهذا اللقب – لمزيد من التسلية نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيوكانت هناك سيدة صغيرة شقراء،أكثر جرأة أو أكثر فضولا من غيرها،فغامرت بهذا السؤال : - أمن زمن بعيد يا أميرة – وكم هي حلوة هذه الكلمة إذا لفظت! – تركتِ فرنسا؟ ودهشت سلمى،ونظرت إليها،وأجابت : - ولكني لم أذهب قط إلى فرنسا .وعندما لاحظت دهشتهن جميعا،أضافت قائلة : - أعتقد أن لهجتي هي التي تحمل على هذا الظن. والحقيقة أني رُبيت في بيروت.وتنهدت امرأة وقالت : - آه،بيروت،إنها باريس الشرق الصغيرة. وحقا فلقد نجح الفرنسيون بتمدين هذه المدينة. فلعل أباك،على الأرجح،هو أحد كبار الموظفين،أو هو ديبلوماسي،أو لعله ضابط؟ وأجابت سلمى،دون أن تفهم ماذا يعني هذا الحديث. - أظن أن أبي لم يفعل قط في حياته شيئا آخر غير الاهتمام بأحصنته.وصادقت السيدات على قولها هذا،وقلن : طبعا،فهو أمير .. - إنه ليس إلا دامادا،ولكن أمي سلطانة.دامادا،سلطانة،هنالك شيء غير منسجم في هذا الكلام،فلعلها تسخر منا! ... - وإذن فلست فرنسية؟ - طبعا لا،فأنا تركية.تركية! وتتجعد الأفواه،محتقرة : تركية! لقد ضحكت علينا تماما. ولكن أين مضت لتحصل على هذا اللون القيشاني،فالأتراك أقرب إلى السواد.وهذا معروف.لا ريب إذن أن أمها اقترفت الإثم،مع أحد جنودنا،عندما كنا نحتل إستانبول ...وتصدت امرأة أكثر طيبا من الأخريات،لإنقاذ هذه الصغيرة المسكينة من هذا الوضع الحرج. - تريدين أن تقولي أنك تركية من أصل إغريقي ومسيحية؟ - لا،أبدا،فأنا تركية مئة بالمئة – وقالت سلمى مستنكرة. - وجدي السلطان مراد.ولكن هذا لا يؤثر أبدا في الحاضرات. إذ لا يصل أي مسلم،في رأي هؤلاء البريطانيات البورجوازيات،إلى كعب حذاء أي بريطاني،حتى ولو كان سلطانا.وترق لحالها السيدة الطيبة،فتقول لها : - وماذا تفعلين هنا؟ - لست هنا وحدي. أنا متزوجة.- وإذن يمكن أن تكون ممن يزار. لابد أن زوجها فرنسي. - إني متزوجة من راجا بادلبور.أمتزوجة من واحد من السكان المحليين! إذن .. هي تركية .. ومسلمة فوق ذلك. فماذا كان يمكن أن نأمل أكثر من هذا؟ فيدرن إليها ظهورهن. وفجأة ظهرت أشياء شخصية جدا بينهن،فهن يتحدثن عنها. أما السيدة اللطيفة،فإنها لم تعد تجرؤ على توجيه الخطاب إليها،خوفا من استنكار صديقاتها،فتعود إلى تطريزها.وحتى في بيروت،وفي المدرسة الفرنسية،لم يحدث قط أن كانت ضحية عرقية صريحة إلى هذه الدرجة،فكظمت بسمة عندما فكرت بأن نساء الموظفين من نوع هؤلاء،ما كن ليحلمن،وهي في إستانبول،بالاقتراب منها. إن هذا حقا لغريب .. (..) إنها تحتقرهم جميعا : "أمير" وزملاءه،الذين تشبهوا بالبريطانيين،والسير هاري الذي يشرفهم بمودته،والليدي فيوليت التي تريد،في هذه اللحظة،أن تكلمها،كرما منها ونبلا. وما من مرة شعرت بمثل هذه الكراهية. ){ص 421 - 423}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  2. #22

    رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد

    حياة أميرة عثمانية في المنفى"21"
    وتبقى سلمى وحيدة في بلاد تركب الأفيال ... (هاهو النهار قد أدبر إلا قليلا ،والشمس الموشكة على المغيب تذهّب ماء البحيرات. وهذه سلمى متمددة على الرخام الأبيض،لتسعد بلحظات الجو اللطيف. ولم تعد الخادمات بعد الآن لتزعجها في هذه الحديقة الداخلية،الأخيرة بعد أفنية النساء. فجعلت لنفسها منها معبدا. فهنا تحلم،وهنا تبكي،وأحيانا تكتب الرسائل إلى أمها،تتحدث لها فيها عن سعادتها.واليوم،هو الذكرى الشهرية لزواجها : فلقد مضى شهران،شهران فقط! .. وعندما أخذت الكآبة تستبد بها،انتصبت واقفة. لتتساءل فجأة عما تعمله هنا،وما تعمل بحياتها ... هنالك شاي ... ثم شاي. وعشرات من النساء اللطيفات،ممن لا ترغب في أن تحدثهن بشيء،وهناك بسمة زهراء،ولعبة الورق مع الراني،ثم ... أمير،أمير في النهار،وأمير في الليل،وهذا الراجا المغري،الجنتلمان الكامل،المنشغل بالسياسة،وبإدارة شؤون دولته،وهذا الجسم القاتم،الصامت،الشره،اللامبالي ... فمنذ صدمة الليلة الأولى تعودت،تلك الكلمة الفظيعة ... ولكن ماذا تستطيع أن تفعل،إذا كان زوجها أصما،وأخرسا{هكذا} وأعمى. وهاهي تسمع وقع خطوات على البلاط. من يجرؤ؟ - آه زينل،يا زينل الطيب،لم هذه السحنة الحزينة؟- الهم،يا أميرة. فالسلطانة وحدها في بيروت .. وصحتها ..مسكين هذا الزينل. كم هو قلق! إن لدى أينديجم،كالفتين تحيطانها بكل حب،ولكن منذ بدأ مرضها،أصبحت وكأنها ولده. ولكن المرأة الشابة لا تملك أن تكبت رغبتها في مناكاته. - أتريد أن تتخلى عني؟ ألم تعد تحب سلماك؟ فيحمر خجلا،ويعض شفتيه. فتأسف هي. - ولكن لم أنت هكذا،كنت أمزح. فأنا أيضا أريد أن تعود إلى بيروت. وأكون أكثر اطمئنانا إذا عرفت أنك بقرب أمي. (..) وضحكت ضحكة كأنها خارجة من حنجرتها.- أفلا ترى كم أنا محاطة،ومدللة. فقل لأيندجيم أني زوجة تغمرها السعادة. (..) - كنت على وشك أن أنسى. إن السيدة غزاوي تريد أن تكلمك. - هل تريد هي أيضا،أن تسافر .. لها الحق،فليس لديها هنا ما تعمله.ذلك أن هذه اللبنانية أتعبت سلمى بنقدها،وشكاواها المتتابعة.){ص 425 - 427}. بينما كانت سلمى في السوق،بدأ الاقتتال .. وتسأل نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيولكن لم يقتتلون؟ - إنهم السنة الذين بدءوا،فقد هاجموا مظاهرة دينية شيعية،مدعين أنها تشتم حظرة{هكذا} عمر،الخليفة الثاني. (..) {وبينما يتحدث النساء في المجلس،عن رواية حب إنجليزية} فتنفجر :وماذا يهمنا من هذه التفاهات! فانظرن إلى ما حولكم{هكذا} وفي مدينتكم،وتحت نوافذكم : فالناس يقتتلون فيما بينهم،وأنا عائدة من أميناباد،حيث كنت أكاد أشنق.وتخونها أعصابها فجأة. وهي تكاد تختنق،فتحيطها النسوة من كل جانب،وتؤتى بالماء البارد،والأملاح ... وتندهش النسوة،ويستنكرن. إذ أن مثل هذا الأمر لم يحدث منذ ثلاثين سنة،أو منذ منعت في عام 1908 القراءة العاملة لتاريخ الصحابة،وهي نصوص سنية،تحكي فضائل ومزايا الخلفاء الأول{رضي الله عنهم} "مما تعتبره الطائفة الشيعية إساءة لشهدائها،وترد عليه بقراءة التبارة Tabarrah التي توضح أن هؤلاء الخلفاء كانوا مغتصبين"ولكن ماذا يجري الآن؟ ولِمَ هذه الاضطرابات من جديد؟غير أن البيجوم ياسمين تنظر إلى راني خامبور الجديدة نظرة قاسية،وتقول : - وهذه لعبة أخرى للإنكليز،على ما أفترض : وهي أن يثيروا الانقسام بين الهنود لكي يقولوا لنا،عندما نطالب بالاستقلال،إنهم يريدون أن يقدموه لنا،ولكن شريطة أن نتفق أولا فيما بيننا.){ص 435 - 437 }.وتذهب سلمى لزيارة جدة الراجا،وهناك تجد راحتها بعيدا عن الراني عزيزة،ويأتيها وفد من النساء يطالبن بفتح مدرسة للبنات،مثل تلك التي ستفتح للذكور،ويطلبن منها ألا تخبر زوجا بأنهن وراء الطلب،لكي لا يعرف أزوجهن،فيعاقبن بالضرب!!!!! ويردن للأمر أن يصدر عن الراجا. ولكن الرجال يعلمون بالخبر قبل أن تخبر سلمى الراجا،فينفي وجود الفكرة،ثم يغضب حين يعرف أنها لم تخبره ... وكأنه آخر من يعلم .. ويتخوف من عصيان الرعية!!! ثم يتفشى الطاعون .. (وبعد أن زرق { الطبيب} سلمى بمصل – موثوق بنسبة 95% - طلب منها،كما لو كان الأمر طبيعي تماما،ما إذا كانت تريد أن تسعاده. - وإلا فإنني سأجد الكثير من العناء في الدخول على الفلاحات : فأكثريتهن ترضى بالموت،وتفضله على أن يقوم رجل بفحصها. ولم أجد زميلة من الزميلات ترضى بأن ترافقني ..وينبغي أن يكون الذهول قد ظهر على سلمى. فابتسم،وقال بصوت عذب : - وعلى كل حال،فأنت رانيتهن،وكما يقول المسيحيون عندما يتزوجون : "للخير كما للشر".وقالت سلمى،على الرغم من أن جسدها يتأبى هذه الفكرة : بلى.وخلال أيام وأيام،كانت تتبع الطبيب،كآلة أوتوماتيكية،ويداها مغطاتان بالقفازات. وأدنى الوجه مستور بالقطن. وكانا يدخلان البيوت. ولسوء الحظ كان الأضعف مقاومة،من الأطفال والنساء،قد أصيبوا. وكانت وجوههم مصبوغة بلون قريب من البنفسجي. ويكادون يختنقون،ويتبرزون برازا سائلا أسود. أما الرائحة فهي لا تحتمل. وتقف سلمى عن التنفس،من شدة الهلع. وبهدوء يلمس الطبيب النبض،ويفحص الحنجرة،والإبطين،والأعين،ويشق الغدد التي ينفجر منها القيح،ويطهر الجرح،ويجفف العرق،ويشجع،ويطمئن. وعرضت كانيز فاطمة وامرأتان أخريان أن تساعداها. فتنظر سلمى إليهما،يمسكن الأحواض،,يغلين الماء،ويغسلن الصديد والبراز. أما هي فإنها تعجز عن القيام بأي حركة،فتتذكر إستانبول،ومستشفى هاسيكي،حيث كانت أمها تأخذها معها لزيارة الجنود الجرحى. وتتذكر خوفها وغثيانها. ولكن الدكتور رضا لا يراعيها. - إني بحاجة إلى مساعدتك،فأعطيني الضمادات.وينتظر. فتقترب من السرير شبه مرغمة،وتقدم القطن ولفائف التضميد. - تفضلي بالبقاء إلى جانبي،وإعطائي الأدوية.فتنقاد لما يطلبه منها،وكأنها مسحورة. وخلال دقائق تبدو وكأنها لا تنتهي،تراه يقبل على عمله برقة ونعومة. ثم إنه ينتصب،ولأول مرة تبتسم عيناه عندما يرى سلمى،ويقول : - .. شكرا.فتهز رأسها،وقد فوجئت بهذا الطبيب،وهذا الذكاء. - كلا،إن عليّ أنا أن أشكرك.وفي الأيام التالية،يراها تبقى إلى جانبه. وما من مرة طلب منها أن تمس المرضى،بل اكتفى منها بأن تكون هنا،حيث هو،للحديث معهم،والابتسام لهم.وعندما مضى أسبوعان،كان الوباء قد أوقف. ومن ألفي قرية مات خمسون : إنها أعجوبة. فيقرر أمير عندئذ أن يعود إلى لوكنوف. أما الدكتور رضا فيبقى بضعة أيام أخرى في القرية لمزيد من الاطمئنان.وفي صباح يوم السفر،جاء لتحية سلمى. فقالت له : - أيمكن أن تصدقني. إني حزينة تقريبا أني أسافر. - وأنا إذن! إنني أفقد أفضل ممرضة عندي!ويتمازحان. لكن ضحكتهما تبدو مزيفة. فلقد كانا قريبين جدا،بصورة يندر أن توجد. ولكن كل واحد الآن مضطر للعودة إلى العالم الذي يخصه. وعلى الأرجح فإنهما لن يلتقيا أبدا.وهو الأفضل – إذ ما عسى الراني والطبيب الصغير،أن يقول أحدهما للآخر؟وكان المطر يسقط مدرار،عندما تركت السيارة القصر. ومن خلال الستائر تنظر سلمى،والقلب منها منقبض،إلى الزول الساكن الواقف تحت هذه الأمطار. ){ص 469 - 470}.ويقيم الراجا حفلا لصديق قديم .. اللورد ستيلتلتون ..(وهاهي الآن تتجه ببطء إلى البيانو،الملجأ المبارك الذي تستطيع أن تعزل نفسها فيه دون أن يظهر عليها أنها تهرب. وهذا البيانو،إنما هو مدينة به إلى تدخل رشيد خان،على الرغم من ثورة الراني عزيزة.أيها العزيز خان! لقد حظيت هذا المساء بمفاجأة سعيدة،هي أنها رأته للمرة الأولى منذ وصولها إلى لوكنوف. وعلى الرغم من أنه أكبر عمرا،فإنه هو الآخر صديقا لضيفها اللورد،الذي لم يكن من مبرر لغيابه عن العشاء. وكذلك فإن أمير لم يشعر بالشجاعة الكافية لكي يشرح لرفيقه القديم أنه هو ذو الفكر القوي،العقلاني المتحرر من المستبقات،كان يحتفظ بامرأته في البرداه. {في الهامش : كثيرا ما كان الهنود يحرصون على أن لا تظهر زوجاتهم بلا برداه أمام الهنود مع التسامح بذلك أمام الأجانب}. وبدأت تداعب بأصابعها،أصابع البيانو العاجية وأخذت تعزف الضربات الأولى من إحدى ليليات (سمر) شوبان. فمن اكتئاب إلى أمل،إلى هوى يتحطم ويعود فيولد من جديد،مرتجفا،عاصفا،ثم من جديد يتجلى في شهقة بكاء،في شكوى مرهفة،كخد وردة،أو كنقطة ندى تموت.وكانت تحس على يديها،وعنقها،نظرة رشيد،الحارة الرقيقة إلى ما لا نهاية. وكانا خلال تلك السهرة يتجافيان،والآن فقط،الآن إذ يظنها ضائعة في أحلامها المنسجمة،يجرؤ أن ينظر إليها. وهي تقطع أنفاسها،لكي تتلقى كل جزئ من هذا الهيجان،وهذه العبادة،التي تجعلها تتفتح،وتُعطّر،وتحيا مرة أخرى،كشعاعات الشمس على زهرة الحقل.){ص 495 - 496}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  3. #23

    رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد

    حياة أميرة عثمانية في المنفى"22"
    وتتلقى سلمى نصيحة من عجوز من أصل إنجليزي .. اهربي من الهند. وتلك العجوز،هي أم الراني شاهينا،وتحكي القصة نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي- الماما كانت شابة إنكليزية،بسيطة جدا،ومن البورجوازية اللندنية. وكانت وقعت في غرام أبي الذي كان يتابع دراسته في الجامعة. وكان جميلا،غنيا،ساحرا. فتزوجا. وبعد سنة من ذلك،عاد بها إلى لوكنوف،وإلى أسرة لم تقبلها قط،من حيث أنها رأت أن من واجب الابن الأكبر أن يتزوج هندية.وأخال أنها في البداية،ظنت أنها بشدة اللطف،والطاعة،يمكنها أن تقضي على عواطفها العدائية. ولكن سرعان ما أدركت أن ذلك مستحيل. وأنها ستعتبر دوما تلك الدخيلة. (..) والأسوأ من ذلك،أنهم كانوا يأخذون منها الأولاد،ساعة ولادتهم. وكانت جدتي تأبى أن تربى واحدة إنكليزية،أحفادها.){ص 507 - 508}.وتصاب سلمى بالحمى ... نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي- هل أصيب الإنكليز ليلة البارحة،بالحمى؟هكذا طرحت السيدة الوصيفة السؤال،وعليها سيماء القلق : فنظرت إليها سلمى مذهولة وقالت لنفسها : "وماذا تريد مني هذه المجنونة؟ وكيف أعرف أنا،أن الإنكليز أصيبوا بالحمى؟ إن هذا،رغم كل شيء،مبالغة،ولعل من الأفضل أن تسألني عن أخبار صحتي!".وكانت سلمى،منذ البارحة،مريضة. ذلك أن هيجانات الأسابيع الأخيرة قد نالت من صحتها. فهي تسبح في العرق،وكان رأسها،على وشك الانفجار.وعادت الوصيفة إلى الكلام،فقالت :- إن للإنكليز دوما خدودا حمرا. فلقد سمعتهم يسعلون.وانفجرت سلمى،تقول :- آه،ولكن دعيني مرتاحة من هؤلاء الإنكليز! وماذا يهمني من هذا الأمر؟فانفجرت زهراء الجالسة بجانبها،ضاحكة.- هدّئي نفسك يا أبا. فهذه المرأة تتبع التقاليد : فهم يظنون أن الجمع بين الشر وبين اسم الأشخاص الذين نحبهم،يجلب لهم الشر. ولهذا فإنهم لا يقولون : "هل أنت مريضة؟" ولكن يقولون : "هل أعداؤك مرضى؟" والنساء اللواتي يكرهن الإنكليز في لوكنوف،اعتدن على وضع كلمة الإنكليز،مكان كلمة"العدو". ولهذا،فبدلا من القول : هل أصابتك الحمى؟ يقولون : "هل أصابت الحمى الإنكليز ..". ويقرع الباب : ذلك أن الحكيم صاحب ،قد وصل. وهذا الرجل طبيب الأسرة. وفيما ترى فإن له من العمر ما لا يقل عن ثمانين سنة. (..) وكانت الخادمات يصخبن،حول سلمى. وكانت اثنتان منهما قد أمسكتا بغطاء ثقباه،بعناية،ثقبين مختلفي القطر. وبسطتاه بصورة عمودية على السرير،فأخفيتا سلمى،وزهراء،كما أخفتا نفسيهما،إخفاء تاما.وسألت سلمى المذهولة :- ماذا تفعل هاتان؟- أرجوك يا أبا. ولكن يجب أن تستبقي البرداه.- أبرداه،من أجل رجل بهذا العمر؟وأجابت زهراء مذهولة من دهشة زوجة أخيها :- إنه رجل على كل حال!- وكيف يستطيع إذا أن يفحصني؟إن الأمر بسيط جدا. إذ تعطيه يدك من الثقب الكبير لقياس نبضك،والتحقق من ردود فعلك. أما الثقب الصغير فإنه يستطيع من خلاله فحص لسانك،وفحص حنجرتك.وعندئذ تدع سلمى نفسها تستريح على وسائدها.- حسنا،أرجو مع مثل هذا الفحص ألا يكون لدي شيء خطير ...){ص 519 - 520 }. هنا لابد من القفزة،قفزة كبيرة،لتخطى حديث طويل عن الشذوذ،والخوف من الوقوع في براثنه ... ثم إقناع سلمى لأمير بتزويج زهراء من رشيد خان ... عبر هذه القفزة،نصل إلى حفلة حضرتها سلمى،وفيها قابلت شابا إنكليزيا،حديث عهد بالقدوم إلى الهند،ولا يعرف أحدا،فيعرض على الشابة أن ترقص معه ... وهناك يتدخل أمير،ليعرض على الشاب (المبارزة) بـ(السلاح الذي يختاره) .. وبعد كثير من الاعتذار،وإظهار حسن النية ... تصبح سلمى هي المذنبة .. (اعتبارا من اليوم لن تخرجي من غرفتك. وسيحمل إليك طعامك هنا. وممنوع عليك أيضا أن تتنزهي في حديقة القصر،أو أن تستقبلي صديقاتك : إذ ستعرفين كيف تقنعيهن بإيصال الرسائل. ومنذ الآن ستضعين البرداه الأكثر احتشاما. (..) من ذو تلك الليلة المشؤومة لم تر سلمى زوجها،إذ لقد نقل حاجاته الشخصية،وعاد إلى جناحه الذي كان فيه أيام العزوبية. ولو استطاعت أن تكلمه،إذن لأمكنها أن تثنيه عن هذا كله،لأنه يحبها،رغم كل شيء،لكن الاتصالات الوحيدة،تمر بطريق الراني عزيزة،فأخت الراجاه التي تراقب الأخبار التي تخرج من الزينانا. وهنا يكمن الخطر. وربما تركت سلمى نفسها تموت،وأمير لا يعرف شيئا عن ذلك.(..) وعندما طلب الراجاه من أخته،أن تزوده بأخبار زوجته،أجابت هذه بأن العزلة الإرغامية ستكون طيبة النتائج (..) ويجيب أمير : وماذا لو أنني كلمتها،وقلت لها إنني أعفوا عنها هذه المرة وأنها إذا أعادت الكرة،فسوف أطلقها؟وإنه لبعيد عن التخيل ضحك سلمى،إذ هي سمعته يقول ذلك. فهو لا يعلم أن الأميرات،في الأسرة العثمانية،هن اللواتي يطلقن أزواجهن،إذا سمح السلطان بذلك. وما من مرة سمح لدامادا بالانفصال عن زوجته ذات الدم الملكي. إذ كان ذلك يعتبر إهانة للسلطان نفسه.وليست سلمى من هؤلاء الزوجات الهنديات اللواتي إذا هن طُلقن،فإن هذا يعني الموت،ذلك أن أسرة الزوجة لن تقبل بعودتها إليها. والبنت المطلقة،هي العار بالنسبة إلى كل الأقرباء،والبرهان على أنها خالفت القواعد التي تنظم الحياة الاجتماعية : وإذن لم يعد لها مكان،في أي مكان. وإذن فمن الأفضل للفتاة أن تقبل بشرط العبودية،والخنوع،لا لزوجها فقط،بل لأسرته كلها،بدلا من أن تكون منبوذة. والراني عزيزة أكثر فطنة،فلقد أدركت مدى الزهو الذي لا يقدر،لدى هذه الغريبة. (..) وبنظرة الأخت العطوف،تداعب وجه أخيها،المعذب.- لا تخف. فأنا سأهتم بها على أفضل الصور. فإذا تدخلت أنت،فعلينا أن نستأنف بعد ذلك عملنا،كأننا لم نفعل من قبل شيئا. (..) ومن يوم لآخر،كانت سلمى تضعف جسديا. ولقد حاولت قسر نفسها على الطعام،ولكن معدتها لم تعد تتحمل شيئا،وحتى الشاي نفسها،فإنها تسبب لها الغثيان (..) و راسّولان،الخادمة الصبية،التي جاءت ذات يوم،ورأت سلمى تعاني أزمة مرهقة بشكل خاص،هي التي أوحت لها بأن الطعام الذي يقدم لها،هو الذي لا يناسبها،على ما تقدّر ... ولم تزد على ذلك شيئا. ورأت سلمى أنها مجنونة إن هي تخيلت .. ولكنها على مدى يومين،كانت ترد الطعام كما جاء،وانقطع التقيؤ. ومنذ الآن تكتفي سلمى بشرب الماء من الصنبور،وببعض اللوز الذي تحمله راسّولان إليها،خفية. فتشعر أنها أفضل مما كانت. ولكن تعوزها القوة التي تساعدها على النهوض،أو حتى على إصلاح زينتها.(..) – إن هذه جريمة! فمن أمر بهذا؟وفي وضع متوسط بين النوم واليقظة،تدرك سلمى أن حولها صخبا،وتسمع بعض الأصوات التي تكاد ترهق طبلة أذنيها. ولكن لماذا لا يدعونها تنام؟ فتئن،وتتحرك قليلا،ثم تعود إلى الصمت،الذي هو الشرنقة الدافئة التي تتكور داخل متعتها.وتقف زهراء الخجول أمام الراني عزيزة،متهمة!- لو أننا لم نختصر رحلتنا،لعدنا ووجدناها ميتة!وحقا،فإن طبيبا شابا استدعي على عجل لزيارتها،وأكد أن وضعها خطير : فعدة أيام أخرى بلا طعام،والقلب عندئذ يتوقف.ووقف الراجاه،ممتقع الوجه أمام أخته عزيزة التي تقابل أسئلة زهراء بالصمت الذي ينطوي على الاحتقار. ولكن أيهما هو المجرم؟ أهو أم هي؟ إنه يعرف أنها تكره سلمى،ومع ذلك فقد وكل إليها السهر عليها،وصدق كلماتها المطمئنة،دون أن يحاول التحقق منها. (..) وبشيء من الضيق،ينظر إلى هذا الجسد الهزيل،والوجه الذي يشبه العصفور،ويتخيلها ميتة،ويجرب أن يتصور الألم الذي كان سيسحقه،لو ... ولكنه رغم جهوده هذه،فإنه لا يشعر إلا باللامبالاة. فهو مستاء من ذلك : وإذ هو لم يشعر قط بهذا المرض المسمى باسم"الحب"فإنه،على الأقل،شعر بحنان تجاه زوجته.(..) وتنظر زهراء بشيء من العتاب إلى أخيها الذي يبتسم لها باغتباط.- يقول الطبيب إن أبا بحاجة إلى ممرضة تبقى دائما معها (..) ولكن ينبغي أن تغير المنظر أمام عينيها،وأن يكون لها نشاط يخرجها من اكتئابها (..) - إن زوجتي سعيدة هنا تماما! فإذا انتهينا من هذا،قلنا إن هواء الريف سيفيدها،بلا ريب. سنسافر إلى بادلبور،متى أمكن ذلك.){ص 572 - 579}.وذهبا إلى بادلبور ... وقابلت سلمى جدة أمير ... وتحسنت صحتها .. ولكنها قابلت أيضا مواقف صعبة ... إحراق زوجة هندوسية شابة – كانت تحت رعاية سلمى - ،مع زوجها الميت،المسن ... ولم تستطع إنقاذها،ولا يستطيع أمير أن يغير عادات رعاياه من الهندوس .... ومات (ملك تركيا) .. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  4. #24

    رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد

    حياة أميرة عثمانية في المنفى"23"
    أيقظت الخادمة سلمى .. وأخبرتها بموت (ملك تركيا) ... فهبت .. إذا مات السلطان؟ ... وبعد قليل دخل أمير،يرتدي زيا أسود اللون .. حدادا .. ثم علمت أن ملك تركيا لم يكن غير (مصطفى كمال) والذي اعتبره الهنود المسلمون رمزا لأنه حرر بلاده من الاستعمار،و سوف يصلون عليه صلاة الغائب .. فيزداد حزنها،وتبعث بطاقة دعوة لبعض صديقاتها – ومن هن زهراء – لتحتفل بموت (كمال) ... وكان شرب الخمر قد أنهك صحتها ... لم يحضر أحد،ولا حتى زهراء .. بل حضر رشيد خان ... (وكان رشيد خان يقف على العتبة. ولما كانت شاردة في ذكرياتها،فإنها لم تسمع خطوات دخوله. ماذا؟ أو أيضا يلبس الشرواني الأسود؟ وبنوع من المجاملة،تبتسم له.- دعك عنك،يا رشيد بك،هذه الشكليات،ألسنا أخا وأختا؟ أين هي زهراء؟- في المسجد .. وأنا عائد منه. ورأيت أن أمر بك لأعتذر عن حضور حفلتك. - ولماذا؟- سلمى،أرجوك،انتهي من هذه اللعبة. إنها لا تناسبك.وجلس رشيد إلى جانبها وحملق فيها بقلق.- إن عليك ملامح التعاسة منذ بعض الوقت،فما الذي لا يستقيم لك؟( تجاوزت عبارات بخط صغير،يبدو أنها منقولة من "مذكرات") - أي خيال خيالك؟ ألا تعلم أنني المرأة المدللة أكثر من كل امرأة أخرى في العالم،والمحبوبة أكثر منهن جميعا.وأخذ رشيد يدي سلمى،وبدأ يضغط عليهما بقوة. فنظرت إليه مندهشة،فما من مرة قبل ذلك تجرأ على مثل هذا،ويبدو أنه مضطرب جدا.- كم تغيرت ... فالفتاة المتحمسة التي كنت أستقبلها في بومباي،ولم يمض بعد سنتان،أين هي الآن؟ سلمى،إن عليك أن تقاومي : فأنت في الطريق إلى تدمير نفسك...- وما أكبرها من خسارة!- أتوسل إليك،إن كنت تحبينني قليلا ..ثم سكت،فبقيت صامتة،تراقبه : أيظن،حقا أنها تحبه كأخت؟ وبحركة واحدة تستطيع أن ترده إلى رشده،وتنتقم من أمير ومن زهراء معا. زهراء؟ إن (أمير) ليس أخيرا إلا رجلا،وما من رجل يستطيع الآن أن يخيب أملها (..) وقالت له،لكي تأسف مباشرة على ما قالته :- إني أحبك.فأخذها من ذقنها،وتناول منديلا،ومسح لها دموعها كيفما اتفق،واصفر لونه.- سلمى،أنا أيضا أحبك،فمنذ رأيتك تنزلين من هذا المركب الكبير،وأنت فيما كنت فيه من الضياع،والرقة. ولكن كان ذلك مستحيلا : كنت تأتين لتتزوجي صديقي. والآن ... - والآن ..- ربما كنت أحبك أكثر،الآن،ولكن ...- ولكنك لا تحبني بدرجة كافية!فصدرت عنه ابتسامة مرة.- هذه هي قصة حياتي : فكل الناس يحبونني،ولكن ما من أحد يحبني بدرجة كافية ليستبقيني عنده .. - وأمير؟فابتعدت سلمى قليلا. وشعرت فجأة بأنها متعبة جدا.- إنك تعرف جيدا أن أمير تزوج أسرتي.ومضى رشيد،حائرا. وهي تلوم نفسها على أنها جعلته تعيسا،على حين أنه الوحيد الذي لم يقدم لها إلا خيرا.وتنظر في المرآة إلى نفسها،فترى وجهها ازداد هزالا،وعينين محاطتين بالزرقة. وصحيح أنها تغيرت – أو اكتهلت. ربما. أما الخدان المدوران اللذان كانا يدخلان اليأس إلى قلبها عندما كانت تحلم بالتمثيل في السينما،فقد تجوفا،ونُعمت كما لو أنها منحوتة نحتا،وشفتاها اللتان كانت تراهما رقيقتين أكثر مما يجب،على سبيل التضاد مع الخدين،فيبدو أنهما تفتحتا،وهي تحب صورتها الآن،هذه الصورة التي تشبه فيها ... المرأة المشؤومة ... أو الحيوان الجميل،كما يقول أمير. ){ص 619 - 621}.تسلط الرواية الضوء على قضية تطرحها الثقافة الحديثة،وهي نظرة الرجل إلى الزوجة التي تعرف كيف تستمتع باللقاء الزوجي،واعتبار ذلك إما دليلا على (سوابق) أو النظر إلى ذلك السلوك على أنه نوع .. ربما من قلة التهذيب!!! مع أن القارئ لسبب نزول الآية الكريمة (نساؤكم حرث لكم)،والفرق بين تعامل المكيين مع اللقاء الزوجي،والذي يختلف عن تعامل الأنصار،لاحتكاكهم بأهل الكتاب .. القارئ لسبب نزول تلك الآية الكريمة لن يجد ذلك التفريق الذي تطرحه الثقافة .. مثل قول الدكتورة منيرة فخرو – أستاذة التنمية الاجتماعية بجامعة البحرين - نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيالمرأة الأخرى الحرة كما يسمونها هي المرأة التي تحافظ على نفسها وبحبسها وبسجنها مع الخصيان في القصور إلى آخره،لك يتأكد أنها أنجبت من صلبه .. فقسموها {أي المرأة} إلى قسمين وصارت بها الصورة الانفصالية .. المرأة الزوجة المحرم عليها كل شيء إلا الإنجاب والمحافظة على الشرف والنوع .. والمرأة الأخرى التي تمتع {الجارية} بينما في الغرب وفي المفهوم الحديث الثنتين اختلطو صاروا وحدة وهذا للي قاعد يصير في المنطقة العربية الثنتين يصيروا وحدة ..){برنامج "عن الجنس بصراحة" من إعداد وتقديم سلوى الجراح ... (البي بي سي "القسم العربي" : الحلقة الرابعة .. أذيعت يوم الجمعة 21/10/1994م}. كانت سلمى قد بدأت تحضر بعض الجلسات،مع نساء غربيات،يجلسن منفردات عن الرجال،ويتحدثن،وهن يشربن الخمر،عن خيانتهن أزواجهن،وعن اللذة ... ويحصل لقاء زوجي – عاصف - بين سلمى وأمير .. وفي الليلة التالية .. يدخل عليها أمير،في حالة سكر .. ويقول لها أنه .. في ذلك اللقاء ظن أنه مع (مومس) .. ولكنه اكتشف أنها زوجته،التي عرفت كيف تخفي نفسها بشكل جيد ... وبعد فترة أخرى .. ( ولم يعد أحدهما يكلم الآخر تقريبا. ويبدو لها أنه يريد تحطيمها،وسحقها. في كل ليلة،عندما يعودان من هذه العشاءات الحلوة،حيث تطيش من كونها امرأة جميلة ومشتهاة،يعاقبها هذا الأمير. إذ أنه ينهال على جسمها (..) وبصمت.وبالتدريج بدأت تتذوق هذه العبودية،وبدهشة كبيرة،واستغراب أكبر،وجدت أنها كانت تحب هذا الخضوع. وكشيء فاقد الإرادة (..) وقد أرعبها ذلك،من حيث أنها لا تستطيع أن تقبل أن يخونها جسمها،وأحلامها،وأنينها(.) فمن أين جاءت امرأة الليل هذه حتى تستمتع بالعبودية ليلا،فلا تستطيع في الصباح أن تتذكرها إلا وترى جسدها يرتعش منها،وتحتقرها بكل كيانها تماما كما كانت تحتقر نساء الحريم (..) وجلست سلمى أمام المرآة،ورفعت كأسها،بتفاخم،وعلى : "على كأس مصيري المجيد!" ثم بدأت تضحك ... وتضحك .. آه،كم تتألق هذه الشمبانيا (..) كم كنت حمقاء منذ قليل عندما أرادت تحدي مصطفى كمال! (..) وتنتبه،وتتأمل في المرآة : أهي أميرة – أم عاهر؟ أميرة – أم من بنات الهوى؟ .. ولِمَ لا. فإذا استثنت أمها،وهي بنت السلطان،أفلم تكن جداتها جميعا،إماء،هن أجمل من في الحريم،وأكثرهن خبرة في شؤون المتعة،وحسن تقديمها؟ أولم يكن يصلن إلى قلب لسلطان،ويصبحن في عداد زوجاته؟ ولقد تحدث الناس عن ذكائهن،ومهارتهن،وقدرتهن على حبك المؤامرات،ودس الدسائس،وهي مزايا لاشك في ضرورتها للوصول إلى المركز الأول،وضرورية أكثر للبقاء فيه! ولكن يجب أولا أن تحسن الإغواء (.) إذن ففي عروق سلمى يجري دم ثمانية وثلاثين سلطانا – أي ستة قرون من الحكم المطلق – وكذلك طبعا ستة قرون من بنات الهوى. وهي تنحدر،بدرجة متساوية،من هذين الفرعين : وهي في الحين نفسه ملكة وأمة معا. ) {ص 623 - 624 }.ظلت سلمى تسكر،وتحاور نفسها،حتى أغمي عليها ... وبعد إنقاذها – كانت قد أغلقت على نفسها الباب – اقترحت عليها راني شهيدة،أن تذهب إلى بيروت لترتاح عند السلطان خديجة،ولكنها رفضت،فأمها امرأة قوية وتكره الضعف،ولكن الراني أقنعتها بأن السلطانة أم،وسوف تتفهم ... وبعد أن أرسلت برقية بموعد وصولها إلى بيروت،وأثناء استعدادها للسفر .. جاءت برقية تخبر بوفاة السلطانة خديجة ... ثم اكتشفت سلمى أنها حامل،فتذكرت تحذير السيدة الإنجليزية،اهربي من الهند،ولكنها احتارت فهل من حقها – إن حملت بذكر – أن تحرمه من ملك أبيه؟ وماذا لو كانت (أنثى) ؟ فسألت أمير : هل على تلك البنت أن ترتدي البرداه؟ فأكد ذلك .. فقررت الهرب .. تحت ذريعة الحصول على طب حديث،فقرر أمير أن يحضر لها طبيبا إنجليزيا .. رغم معارضة الراني عزيزة،فكيف يقوم كافر بتوليد مسلمة؟ .. ثم بدأت بوادر الحرب العالمية الثانية ..فساعد ذلك سلمى على إقناع أمير بفكرة سفرها .. فاقتنع .. وجاء زينل من بيروت ليرافقها إلى باريس .. قبل السفر نعود إلى سلمى حين تلقت خبر وفتاة السلطانة خديجة ..(وعندما قضت أيندجيم نحبها،استقر في ذهن سلمى،أن طفولتها،وشبابها،هما اللذان ماتا. وأصبح ماضيها كله مهددا بالزوال،إذ لم يعد هنالك من شخص يتذكر معها،ويتذكر بها – فهما لحم واحد،وذاكرة واحدة. وكانت عيناها عيناها،وكانت أنفاسها تتملك العالم،وتعيده إليها،مدجنا،ومرحبا به. وكانت شهقاتها تخنقها. وهي لا تقبل هذا التخلي عنها. وماذا كان يُهم،إذا كانت لم تر السلطانة منذ سنتين : إذ أن مجرد معرفتها بأنها موجودة على قيد الحياة،كان يشد من عزمها. "فيما إذا كانت تفكر حولي؟"وماذا كانت ستفعل لو كانت مكاني؟ وهكذا كانت تتساءل دوما،ذلك أن أمها كانت باستمرار إلى جانبها،حتى هذه الأشهر الأخيرة التي حاولت فيها أن تنساها،إذ ما كانت لتتحمل نظراتها،أو لعل نظراتها هذه هي التي لم تعد تحتملها؟ ولم تكن لتجد فرقا بين الأمرين،إذا كانت تتمرد في بعض الأحيان،فإنه كان بينها وبين أمها هذا النوع من الحلول،وهذا الاتفاق على الشيء الأساسي.ولقد قتلتها ... بلى إنها هي،سلمى،التي قتلتها،وخلال هذه الأشهر المجنونة التي كانت تحاول فيها تهديم نفسها،كانت تهدم السلطانة في الحقيقة. والعلاقة التي كانت تصلها بأمها،علاقة الحياة الأقوى من قرب المكان،على كونها ضعيفة إلى درجة اللامبالاة،هي التي تحطمت الآن. وقد ماتت أمها من جراء ذلك .. ){ص 631 - 632}.وجاء وقت السفر ... (- نحن جاهزون،ويمكننا أن نمضي.وقفز أمير خارج العربة. وتندهش سلمى وتقول : "ما أكثر ما هو جزع (فاقد الصبر)،حتى أن من يراه،يظن أنه مستعجل في أن يراني أرحل ..". وهي تعلم أن هذا غير صحيح،وأنه مغلوب على أمره،وأنه يفعل كل ما يستطيع لإخفاء ما هو فيه،ولكنها تحقد عليه،لرفضه أن يترك أمره لله،ولهذه الرصانة التي يبدو بها معها،كما يبديها مع الأجانب. وتلك المرات القليلة التي بدا فيها مكشوف القناع،جعلها في الأيام التالية،تدفع ثمنها ببرودة مضاعفة. وبخطوات خفيفة،سبقها الراجاه في الممر الحريري الذي سلكته،منذ سنتين،بالاتجاه المعاكس. كانت يومئذ تصل،مخطوبة،متألقة بالأمل الذي تحمله،وتتقدم بثقة لكسب زوجها الجميل،ووطنها الجديد.{هل يشبه هذا حال كل "زوجة جديدة"؟ - مع التحفظ على مسألة جمال الزوج طبعا – تحلم بكسب زوجها،ووطنها الجديد!! }والآن .. فإنها تستمر في السير إلى عربة القطار المصنوعة من المعدن،,الخشب،التي ستقلها بعيدا عن ألئك الذين يعرفونها،والذين يحبونها على طريقتهم. وكانت تمشي بعدها زهراء (..) وفاحت رائحة ياسمين قوية،فانتزعتها من أفكارها. ووصلوا جميعا إلى العربة النيلية المطلية بألوان الدولة. (..) وأجابت زهراء مبتسمة،عن سؤالها الصامت بقولها : إنها باقات أمير. وعندئذ فاضت الدموع التي طال حبسها،من عيني سلمى.أهو أمير إذن .. ولكن لِمَ جعلها متأخرة إلى هذا الحد؟ أتراه استطاع،أخيرا،أن يعبر عن شيء من الحب،لأنها مسافرة؟ ودخلت العربة،مضطربة،وتقدمت نحوه. ولو أنه في هذه اللحظة طلب منها البقاء،إذن لرمت نفسها بين ذراعيه. {يا ترى .. كم أسرة تشتت .. وكان يمكن لكلمة – واحدة .. رقيقة – أن تمنع ذلك التشتت؟!! إذ أن ما بين الزوجين أقوى بكثير من أية مشكلة ... }.ولكنه اكتفى بالنظر إليها،وتراجع،بصورة لا يُشعر بها.وفيما بعد،سنراه يفكر كثيرا في تلك اللحظة التي مهما تكن الرغبة التي تشده إلى زوجته ساعتئذ،فإنه لم يستطع تجاوز المنعكس المكتسب،أو القاعدة الذهبية التي تحول بين الأزواج المسلمين،وبين أن يُبدوا شيئا من العلاقة الحميمة التي تربطهم بزوجاتهم،على أنه لا يوجد،في هذه المرة،إلا أفراد الأسرة،و زينل الذي وصل لتوه من بيروت،وبعض الخادمات .. ثم امرأته الشابة التي تتوسل إليه،بصمت،أن يقوم بحركة ما،للتعبير عن عواطفه.وأخذت سلمى،وهي ترتجف،كأس الشمبانيا التي تفضل أمير،باعتباره زوجا محبا ووفيا،بتقديمها لها. {هنا لم يمعنه إسلامه من ذلك؟!!!!!!! مع التحفظ على تقبيل الزوجة أمام الناس .. إلا أنه من العجيب أن تتم المحافظة على ذلك السلوك – الذي هو حلال في الأصل – بينما يتم شرب الخمر،الذي لا خلاف في حرمته!!!}. واستعاد برودة دمه،وطلب أن يُشرب على صحة الأميرة،وحسن تمام الرحلة،وحسن الإقامة في فرنسا. ولكنه لم يشر قط إلى التعاسة التي يسببها له غيابها،ولا إلى الأمل باللقاء القريب. وكذلك لم تلمح على وجهه مطلقا،لوائح الهيجان.{يستعمل المترجم عبارة"الهيجان" كثيرا .. وهي في معظم الأحيان تعني "الانفعال"}.ودوت صفارة رئيس المحطة لتعلم الناس بحركة القطار الفورية،فقطعت حفلة الوداع هذه. وفيما عدا زينل الذي وصل لتوه من بيروت،فإن الناس المودعين جميعا نزلوا إلى الرصيف. وكان أمير آخر من بقي. أتراه سيقبلها؟وبنعومة،ينحني أمامها،كما لو أنه سيغيب عنها لعدة أيام.- إلى القريب العاجل،يا أميرتي.- أمير!ونادته،فالتفت إليها. ونظر كل منهما إلى الآخر،لمدة طويلة،وبألم. وشعرت بأنهما لن يلتقيا أبدا،وأنها أبدا لن تعود فترى الهند.وانحنت من نافذة القطار الذي تحرك في طوفان من الدخان،وثبتت نظراتها على ذلك الزول الأبيض،الواقف على الرصيف،الذي يبتعد،ويبتعد،ويغيب ... ){ص 646 - 467}. من أحد مخابئ الذاكرة ... تبرز هذه العبارة : (ساعات اللقاء لها أجنحة ... ولحظات الوداع لها مخالب). إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  5. #25

    رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد

    حياة أميرة عثمانية في المنفى"24"
    وتصل سلمى – و زينل – إلى باريس،وتعثر على زميلة دراستها ماري لور،وتصبح نجمة من نجمات المجتمع الباريسي،فهي زوجة أحد ملوك الهند،وترتدي الساري الهندي،وبرفقتها زينل،بزييه المميز،وترغب سلمى ..( - إني أحب أن أدشن "الروب"الذي اشتريته من عند Lanvin ذلك أن له ثنيات "درابيه Drape "غير عادية. وتقاطعها ماري لور،وكأنها أغضبت غضبا شديدا،وتقول لها :- أروب يا عزيزتي،إنك مجنونة. البسي من عند لانفان في لوكنوف،إذا كان يشتهيه قلبك،أما هنا فإن عليك أن تلبسي كماهاراني. وإلا فإن كل الناس سيشعرون بخيبة الأمل. فماذا؟ إنها ماهاراني في ثوب مسائي؟ وأنا كيف تكون عيني في عيونهم؟ إن الليدي فيللو تظن أنني أمزح معها مزحة سيئة.وبدت سلمى،كأنما خاب أملها أيضا،وقالت :- كنت أظن أني،في باريس على الأقل،أستطيع أن ألبس ككل الناس ..ولكن ألا تفهمين أن كل هؤلاء السيدات يحسدنك،فقط. لأنك مختلفة عنهن. عفوك يا سلمى. إنك في باريس منذ شهر،ومع ذلك فإن الناس لا يتحدثون إلا عنك،أفتظنين أن أوربية ما،حتى لو كانت جميلة جدا،تستطيع الوصول بسهولة إلى مثل هذه الشهرة؟ إن المجتمع الباريسي قاس جدا،ولكي يحتل فيه الإنسان مكانا ما،يجب أن يكون قد وُلد فيه،أو أن يُسَلّي،أو أن يجعل الناس يحلمون. وعندما نهضت ماري لور طبعت على جبين سلمى قبلة.- إن عليّ أن أهرع إلى الحلاق. فإلى المساء. ولا تنسي خصيّك. ولن يصحبك إلا إلى مدخل القاعة،ولكن يجب أن يراه الناس.){ص 663 -664 }.وانغمست سلمى في الحياة الباريسية،وتعلقت بجراح أمريكي،وبدأت نذر الحرب،وكان الملل (الطفش) يسيطر على حياة الترف،والسهر الذي لا ينتهي،التي تعيشها بعض السيدات،حتى أن سيدة قالت لصديقتها،لا شيء يقضي على هذا الملل غير الحرب .. وضحكتا. .. (وفي بضعة أيام تغير وجه باريس. إذ أنهم أحاطوا الأوابد بأكياس من الرمل،حماية لها،وطلوا باللون الأزرق زجاج المنازل. وفي كل مكان تجد نساء بعمرة (كسكيت) مزينة بشرائط،وساعد،حللن محل الرجال. فهن شرطة السير،وعمال بريد،وجباة باصات،ورؤساء محطات،وسائقات شاحنات ثقيلة. ولكن الإنسان يفاجأ بتغير مدينة النور،في الليل خاصة. إذ منذ الساعة الواحدة والعشرين،يكون الظلام كاملا،ذلك أن الطريق لا يضاء،خوفا من الغارات. وحتى السيارات،أمرت بألا تضيء مصابيحها،وعليها أن تمشي على ضوء قنديل خافت. أما سلمى التي كانت تذهب أحيانا،مع زينل للعشاء،فلم تعد تخرج أبدا.){ص 700}.ولم يطل الأمر حتى هدأ الأمور،وكان الانتظار سيد الموقف .. (أما الباريسيون الذين هربوا من العاصمة،لدى إعلان الحرب،فإنهم عادوا إليها. وعادت دور اللهو إلى سابق عهدها،وبدأت دور الخياطة تطلق مبتكراته من ثياب شتوية،وعادت الحياة في شهر تشرين الأول / أكتوبر / المشمس إلى ما كانت عليه من قبل. غير أن فناني الخياطة بسّطوا الفساتين،لكي تروق لأوانس هؤلاء الجنود الشباب العائدين بإذن إلى البلد. إذ يجب أن تكون المرأة أنيقة،على بساطتها،وسيكون ذلك "دُرجة الحرب"التي تذيع الطقوم ذات اللون الأزرق R.A.F.، {في الهامش : Royal Air Force أي بلون سلاح الجو البريطاني.}ومانطويات "التعمية" ذات البقع الشبيهة بجلود النمور،والأقمشة المطبوعة "الدبابات" و"الإنذار الكاذب" و "الهجوم" بإضافة هنا،وهناك،إلى برندوريات (أشرطة عرضناية على الصدر) وبنود أكتاف،وأشرطة،هنا وهناك. وكما كتبت مجلة "حديقة الموضات" : "عليكن أيتها الآنسات أن تبقين جميلات،كما ترغب عيون أولئك الموجودين في الجبهة أن تراكن". ثم إن الإنفاق واجب وطني. وعليكن أن تقمن بهذه المهمة الأساسية التي تستطعن وحدكن القيام بها : أي "العمل على إبقاء الصناعة الكمالية حية لا تموت!".ولكن سلمى لن تدعم هذا الجهد الحربي الجميل. ولم يعد معها شيء من المال،تقريبا. وعلى الرغم من البرقيات المرسلة إلى أمير،فإنها لم تتلق منه شيئا. وتقول لزينل الذي يعتريه القلق : إن هذا الأمر طبيعي – لأن البريد أصابه الاضطراب – ولكن كل شيء سيعود إلى ما كان،تقريبا. والحقيقة أنها تتساءل عما إذا كان زوجها لم يسمع شيئا عن علاقتها بهارفي. وليكن ما يكون،فستتدبر أمرها بنفسها. وستبيع حليها كما فعلت أمها. (..) هاهي القصة تتكرر.وفي اليوم التالي،تمضي سلمى و زينل إلى جادة Gadet حيث توجد سوق الحلي – بالرخصة – ودخلا واحدة من هذه الدكاكين القاتمة،حيث يوجد رجل بلباس مصقول،والمكبر مربوط على عيونهم،ليفحصوا الحلي بوضع من يشك في سلامتها. آه،ما أبعد ذلك الزمان،زمان سورين آغا اللطيف! ذلك أن هؤلاء التجار المتميزين بالفظاظة يجعلون السيدة الشابة تشعر بأنها سارقة تحاول أن تصرف ثمرة سرقاتها. حتى إن اثنين أو ثلاثة صرحوا بأن أكثر الحجارة مزيفة،أو من نوعية رديئة. ومن حسن الحظ أن زينل هناك. فغضب،وضرب على الطاولة،وهدد باستدعاء الشرطة. وعندئذ بدأ هؤلاء الرجال القاتمون بالتلاطف،وقال أحدهم أنه يستطيع شراء الحلي كلها بخمسين ألف فرنك،لا لشيء،إلا أنه يريد أن يساعد "السيدة". وظنت سلمى بادئ الأمر أنه يهزأ منها،وتقو ل: - إن هذا لا يساوي حتى واحد من العشرين من قيمتها!- هذا هو الثمن فإما أن تقبليه،أو ترفضيه،وعاد إلى القسم الخلفي من دكانه.){ص 702 - 703 }.وتضطر سلمى للبيع بذلك السعر المجحف،بطبيعة الحال. فهي في أمس الحاجة للمال،وعلى وشك أن تضع مولودها نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي- إنك أيها السيد،أب،لبنت صغيرة حلوة.وخرجت القابلة،مشرقة الوجه،من الغرفة التي كان زينل يقطعها ذهابا وإيابا،منذ الصباح،ذاكرا أسماء الله الحسنى،مستعينا بها. وكانت الشمس قد غابت منذ مدة طويلة،فتتنفس القابلة مرتاحة،بعد أن أرهقت نفسها،تقريبا كالأم التي ظنت عدة مرات أن قلبها على وشك أن يتوقف. فلقد كانت الولادة صعبة بشكل خاص : فهي نحيلة والوليدة ضخمة (ثلاثة كيوليات ونصف الكيلو) "أيها السيد : في وسعك أن تكون فخروا". (..) – وإذن يا زينل ألن تهنئني؟ (..) فاندفع نحو السرير وأخذ يديها،وبدأ يقبلهما وهو يتمتم بكلمات شكر لم تفهمها.ولما كانت القابلة حريصة على سرية العلاقات الحميمة،فقد استأذنت بالانصراف. وستعود غدا صباحا.- ومن الآن حتى الغد،فكري بالاسم الذي ستسمينها به،ذلك أنه يجب عليّ أن أذهب إلى دار البلدية،لأخبر بولادتها.وأجابت سلمى ببسمة لا مجال لتحديها :- لا تحملي هذا العناء. فزينل سيقوم عنك به. ){ص 704 - 705}.كانت سلمى قد فكرت كثيرا،وقررت أن تخفي أمر طفلتها،خشيت أن تعاني في الهند،وخشيت أن يضغطوا عليها بها،لتعود هي بنفسها إلى الهند،لذلك ضغطت على زينل حتى وافق أن يكتب نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي "في يوم 14/11/1939،ولدت الأميرة طفلة،ميتة". لقد كتب ذلك. وبنوع من الخجل،بدأ الخصي ينظر إلى هذه العلامات السوداء،التي تغير،دفعة واحدة،مصير كائن إنساني. فعند الراجاه،هذه الطفلة لم تعد موجودة. وبكلمة واحدة،جعلها تزول.){708}.وفي الفندق المتواضع تقيم سلمى و زينل والرضيعة،التي أصبح عمرها تسعة أشهر،وذات يوم نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي- يا سيدة!وكان هذا صوت رب الفندق الذي استوقفها قليلا في اللحظة التي كانت فيها على وشك الصعود في المصعد.- سيدتي،هل في وسعك أن تقولي لي،كم ستبقين عندنا؟- ولكني لا أعرف .. ربما بقيت شهرين أو ثلاثة،على ما أظن.- ذلك أني .. سأكون بحاجة إلى هذه الغرف. فلدينا زبائن ...وكانت سلمى تنظر إليه بازدراء،مندهشة.- إن الفندق ليس ممتلئا،فيما أعلم. والسواح ليسوا بهذه الكثرة حاليا!- لا،ولكن .. حقيقة الأمر : أن طفلتك توقظ الزبائن. وقد رحل عنا كثيرون. وأنا آسف،يا سيدتي،ولكن يجب أن تبحثي عن فندق آخر،أو بانسيون للأسر .. وأنا أعرف واحدا منها،كما ينبغي. (..) فشعرت سلمى بأنها مسحوقة. فلقد كانت على ما يرام هنا،مع هذه الحديقة. وعندما رأى المدير اضطرابها،وما هو بالرجل السيئ،فقد حاول أن يبرر موقفه.- لقد عملنا ما نستطيع. ذلك أننا لا نرضى أن نأبى استضافة سيدة شابة. أما حول الولادة،فإننا لم نقل شيئا. ولكننا لم نفكر قط في أن الأمر سيتطور إلى هذا الحال! فلو أنك أنت،أو الطفلة،قد حدث لكما حادث – لا سمح الله – إذن لقدرتِ كم هي صورة التعقيد التي تنشأ لنا عن ذلك. (..) – حسنا هيئ لي الحساب.- وخجل الرجل،وأخذ يعتذر بقدر ما يستطيع.- ليس الأمر بمستعجل،وفي وسعك البقاء يوما أو أكثر إن شئت ..- أما بالنسبة إليّ فالأمر مستعجل،حتى بالساعة. {ص 711 - 712 }.وانتقلت سلمى إلى نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي فندق جادة السكريب،المسمى على سبيل التفخيم "فندق الملك" فندق من الدرجة الثالثة (..) وليس فيه قاعة استقبال،بل فيه غرفة طعام صغيرة،يقدمون فيها طعامهم بسعر ثابت. وعندما رأى الحارس هذه السيدة الأنيقة،ظن أنها ضلت الطريق،ثم إنه لمح السيد ومعه الصغيرة،وفهم أن هؤلاء هم الغرباء الذين أُعلم بأمرهم. (..) وكان لهذا الفندق ميزة أخرى : هي الابتعاد عن عيون القابلة التي ساعدت على ولادة الطفلة.){ص 712 - 713}.في ذلك الفندق تتعرض سلمى لعملية احتيال،حيث وعدتها إحدى الجارات بأنها سوف تحضر لها قابلة تشهد بأنها هي التي حضرت الولادة .. وتسلمت المرأة عشرين ألف فرنك .. وغادرت الفندق دون أن تترك عنوانا. وسقطت باريس في يد الألمان،بينما ظل الإنجليز يقاومون،مما جعل كل من ينتمي إلى إنكلترا عدوا .. أما باريس فقد أصبحت ... ( مدينة هادئة بشكل غريب،تخلى عنها ثلاثة أرباع سكانها. وقضت سلمى بعد ظهر ذلك اليوم في البحث عن حليب،لابنتها الصغيرة،ولكنها وجدت الدكاكين مغلقة. ومع ذلك فقد عثرت على سمان باعها،بسعر عال جدا،حلويات جافة وعلبتي حليب مركز.){727}.وفي ظل تلك الفوضى،رأى زينل أن هذا هو الوقت المناسب لتسجيل الطفلة،والزعم بأن القابلة قد فقدت عقلها،وفرت من باريس .. ( وسارت الأمور على النحو الذي تخيله زينل تماما. (..) – حسنا. لننظر إذن في أوراق هوية الأم،لأنك لا تملك غيرها. الاسم : سلمى. زوجة : أمير،راجاه بادلبور.وسجلت بكتابة حلوة اسم أمير،وطنت أن الاسم الشخصي هو اسم الأسرة. فيحبس زينل أنفاسه.- حسنا! والآن : راجاه بادلبور،فما هذا؟ هل هذا هو مهنة الأب. وماذا تعني كلمة راجاه؟ويتردد زينل. فإن قال تعني : الملك،فمن المؤكد أن أنها ستظن أنه عجوز مجنون.وعيل صبرها،فقالت :- لا بد أن له مهنة. فهل هو تاجر؟ويوافق الخصي،خافضا رأسه،على حين أن الموظفة تكتب بكامل الكفاءة المسكينة :- هذا هو. إنه تاجر.وشعر زينل أنه يخون الراجاه. أكثر مما فعل عندما رأى أن يقول له : إن الوليد،مات فورا. وهو لا يجرؤ على تخيل رد فعل الأمير.وخلافا لتوقعاته،فإن سلمى وجدت في حديثه ما يسليها كل التسلية وقالت :- لو قُدر لأمير،ذات يوم،أن يعرف هذا،إذن لأمر بشنقك. ولكن لا تكترث.){ص 730 - 731}.ويخبر صاحب الفندق سلمى أن زوجته تريد أن تشي بها لدى الألمان،فتغادر الفندق .. (وخلال شهر واحد،تنتقل سلمى من فندق إلى فندق ثلاث مرات. وترتعش كلما رأت أحدا من الناس ينظر إليها. وأصبحت ترى في كل مكان أناسا مستعدين للوشاية بها. على كونها تدفع ضعف أجرة الغرفة. ويقولون : "إن هذا أمر طبيعي. فنحن نغامر،وإنما نحتفظ بك عندنا من أجل الطفلة"ولكن من يدري،إذ قد تشي بك جارة،أو خادمة في الفندق. وفعلا فإن الألمان وعدوا بجائزة لمن يصرح لهم عن المشبوهين. أوَليست من بين هؤلاء في المقام الأول باعتبارها إنكليزية؟ (..) وفي مثل هذا الجو القائم على فقدان الثقة والكذب،فإن جمالها،وطريقتها في الإحساس والشعور،وسمتها"المختلفة"التي كثيرا ما كانت رصيدا لها،أصبحت الآن مصدر خطر. ومهما تفعل لتكون كسائر الناس،فإنها تظل موضوع ملاحظة. وذات يوم،صادفها رجل يحب المغامرة مع النساء،وكانت قد أوقفته عند حده،فقال لها غاضبا :- آه،إنك شديدة الزهو بالنفس،ولكن إذا رحت وأخبرت الألمان عنك،ومن أنت،فلن تكوني بعد ذلك في مثل هذا الزهو،فما رأيك؟ولم تشأ سلمى أن تخاطر بنفسها من جديد،فأرسلت زينل يسدد الحساب. وبعد نصف ساعة،غادرت الفندق،ولفت البنت الصغيرة بشال.وانتهى الأمر بها وبزينل إلى جادة الشهداء في بيت حقير دلوها عليه،لأنه يقبل الأجانب،متى كانوا قادرين على الدفع. ){ 733 }.ونفد ثمن المجوهرات،التي ظلت سلمى تبيعها قطعة بعد أخرى. وكانت رغم كل شيء تذهب،في بعض الأحيان،إلى بعض الأماكن الجميلة وتتناول وجبة،أو تشرب فنجان من الشاي ... ثم قابلت خياطة اسمها شارلوت،اكتشفت أن الثوب الذي ترتديه سلمى من صنعها،وانحنت للتأكد من بطانة الثوب،ذلك أن رئيسها كان يقول لها أن أحدا غيرها لا يجيد مثل تلك (الطُعن) حسب ما جاء الترجمة،أو (الغرز) .. فنشأت صداقة بين الشابتين ..(ثم إن سلمى سلمت إليها أروابها المسائية،طالبة منها أن تبيعها لها. وهذا ما قامت به خير قيام. (..) منذ أن وزعوا على الناس قسائم التموين،ذلك أنها أعطت سلمى ما لديها من قسائم تتعلق بالحليب،وتقول :- أما أنا،فالحليب يمرضني في القلب.){739}.وتم القبض على شارلوت،لأنها يهودية،ويزداد الوضع سوء ...(فما من شيء يجده الإنسان في السوق السوداء،حيث كل شيء موجود،ولكن بأسعار لا تقارب. وتشتري سلمى ما لابد من شرائه من أجل الطفلة. أما هي وزينل،فإنهما يكتفيان بالقلقاس الرومي (نوع من البقول) والملفوف. وحتى البطاطا،فإنها قد أصبحت من عالم الكماليات العظيمة،حتى أن الصحف تعلن عن قدومها إلى السوق قبل ثلاثة أسابيع. وللإنسان الحق في 28 غراما من اللحم و 50 غراما من الخبز الأسود القاسي. أما السكر فإن حصة الإنسان هي نصف كيلو في الشهر. لكن القهوة ذكرى قديمة العهد. وليس ذلك بالأمر الخطير،ذلك أن الصحف تقدم وصفات من نوع خاص لعمل قهوة"لذيذة"من الشعير المشوي أو من البلوط. (..) وأخذ الخصي على نفسه أن يقوم بتدبير الحاجات،ذلك أن الحصول على هذه الحصص التافهة،يحتاج إلى الوقوف في الصف طول النهار. ويرى أن هذا هو وظيفته،وليس وظيفة الأميرة. وتراه يلح على مثل هذه التفاصيل العائدة لعهد آخر،وانتهت سلمى إلى القبول بذلك،لأنه في أيام الشقاء التي هو فيها،يتعلق بقيم يجد أنها ضرورية له كالهواء. أما الشيء الذي لا يقوله،فذلك هو أنه يظل قلقا عليها. وحقا فإنها لم تكن قط سمينة. أما الآن فإن نسمة من الهواء كافية لجعلها تقع على الأرض. وكثيرا ما انتابتها – وهي في الطريق – آلام غير واضحة،ودُهش الناس من حولها،لأنهم لا يتخيلون أن سيدة في مثل هذه الأناقة يمكنها بكل بساطة أن تتألم من الجوع. ولكنها لا تتألم لذلك : فمع قلة الطعام،تتعود المعدة على ذلك،وتتلاءم معه. وكان شتاء هذا العام 1940 مخيفا. فالناس في الخارج يرتجفون من البرد،كما يرتجفون منه داخل الغرف. وما من فحم للتدفئة هذا العام،حتى أن سلمى لا تجرؤ على فتح نوافذ الغرفة،لتهويتها،لأنها ملتصقة من الخارج بطبقة من الجليد. وذات صباح وجدت عصفورها الذي اشتراه لها هارفي،ميتا في قفصه من شدة البرد. فهطلت دموع عينيها هذه المرة،وهي التي تحملت حتى الآن كل شيء. إنه شيء من هارفي قد مضى .. وتأبى بطبيعة الحال أن ترى في ذلك فألا سيئا. ولكنها لا تستطيع أن تمنع نفسها من هذا التفكير : ففي الشرق،ينتبه الناس إلى مثل هذه الأشياء ..){743}. إلى اللقاء في الحلقة القادم ... إذا أذن الله س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  6. #26

    رد: حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد


    حياة أميرة عثمانية في المنفى"25"
    : (الأخيرة)(الآغا زينل : "زيزل" ) ويعصف البرد والجوع بسلمى،وبينما كانت ترقص بصغيرتها ..(وفجأة شعرت بألم،كأنه خنجر في البطن،يحملها على التأرجح. فتحس باختناق،,تريد أن تصرخ ... ولكن الطفلة بين يديها،ويجب ألا تدعها تقع. واستنهضت كل قواها،وحاولت أن تتعلق بالطاولة،هناك،على مقربة منها،فتمايلت،وشعرت بحرقة لا تحتمل،وكأنها تمزقها ... كما لو أن هناك موقدا،وستارة من رماد .. ولم تر شيئا ... وتشعر بأنها ستسقط،ولا تتوقف عن السقوط .. (..) ولم يكتشفها زينل إلا بصورة متأخرة،بعد أن عاد من شراء حاجاته. وها هي سلمى متمدد على الأرض،بيضاء،شديدة البياض. لكنها خلال سقوطها حمت الطفلة التي تبكي من شدة الخوف.وفي مستشفى الأوتيل – ديو ،كان الجراح يذرع مكتبه جيئة وذهابا. وكان ينظر بمرارة إلى يديه القويتين اللتين توصفان عند الناس،بأنهما أعجوبتان : أما هذه المرة،فإنهما لم تستطيعا الإنقاذ. بيد أنه منذ أن وصلت سلمى،فيما يشبه الإغماء،أمر بأخذها إلى غرفة العمليات. وكانت مصابة بالتهاب حاد في الصفاق. ففتح البطن،وقص،وربط،وخاط،خلال ساعتين،وقد استبسل في العمل،وحوله ممرضتان صامتتان.(..) غير أن الحمى عادت في الليل،وفهم أن تسمم الدم بدأ. وكان هناك شيء واحد يستطيع إنقاذها،هو هذه الأدوية الجديدة"المضادات الحيوية"التي كانوا يصنعونها في أمريكا. أما في فرنسا،فإنها لم تكن قد وجدت بعد. (..) والآن يجب أن يكلم الأب،الذي بقي لا يتحرك منذ البارحة،في الممر. (..) ولم يكن بحاجة إلى الكلام،لأن زينل كان يعرف. ولقد عرف ما جرى،في اللحظة التي كانت فيها ابنته الصغيرة،تلفظ أنفاسها الأخيرة. فشعر،في جسمه كله،بهزة،وبدت له كأنها تنزع شيئا ما منه. فترك نفسه ينزلق على الأرض،وصدم جبينه باب الغرفة.وجاءت الممرضة،فوجدته هناك،فيما يشبه الإغماء. فأجلسته وغسلت له صدغيه،حتى يعود إلى كامل وعيه. ذلك أن عليه الآن أن يعمل،ويتخذ بعض القرارات. فماذا يجب أن يفعل بالجثة؟ وهم أجانب،,ليس لديهم كهف عائلي. فأين إذن يقبرونها؟ (..) ولا يتذكر زينل ماذا جرى خلال الساعات التالية،ولا يعي شيئا آخر غير أن امرأة في ثياب بيضاء تطرح عليه بعض الأسئلة،لم يكن يفهم منها شيئا،وكان يقول فقط : إنه يريد أن تدفن في مقبرة إسلامية،بعد أن قدم لها محفظة أوراقه.ورأى بعد الظهيرة عربة موتى يشدها حصان هزيل،ثم حملها الرجال الذين رافقوها،صندوقا من الخشب الأبيض. وأشاروا إليه بأن يتبعهم.ولكن كم من الوقت مشى وراء سلمى؟ لقد كان المطر المثلج،مطر كانون الثاني / يناير/ يتسرب إلى ما تحت ثيابه،ولم يكن يشعر بذلك وكان يتذكر النزهات الطويلة التي كانا يقومان بها،كما يتذكر بسمتها المداعبة،عندما كانت تطلب منه أن يعدها بأن يكون معها حتى نهاية العالم. وأخيرا وصلوا إلى أرض ضخمة،غامضة،مقلقة بجدرانها المهلهلة،وعلى مد النظر،كانت هناك صفوف من الشواهد،تبرز من العشب : وكان هذا هو المقبرة الإسلامية،مقبرة بوبينيي Bobegny ولم يستطع زينل أن يكبت شهقة بكاء،عندما فكر بالمقابر الحلوة التي تشرف على البسفور،والتي كانت سلمى تحب النزهة فيها. ولكن إمام المقبرة عيل صبره : ذلك أن الوقت أصبح متأخرا،ويجب بسرعة أن نصلي صلاة الميت،لاسيما وأن هذا الرجل المسكين لا يملك المال الكافي لكي يدفع تكاليف احتفال أهم من هذا،بل إنه لم يكن معه ما يشتري به شاهدة قبر ينقش عليها اسم المرحومة.وليكن ما يكون،فإننا سنكتبه على قطعة من الخشب،حتى إذا ما نبت العشب،لم تختلط القبور على أصحابها،فالعائلات لا تحب هذا الخلط. وأية تعاسة!وينظر زينل إلى الحفرة السوداء التي حفرها رجلان في القسم المخصص للنساء،وإلى النعش الذي سينزلونه إلى مكانه بالحبال. ولكن لماذا حبسوا ابنته الصغيرة في هذه العلبة؟ لابد أنها ستختنق فيها،وهي التي لم تحتمل قط أن تحبس. ففي عالم الإسلام،يلف الجسد في قماش ابيض ثم يوضع هذا على التراب مباشرة. ولكن يقولون : إنه ليس لهم الحق،في فرنسا،أن يفعلوا هذا.وعندما انتهى رجال المقبرة من عملهم،كان الظلام قد حل تقريبا. أما صاحب العربة فقد هجر المكان منذ مدة طويلة وبقي زينل وحده في المقبرة،بين آلاف القبور،أو قل بقي وحده مع سلمى. وكان يفكر،وهو أمام هذا المربع من التراب المطروق،بالأوابد الرخامية الفخمة التي كانت تستمر،قرنا بعد قرن،في إستانبول،في التذكير بأمجاد السلطانات العظيمات،فيرتعد ... ومن يستطيع أن يحزر أن أميرته تنام في هذا القبر المسكين؟ بل من سيتذكر؟وتمدد على الأرض التي حفرت من جديد. مغطيا ابنته الصغيرة بجسمه،ومحاولا أن ينقل إليها شيئا من حرارته الحية،ومن حبه. إذ لم يعد لها الآن غيره. ولن يتخلى عنها. إذ لقد وعد السلطانة بذلك.- آغا!وتعدو سلمى نحوه من آخر الحديقة،وهي أحلى ما تكون في ثوبها الحريري،و خصل شعرها الأحمر تتطاير في الهواء.- آغا،خذني معك. أريد أن أرى الألعاب النارية على البوسفور! وتعلقت برقبته. وأخذت تتسلى بشد شعره.- تعال بسرعة،يا آغا،إن هذا ضروري ! إنني أريده!- ولكن من الممنوع أن تخرجي من الحديقة،أيتها الأميرة الصغيرة.- أوه،آغا،إنك لم تعد تحب سلماك. وماذا تعني كلمة ممنوع؟ آغا،هل تريد أن أكون تعيسة؟ .. ومرة أخرى،عاد فقبل. فهو لن يستطيع أن يخالف لها أمرا ... فيهبطان،يدا بيد،من خلال الممرات التي تعطرها الميموزا والياسمين،باتجاه الشاطئ الذي ينتظرهما فيه القايق الأبيض والذهبي.وقفزت،بخفتها المعهودة. وكانت السهام النارية تلهب شعرها،وحينما كان يستقر في مكانه كانت عيناها تلمعان وتهمس في أذنه قائلة :- والآن،يا آغا،نسافر نحن الاثنين معا،في رحلة طويلة جدا. واستيقظ زينل بضربة خفيفة على كتفه. فقد كان النهار على وشك أن يطلع. وكان فوقه رجل ينظر إليه بفضول.- يجب ألا تبقى هنا،لآن المرض سيصيبك من جراء ذلك!وساعده على النهوض،وعلى نفض التراب الذي يُلوث ثيابه. وقاده بيده،وهو يرتجف من البرد،إلى الغريفة التي يضعون فيها أدوات الحفر،في مدخل المقبرة. وهناك أشربه قدحا كبيرا من القهوة الساخنة. وكان يسمى "علي"وهو حارس المقبرة. وجلس بجانبه كأنما هو متضامن معه على الضراء. - وإذن فكهذا يا أخي،ماتت السيدة؟وتأتأ زينل وهو يصك أسنانه بعضها ببعض.- إنها ابنتي.- ولم تضع شاهدة باسمها،لابنتك؟ويهز زينل رأسه،وفجأة يشعر أنه ضعيف. ذلك أنه منذ ثلاثة أيام لم يأكل،منذ اللحظة التي رأى فيها سلمى .. - خذ،وكل. ثم إن العامل الذي يُصنّع الرخام صديقي،وفي وسعه أن يعطيك رخامة صغيرة،بثمن رخيص. وهكذا فقد سحب زينل بعناء،ساعته من جيب صدرته. وكان هذا كل ما بقي له من أيام العظمة في أورطاكوي. وكان قد احتفظ بها لليوم الذي لا يبقى معه شيء. أما الآن ..- ليس عندي غير هذا. أفيقبل؟- احفظ ساعتك،ستكون إليها في حاجة،فيما بعد. ولا يزعجك فأنا سأتولى شأن الشاهدة, ويجب أن يتساعد المسلمون فيما بينهم.وعلى الرغم من احتجاجات زينل،فإنه خرج. وبعد عدة لحظات،عاد وهو يحمل حجرة صغيرة بيضاء،قطعت على شكل قوس. ونقش عليها بتعليمات من الخصي،وبأحرف عرجاء ما يلي :سلمى13 – 4 – 1911 / 13 – 1 – 1941ولكن شيئا ظل يزعج زينل،فقال لصديقه : إنهم لم يدفنوها كمسلمة. إذ وضعوها في علبة بيضاء. فهل تظن أننا نستطيع؟ ..
    وأشرق وجه علي،ذلك أنه يحب على المؤمنين الحقيقيين.{هكذا} وبقفزة واحدة،مضى يبحث عن معول. ووجد في المستودع غطاء أبيض. وذهب الاثنان معا إلى القبر. ولم يحتاجا إلا إلى ربع ساعة لكي يزيحا التراب الجديد،ورفع النعش،وانتزاع المسامير.وقال علي :- حسنا،سأتركك الآن،واختفى في الوقت الذي كان فيه زينل يفتح النعش. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يراها فيها،ما أجملها في قميص نومها الطويل الأبيض،أما خصل شعرها المذهبة فكانت متدلية على كتفيها،وعليها كل سمات الفتاة الشابة. فانحنى وهو يرتعد وطبع قبلة رقيقة جدا،على خدها.وعندما نهض،كانت عيناه جافتين. وبلحظة واحدة،فارقه الهيجان. ذلك أن هذه الراقدة الباردة غريبة عنه. أما ابنته الصغيرة فإنها لم تعد هنا. لقد مضت مع ضحكاتها ونزواتها،وألوان أشواقها،وكرمها،وكل ما كان يجعل منها "سلمى". مضت وفارقت هذه الدنيا ...وبنعومة،لفّ الجسد في القماش الأبيض،واتخذ كل الاحتياطات،كيلا يجرحها. وعاد فأنزلها في الحفرة،أو قل في هذه الأرض التي كانت سلمى تحب أن تستنشق رائحتها،والتي تستقبل الآن جمالها. وترى أنها ابنتها. (..) وفجأة انقطعت أنفاسه،وجحظت عيناه من الرعب. والطفلة! ... لقد نسي. فمنذ ثلاثة أيام بقيت وحدها،دون أي إنسان يغذيها. أو يسهر عليها .. ولعلها ماتت .. ورفع صوته،متوسلا إلى الله،أن يحميها!ولم يعد يعرف كيف عاد إلى الفندق. ويبدو له أن (علي) أوقف سائق عربة من عربات الموتى. كان يعود إلى باريس،فوضعه بدلا من النعش في عربة،وبعد ذلك جرى كعجوز مجنون راجيا من الله أن يرأف بالصغيرة.وعندما دخل الغرفة،وجد الصغيرة متمددة على السرير وكأنه لم يعد فيها دم. وكانت عيناها مغلقتين،ورأسها مقلوبا إلى الخلف،والفم مفتوحا،وتنفسها عسيرا.فصرخ بدرجة من القوة حملت جارته في الدور الذي هو فيه على أن تهرع إليه. فقالت له :إن من الضروري أن لا تحرك الطفلة من مكانها،وإن عليه أن يرفع رأسها قليلا لكي تشرب بعض الماء،لكن الصغيرة ترفض كل شيء ...وعندئذ أخذها زينل بين ذراعيه. فوجد أنها باردة كالثلج. فغطاها بغطاء،وهبط السلم كالعاصفة،ومر بالمطرونة إيميلي،التي حاولت اعتراضه. - قف،قف،إنك مدين لي بأجرة أسبوعين!وبدأ يجري،ونزل في جادة الشهداء،ولا تكاد ساقاه تحملانه. ووجد على الطريق جملة عيادات طبية. ويرن الجرس،ويقرع الباب،فلا يرد أحد. كان ذلك يوم الأحد. وأخيرا ومن شدة اليأس،اتجه إلى أحد رجال الشرطة الذي دله على القنصلية السويسرية،حيث يوجد دوام كل يوم للأجانب.ومضى الخصي حتى وصل جادة غرينيل Rue Grenelle وهناك شعر أن قلبه على وشك أن يفارقه. ولكن يجب أن يقاوم. إذ ليس له الحق في أن يموت قبل أن ينقذ ابنة سلمى.ولكنه عندما دخل قنصلية سويسرا واستقبلته سكرتيرة ذات خدين مدورين،وسألته عما يريد،لم يسعه إلا أن يضع الطفلة بين ذراعيها،ويقع على الأرض،عاجزا عن أن يقول أية كلمة.ومرت بعد ظهر ذلك اليوم مدام نافيل،زوجة القنصل،لتبحث عن قائمة عناوين لتلك السوق الخيرية القريبة التي يقيمها الصليب الأحمر،وما كادت ترى الطفلة،حتى أخذت الهاتف،وطلبت طبيبها الشخصي. ثم إنها أعطت للعجوز المسلم كأسا من الفودكا. وكاد زينل يختنق منها،وأراد أن يردها،ولكنها طمأنته.- إن هذا ليس بكحول! إنه دواء.وبسرعة،شعر بتحسن،وقصّ على هذه السيدة حكايته كلها : لقد ماتت أميرته،وتركت الطفلة لحالها في الفندق ثلاثة أيام. وبعد عدة دقائق وصل الطبيب.ودمدم قائلا،وهو يرى حالة الطفلة :- من حسن الحظ أن الوقت لم يفت! وأخرج من محفظته إبرة،وحقنها بمصل. ثم فحصها بنعومة. وقال :- إنها ضعيفة جدا. وقد تأثرت الرئتان .. ويبدو أنها لم تأكل شيئا ولم تشرب،منذ عدة أيام.وسمع أنينا حمله على أن يلتفت برأسه. ونظر بإشفاق إلى الرجل العجوز وهو متهاوي على كرسيه،وقال له: - لا تقلق أيها الرجل الطيب. سننقذها إن شاء الله. ولكن لابد من عناية مشددة. وكأنما كان يتجه بكلامه إلى السيدة نافيل،ذلك أن مصلحة الإسعاف مرهقة جدا بما لديها من أيتام الحرب. وهذه الطفلة بحاجة إلى أن يكون هناك إنسان إلى جانبها دوما. وإلا فإني أخشى أن ... وقاطعته زوجة القنصل،بقولها :- سآخذها إلى بيتي،يا دكتور،طول المدة اللازمة. فلقد هبطت عليّ هذه البنيّة من السماء. ولا أستطيع تركها تموت.وخلا عدة أسابيع كان زينل يأتي كل يوم لزيارة الطفلة. وسرعان ما عادت الطفلة إلى السلامة،بفضل الغذاء الصحي المتوفر في قنصلية سويسرا. هذه الجزيرة من البحبوحة والخيرات،في وسط باريس المحتلة. وهاهي الآن بنيّة بضّة الجينات{هكذا} والخدود،تستقبل بفرح هذا الخصي وتسميه"زيزل".ولقد قصّ كل شيء على زوجة القنصل،غاضا النظر بطبيعة الحال عن مرحلة الرجل الأمريكي،والرسالة التي أرسلت للراجاه. وهو يرجو أن لا يكون الراجاه قد تلقاها،لأنه لم يجب قط. فإذا انتهت الحرب،فإنه يستطيع استعادة طفلته. وهذا هو الحل الوحيد،مادامت سلمى قد غادرت إلى دار الآخرة. وستكبر الأميرة الصغيرة في الزينانا،وتتزوج،وستكون حياتها مريحة وبلا مشاكل. أوليس هذا ما أرادت أن تقوله سلمى وهي على فراش موتها؟ إن الخصي يتذكر تلك الممرضة الشابة التي هرعت إليه في اللحظة التي كان فيها ينزل المستشفى،وقالت :أيها السيد! انتظر،فأنا التي كنت قريبة من ابنتك،عندما ... أخيرا،أي قبل ذلك بلحظة،وتعلقت بيدي وتمتمت : "عفوك،يا أمير ... الطفلة ... لقد كذبت..." وكانت هذه آخر كلماتها.وارتعش زينل. وبدأ يفكر بالكآبة التي ينبغي أن تكون استولت على المرأة الشابة،عندما وجدت أنها تموت،تاركة طفلتها بلا أب .. لقد فعلت كل شيء لكي تبقي ابنتها حرة. ولكنها لم تتخيل لحظة واحدة،أنها هي نفسها يمكن أن تموت،وأن الطفلة عندئذ ستجد نفسها وحيدة.... يا أميرتي الجميلة،أيتها الصغيرة المسكينة ... هكذا كان يقول زينل،وهو يرى البنية في الجانب الآخر من الغرفة،تلعب مع دماها. ومنذ الآن فإنها في أمان،ولم تعد بحاجة إليه. وقد فعل من أجلها كل ما يجب أن يفعله،وبقدر ما استطاع،سواء أحسن أم أساء. أما الآن فإن به رغبة ملحة،هو أيضا،لكي يمضي ويستريح.وقبّل الطفلة على جبينها بنعومة كيلا يزعجها،وتركها وخرج،بخطوات بطيئة.ثم لم يره أحد بعد ذلك قط.)خاتمةوهكذا انتهي حكاية أمي.وبعد قليل من موتها،تقدم زائر إلى قنصلية سويسرا. وكان هذا،أورهان،ابن عم سلمى. وكان قد كتب على بطاقته هذه الجملة فقط : "من قبل الأميرة الميتة".وأُعلم الراجاه،بالطرق الدبلوماسية أن له ابنة. وكانت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين الهند،كمستعرة بريطانية،وفرنسا المحتلة. فلم يستطع استعادتها إلى بادلبور. ولم يلتقيا إلى بعد انتهاء الحرب. ولكن لهذا قصة أخرى.أما زينل،فإنه لم يُعثر له على أثر،تُرى هل مات من شدة الحزن،أو من شدة البؤس،أو أنه غريب بين الغرباء،سيق بين من سيقوا في عربة مرصصة،كغيرها من العربات؟أما هارفي فإنه لم ينس. غير أنه لم يتلق رسائل سلمى إلا عند موت زوجته. وكانت قد أخفتها،مدة ثلاث سنوات.وما كادت الحرب تضع أوزارها،وفرنسا تتحرر،إلا وهرع إلى باريس. وعندما علم بموت سلمى،أراد أن يهتم بالطفلة. ولكن ما كاد يبدأ عملية تحضير الأوراق الرسمية،حتى مات هو أيضا بسكتة قلبية.وفيما بعد،وبصورة مـتأخرة جدا،أردت أن أفهم أمي. فسألت ألئك الذين عرفوها،وقرأت كتب التاريخ،وصحف ذلك الزمان،والوثائق المبعثرة المتصلة بالأسرة،ووقفت طويلا في الأماكن التي عاشت فيها،وجربت أن أعيد تركيب مختلف أطر وجودها،التي انقلبت اليوم انقلابا لا سبيل إلى معرفة أصله،وأن أحيا من جديد ما كانت قد عاشته هي نفسها.وأخيرا،وحبا بالتقرب منها بدرجة أكبر،طبعا بأن أعود فأجدها كما هي،تركت لحدسيحياة أميرة عثمانية في المنفى"25" : (الأخيرة)(الآغا زينل : "زيزل" ) ويعصف البرد والجوع بسلمى،وبينما كانت ترقص بصغيرتها ..(وفجأة شعرت بألم،كأنه خنجر في البطن،يحملها على التأرجح. فتحس باختناق،,تريد أن تصرخ ... ولكن الطفلة بين يديها،ويجب ألا تدعها تقع. واستنهضت كل قواها،وحاولت أن تتعلق بالطاولة،هناك،على مقربة منها،فتمايلت،وشعرت بحرقة لا تحتمل،وكأنها تمزقها ... كما لو أن هناك موقدا،وستارة من رماد .. ولم تر شيئا ... وتشعر بأنها ستسقط،ولا تتوقف عن السقوط .. (..) ولم يكتشفها زينل إلا بصورة متأخرة،بعد أن عاد من شراء حاجاته. وها هي سلمى متمدد على الأرض،بيضاء،شديدة البياض. لكنها خلال سقوطها حمت الطفلة التي تبكي من شدة الخوف.وفي مستشفى الأوتيل – ديو ،كان الجراح يذرع مكتبه جيئة وذهابا. وكان ينظر بمرارة إلى يديه القويتين اللتين توصفان عند الناس،بأنهما أعجوبتان : أما هذه المرة،فإنهما لم تستطيعا الإنقاذ. بيد أنه منذ أن وصلت سلمى،فيما يشبه الإغماء،أمر بأخذها إلى غرفة العمليات. وكانت مصابة بالتهاب حاد في الصفاق. ففتح البطن،وقص،وربط،وخاط،خلال ساعتين،وقد استبسل في العمل،وحوله ممرضتان صامتتان.(..) غير أن الحمى عادت في الليل،وفهم أن تسمم الدم بدأ. وكان هناك شيء واحد يستطيع إنقاذها،هو هذه الأدوية الجديدة"المضادات الحيوية"التي كانوا يصنعونها في أمريكا. أما في فرنسا،فإنها لم تكن قد وجدت بعد. (..) والآن يجب أن يكلم الأب،الذي بقي لا يتحرك منذ البارحة،في الممر. (..) ولم يكن بحاجة إلى الكلام،لأن زينل كان يعرف. ولقد عرف ما جرى،في اللحظة التي كانت فيها ابنته الصغيرة،تلفظ أنفاسها الأخيرة. فشعر،في جسمه كله،بهزة،وبدت له كأنها تنزع شيئا ما منه. فترك نفسه ينزلق على الأرض،وصدم جبينه باب الغرفة.وجاءت الممرضة،فوجدته هناك،فيما يشبه الإغماء. فأجلسته وغسلت له صدغيه،حتى يعود إلى كامل وعيه. ذلك أن عليه الآن أن يعمل،ويتخذ بعض القرارات. فماذا يجب أن يفعل بالجثة؟ وهم أجانب،,ليس لديهم كهف عائلي. فأين إذن يقبرونها؟ (..) ولا يتذكر زينل ماذا جرى خلال الساعات التالية،ولا يعي شيئا آخر غير أن امرأة في ثياب بيضاء تطرح عليه بعض الأسئلة،لم يكن يفهم منها شيئا،وكان يقول فقط : إنه يريد أن تدفن في مقبرة إسلامية،بعد أن قدم لها محفظة أوراقه.ورأى بعد الظهيرة عربة موتى يشدها حصان هزيل،ثم حملها الرجال الذين رافقوها،صندوقا من الخشب الأبيض. وأشاروا إليه بأن يتبعهم.ولكن كم من الوقت مشى وراء سلمى؟ لقد كان المطر المثلج،مطر كانون الثاني / يناير/ يتسرب إلى ما تحت ثيابه،ولم يكن يشعر بذلك وكان يتذكر النزهات الطويلة التي كانا يقومان بها،كما يتذكر بسمتها المداعبة،عندما كانت تطلب منه أن يعدها بأن يكون معها حتى نهاية العالم. وأخيرا وصلوا إلى أرض ضخمة،غامضة،مقلقة بجدرانها المهلهلة،وعلى مد النظر،كانت هناك صفوف من الشواهد،تبرز من العشب : وكان هذا هو المقبرة الإسلامية،مقبرة بوبينيي Bobegny ولم يستطع زينل أن يكبت شهقة بكاء،عندما فكر بالمقابر الحلوة التي تشرف على البسفور،والتي كانت سلمى تحب النزهة فيها. ولكن إمام المقبرة عيل صبره : ذلك أن الوقت أصبح متأخرا،ويجب بسرعة أن نصلي صلاة الميت،لاسيما وأن هذا الرجل المسكين لا يملك المال الكافي لكي يدفع تكاليف احتفال أهم من هذا،بل إنه لم يكن معه ما يشتري به شاهدة قبر ينقش عليها اسم المرحومة.وليكن ما يكون،فإننا سنكتبه على قطعة من الخشب،حتى إذا ما نبت العشب،لم تختلط القبور على أصحابها،فالعائلات لا تحب هذا الخلط. وأية تعاسة!وينظر زينل إلى الحفرة السوداء التي حفرها رجلان في القسم المخصص للنساء،وإلى النعش الذي سينزلونه إلى مكانه بالحبال. ولكن لماذا حبسوا ابنته الصغيرة في هذه العلبة؟ لابد أنها ستختنق فيها،وهي التي لم تحتمل قط أن تحبس. ففي عالم الإسلام،يلف الجسد في قماش ابيض ثم يوضع هذا على التراب مباشرة. ولكن يقولون : إنه ليس لهم الحق،في فرنسا،أن يفعلوا هذا.وعندما انتهى رجال المقبرة من عملهم،كان الظلام قد حل تقريبا. أما صاحب العربة فقد هجر المكان منذ مدة طويلة وبقي زينل وحده في المقبرة،بين آلاف القبور،أو قل بقي وحده مع سلمى. وكان يفكر،وهو أمام هذا المربع من التراب المطروق،بالأوابد الرخامية الفخمة التي كانت تستمر،قرنا بعد قرن،في إستانبول،في التذكير بأمجاد السلطانات العظيمات،فيرتعد ... ومن يستطيع أن يحزر أن أميرته تنام في هذا القبر المسكين؟ بل من سيتذكر؟وتمدد على الأرض التي حفرت من جديد. مغطيا ابنته الصغيرة بجسمه،ومحاولا أن ينقل إليها شيئا من حرارته الحية،ومن حبه. إذ لم يعد لها الآن غيره. ولن يتخلى عنها. إذ لقد وعد السلطانة بذلك.- آغا!وتعدو سلمى نحوه من آخر الحديقة،وهي أحلى ما تكون في ثوبها الحريري،و خصل شعرها الأحمر تتطاير في الهواء.- آغا،خذني معك. أريد أن أرى الألعاب النارية على البوسفور! وتعلقت برقبته. وأخذت تتسلى بشد شعره.- تعال بسرعة،يا آغا،إن هذا ضروري ! إنني أريده!- ولكن من الممنوع أن تخرجي من الحديقة،أيتها الأميرة الصغيرة.- أوه،آغا،إنك لم تعد تحب سلماك. وماذا تعني كلمة ممنوع؟ آغا،هل تريد أن أكون تعيسة؟ .. ومرة أخرى،عاد فقبل. فهو لن يستطيع أن يخالف لها أمرا ... فيهبطان،يدا بيد،من خلال الممرات التي تعطرها الميموزا والياسمين،باتجاه الشاطئ الذي ينتظرهما فيه القايق الأبيض والذهبي.وقفزت،بخفتها المعهودة. وكانت السهام النارية تلهب شعرها،وحينما كان يستقر في مكانه كانت عيناها تلمعان وتهمس في أذنه قائلة :- والآن،يا آغا،نسافر نحن الاثنين معا،في رحلة طويلة جدا. واستيقظ زينل بضربة خفيفة على كتفه. فقد كان النهار على وشك أن يطلع. وكان فوقه رجل ينظر إليه بفضول.- يجب ألا تبقى هنا،لآن المرض سيصيبك من جراء ذلك!وساعده على النهوض،وعلى نفض التراب الذي يُلوث ثيابه. وقاده بيده،وهو يرتجف من البرد،إلى الغريفة التي يضعون فيها أدوات الحفر،في مدخل المقبرة. وهناك أشربه قدحا كبيرا من القهوة الساخنة. وكان يسمى "علي"وهو حارس المقبرة. وجلس بجانبه كأنما هو متضامن معه على الضراء. - وإذن فكهذا يا أخي،ماتت السيدة؟وتأتأ زينل وهو يصك أسنانه بعضها ببعض.- إنها ابنتي.- ولم تضع شاهدة باسمها،لابنتك؟ويهز زينل رأسه،وفجأة يشعر أنه ضعيف. ذلك أنه منذ ثلاثة أيام لم يأكل،منذ اللحظة التي رأى فيها سلمى .. - خذ،وكل. ثم إن العامل الذي يُصنّع الرخام صديقي،وفي وسعه أن يعطيك رخامة صغيرة،بثمن رخيص. وهكذا فقد سحب زينل بعناء،ساعته من جيب صدرته. وكان هذا كل ما بقي له من أيام العظمة في أورطاكوي. وكان قد احتفظ بها لليوم الذي لا يبقى معه شيء. أما الآن ..- ليس عندي غير هذا. أفيقبل؟- احفظ ساعتك،ستكون إليها في حاجة،فيما بعد. ولا يزعجك فأنا سأتولى شأن الشاهدة, ويجب أن يتساعد المسلمون فيما بينهم.وعلى الرغم من احتجاجات زينل،فإنه خرج. وبعد عدة لحظات،عاد وهو يحمل حجرة صغيرة بيضاء،قطعت على شكل قوس. ونقش عليها بتعليمات من الخصي،وبأحرف عرجاء ما يلي :سلمى13 – 4 – 1911 / 13 – 1 – 1941ولكن شيئا ظل يزعج زينل،فقال لصديقه : إنهم لم يدفنوها كمسلمة. إذ وضعوها في علبة بيضاء. فهل تظن أننا نستطيع؟ ..
    وأشرق وجه علي،ذلك أنه يحب على المؤمنين الحقيقيين.{هكذا} وبقفزة واحدة،مضى يبحث عن معول. ووجد في المستودع غطاء أبيض. وذهب الاثنان معا إلى القبر. ولم يحتاجا إلا إلى ربع ساعة لكي يزيحا التراب الجديد،ورفع النعش،وانتزاع المسامير.وقال علي :- حسنا،سأتركك الآن،واختفى في الوقت الذي كان فيه زينل يفتح النعش. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يراها فيها،ما أجملها في قميص نومها الطويل الأبيض،أما خصل شعرها المذهبة فكانت متدلية على كتفيها،وعليها كل سمات الفتاة الشابة. فانحنى وهو يرتعد وطبع قبلة رقيقة جدا،على خدها.وعندما نهض،كانت عيناه جافتين. وبلحظة واحدة،فارقه الهيجان. ذلك أن هذه الراقدة الباردة غريبة عنه. أما ابنته الصغيرة فإنها لم تعد هنا. لقد مضت مع ضحكاتها ونزواتها،وألوان أشواقها،وكرمها،وكل ما كان يجعل منها "سلمى". مضت وفارقت هذه الدنيا ...وبنعومة،لفّ الجسد في القماش الأبيض،واتخذ كل الاحتياطات،كيلا يجرحها. وعاد فأنزلها في الحفرة،أو قل في هذه الأرض التي كانت سلمى تحب أن تستنشق رائحتها،والتي تستقبل الآن جمالها. وترى أنها ابنتها. (..) وفجأة انقطعت أنفاسه،وجحظت عيناه من الرعب. والطفلة! ... لقد نسي. فمنذ ثلاثة أيام بقيت وحدها،دون أي إنسان يغذيها. أو يسهر عليها .. ولعلها ماتت .. ورفع صوته،متوسلا إلى الله،أن يحميها!ولم يعد يعرف كيف عاد إلى الفندق. ويبدو له أن (علي) أوقف سائق عربة من عربات الموتى. كان يعود إلى باريس،فوضعه بدلا من النعش في عربة،وبعد ذلك جرى كعجوز مجنون راجيا من الله أن يرأف بالصغيرة.وعندما دخل الغرفة،وجد الصغيرة متمددة على السرير وكأنه لم يعد فيها دم. وكانت عيناها مغلقتين،ورأسها مقلوبا إلى الخلف،والفم مفتوحا،وتنفسها عسيرا.فصرخ بدرجة من القوة حملت جارته في الدور الذي هو فيه على أن تهرع إليه. فقالت له :إن من الضروري أن لا تحرك الطفلة من مكانها،وإن عليه أن يرفع رأسها قليلا لكي تشرب بعض الماء،لكن الصغيرة ترفض كل شيء ...وعندئذ أخذها زينل بين ذراعيه. فوجد أنها باردة كالثلج. فغطاها بغطاء،وهبط السلم كالعاصفة،ومر بالمطرونة إيميلي،التي حاولت اعتراضه. - قف،قف،إنك مدين لي بأجرة أسبوعين!وبدأ يجري،ونزل في جادة الشهداء،ولا تكاد ساقاه تحملانه. ووجد على الطريق جملة عيادات طبية. ويرن الجرس،ويقرع الباب،فلا يرد أحد. كان ذلك يوم الأحد. وأخيرا ومن شدة اليأس،اتجه إلى أحد رجال الشرطة الذي دله على القنصلية السويسرية،حيث يوجد دوام كل يوم للأجانب.ومضى الخصي حتى وصل جادة غرينيل Rue Grenelle وهناك شعر أن قلبه على وشك أن يفارقه. ولكن يجب أن يقاوم. إذ ليس له الحق في أن يموت قبل أن ينقذ ابنة سلمى.ولكنه عندما دخل قنصلية سويسرا واستقبلته سكرتيرة ذات خدين مدورين،وسألته عما يريد،لم يسعه إلا أن يضع الطفلة بين ذراعيها،ويقع على الأرض،عاجزا عن أن يقول أية كلمة.ومرت بعد ظهر ذلك اليوم مدام نافيل،زوجة القنصل،لتبحث عن قائمة عناوين لتلك السوق الخيرية القريبة التي يقيمها الصليب الأحمر،وما كادت ترى الطفلة،حتى أخذت الهاتف،وطلبت طبيبها الشخصي. ثم إنها أعطت للعجوز المسلم كأسا من الفودكا. وكاد زينل يختنق منها،وأراد أن يردها،ولكنها طمأنته.- إن هذا ليس بكحول! إنه دواء.وبسرعة،شعر بتحسن،وقصّ على هذه السيدة حكايته كلها : لقد ماتت أميرته،وتركت الطفلة لحالها في الفندق ثلاثة أيام. وبعد عدة دقائق وصل الطبيب.ودمدم قائلا،وهو يرى حالة الطفلة :- من حسن الحظ أن الوقت لم يفت! وأخرج من محفظته إبرة،وحقنها بمصل. ثم فحصها بنعومة. وقال :- إنها ضعيفة جدا. وقد تأثرت الرئتان .. ويبدو أنها لم تأكل شيئا ولم تشرب،منذ عدة أيام.وسمع أنينا حمله على أن يلتفت برأسه. ونظر بإشفاق إلى الرجل العجوز وهو متهاوي على كرسيه،وقال له: - لا تقلق أيها الرجل الطيب. سننقذها إن شاء الله. ولكن لابد من عناية مشددة. وكأنما كان يتجه بكلامه إلى السيدة نافيل،ذلك أن مصلحة الإسعاف مرهقة جدا بما لديها من أيتام الحرب. وهذه الطفلة بحاجة إلى أن يكون هناك إنسان إلى جانبها دوما. وإلا فإني أخشى أن ... وقاطعته زوجة القنصل،بقولها :- سآخذها إلى بيتي،يا دكتور،طول المدة اللازمة. فلقد هبطت عليّ هذه البنيّة من السماء. ولا أستطيع تركها تموت.وخلا عدة أسابيع كان زينل يأتي كل يوم لزيارة الطفلة. وسرعان ما عادت الطفلة إلى السلامة،بفضل الغذاء الصحي المتوفر في قنصلية سويسرا. هذه الجزيرة من البحبوحة والخيرات،في وسط باريس المحتلة. وهاهي الآن بنيّة بضّة الجينات{هكذا} والخدود،تستقبل بفرح هذا الخصي وتسميه"زيزل".ولقد قصّ كل شيء على زوجة القنصل،غاضا النظر بطبيعة الحال عن مرحلة الرجل الأمريكي،والرسالة التي أرسلت للراجاه. وهو يرجو أن لا يكون الراجاه قد تلقاها،لأنه لم يجب قط. فإذا انتهت الحرب،فإنه يستطيع استعادة طفلته. وهذا هو الحل الوحيد،مادامت سلمى قد غادرت إلى دار الآخرة. وستكبر الأميرة الصغيرة في الزينانا،وتتزوج،وستكون حياتها مريحة وبلا مشاكل. أوليس هذا ما أرادت أن تقوله سلمى وهي على فراش موتها؟ إن الخصي يتذكر تلك الممرضة الشابة التي هرعت إليه في اللحظة التي كان فيها ينزل المستشفى،وقالت :أيها السيد! انتظر،فأنا التي كنت قريبة من ابنتك،عندما ... أخيرا،أي قبل ذلك بلحظة،وتعلقت بيدي وتمتمت : "عفوك،يا أمير ... الطفلة ... لقد كذبت..." وكانت هذه آخر كلماتها.وارتعش زينل. وبدأ يفكر بالكآبة التي ينبغي أن تكون استولت على المرأة الشابة،عندما وجدت أنها تموت،تاركة طفلتها بلا أب .. لقد فعلت كل شيء لكي تبقي ابنتها حرة. ولكنها لم تتخيل لحظة واحدة،أنها هي نفسها يمكن أن تموت،وأن الطفلة عندئذ ستجد نفسها وحيدة.... يا أميرتي الجميلة،أيتها الصغيرة المسكينة ... هكذا كان يقول زينل،وهو يرى البنية في الجانب الآخر من الغرفة،تلعب مع دماها. ومنذ الآن فإنها في أمان،ولم تعد بحاجة إليه. وقد فعل من أجلها كل ما يجب أن يفعله،وبقدر ما استطاع،سواء أحسن أم أساء. أما الآن فإن به رغبة ملحة،هو أيضا،لكي يمضي ويستريح.وقبّل الطفلة على جبينها بنعومة كيلا يزعجها،وتركها وخرج،بخطوات بطيئة.ثم لم يره أحد بعد ذلك قط.)خاتمةوهكذا انتهي حكاية أمي.وبعد قليل من موتها،تقدم زائر إلى قنصلية سويسرا. وكان هذا،أورهان،ابن عم سلمى. وكان قد كتب على بطاقته هذه الجملة فقط : "من قبل الأميرة الميتة".وأُعلم الراجاه،بالطرق الدبلوماسية أن له ابنة. وكانت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين الهند،كمستعرة بريطانية،وفرنسا المحتلة. فلم يستطع استعادتها إلى بادلبور. ولم يلتقيا إلى بعد انتهاء الحرب. ولكن لهذا قصة أخرى.أما زينل،فإنه لم يُعثر له على أثر،تُرى هل مات من شدة الحزن،أو من شدة البؤس،أو أنه غريب بين الغرباء،سيق بين من سيقوا في عربة مرصصة،كغيرها من العربات؟أما هارفي فإنه لم ينس. غير أنه لم يتلق رسائل سلمى إلا عند موت زوجته. وكانت قد أخفتها،مدة ثلاث سنوات.وما كادت الحرب تضع أوزارها،وفرنسا تتحرر،إلا وهرع إلى باريس. وعندما علم بموت سلمى،أراد أن يهتم بالطفلة. ولكن ما كاد يبدأ عملية تحضير الأوراق الرسمية،حتى مات هو أيضا بسكتة قلبية.وفيما بعد،وبصورة مـتأخرة جدا،أردت أن أفهم أمي. فسألت ألئك الذين عرفوها،وقرأت كتب التاريخ،وصحف ذلك الزمان،والوثائق المبعثرة المتصلة بالأسرة،ووقفت طويلا في الأماكن التي عاشت فيها،وجربت أن أعيد تركيب مختلف أطر وجودها،التي انقلبت اليوم انقلابا لا سبيل إلى معرفة أصله،وأن أحيا من جديد ما كانت قد عاشته هي نفسها.وأخيرا،وحبا بالتقرب منها بدرجة أكبر،طبعا بأن أعود فأجدها كما هي،تركت لحدسي وخيالي أن يرمما الثغرات التي لم تعن الوثائق على ملئها.){ص 746 - 758 .} كل سياحة ... في – أو مع – سيدي الكتاب وأنتم بخير. تلويحة الوداع :دعاني الهوى من أهل ودي .... بذي الطابسين فالتفت ورائياأجبت الهوى لما دعاني ... بزفرة تقنعت منها أن ألام ردائياس/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب)) وخيالي أن يرمما الثغرات التي لم تعن الوثائق على ملئها.){ص 746 - 758 .} كل سياحة ... في – أو مع – سيدي الكتاب وأنتم بخير. تلويحة الوداع :دعاني الهوى من أهل ودي .... بذي الطابسين فالتفت ورائياأجبت الهوى لما دعاني ... بزفرة تقنعت منها أن ألام ردائياس/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123

المواضيع المتشابهه

  1. ومضة بل مشهد من كتاب "حياة أميرة عثمانية ..."
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-26-2016, 11:32 AM
  2. حياة أميرة عثمانية في المنفى
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 05-22-2015, 11:50 AM
  3. المنفى – ريتشارد نورث باترسون
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-01-2013, 09:35 AM
  4. مشاهدات عائد من المنفى إلى منفاه
    بواسطة عماد على قطرى في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 01-09-2010, 08:17 PM
  5. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02-15-2008, 03:36 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •