منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123
النتائج 21 إلى 26 من 26
  1. #21
    (31)

    لم يبقَ على علوان إلا أن يعلن عن نظريةٍ ظن أنه هو أول من اكتشفها، نظرية تتعلق بالغربة والألفة، فمدة مكوثه في بلده كانت وكأنها فترة لكسر رقم قياسي في البقاء في مكان لا يرتاح فيه، كالغوص تحت الماء، أو التهام كمية من طعام رديء المذاق، أو مجالسة سفهاء، أو المراهنة على عد أكبر كمية من رمال الصحراء..

    كان تواقاً للعودة الى المدينة التي فيها جامعته، وقد قرر في سره أن لن يغادرها بعد تلك المرة، فالمجالسة فيها أكثر متعة والوقت فيها لا يتشابه مع سابقه، فالنمو فيها أكثر اتزاناً وأكثر فائدة...

    أما الهواء الذي يتنفسه، فكان عنده ليس تلك الغازات المنتشرة في الفضاء وليس نقائها وجودتها بزيادة نسبة الأكسجين بها، بل كان عنده مختلفاً باختلاف من يخالطهم، فهذا ابن تونس وينتهي اسمه ب (اللومي) وهذا ابن اليمن الجنوبي و ينتهي اسمه ب (با مدهاف) وهذا ابن البحرين وينتهي اسمه ب (الزياني) وهذا ابن سوريا وينتهي ب (الدقاق)، وهذا ابن العراق وينتهي ب (الجبوري) وأسماء كثيرة من كل بلدٍ ومدينة، كانت رئتاه تتمدد الى لا حد، لتستوعب كل ما يصادفها..

    هناك فرقٌ أن يعيش الشخص بوسطٍ مكون من عشرة آلاف نسمة، قد يكونوا أبناء جِدٍ واحد أو أبناء خمسة جدود، تناقلوا خبراتهم وثقافاتهم فيما بينهم، فأصبح الأمر محكوما عليه بمساره، وبين عشرة آلاف أتوا من عشرة آلاف جدٍ جاوروا أجداداً غيرهم، فكما أن كل أمة تجر وراءها آلاف السنين المليئة بالخبرات والمعارف غير المدونة في كتب، فهؤلاء الخلطاء الجدد يعتبروا منجماً لتعزيز الثقافة المطلوبة لتكوين الشخصية التي كان يتوق لها علوان.

    وحتى لا يكون مملاً وغير مقبولاً عند مقابلة أمثال هؤلاء، كان يجدد في مطالعاته وقراءاته ليحملها (زوَّادة) للتفاعل مع هؤلاء، وهذا سيكون رافداً عظيما آخر لحقن ذاته.

    (32)

    لاحظ مسئولوه همته وحبه لأدائه في مهامه التنظيمية، فأوصوا بإدخاله دورة للقيادات الوسطى، فبعد أن كان يمارس مسئولية تسع حلقات في الأسبوع الواحد، أضيفت عليه مهمة جديدة وهي الخضوع لدورة مكثفة، حاضر فيها أساتذة جامعات ممن آمنوا بفكر الحزب، ومفكرون كِبار، وتناولت مواضيعها شؤونا مختلفة بين السلوك اليومي والانضباط والاحتراف وكتلة عدم الانحياز والاشتراكية والنهوض وحيوية الفكر الخ.

    وفي مساء ذات يوم، جاءه أحدهم يحمل حقيبة مملوءة بأشياء، وأخبره بأن عليه حمل تلك الحقيبة الى خارج الحدود، ودونما أن يعبر بتأشيرة جواز سفر، وأعطاه كلمة سر، سيقابله أحدهم خارج الحدود، ليستلم الحقيبة منه، وحذره من عدم محاولة فتح الحقيبة، وأن الانطلاق سيكون من موقف السيارات في الساعة كذا ...

    ذهب في اليوم المحدد، والساعة المحددة الى موقف السيارات حاملاً الحقيبة معه، وما أن حَكَم الوقت، حتى أقبل من أعطاه الحقيبة مبتسماً، وقال له: هاتِ الحقيبة، لقد أُلغيت المهمة، تهانينا: لقد نجحت في الاختبار!

    لكنه غافل صاحبه ولاذ، ثم استقل سيارة الى منطقة الحدود وعبر الحدود دون تأشيرة، ودون الحقيبة، وبات ليلة رأس السنة في المدينة الحدودية ثم عاد في اليوم التالي، وعندما فاتحه المسئول بذلك، أجاب: كنت بحاجة الى ذلك الاختبار من تلقاء ذاتي..


    (33)

    تم تبليغ علوان بموعد ومكان حفل ترديد قَسم المرحلة الجديدة ، وذلك بعد أن أكمل خمس سنوات في مراحل ما قبل ذلك، وتم تبليغه بأنه سيحضر الحفل مسئول حزبي كبير.

    كان هناك نقاطٌ للتفتيش، مُقامة على كل تقاطع من شوارع فرعية خلت من الباعة والأطفال وحتى الناس، وحُرَّاس يلبسون ملابس تختلف عن ملابس الجيش والشرطة، ومعهم أجهزة اتصالات كالتي مع عمال تفجير الصخور في الجبال. لم يفتشوا أحداً، ولكن يبدو أنهم تعرفوا على المدعوين قبل وصولهم لنقاط التفتيش.

    عند مدخل البهو كان هناك شبان سمر يقفون على جهتي المدخل الواسع، يلبسون بدلات رمادية، ويشبكون أزرار ستراتها الوسطى، ويقفون بوقفة استعداد فارجي سيقانهم قليلاً، كانوا يبدون كأنهم فريق كرة قدم أستدعي لتكريمه.

    سار بجانب علوان شابٌ من طاقم الاحتفال مبتسماً ابتسامة رسمية، وأعلمه مكان جلوسه، جلس بجانب شابٍ آخر لا يعرف اسمه ولا من أي منطقة جاء.

    تأمل المكان الهادئ، فالمنصة لا زالت خالية من رعاة الاحتفال، والكل في حالة سكون وترقب. أشغل نفسه بتخمين ارتفاع البهو، عشرة أمتار، أكثر قليلاً، ثم بعرضه وطوله، وقراءة الشعارات المكتوبة (فلسطين طريق الوحدة.. والوحدة طريق فلسطين)، (نفط العرب للعرب)، (لا حرية بلا تحرر)، (الشهداء أكرم منا جميعاً)، (الزراعة بديل النفط)..

    دخل رعاة الحفل القاعة، فنهض الجميع، وكان نهوضهم كقرقعة سلاحٍ تهيأ للرماية، كان الجو مهيباً، وكان الحضور يجلسون برضا واستعداد وكأنهم نُذروا لتخليص الأمة من ويلاتها...

    لم يشاهد الكثيرين ممن حضروا الدورة المكثفة، هل لأنهم خافوا أن يعبروا الحدود، أم أن مهامهم كانت مختلفة؟ ومن يدري هل أفشى بعض المسئولين سر الاختبار بأنه وهمي لبعض من جرى عليهم الاختبار؟

    حلَّ عليه شعورٌ غريب وهو يستمع لكلمات (كرنفالية)، هل هيبة الجالسين على المنصة قد استمدت من الحراس والشوارع الملتوية، وغرابة المكان؟ أم أنها استمدت من خضوع هؤلاء الأتباع ومظاهر استعدادهم للولاء والدفاع عن المبادئ؟ ماذا لو كان مثل هذا الاجتماع لم ترعاه دولة قائمة؟ ماذا لو كان الدخول للبهو قد جاء بدون حرَّاس وبدون اختبارات وهمية؟ هل ستبقى درجة ولاء هؤلاء الجالسين كما هي؟

  2. #22
    (34)

    طلب علوان من سائق (تكسي ) أن يوصله الى أطراف الغابة، سأله السائق: الى أين بالضبط؟ لم يجبه، ظن السائق أن صاحبه سيتجه لاحتساء الخمر في كازينو قريب من الغابة، لكن هيئته ووقت العصر لا يرجحان ذلك الاحتمال، لم يتكلم معه كثيراً، رغم أنه أعدَّ سلسلة من الأسئلة، كانت تغور في بلعومه قبل أن تتحول لكلامٍ منطوق، كما أنه قد تجاوز مكان الكازينو، دون أن يبطئ من سرعته، بعد عدة كيلومترات... طلب منه التوقف، وناوله أجرته...

    لم يكن باستطاعة أي فريقٍ من المختصين أن يتعرفوا على مسحة الوجوم والحيرة التي وسمت وجه علوان، وهو يرمي بقطع من الحصى في مياه النهر الجاري تحت الصخرة التي جلس فوقها... كان الطقس أكثر ميلاً للبرودة قبل حلول الربيع بقليل..

    جلس فوق صخرة تعتلي النهر قليلاً وأخذ يراقب الموجات المتتابعة التي كانت تشتت أثر الدوائر الناتجة من سقوط الحصى التي يرميها، وأشعة الشمس تلعق بسطح الماء فتزيل النتوءات البسيطة المتلاحقة من الماء والحصى.. هل تعطش أشعة الشمس لتلعق وجه (روجات) النهر؟ هل تخزنها في معدة السماء لتعود بنثرها كأمطار في موسم آخر؟ هل تنزل نفس القطرات في نفس المكان، هل تتعرف تلك القطرات على ما كان يحاذيها من قطرات أخرى؟ هل للماء مجتمع كمجتمعاتنا يحن الأفراد فيه الى بعض، ويتخاصمون كما يتخاصم أفراد مجتمعاتنا؟ هل تتكلم قطرات الماء أو حتى النهر؟ أصاخ سمعه.. نعم إنها تتكلم! فالهسيس الذي تحدثه ثم تكسره أصواتٌ أعلى بين حين وآخر لا بُد أن يكون كلاماً أو غناءً، ولماذا لا تتكلم وهي أم لكل أشكال الحياة؟

    كانت ذكريات عشر سنوات تتشابك مع تأملاته في الماء، فكان خلالها أحداثٌ كثيرة، استقلال كثير من دول الخليج، تأميم النفط العراقي، اغتيال ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، (كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار) وانقلاب على (سلفادور الليندي) في تشيلي، وحرب تشرين، وزواجه من فتحية ابنة عمه قدري، وولادة ابنته وابنه، واتفاقية كامب ديفيد، وبدايات الحرب العراقية الإيرانية...

    كانت نصف المدة التي قضاها في حالة صعود، ليس عنده بل عند كل من كان يعرفهم، فقد كان الجميع يشعر أنه قد اقترب من تحقيق أهدافه، كثيرٌ ممن كان يعرفهم تطوع الى ساحات القتال في لبنان وفلسطين، وبعضهم استشهد هناك أو في زنازين دولهم... لم تكن تنقصهم الروح الوثَّابة، كانوا سعداء فيما يقومون به. أما نصف المدة الأخرى، فكانت تنبئ بأشياء لم يرتح لها كثيراً، بل كان يتمنى العمل على تصويبها، وإن كانت لم تؤثر على قناعاته، لكنها كانت تخيفه في بعض الأحيان...

    عاد معظم الطلبة العرب الى بلدانهم بعد تخرجهم، وكان كلما يبتعد أحدهم يقل رصيده من مخزون الذكريات، ويتساءل هل ممكن له أن يتواصل معهم؟ أم أن احتمالية ذلك لا تزيد على احتمالية التقاء قطرات مياه النهر في دورتها الأزلية؟ وآن له أن يعود...

    (35)

    تناقل أبناء البلدة خبر اعتقال علوان...
    وأخذوا يتساءلون: كيف عاد؟ ولماذا عاد؟ وأين ذهبت زوجته؟ ألم يقل أهله أنه تزوج من ابنة عمه قدري (فتحية)، متى كان ذلك؟ لم نحضر الزفاف، ألم يقل أهله أنه رُزق ببنت وولد؟ أين ذهبا؟

    وتأتي اجتهادات البعض بالإجابة.. إنه وقبل أن يسافر المرة الأخيرة قبل ست سنوات، أتاه عمه قدري، وأخبره أن هناك من تقدم لخطبة فتحية، فبادر وقال له أنا سأتزوجها يا عم.. فعقد قرانه عليها، وبعد أن عُلم أنه مطلوب للمخابرات، تم إرسال فتحية إليه مع والدته، بعد أن أقاموا له عرساً دون أن يحضره.. ويضيف البعض أنه سمع أنه قد ذهب بها الى بريطانيا لعلاجها، عندما اكتشفوا أنها تعاني من مرضٍ خطير، وقد صرفت لهما الدولة التي كان يقيم بها جوازان للسفر، وذهبت والدته لإحضار الطفلين قبل سفره لبريطانيا...

    وكعادة أهل الأرياف، كان كل واحد يهتم بمعرفة التفاصيل الدقيقة، وإن لم تكن تلك التفاصيل مهمة وتجعل من يستمع إليها مشدوداً، فإن من يروي يتطوع لإضافة ما يجعل قصته مهمة وأن لديه سبقاً صحفياً يمتاز به على غيره... كانوا يقومون بذلك حتى عند روايات الموت، حيث يصبح الميت أشهر من روَّاد الفضاء، ولكن لمدة يومين أو ثلاثة، ثم يُركن في زوايا النسيان...

    (36)

    دائرة المخابرات تأخذ شكلاً من أشكال قوتها مما يُحاك حولها من قصص، ربما تخترعها هي، فالرعب يملأ نفوس من يودعوا فيها أو يُطلبوا لها طائعين أو مكرهين، يبقى كذلك، حتى يؤول مصيرهم داخلها، فإما أن ينهاروا منذ اللحظة الأولى، وإما أن يتكيفوا كتكيف امرأة ريفية وشمت وجهها..

    كانت الممرات المؤدية إليها قد صممها مهندسون خصوصيون لتكون كاختبارات متصاعدة في صعوبتها، لتزلزل تماسك من يدخلها، وكان في داخل تلك المحطات المرحلية الصغيرة مَن يرصد ردة فعل المطلوب الجديد، لتعين المُحققين على اختيار منفذ لسبر أغوار (زبونهم) الجديد..

    بعد أن اقتيد علوان وُضع في قاعة انتظار أو اختبار أولي، يزيد عرضها عن عشرة أمتار، أما طولها فكان خمسة أمتار!. جلس مع المطلوبين المنتظرين على مقاعد خشبية أمام (كاونتر) طويل يتكون من مستويين من السطوح، السطح المنخفض يضع عليه الموظفون المستقبلون أوراقاً لا يراها من يجلس أمامهم، وسطح مرتفع لا يسمح للمنتظرين برؤية أشكال الموظفين الذين أمامهم، فإن أخفض الموظف بصره، فإن المنتظرين يرون قمة رأسه من الخلف، وإن رفع بصره، فإنهم سيرون عينين تلمعان، ومنتصف الأنف من الأعلى...

    كان الجلوس في قاعة الانتظار هو لمعرفة تماسك الزبون في ظاهرة التَبَوُّل وشرود الذهن، فإن نقل ساقيه شمالاً ويميناً، فإن رغبته بالتبول تفضح تماسكه، وإن طلب الذهاب الى الحمام، فهو إشارة على أنه سيوقع على أي وثيقة يريدها المحقق منه...

    كان موظفو الاستقبال يحترفون قنص مثل تلك الإشارات، وأحياناً يكتفون بها دون جولات التحقيق، فالمطلوب الذي يبقونه من الصباح الى الثانية ظهراً، يأمرونه بالانصراف والعودة في اليوم التالي، ويتركونه لتفاعلاته الداخلية، عدة أيام متكررة، حتى يطالبهم (هو) بالتطوع للعمل معهم أو الاعتراف بأي تهمة حتى لو كان يعلم براءته منها...

    كان علوان، يعلم تلك التصرفات من خلال التدرب عليها، ليس هو فقط بل كل من كان بمستواه حزبياً، ويتعاملون معها بشكل طبيعي... وقد اكتشف موظفو الاستقبال تلك الحالة، عندما دخل مطلوبٌ آخر من رفاقه، لم يره منذ مدة طويلة، فقام وصافحه وعانقه، وسأل أحدهما الآخر عن أحواله. تدخل أحد الموظفين ناهراً لهما وطالبهما بالصمت، فبادر رفيقه بالرد على الموظف: وهل نحن بقاعة امتحانات حتى نصمت؟ هنا، أمر الموظف بتحويلهما الى الداخل، حتى لا يخدشا هيبة المكان...

  3. #23
    (37)

    أمره أن يُخرج يديه من جيبي معطفه، بصوتٍ مليء بالشوائب، لم يكن بعيداً منه أكثر من خطوة واحدة من الخلف. سار أمام من ينهره في ممرٍ مُضاء كهربائياً،لا نوافذ ولا أبواب تُفضي إليه، وبانحدارٍ مسحور لم يلحظ أنه انحداراً، حتى وصل الى غرفة تبدو وكأنها مخزناً للأمانات، يجلس عند بابها ثلاثة أفراد، خصص واحدٌ منهم لتلك المهمة.

    طلب منه الموظف المختص، تسليم ملابسه، وحزامه والنقود التي في جيوبه، وعلبة لفائف التبغ والمقدحة، وساعة اليد، والتوقيع على تسليمها، وارتدى الملابس التي تعطى للنزلاء الجدد، واقتاده من أحضره الى زنزانة طولها أكثر من ثلاثة أمتار بقليل وعرضها يكاد أن يصل الى مترين، ولها بابٌ صُنع من القضبان الحديدية الثخينة، احتل واجهتها الأمامية بشكل كامل، فيها سريران ثُبِّت أحدهما فوق الآخر. فتح قفلها حارس يرتدي ملابس عسكرية، وأشار إليه أن يدخل..

    كان كل سرير مُغطى ببطانية من القطن القاتم، وتتقدم طرفه مخدة، وطُويت بطانية أخرى من نفس النوع لتُشعر النزيل أنها للغطاء إذا ما أراد النوم.

    تمر لحظات التكيف ببطءٍ شديد، بينما تتزاحم الأفكار والصور والذكريات بسرعة البرق، فتتداخل لتشكل صوراً كأنها رسمت بألوان متضادة، على صفائح من مادة بلاستيكية شفافة، وعندما توضع فوق بعض لا يكاد يميز أي صورة منها، وإن أزاح صفيحة الى جنب لن تقل ضبابية الصور المعكرة ولكنها ستزداد تشويشاً..

    انتبه في لحظة استراحة من التشويش، فلمح نسختين من القرآن الكريم وضعتا في زاوية الزنزانة... تناول واحدة، وفتح الكتاب لا على التعيين، وبقي كذلك دون أن يقرأ كلمة واحدة، كان الهدوء والصمت مبالغ فيهما، ولو أراد التنصت على صوت جريان الدم في عروقه، لسمعه بكل وضوح...

    كسرت حاجز الصمت أصواتٌ لولولات ورجاء تصدر من مكانٍ لم يعرف بعده عنه، يتخللها وقع أصوات عصي على جسم المولول.

    جاء الحارس مع المرافق المخصص لاقتياد النزلاء ومعهما نزيل آخر، أدخلاه الى نفس الزنزانة، كان شاباً منعماً حسن الوجه مبتسماً، عرف بنفسه مهندس إلكترونيات (هُمام) خِريج كندا. لكنه شارك علوان الهواجس، فعندما رأى كلٌ منهما الآخر ظن به ظناً غريباً، فقد يكون أحدهما متعاوناً مع المخابرات جيء به ليساعد في سبر أغوار الآخر.

    (38)

    طرق الجندي باب غرفة التحقيق، وأدى التحية وانصرف..
    لم يطرح علوان التحية على محقق ضئيل الحجم، قَلَّم شاربه وتدرب على نفخ شفته العُليا، وكأنه يتقمص شخصية نَذَر نفسه لخدمتها. وكان بجانبه مساعدٌ بدا وكأنه في أول محاولة من محاولات القيام بمثل تلك المهمة، كان المحقق يتعامل معه كطقم أسنان ركبه صاحبه لأول مرة، فلم يكن متيقناً من أن هذا الطقم سيقضم الطعام ويقطعه كما في حالة الأسنان الطبيعية...

    لم يرتح علوان للمُحقق كما لم يرتح المحقق له، فقد دبَّت الكراهية فيما بينهما منذ اللحظة الأولى... كان في الغرفة منضدة يتوسطها كرسي يجلس عليه المحقق وكرسي بجانبه اليمين يجلس عليه المساعد (طقم الأسنان)، وكرسي يبعد عنهما بالمقابل بحوالي خطوتين..

    أشار المحقق لعلوان أن يجلس على الكرسي، فجلس، فبادر بنهره بصوت عالٍ: اقعد (مليح)..

    نهض علوان عن الكرسي وقال: أرني كيف أجلس حتى لا تصبح تلك قضية تشغل نفسك بها...

    تدخل المساعد: هل ترى سيدي مدى وقاحته؟
    رمقه علوان بنظرة استمرت للحظات قال فيها الكثير دون أن يتكلم..
    المحقق: وجهك مبين وجه واحد يبحث عن (الرزالة)..
    علوان: ليس بيني وبينك قضية شخصية، لا على طلاق أخت، ولا على إفراز أرض، وأنا أبعد عنك خطوتين وسمعي جيد، فلا تراهن على تعميم أساليبك على الجميع، قم بمسئوليتك بمنتهى المهنية سأتعامل معك بما هو داخل نطاق القانون.
    المحقق: يشتم قيادات الحزب فرداً فردا، ويهدد! في مكانك هذا جلس فلان، هل تعرفه؟ وفلان وعدد مجموعة أسماء...
    ابتسم علوان دون أن يعلق..
    ـ لماذا تبتسم؟
    ـ أبتسم لأنني غبت عن هذه البلاد أكثر من عشر سنين، دون أن أشتم أحداً..
    ـ طبعاً، لأنه بلدك، وقيادته، قيادتك
    ـ القضية مختلفة!
    غير المحقق لهجته: ماذا عملت لكم الدولة آل (علوان): أليس سليمان بك قرابتك؟ و أليس فلان وفلان من أقاربك؟
    ـ وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟
    ـ شكلك تعبان والسهر مؤثر عليك، (انقلع) لزنزانتك وسنكمل فيما بعد..

    (39)

    سأله همام: كيف كانت جلسة التحقيق؟
    ـ عادية.. في بلدٍ مثل بلدنا، ورغم أن الجندي يتلذذ في اقتياد المثقفين، والمحقق يتلذذ في التأسد عليهم، حتى الحلاق والحارس، أراه يتمتع وهو يجبر النزلاء على تنظيف قضبان بوابة الزنزانة بالديزل، ومسح الممرات، فإن في داخل كل واحدٍ منهم رجل مهزوم مسكون في مخاوف لا أعلمها... أنظر: أنا وأنت وكل نزيل له اسم ثلاثي وربما رباعي، واسم والدته وزوجته وأمه... أما هؤلاء، فإنهم ينادونهم (حجي) ( بيك) الخ... ربما يخافون من أن أهل النزيل سيبعثون له بأزعر للاقتصاص منه...

    همام: لا أظن ذلك، بالتأكيد، فأنا هنا منذ ثلاثة أشهر، هم يخشون من الصليب الأحمر، فزيارات أفراده تتم كل شهرٍ مرة، قبل أن تأتي أنت بيوم تمت زيارة الصليب الأحمر، ولكنهم لا يعرضون كل النزلاء على المفتشين، فمن أرادوا أن يفرجوا عنه يتركون له فرصة لمقابلة المفتشين، وكما هو معروف التوقيف دون محاكمة مسموح به دولياً شهراً واحداً، وبعده عليهم إما الإفراج عنه وإما تحويله للمحكمة...

    علوان: ألم ترَ مفتشي الصليب الأحمر؟
    همام: كلا، فهناك طابق تحت هذا الطابق، يُرحل إليه الذين لا تريد المخابرات عرضهم على الصليب الأحمر، وأنا منهم.

    كان علوان أقرب للقبول بتصديق ما قاله شريكه في الزنزانة..

  4. #24
    (40)

    مَثُل علوان أمام المحقق الأول، ولكن لم يكن مُساعده (طقم الأسنان) موجوداً، بل كان هناك شخص ضخم حليق الشوارب، وجهه يبعث على عدم النفور..


    المحقق الأول: نحن يا علوان، لا نضغط على أحد، ولا نجبره على قول ما لا يريد، ويبدو أنك لم ترتح خلال أسبوع لأسلوبي، فسيكون معك أحد أفضل شبابنا ونتمنى أن تكون متعاوناً، حتى تغادر الى أهلك... ثم نهض المحقق الأول مغادراً..

    المحقق الثاني بصوتٍ ودود منخفض رغم ضخامة صاحبه: أهلاً وسهلاً.. كما أنك يا علوان تعمل مهندساً، فأنا أعمل ضابطاً في المخابرات، ليس بيني وبينك قضية شخصية، فأرجو أن تكون متعاوناً، هل تدخن؟
    ـ نعم..
    ـ ناوله سيجارة، وسأله عن كيفية قهوته، فأجاب..
    ـ هناك من يأخذ زينته وهيبته من كرسيه، وهناك من يعطي كرسيه الزينة والهيبة، فحضرتكم تعطي للكرسي هيبة مهنية، في حين صاحبكم كان يلتمس تلك الهيبة من كرسيه..
    ـ دعنا من موضوع الكراسي، نحن نعلم أن عملك الحزبي كان مع منظمات عربية، لا تهمنا الأسماء فيها، لأننا لو سألناك عن تلك الأسماء لغيرت وبدلت فيها، وعندها يصعب علينا متابعة تدقيق مثل تلك الأسماء، ولكن ماذا عن رئاسة اتحاد الطلبة لسنتين، وماذا عن إخراجك مسرحية (من هو العبد؟)..
    ـ كل ما وردكم صحيح..
    ـ ماذا عن استنكارك للانتساب للحزب؟
    ـ لن أستنكر، وإذا خرجت من هنا، وتم الاتصال بي، لَلَبَيْتُّ النداء..
    ـ هذا سيعرضك، لاعتقال آخر، فأنت تعلم أن حزبكم ممنوع في البلاد..
    ـ امسك (الجمل) وخذ (باجه)
    طلب المحقق الثاني من المرافق أن يودعه زنزانته..

    (41)

    لم تكن الثقة قد حلت بين هُمام وعلوان، فكانا يمضيان وقتهما بهمسٍ عندما يجلسان على أرض الزنزانة، فوق أحد البطانيات، يلعبان لعبة الأحرف كل يوم: أسماء دول تبدأ بحرف الكاف، أسماء عواصم تبدأ بحرف الباء، أسماء رؤساء جمهورية لبنان منذ تأسيسها، أسماء أنهر، أنواع ساعات، الخ. كان صوت كل منهما بالكاد يصل الى أذني جليسه، ولكنهما كان يستعملان أصابعهما في عد المطلوب بالسؤال..

    كان أحد الحراس يتلصص عليهما، علَّه يستمع لشيء مفيد يرقي رتبته، فأحياناً يلمحا طرف رأسه على ارتفاع شبر من جانب بوابة الزنزانة، وأحياناً في منتصف ارتفاعها، فتزيد متعتهما بذلك..

    الحارس: ماذا تعد أنت وهو؟
    ـ لا شأن لك بذلك، وهل يمنع استعمال الأصابع في الحديث..
    كان يغضب، فيخرجهما لمسح أرضية الحمامات، أو الممرات بين الزنزانات، أو غسل أواني المساجين، كانا يتمتعان في تلك العقوبة لتحريك أرجلهما، فالمسافة بين السريرين والحائط المقابل لا تكفي لتنشيط الدورة الدموية..

    لم يكن بإمكانهما معرفة الوقت على وجه التعيين، إلا إذا صاح أحد الحراس أن وقت الصلاة قد دخل، فلا الشمس تصل الى الطابق السفلي، ولا ساعة مع النزيل لمعرفة الوقت، حتى الأيام كانا يعرفانها بواسطة برنامج العشاء (كوسى مع بيض: الأربعاء. زيت وزعتر: الثلاثاء، حمص بطحينة الخميس وهكذا). أما الأشهر، فكانت تُعرف من خلال زيارة (الصليب الأحمر أو حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة)...

    (42)

    في الصباح الباكر، أخرج الحُرَّاس همام، فظن علوان أن وفد حقوق الإنسان قد يأتي اليوم...

    تم تنظيف الممرات، وقضبان الزنزانات، وبدا الحراس الخمسة الذين يحرسون الزنزانات بكامل لياقتهم، ذقون محلوقة وناعمة، ملابس مكوية جداً...

    ـ اسمك..
    ـ كذا..
    ـ أين تسكن؟
    ـ في طلعة السوق، بجانب محطة المحروقات، قرب فرن أبو شمسية..
    ـ صحتك؟
    ـ أعاني من تلبك في المعدة، وقد طلبت إحالتي على طبيب، ولم يتم ذلك..
    ـ كيف نوع الأكل الذي يقدمونه لك؟
    ـ لماذا أنت موقوف؟
    ـ لا أعلم، فلم توجه لي تهمة حتى اليوم!
    ـ رقم تلفونك؟
    ـ كذا..
    تساءل علوان: لماذا تلك الأسئلة التي وصلت الى مسامعه من زنزانة قريبة؟ وهل هم فعلاً حريصون على حقوق الإنسان؟ أم أنهم يتصيدون عملاء وجواسيس بحجة حقوق الإنسان..

    وصل السائل الى علوان، فكان رجلاً أشقرا له شوارب شقراء طرفاها مدببان ومعقوفان الى الأعلى، كانت هيئته كهيئة جنرالٍ إنجليزي من الحرب العالمية الأولى حضر حفلاً بملابسه المدنية، ومعه مترجم عربي بشرته مائلة الى السواد.

    ـ اسمك؟
    ـ علوان..
    ـ كيف صحتك؟
    ـ الحمد لله، لا أشكو من أي شيء..
    ـ كيف الطعام الذي يُقدم لك؟
    ـ تعجز زوجتي أن تصنع مثله، فهو طعام متكامل وصحي..
    ـ لماذا أنت موقوف؟
    ـ هذه قضية بيني وبين حكومة بلادنا، لن أجاوب!
    رمقه الأشقر بنظرة غريبة ثم انصرف الى الزنزانة التي بعد زنزانته..
    أخرج علوان لفافة تبغ، وتقدم الى شبك البوابة، وهي طريقة لإشعال سجائر المدخنين من النزلاء، كونه لا يسمح لهم بالاحتفاظ بالمقادح، فتفاجأ بصوت مدير المعتقل الذي كان يسير خلف المفتشين بخطوات لا يراها النزلاء الذين توجه لهم الأسئلة، يأمر الحارس: ولع سيجارة الأستاذ..
    ـ مرحبا أستاذ!

    بعد ساعة تقريباً، أو بعد أن تيقن مدير المعتقل، أن اللجنة قد غادرت، أمر الحراس أن يخرجوا النزيل الذي أعطى التفاصيل..
    ـ أخرجوا بارد الوجه... امسحوا فيه الأرض... فرموه أرضاً، وهو من فوقه، مريض؟ الأكل لا يعجبك؟ وأخذوا يسحلوه من مكان لمكان، وهو يولول ويترجى..

  5. #25
    (43)

    تسعٌ وخمسون يوماً مضت، وهو لم يرَ ضوء الشمس، كانت اللقاءات مع المحققين خلالها قليلة جداً، أربعة لقاءات فقط، لم تكن الأسئلة والمطالب من المحققين تتلاءم مع تلك المدة. وفي اليوم الأخير تم اللقاء ثلاث مرات، كل مرة لا تزيد عن بضعة دقائق، طلب فيها المحققون توقيعاً بالتعهد بعدم دخول أي انتخابات بلدية، نقابية، برلمانية بصفة حزبية...

    بعد أقل من ساعة، وبعد أن تم سحب همام من الزنزانة، كان علوان يقف أمام غرفة تسليم الأمانات، وبعد أن استلم أماناته، كان في شارعٍ مشمسٍ، تسير فيه المركبات، والسابلة. أراد أن يسير أطول مسافة ممكنة، لكن حنينه لذويه برز فجأة ليوقفه عن السير، فالتفت وجد صالون لحلاقة الرجال، فدخله على الفور.

    لم يكن في الصالون زبائن، بل كان الحلاق يقتل وقته في التمعن بتسريحة شعره، أو التفكير بابتكار تسريحات، وكان على يمينه قرب الباب قفص به أحد الطيور ضئيلة الحجم المغردة..

    أجلسه الحلاق حيث كان يجلس، فواجهته صورته بالمرآة وكأنه يقدمه للتعارف مع شخص تهيأ له أن الحلاق ظنه لا يعرف من في المرآة. تأمل في هيئته، وعدم انتظام حلاقاته السابقة ووجهه الذي كان يبدو شاحباً كشمراخ عود ذرة نما في الظل، وكاد أن يعتذر من الحلاق، ويقول له أين كان ولماذا غدت هيئته كذلك، ولكنه لم يفعل، فقد أوقف تهيئه للاعتذار صوت العصفور المُغرِّد داخل القفص.

    يا لهذا العصفور، إنه يغرد وهو موضوع في قفص لا يعادل حجم فراغه جزءاً يسيراً من المتر المكعب، ومع ذلك يغرد، ويقفز من عودٍ ثُّبت بهذا الطرف الى عودٍ ثُّبت في طرف آخر، إنه لا يمل ولا يتذمر، ولا يفكر بالتكاثر أو الثورة الى الخروج للحرية، ومن يدري فلعل خبراته التي اكتسبها تُشعره أنه في القفص أكثر أمناً من خارجه، أو أنه وضع لنفسه هدفاً من الحياة في أن يغرد فقط، وما دام لا أحد يمنعه من تحقيق هدفه، فلماذا يتذمر؟

    (44)

    امتلأت الدار بزوارٍ كُثُر، وتغيرت معها نكهة الدار، فالأمكنة تأخذ نكهتها ممن يشغلون حيزها، فنكهة (ستاد) رياضي تكون وقت مباراة نهائية بين فريقين مشهورين، غيرها عندما لا يكون فيه أحد، والأسواق في أواخر شهر رمضان، غيرها في ظهيرة يومٍ مشمس من أيام الصيف...

    نساءٌ في عمر والدته أو أقل تحمل بعضهن عُلب من الحلوى بعضها استلمته بعضهن في مناسبات مختلفة، شيوخٌ يعرف ملامح وجوههم قبل عدة سنوات، شبابٌ يحاولون التشبث في مرحلة الشباب، أطفال مع ذويهم أحضروهم حتى لا يعبثوا في ترتيب أثاث منازلهم...

    من المؤكد أن أهداف تواجدهم في هذا المكان لم تكن كلها تعاطف مع إطلاق سراح مُعتقل، فكثيرٌ منهم لا يعرف عن الاعتقال السياسي شيئاً، وبعضهم لم يعرف أين كان علوان أصلاً...

    كانت الأحاديث تتم مثل البرقيات، كيف حالك؟ إن شاء الله ما ضايقوك؟ من حقق معك؟ هل رأيت فلان؟ هل بقي جواز سفرك المنتهي لديهم؟ بماذا تفكر الآن؟ وماذا ستختار من الأعمال؟ وكيف ستقضي وقتك؟ والغريب أنه في بعض الإجابات يستخلص السائل صوراً وتفاصيل لم يستطع علوان استخلاصها طيلة مدة اعتقاله، فمجرد أن يعطي وصفاً تقريبياً لأحد المحققين، حتى ينطق السائل أو من يجاوره في اسم المحقق ومتى انتسب للمخابرات وأين كان! وقد قيل عن المحقق الأول أنه من قرية قريبة من بلدة علوان، وأن زوجته بنت فلان، وعندما يوصف المحقق الثاني يبادر أحدهم بالكشف عن اسمه، إنه عماد ابن مسعود الطويل من قرية دير القمح، شقيق مدير الأراضي في المحافظة، كان رئيساً لاتحاد الطلبة في دمشق وقد كان مجنداً أصلاً في المخابرات!

    تأمل علوان في أحاديث زوَّاره وتعليقاتهم، وحاول ربطها بما رآه في المعتقل، فكان كل محقق يساوره الشك أنه معروف، حتى لو لم يعلن عن اسمه، وهذا ما كان يجعله يتحسب للقاء منتظر مع من يحقق معه!

    (45)

    ذهب الجميع، وبقي علوان بين أفراد أسرته، كان يحس أنهم لم يحسموا تصنيف مشاعرهم تجاهه، هل هو مشروع مُناضل؟ أم مشروع عابث؟ كما تهيأ له أنه هو نفسه في حالة من عدم الحسم تجاه ما هو فيه... كان يسمع أصوات وأسئلة معظمها لم يُخطط لصياغتها بشكل يتطلب إجابات فورية، وكان يتعامل معها بإجابات أو تعقيبات تتناسب مع عدم دقتها...

    وجه والده خلا من أي علامة تفشي ما يُفكر به، ووجه والدته طغى عليه الرضا بأن ابنها لا يزال على قيد الحياة، ووجه زوجته الشاحب أعاد إليه رجوع زوجها محفزات الشروع بالأمل، أما وجه طفلته التي لم تبلغ الأربع سنوات بعد، فكأنه كان يتشكك من صلة هذا الرجل بها، ووجه طفله الذي لم يبلغ الثلاث سنوات كان في عالمٍ آخر لا يعنيه ما دار ويدور حوله..

    في لحظات الصمت القصيرة، كانت تقفز لذهنه تساؤلات كثيرة ومتشابكة، هل السببية تسكن فينا، أم تجاورنا؟ وهل نون الجماعة تقتصر على أفراد تلك الأسرة الجالسين حوله أم تتعداها الى ما خارج المنزل؟ وإن تعدتها أين حدودها النهائية؟ هل هي في الحي أم في البلدة أم في الوطن أم تمتد الى ضفاف الأطلسي وبحر العرب؟

    أحس أنه على محكٍ أكثر جدية من كل ما مر به سابقاً، فليس لديه الخيار، لأن ما سيُفرض عليه ليس جزءاً من شيء يمكن أن يختاره عند اللزوم، أو بعض من كلٍ يمكن أن يختار أفضل ما يناسبه منه، بل ما يُعرض عليه هو بُنية متكاملة من كُلٍ متمفصل، لا يُسمح بأي اختيار. وليس للأجزاء وجود خارج الكل، ولهذا (الكُل) منطقه وقوانينه ومقولاته، لم يتدرب عليها جيداً وحتى لم يعهدها، فسيصغي لمن تدرب على تلك المشاهد ممن يقدمون أنفسهم كأصدقاء أو بقايا رفاق، ويقيم ما سيُطرح عليه..

    أن يصل الى الخلاص مما هو فيه دون ألم، فهذا من المستحيلات، فكل خطوة يتقدم بها نحو الراحة تتفوق على ما فيه من آلام، مشاكله مثل قِطَعٍ من الكُركُم تحتاج الى دقٍ شديد في (الهاون) وبيدينٍ قويتين، كل طرقة من الهاون تهز كيانه الداخلي وتخلق عنده رغبةً في التخلي عن إكمال مشوار (السحن).


  6. #26
    (46)

    أخذ علوان يفكر بجدولة أعماله المقبلة، وعلاقاته الاجتماعية الجديدة، وبرامج نومه وزياراته، والتوافق بين أن يعيش في كنف أسرته المكونة من أبيه وأمه اللذان يفوقان عمره بعشرات السنين، وكذلك زوجته وطفليه، وبين تحقيق آمالهم في جعل حياتهم مريحة بعض الشيء...

    تذكر أن صديقاً قديماً كان من أترابه، وطلاب صفوفه الدراسية اسمه (خليل)، وهو شقيق إبراهيم خريج يوغسلافيا والذي أراد أن يتشارك مع علوان في مزرعة أبقار. كان أرعناً كثير الحركة والمغامرات، صاحب نكتة يخترعها بإضافاتٍ كاذبة من طرفه، بلغه أنه وهو خارج البلاد أنه تعرض لحادث سير، أنقذته بعد أن انقلبت سيارته دورية من الشرطة العسكرية، ولكن من أنقذه لم يراع طريقة حمله على كتفه، فأثر ذلك على النخاع الشوكي، فبدا مشلولاً لا يستطيع النهوض... وصف له أحدهم الذهاب الى تشيكوسلوفاكيا للعلاج الطبيعي، غاب أكثر من سنة، وقد عاد قبل يومين، فقرر علوان زيارته..

    انحنى علوان ليعانق صديقه الممدد على سرير أُعِّد له، وحوله عدة مقاعد لمن يحضر لتسليته والسلام عليه، فبعد معانقته عضَّه خليل في ذراعه عضة مؤلمة، لكنه تحملها وضحك مع الضاحكين...

    عرف معظم الحاضرين الذين التقى بهم ذلك المساء، والأمسيات التي تلت ذلك اليوم. لم يكونوا أبناء مدرسة واحدة ولا جامعة واحدة ولا حزب واحد ولا تربطهم قرابة، كانوا قد تجمعوا حول خليل كتجمع أغراضٍ يخطفها خطافٌ أُنزِل في بئر لانتشال دلو ساقط، وقد يخرج الخطاف دلواً غير الدلو المنشود، ومن ثم يخرج فردة حذاء ومن ثم دلوا آخر، ولكن من أخرج تلك الأشياء لم يعيدها الى البئر، بل احتفظ بها جميعا...

    كان منهم ثلاثة على الأقل ينتسبون لرابطة الأدباء، أحدهم يكتب القصة القصيرة، والثاني يكتب مقالات أسبوعية في جريدة يومية، والثالث مهندساً لكنهم كانوا يعودون له في تصحيح الأخطاء اللغوية في أعمالهم الأدبية...

    كانوا يحضرون زوجاتهم وأطفالهم معهم، فتدخل النساء والأطفال الى غرفة واسعة، يتحدثن أحاديث متنوعة، وكانت معظم تلك النسوة من خريجات الجامعات، ويُحَضرْن بعض المأكولات الخفيفة والحلويات والعصائر وغيرها...


    لم يعلم علوان سر ظهور هؤلاء بنشوة شبه دائمة. مُعظم أحاديثهم كانت تدور حول التندر بالعادات والتقاليد المحلية والألفاظ القديمة التي يتلفظ بها المجتمع الريفي، وكذلك يتناولون شخصيات المجتمع العام، فهذا لص وهذا متعاون مع المخابرات، وذاك آفاق محظوظ...

    كان الرجال يحاذون نسائهم محاذاة، دون انصهار وجداني عميق، وكانت علاقاتهم بهن كعلاقة أسلاك الكهرباء الموجبة بالسالبة تتحاذى مع بعض دون تماس، وكان أطفالهم يشبهون السلك الثالث (المتعادل). كانت الأطراف الثلاثة لكل أسرة تعيش في مهادنة مديدة. وقد يكون سر نشوتهم في ذلك.. فالرجال ليس بهم خشونة سكان الريف الأصليين فلا يضايقون نسائهم، والنساء تشبع رضا الرجال بما يتلاءم مع طموحاتهم غير الواضحة، فهي تجتهد بابتكار بعض الأطعمة وتبدو بمظاهر متقدمة أمام أصدقاء الرجال، والأطفال لا يتعرضون للزجر والحرمان، ويُقدمون أحياناً (نُمراً) ترضي ذويهم... كانت برجوازية تلك الأسر الناشئة، (سرخسية) الطابع، لا جذور عميقة لها..

    كانت المجموعة تشبه (ضُمَّة) من نبات (الحمص) الأخضر، تبدو عن بُعدٍ يانعة عفية، لكن ذلك لا يمنع من اكتشاف (أجراس) فارغة لا تحتوي شيئاً.

    كان على كل واحد منهم أن يحضر بيده شيئاً، حتى يضمن أنه لا يوضع داخل دائرة البخلاء أو الزوار ثقيلي الظل، وقد كان بعضهم قد اغترب وأتى ببعض المال، وبعضهم يزاول مهنة الهندسة في مكتبٍ خاص، كانت أعمارهم تتراوح بين الخمس والثلاثين والسبعة والأربعين عاماً، وأعدادهم تصل الى خمسة عشر شخصاً، يتواجد منهم في كل أمسية حوالي خمسة أو ستة أشخاص..

    (47)

    فكر علوان بزيارة خليل عصراً، حتى يتسنى له الحديث معه بشكل رئيسي، فقد كان يعلم كيف أن خليل ينتظر قدوم المساء حتى يتجمع حوله المتسامرون، لكنه كان يلمح في كل مرة إحساساً في عينيه، بأن تلك الشفقة التي تأتي من هؤلاء ليس وفاءً له، أو لخدمته، بل وجدوا في تلك المناسبة محطة استراحة تجعلهم في حالة أشبه ما تكون ب(المساج) الاجتماعي لإزالة ما عانوا في نهارهم، هذا إذا كانوا قد عانوا..

    فرح خليل بتلك الزيارة، وأعاد قصة الحادث وكيف أنه سقط من أعلى جسر بالسيارة بعد منتصف الليل، وبقيت أضواء السيارة المقلوبة شغالة، حتى لمحته دورية شرطة عسكرية، وتطوع أحدهم أن يحمله على كتفه...

    سأله علوان عن مدى تحسنه بعد العلاج الطبيعي في تشيكوسلوفاكيا، حاول النهوض، ووقف على ساقيه بعد معاناة، وهو يرتجف، فأشار إليه علوان راجياً أن يجلس، وأخذ يفكر ويستمع في آن واحد لخليل، كانت لهجة خليل مروعة، كيف كان كثير الحركة، يسهر في بيروت أو دمشق ويعود، وكيف سيصبح بعد هذه الحال؟ وكيف أنه رفض الزواج من أجمل فتيات الحي عندما تم الاتفاق مع والدها ووالده دون أن يعلم؟ ومن التي ستقبل به بعد هذا المصير؟

    دخل إبراهيم، وحيا علوان، وسأله ماذا عنك الآن؟ هل لا زلت تفكر في مزرعة الأبقار، وكيف ستتصرف وجواز سفرك المحجوز فلا سفر ولا وظيفة حكومية؟

    ـ لدي مجموعة من الأفكار، ولكني أدقق في دراسة كل منها، كما أن هناك مشكلة التمويل، فهي عائق كبير، ولا أريد أن أثقل على والدي، وهناك من نصحني بالتوجه الى بنك التسليف الزراعي، وسأقوم بزيارة الفرع في البلدة..

    ـ مدير الفرع (أبو جهاد) أحد رفاقنا القدماء، وسيتعاون معك، سأرافقك لزيارته غداً إن شئت...

    ـ حسناً، وإن لم تفلح تلك الزيارة، سأقوم بفتح مكتب للاستشارات الزراعية وبيع الأسمدة والبذور وغيرها...

    حدثه إبراهيم عن لقاءاتهم اليومية، ووصف هؤلاء الزوار بأنهم (مِلح المجتمع) فهم على درجة كبيرة من الثقافة والوطنية والعفة والذوق الرفيع، وطلب منه عدم الانقطاع عن مثل تلك السهرات... وحدثه عن عمله، حيث يدير مجمع النقابات المهنية في المحافظة، الخاصة بالمهندسين والمحامين والمهندسين الزراعيين، وهناك نية لانضمام باقي النقابات للمجمع، ودعاه للانتساب السريع للنقابة وزيارته..

    (48)

    (أهلاً عمي علوان)، كيف أنت؟ أنا آسف، كان لازم أزورك وأهنئك بالسلامة، واليوم كُنَّا بسيرتك، أنا وأبو المعتصم، لا أدري هل تعرفه؟

    كان أبو جهاد في الثانية والخمسين من عمره، ويعلم علوان عمره بالدقة، لأنه سمعهم يقولون أنه قد ولد يوم ولد سليمان بك قريبه، ويعلم أنهما قضيا بداية حياتهما في حزب الشعب وسكنا في بيت واحد..

    كان شعره غزيراً ولكنه ذا لونٍ أزرق تقريباً لاختلاط البياض بالسواد، لم يره أخرج مقدحة أو علبة ثقاب لإشعال سيجارته، بل يشعل كل واحدة من أختها، وأحياناً يلاحظ أنه أشعل اثنتين في آن واحد، رغم ندرة تلك الحالة عند من يدخنون بمثل ذلك الأسلوب...

    بعد أن أخبره إبراهيم عن غرض الزيارة لهما لفرع بنك التسليف الزراعي، عَدَّل أبو جهاد جلسته وأشعل سيجارة أخرى وسيجارته لا زالت أطول من نصفها، وناول علوان ورقة وقلم، وأملاه الأوراق المطلوبة، وابتسم ابتسامة عن أسنان بيضاء قوية لا تتناسب مع لون شعره أو بشرته النحاسية.. وقال: نحن في خدمة الطيبين..

صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123

المواضيع المتشابهه

  1. تلوث مياه الشرب
    بواسطة أسامه الحموي في المنتدى منتدى العلوم العامة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-31-2017, 06:45 PM
  2. قطرة عسل توضع على السرة:
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان الطب البديل.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-22-2012, 01:51 AM
  3. الطائر الصغير
    بواسطة مؤيد البصري (مرئد) في المنتدى - فرسان أدب الأطفال
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 11-03-2011, 10:13 PM
  4. أنا و غزة خارج السرب ..
    بواسطة د.هزاع في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-28-2009, 04:27 PM
  5. الشرب واقفا
    بواسطة noureldens في المنتدى فرسان الافتاءات
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-28-2006, 04:34 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •