منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123
النتائج 21 إلى 27 من 27
  1. #21
    (37)
    محاولة يهودية لكسر إرادتي
    بعد انكسار الكلبشة، وهجومي العنيف عليهم، تنبه المحققون أكثر إلى قوة جسدي، فأضافوا كلبشة أخرى في يدي، وكلبشة في قدمي، وأضافوا عدة أكياس على رأسي، وبدأت أشكال من التعذيب جديدة، لم أشهدها من قبل.
    كنت لا أتبين عدد المحققين الذين يطبقون على جسدي، كنت قاعداً على الأرض، ويداي من خلفي، وكانت أجساد ثقيلة تسقط على رقبتي، فينثني ظهري تحت الثقل حتى يلامس رأسي الأرض، كنت أحس بركلات الأحذية التي تتوالى على ظهري، وكانت أوجع الركلات هي تلك التي تنحرف يميناً أو شمالاً في اتجاه الكلى.
    تواصل في ذلك اليوم الضغط على رقبتي وكتفي، وتواصل إنحاء ظهري، بحيث لم أعد قادراً على رفع رأسي عن الأرض، وكان المطلوب هو عمودي الفقري.
    وفي مساء ذلك اليوم، حين استنفذ المحققون طاقتهم، أحضر خبيثهم كلبشة إضافية، ربط طرفها بالكلبشة التي تقيد يدي، وربط طرفها الآخر بالكلبشة التي تقيد قدمي، بحيث يظل ظهري مشدوداً إلى الخلف، وتركوني على هذه الحالة مع هواجسي في غرفة التحقيق، حتى صباح الخميس الموافق 20/6، حين بدأ المحققون يهيئون أرض الغرفة لجولة جديدة.
    كنت أجلس على الأرض، وأرجلي ممدودة، حين وضع أبو ربيع الكرسي على كتفي، وجلس فوقه، كان ظهري منحنياً تحت الضغط، حتى أوشك رأسي أن يصطدم بالأرض، وكانوا يسخرون مني مع الهزات المتواصلة للكرسي، ومع تواصل الضغط على عمودي الفقري، كان السؤال الذي يتسلل إلى أذني: اعترف يا فايز.
    وقت الظهيرة رفع المحققون جسدي عن الأرض، وأجلسوني فوق طاولة، وأمسك بعضهم بساقي على سطح الطاولة، وتم تثبيتهما بقوة، وراح آخرون يثنون ظهري بالعكس في اتجاه الأرض، إنهم يكسرون ظهري بشكل متعمد.
    وكلما ازداد الضغط، كنت أشعر أن عمودي الفقري قد التصق ببعضه، فأحاول استغلال طول جسدي بالاتكاء على رأسي، للتخفيف من وجع الظهر، وكنت أحاول التملص، فازحزح جسدي قليلاً عن الطاولة إلى الخلف، حتى تلامس كتفي الأرض، فأشعر ببعض الراحة.
    ظل يومي يتأرجح بين ثني ظهري إلى الخلف من خلال تعذيب الطاولة مرة، وبين ثني ظهري إلى الأمام من خلال تعذيب الكرسي مرة أخرى.
    حتى إذا جاء المساء، انتهت مقاومة جسدي نهائياً، وصار لا يشعر بما يفعلون.
    في البداية، ظن المحققون أنني أمثل دور الضحية، فكبوا فوق رأسي الماء، وركلوني بأقدامهم، حاولوا استنهاضي بالقوة، ولكن دون جدوى، صار جسدي جثة هامدة.
    ولما أدرك المحققون حقيقة حالتي، حاولوا انتزاع الاعتراف من خلال الشفقة، حاولوا الضغط النفسي من خلال نقلي إلى الطبيب، ومعالجتي على وجه السرعة، ولكن أذني أغلقت عن السمع، وأطبقت شفتي عن الكلام، وظل لساني نظيفاً، لم يتلوث بالاعتراف.
    تركني المحققون مقيداً على هذه الحالة حتى صباح الجمعة 21/6، ولكن جسدي ظل ممداً في غرفة التحقيق كما تركوه أول مرة، لقد رفض النهوص رغم توسلي إليه.
    كنت لا أقوى على تحريك أي جزء من جسدي، فإن حاولت تحريك رأسي قليلاً، أو حاولت تحريك يدي أو قدمي، كان الألم يصرخ كالسكين المنغرز في عمودي الفقري.
    في صباح ذلك اليوم، حملني الجنود الإسرائيليون لأول مرة على نقالة، وأوصلوني إلى طبيب السجن، الذي تحقق من حالتي الصحية، وأعطاني حقنه في العضل.
    ظلت جثتي ممدة على أرض المسلخ طوال يومي الجمعة والسبت، لم يحركها إلا الممرض الذي أعطاني حقنة ثانية في العضل، ربما خففت من حدة الألم.
    لم أكن أعرف أن عمودي الفقري قد كسر عمداً، ولم أكن أصدق في ذلك الوقت أنني صرت مقعداً، وأن هذه الحالة ستلازمني عدة سنوات في السجن، حتى تاريخ 22/7/1991، حين أجرت لي الدكتورة اليهودية ليئة شيفر، عملية جراحية في مستشفى أساف هروفيه.
    يتبع



  2. #22
    (38)
    الإنسانية بين ليئا شيفر ولطفية السمنة
    كان قد مضى على وجودي في السجن أكثر من ست سنوات، حين قرر الأطباء أن تجرى لي عملية جراحية في العمود الفقري، ولكن وصول الأطباء إلى ذلك القرار، كان يحتم على عبور بحور من النار والعذاب، كان يتوجب علي أن أنتقل بالبوسطة مقيداً ومريضاً من سجن نفحة إلى سجن السبع، ومن سجن السبع إلى معبار سجن الرملة تحت الأرض، وكان علي أن أنتظر هنالك مدة أسبوعين، كي ألتقي بالطبيب المتخصص لمدة خمس دقائق فقط، ليقرر بعد الفحص إجراء صورة أشعة.
    كان يتوجب علي أن أعود إلى سجن السبع مروراً بسجن عسقلان ومنه إلى سجن نفحة، لأنتظر هنالك خمسة أشهر أو أكثر، حتى يأتي موعد صورة الأشعة، لأسافر ثانية من سجن نفحة إلى سجن السبع، إلى معبار سجن الرملة، كان علي أحتمل السفر وسط الحشاشين والحرامية والزناة والقتلة من اليهود، وكانت البوسطة تمر بسجن عسقلان، ومنه إلى سجن أبي كبير في يافا، ثم إلى معبار سجن الرملة، رحلة تبدأ من الخامسة صباحاً، ولا تنتهي قبل الخامسة مساء، ليبدأ الانتظار تحت الأرض لأسبوع أو أكثر.
    بعد إجراء صورة الأشعة، كان على العودة ثانية إلى سجن نفحة، والإنتظار لمدة خمسة أشهر أو أكثر لأعود إلى الطبيب المختص كي يفحص صورة الأشعة، ويقرر العلاج الذي لا يجدي، لأعود بعد عدة أشهر ثانية لمقابلة الطبيب، ويقرر فحص آخر، لقد استمرت رحلات العذاب من سجن نفحة إلى معبار سجن الرملة عدة سنوات، حتى تم تشخيص الحالة بشكل دقيق، وتم تحديد 22/7/1991 موعداً للعملية الجراحية.
    كنت ممداً مكسور الظهر، وكانت إحدى يدي مربوطة بالكلبشة في السرير، بينما كانت يدي الثانية تمسك بالمجموعة الكاملة للشاعر محمود درويش، كنت أقرأ الشعر بعذوبة، حين دخلت عجوز يهودية، وأزاحت ساقي جانباً، وجلست على حافة السرير، وطرحت علي عشرات الأسئلة: اسمك، عمرك، عملك، صحتك، ماذا حدث لك؟ ماذا يؤلمك بالضبط؟ كم سنة وأنت على هذه الحالة؟ هل كنت تلعب الرياضة؟ هل تشكو أمراض أخرى؟.
    كنت أجيب على أسئلة العجوز وأنا مستاء، فما شأن هذه الخادمة في المستشفى بهذه الأسئلة، ولكنني أجبتها بصدق واقتضاب، وكانت تسجل كل كلمة، لتقول في نهاية الحديث:
    أنا الدكتورة "ليئا شيفر" أنا يهودية من ألمانيا، أنا لم أسألك عن عدد سنوات سجنك، ولم أسألك عن عملك العسكري قبل السجن، أنا سألتك عن وضعك الصحي فقط، لأنني الطبيبة التي ستجري لك العملية الجراحية، وأعدك بأن ترجع إلى لعب الرياضة ثانية.
    لم أعلق بحرف، لقد أصابني الوجوم، وأدركت أنني هالك لا محالة، ولن أخرج من بين يدي هذه العجوز المرتجفة إلا مشلولاً، أو ميتاً، لقد رجعت بتفكيري إلى يومين سابقين، حين زارني في مستشفى سجن الرملة طبيب مستشفى سجن نفحة، الدكتور الرائع شيرمان، والذي يعرف وضعي الصحي جيداً، وقد نصحني بأن لا أجرى العملية الجراحية لخطورة نتائجها.
    كنت وحيداً، وقد سرحت بخيالي بعيداً، حتى أنني تخيلت جثتي وهي تخرج من مستشفى السجن، وتخيلت جنازتي، فأشفقت على دموع أمي، واستسلمت للقدر، وركزت تفكيري في كيفية إخراج مخطوط كنت قد كتبته في سجن نفحة تحت عنوان "رياحين بين مفاصل الصخر"، وقد تضمن المخطوط مجموعة من أعمال السجناء على اختلاف انتماءاتهم التنظيمية، وقد ساعدني السجناء من كل السجون في تجميع المادة، والتعليق عليها، وإعدادها للنشر، حتى أن التنظيمات الفلسطينية جميعها قد زارتني في غرفة 2 قسم د في سجن نفحة، ليودعونني بحرارة، وتمنوا لي السلامة، وقدموا لي الهدايا، تقديراً على جهدي الخرافي في سرعة إعداد الكتاب.
    لقد نحجت حتى ذلك الوقت في إخراج المخطوط من سجن نفحة، ووصل معي حتى مستشفى السجن، وهو معي الآن في مستشفى "آساف هروفيه" في مدينة الرملة.
    لقد تركز تفكيري في كيفية إخراج المخطوط قبل أن أجري العملية الجراحية، ولا مجال لذلك إلا بحضور الأهل لأخذ الكتاب صباحاً، ثم لأخذ جثتي مساء فيما لو مت.
    فما السبيل إلى ذلك، والحارسان يراقبان كل حركة، ولا تغفل عيناهما عني؟
    كنت غارقاً في التفكير حين دخلت علي بوجهها العربي، فانشرح صدري، عرفتها من بريق عينيها، قالت لي: اسمي "لطفية السمنة" سآخذ عينه من دمك للفحص، وهذا إجراء نتبعه مع كل مريض قبل أن يدخل إلى غرفة العمليات.
    همست لها: خذي عينة الدم من يدي الشمال المربوطة بالكلبشة، ولكن اتركي هذا الصحن الذي تضعين فيه مخلفات الحقنة، اتركيه، وارجعي لتأخذينه بعد قليل، سأكتب رقم تلفون أهلي في خان يونس على ورقة، وألقيها في الصحن ضمن المخلفات.
    اقترب الحارس اليهودي، وأشار بيده، وقال بالعبرية: شكت.
    سكت، ولم أنطق بحرف، ولكن لطيفة السمنة خرجت من الغرفة دون أن تأخذ الصحن.
    فرحت لذكائها، واغتنمت غفلة الحراس ، وسجلت رقم الهاتف على ورقة، وفركتها بين أصابعي، وألقيت بها في الصحن الذي صار يحتوي على المخلفات.
    عادت لطفية السمنة وفي يدها كأس ماء، وطلبت مني ابتلاع حبة علاج، ومدت يدها إلى الصحن، أخذته، وهي تنظر إلي بعيون مملؤة بالوعد.
    ما ألذ طعم النجاح! لقد عادت لطفية السمنة بعد ساعة ومعها جهاز الضغط، وبعد أن قاست ضغطي، قالت لي: لا تقلق، كل شيء تمام.
    ما أروعك يا لطفية السمنة! وما أصدق انتماءك العربي إلى وطنك فلسطين! وما أفسد الحاكم الذي يدنس العلاقة البريئة بين الإنسان ووطنه!
    هل ما زلت على قيد الحياة يا لطفية السمنة؟ أتمنى أن يقرأ أولادك وأهلك ما أكتبه، أتمنى أن أرد لك الجميل يا لطفية السمنة.
    يتبع




  3. #23
    (39)
    نجاح وذاكرة
    انتظرت أهلي في صباح 22/7، كنت أتمنى أن أراهم حولي في المستشفى قبل إجراءالعملية، ولكن خاب أملي، فقد جاء الممرضون، وأستبدلوا ملابس السجن بملابس العملية، وأخذوني برفقة الحراس حتى غرفة العمليات.
    كنت ارتجف من البرد حين أفقت من غيبوبة البنج، تحسست نفسي، فأنا ما زلت حياً، ولكن قبل أن أعود إلى غيبوبة البنج ثانية سمعت أحدهم يقول لي بالعبرية: "همشبحاه هيجيعا".
    لقد وصلت العائلة، ما أروع هذه الجملة! إنها فرصتي الأخيرة لإخراج مخطوط "رياحين بين مفاصل الصخر"، معي من الوقت عدة دقائق، فأين هو أخي عقيل؟ كيف سأراه قبل أن أرجع إلى غرفتي التي يراقبها الحراس؟ يجب أن أصحو من البنج، يجب ألا تغفل عيني لثانية، ولكنني غبت عن الوعي رغم أنفي.
    أفقت من غيبوبة البنج والممرضون يسحبون النقالة إلى خارج غرفة العمليات، لتنتظرني المفاجأة السعيدة، إنهم عائلتي، لقد سبقوا الحراس إلي، فاحتضنونني لأول مرة بعد سنوات غياب، وصافحونني يداً بيد، وقبلتني أمي بحنان بعد سنين من الحرمان، ضمتني إلى صدرها تحت سمع وبصر الحراس الذين تفاجئوا من المشهد.
    همست في أذن أخي عقيل بسرعة: هل تعرف الغرفة التي سيأخذونني إليها؟
    قال نعم، كنت فيها قبل قليل، ونظرت إلى حاجياتك وملابسك وأشياء السجن.
    قلت له: اذهب هنالك بسرعة، وخذ من أغراضي مخطوط على هيئة كتاب، مكتوب بخط اليد، خذه بعيداً، قبل أن نصل أنا والحراس إلى الغرفة.
    تركنا أخي، وذهب مسرعاً، في الوقت الذي أحاط بي الحراس، ووضعوا الكلبشة بيدي، وربطوها بالنقالة، وراحوا يجرونها إلى غرفتي.
    كنت سعيداً حين عاد أخي، وهز برأسه، كل شيء تمام.
    ما أسعد تمام هذه! إنها تمام النجاح، ودقة التخطيط، وحسن التدبر في الظروف الصعبة! لقد اطمئن قلبي بعد أن نجح تدبيري، فسألته: وماذا عن العملية الجراحية؟ هل نجحت؟.
    قال: تمام، لقد أخربتنا الطبيبة أنها عملت مدة ست ساعات، وقد نجحت.
    الحمد لله
    حين وصلت الغرفة، تقدمت مني أمي فرحة، وقالت: لقد طبخت لك أرانب وحمام، وأحضرت لك كل أنواع الطعام الذي تحبه، وفتحت الطنجرة، وأضافت: كل يا ولدي.
    كم تمنيت أن أذوق طعامها في ذلك اليوم! وكم تمنت هي أن أذوق شيئاً من يدها! ولكنني لم استطع، فقد كنت تحت تأثير البنج، ولم يسمح لها الحراس بترك شيء من الطعام.
    أما أنا فقد صرت من أثرياء السجن، لدي عشرات علب السجائر الفاخرة التي أحضرها الأهل، ولدي مشروبات غازية، وبسكوت، وملابس داخلية، وليفة، وصابون، ومعجون أسنان.
    بعد ثلاثة أيام في المستشفى الخارجي تقرر عودتي إلى مستشفى سجن الرملة، وكنت أعرف أن إدارة السجن لن تسمح بدخول أي شيء، فكل ما أحضره الأهل يدخل ضمن قائمة الممنوعات، وكان علي أن أفكر في كيفية تهريبها.
    كنت عارياً، ومربوطاً بالنقالة حين عدت إلى مستشفى سجن الرملة، ولم يكن يغطيني إلا شرشف أبيض، وهذا الشرشف مكنني من فتح ساقي، لأضع كل الحاجات التي أحضرها الأهل بين ساقي، وأغطي نفسي والحاجات بالشرشف.
    لقد نجحت، وأدخلت عشرات علب السجائر والمشروبات والمأكولات إلى غرفتنا في سجن الرملة، غرفتنا نحن العسكريين الفلسطينيين ـ كان عددنا 15 سجيناً مريضاَـ الغرفة التي تتواجد في نفس المكان الذي تتواجد فيه غرف السجناء الجنائيين اليهود، لذلك حين طلبت من السجناء الفلسطينين أن يقوموا بتوزيع هدية على كل سجين بمناسبة عودتي إلى السجن سالماً، قلت لهم: وزعوا على السجناء اليهود الهدية نفسها التي توزعونها على السجناء الفلسطينيين.
    في اليوم التالي، جاء أحد السجناء اليهود، ووقف على باب غرفتي في سجن الرملة، هز برأسه، وهنأني بالسلامة، وقدم لي هدية، وقال: اسمي "شفتاي كلمنوفتش"، لقد اندهش الرجل، الذي كان يعمل عميلاً للاتحاد السوفيتي، ولم يصدق أن سجيناً فلسطينياً لديه مشاعر وأحاسيس، ويقدم هدية لسجين يهودي.
    في تلك الأيام الصعبة في سجن الرملة، حين كنت لا أقوى على الحركة، جاء إلى سجن الرملة بهدف العلاج الأخ سمير المشهراوي، وقد ساعدني الرجل كثيراً، فقد توكأت عليه حين دخلت للاستحمام أول مرة، ولم أستنجد بغيره ليساعدني في ارتداء ملابسي الداخلية.
    سأرجع الآن بالذاكرة إلى غرفة التحقيق، إلى تلك الأيام من شهر يونيه 1985، حين انكسر ظهري، وبت جثة هامدة على أرض المسلخ، لا أحس بالتعذيب، ولا أتوجع للركلات، بعد أن صار الألم الداخلي أقسى ألف مرة من الضربات الخارجية، وهذا ما أعجز المحققون اليهود، الذين استسلموا أمام جسد فقدوا التأثير عليه.
    مساء يوم الأحد 23/6 كنت قد تلقيت الحقنة الرابعة لتسكين الآلام، وفي ذلك اليوم أمر المحققون بإنزالي من المسلخ إلى الزنازين.
    وما أحن الزنازين على المساجين! ما أرحم الزنازنة حين تكون بلا قلب تملؤه الأحقاد! وما أرق الزنازنة حين تبتسم بحنان بعيداً عن جبروت السجان، فالزنزانة لا ترفع يداً لتعذب، ولا تهوي بسقفٍ لتؤدب، إنها مجرد حجارة حركها إنسان لتقيد حركة إنسان.
    يتبع

  4. #24
    (41)


    أنا ملك الزنازين
    مثل شجرة باسقة، سرت في عروقي الحياة في الزنزانة، ولاسيما بعد أن نمت حتى تراخت مفاصلي، وبفعل الحقن العلاجية التي واظب ممرض على تقديمها لي في الزنازين، لقد خفت الآلآم بشكل كبير، فصرت أتعرف على من في الزنازين، وأستجيب لصرخاتهم: بنمسي يا فايز، وصرت أصرخ بملء صوتي، وأجيب: مليون.
    بل صرت أنا ملك الزنازين، أنا الذي أوزع الأمسيات على الموقوفين، وأنا الذي أثير الحركة والحياة في الزنازين.
    كانت الأيام من 23/6 وحتى 27/6 من أجمل أيامي في الزنازين، وكان مصدر الجمال هو عدم الاعتراف، والاعتقاد بأنني قد نجوت، فحتى تلك اللحظة لا أعتراف عندي على أي سلاح أو أي عمل عسكري، وكل ما عندي هو اعتراف على رسائل لا قيمة لها، وقعت بها عند العملاء في سجن جنين، ما عدا ذلك، فأنا أتباهى بصمودي، وخلاصي، ولاسيما أن المحقق قد أقتنع بأنه أمام رجل عنيد، لا يمكن أن يعترف بشيء إلا إذا توفر الشاهد.
    لقد انتبهت في الزنزانة إلى أن الرغيف الذي أتسلمه بعد العصر هو طعامي لمدة أربع وعشرين ساعة، يتوجب على أن أقسمه ثلاثة أثلاث؛ ثلث للعشاء، وثلث للإفطار، وثلث للغذاء، كنت ألتهم ثلث العشاء مجرد تسلمي الرغيف، ولكن الجوع سكن مفاصلي بعد خمسين يوماً من التعذيب والتجويع، فكان جسدي يطلب الطعام، وكان رغيف الخبز أمامي، فكيف لا أقضم لقمة من ثلث الإفطار، وبعد قليل كنت أقضم لقمة من ثلث الغذاء، وهكذا؛ فوقت الزنزانة طويل، ولا شيء يسليني إلا أقضم لقمة من ثلث الإفطار، وبعد نصف ساعة قضم لقمة من ثلث الغذاء، حتى تبقى أقل من الثلث، فنمت، بعد أن نامت الزنازين.
    كنت أتمدد على بطانية السجن، وكنت أضع قطعة الخبز الصغيرة بجواري على البطانية القذرة، على أمل أن أصحو في الصباح، وأغمسها على قروان الفول.
    لقد صحوت من نومي على حركة في الزنزانة، فتحت عيني، فإذا بقطعة الخبز بين أسنان الجرذ "العرسة"، تجر بها، وهي على وشك تهريبا من تحت باب الزنزانة.
    لا أعرف كيف هجمت على قطعة الخبز، وخلصتها من الجرذ "العرسة: التي هربت.
    أمسكت بقطعة الخبز، ونمت ثانية، وقطعة الخبز في يدي.
    صحوت بعد قليل على العرسة وهي تحاول أخذ قطعة الخبز من يدي.
    لا فائدة، لقد قررت ابتلاع ما تبقى من الخبز، والصباح رباح.

    (42)
    اليوم الأكثر رعباً في حياتي
    لقد جاء صباح ذلك اليوم بما لا تشهي سفني، فقد كان صباح يوم الجمعة، تاريخ 28/6، حين فتح السجان الزنزانة مبكراً، وصعد بي السلالم حتى المسلخ، هنالك وضع الكلبشة في يدي، ووضع الكيس في رأسي، ثم أجلسني في مكان قريب من حمامات المسلخ.
    توجست الريبة من هذا الاستدعاء الصباحي العاجل، فما الجديد يا ربي، ثقبت الكيس على عادتي، ورحت أبصبص في المسلخ، لماذا تم استدعائي؟.
    مر وقت وأنا أرقب المكان، ولاحظت العمال قد أحضروا طعام الإفطار، وهذا يعني أن استدعائي تم قبل موعد الدوام الرسمي، فلماذا هذا الاستدعاء المبكر، هل نام المحققون في المسلخ هذه الليلة؟ ما الذي حصل؟ اللهم اجعله خيراً.
    كنت أراقب جيداً حين فتحت غرفة التحقيق، وخرج منها المحقق وهو متأفف، ويمسك موقوفاً من قبة قميصة، ويقول للسجان "أبو جميل" خذه، اطعمه.
    دققت النظر، فإذا بقميص الموقوف غارق بالماء، وهذا يعني أنه كان تحت التعذيب، فمن هو هذا المسكين الخارج من الموت إلى طنجرة الطعام.
    رفع أبو جميل الكيس عن رأس الرجل، وأجلسه قرب الطنجرة، فكانت المفاجأة المرعبة، التي شاب لها شعر رأسي، لقد جن جنوني، وانتفض قلبي، ورقصت أعصابي مثل سفينة في بحر صاخب، فهذا فلان (ر)، الذي أعرفه، ولي معه نشاط عسكري، يا للهول، يا للمصيبة، ماذا قال هذا الرجل عني؟ بماذا اعترف؟ ولماذا صار استدعائي في هذا الوقت المبكر من الصباح؟
    ماذا أفعل؟ كيف أنقذ نفسي؟ من يختطفني من هذا المكان؟ أي أرض تنشق لتبتلعني؟ فجسدي لم يتعافى جيداً من العذاب، ماذا أفعل؟ كيف أتصرف؟
    صرخت دون وعي بأعلى صوتي على السجان، يا "أبو جميل" أنا فايز أبو شمالة، أكثر من خمسين يوماً في التحقيق ولم أعترف بشيء. لماذا أتيتم بي هنا من الزنازين؟
    كررت النداء بصوت مرتفع، وأنا أتعمد إسماع (ر): يا "أبو جميل" أنا فايز أبو شمالة، أكثر من خمسين يوماً في التحقيق ولم أعترف بشيء، لماذا أتيتم بي من الزنانين؟
    فرحت كثيراً حين التفت إلي (ر)، لقد نظر باتجاهي، فكررت النداء، وتأكدت أنه قد فهم مغزي صرخاتي، التي لم تتوقف حتى جاء سجان آخر، وقال: "شكت"، ووجه لي ضربة برأس حذائيه جاءت أسفل عيني اليمني، فراح الدم يتدفق بغزارة.
    صرت أصرخ: يا عيني، لقد قلعت عيني، وأنا لم أعترف بشيء، وليس عندي شيء، لماذا أتيتم بي هنا، أنا موجود في الزنازين دون اعتراف.
    كان الهدف من صراخي هو تحذير الرجل من المخابرات، فقد خشيت أن يقولوا له لقد اعترف فايز عنك، وقال كل شيء، فيقع، ويعترف عني، لذلك كنت أدافع عن عمري، وقد فرحت حين التفت إلي، فرحت رغم الجرح ورغم الوجع ورغم قلع عيني، كنت فرحاً لأنني أوصلت رسالتي، واجتهدت لانقاذ نفسي، كنت فرحاً لأن (ر) قد انتبه لصرخاتي.

    لقد ذكرت الحرف الأول من اسم الشخص، فهو يعرف نفسه، ولما يزل حياً يرزق في غزة، وقد عاتبته فيما بعد، وتفهمت موقفه حين قال: لقد ذبحونني، ومزقوني، وخنقوني، ولم أجد بداً غير الاعتراف عليك.
    يتبع








    (43)
    لقد وقعت الواقعة
    وسط صراخي وجنوني في المسلخ، وضع السجان الكيس في رأس السجين (ر)، وقيده، وأدخله إلى غرفة التحقيق، ليخرج قلبي من صدري، فأنا الآن جثة محنطة، تخشبت على باب غرفة التحقيق، أنا الآن غزالة جريحة تتمزق مع لحم وليدها الذي تتخطفه الوحوش، كنت أسمع صرخات (ر) من خلف الباب، وكانت نار تشتعل في أحشائي، وأتمتم بيني وبين نفسي: اصمد يا (ر)، تحمل، انكر التهمة، لا تعترف، لا تفسد تعبي، ولا تنتهك صبري، اصمد يا (ر)، فماذا أقول لهم عن مصدر السلاح؟ أي لحم أطعمهم؟ بماذا أرد على تساؤلاتهم؟ أصمد يا (ر) لا تعترف، ما أروعك وأنت صامد!.
    كنت أقول لنفسي: إنه يتعذب لأجلي، إنهم يسألوه عني، وعن علاقتي بما جرى من أحداث؟ هو ينكر معرفتي، إنه رجل والرجال قليل، وكنت أطمئن نفسي، وأقول: لقد استمد قوة من صرخاتي، وأنكر كل ما اعترف فيه من قبل، ما أروعك يا (ر).
    بعد أقل من ساعة في ذلك اليوم المشهود، خفت الصراخ، وبح الصوت، وساد صمت رهيب، في تلك اللحظة جاء السجان، وأخذني من المسلخ، وأنزلني إلى الزنازين، لقد أعادني إلى الزنزانة ذاتها، وأغلق دوني الأبواب.
    ما أن دخلت الزنزانة، حتى بدأ تفكيري يشتغل، فهنالك احتمالان، فإما أن يكون (ر) قد اعترف علي، وهم يريدون منه استكمال الاعتراف، فأبعدونني عن المكان، حتى يضعوا النقاط على الحروف، وإما أن يكون (ر) قد صمد، واجتاز المرحلة، وتراجع عما اعترف فيه ضدي، لذلك أنزلوني إلى الزنازين حتى إذا ما كسروا شوكته، وأخذوا منه الإعتراف، أرجعوني ثانية إلى المسلخ، وفي يدهم الدليل والشاهد.
    وما أطول الوقت على من يتربص فيه الزمن! ما أصعب انتظار نتيجة مصيرية! وما أوحش الزمن المجهول! فهل سأنجح؟ ويصمد (ر) وأخرج منها سالماً؟ وهل سيعترف (ر) ويبدأ العذاب من جديد، وبشكل أكثر وحشية؟
    يا للمصييبة لو اعترف عني (ر)، فماذا أقول للمحققين؟
    جاء وقت الغذاء، وفتح السجان باب الزنزانة، لأدخل بيد باردة طعام الغذاء، فقد كان طعاماً منزوع الشهية، كان طعاماً حزيناً، نظرت إلي بإزدراء، رغم شوقي إليه، ونظر إلى بإشفاق، وأحس بما أنا فيه من قلق وخوف، لقد نظرت إلى الطعام بحسرة جائع، وأزحت نظري عنه بعفة عاجز، وأنا استرجع حلماً عشته قبل الاعتقال بأيام، لقد حلمت أنني في بحر عالي الأمواج، وأحاول الخروج منه، أحاول أن أسبح، فلا تساعدني يداي، فأقول لنفسي: أنا سباح ماهر، فلماذا لا أحسن فن العوم؟ لقد صحوت من نومي في ذلك اليوم فزعاً، فقد كنت أغرق!.
    لقد ارهقني التفكير في الزنزانة، لقد عشت يوماً بألف يوم مما تعدون، وما عدت ملك الزنازين كما حسبت نفسي قبل يوم واحد فقط، فأنا لا أسمع صرخات السجناء، ولم يعد يهمني اسمي الذي يتردد في حناجرهم، فأنا أعيش همي، وأفكر بمصيري، وأحسب لخطواتي القادمة، ولا تفارقني صورة (ر) وهو خارج من غرفة التحقيق مبلل الكتفين، ولا تفارقني صورة (ر) وهو داخل إلى غرفة التحقيق مرتجف الساقين، فصرخاته لما تزل تتردد في تجويف قلبي.
    كنت أمشي في الزنزانة ذهاباً وإياباً، كنت أدور فيهما مثل ثور ينتظر السكين، لأبعثر من خلال المشي تلال القلق المتكدس، كنت أنفث حزني بالحركة، وأضرب في بعض الأحيان جدران الزنزانة بقبضة يدي، وأتنهد عميقاً، فمن يقدر في هذا الكون على مساعدتي؟
    جاء عصر الجمعة، وبدأ السبت اليهودي، ولكنني لم أطمئن، وجاء المساء، وثارت ثائرة الزنازين بالصراخ والتشجيع، ولكنني أعيش وحيداً مع صمت القبور، ودخل الليل وأنا واجم، وأعيش في نقيضين، أقول لنفسي مرة إن (ر) رجل وسيصمد، وأقول لنفسي مرة إن (ر) إنسان، وله قدرة على التحمل، سينهار ويعترف، وما بين صمود (ر) وانهياره موتي وحياتي.
    تعبت في آخر الليل، تعبت، وانهدت قواي، وتفككت مفاصلي، فحدود الفزع مفتوحة على كل احتمال، والترقب شاكوش يدق على الجسد، فيذبل للنعاس، تعبت، وذبلت كغصن مقصوف، فألقيت بجثتي على أرض الزنزانة، وما أن تمددت، حتى نمت أنا والرعب.
    في تلك الليلة، ليلة السبت 29/6، حين ينام السجان اليهودي في بيته، ويتوقف العمل احتراماً ليوم السبت، صحوت على صرير باب الزنازنة، وركلات في قدمي، وكلمة عبرية تقول: (كم) قم، انهض، انتبهت على جندي إسرائيلي يقف داخل الزنزانة، ليضع الكلبشة في يدي، والكيس في رأسي، ويأخذني هنالك، إلى المسلخ، وأنا أقول في نفسي: لقد وقعت الواقعة.
    يتبع








    (44)
    كم أشتهيتك يا موت!
    ظل الجندي الإسرائيلي ممسكاً بالكيس، ويجرني خلفه حتى أدخلني مباشرة إلى غرفة التحقيق، هنالك حيث كان ينتظرني المحقق "أبو ربيع" قائلاً: لقد انتهى كل شيء يا فايز! لقد اعترفوا عليك، ولم يبق لك مجال للإنكار.
    لم تصدمني المفاجأة، فقد كنت متوقعاً ذلك، وقد كنت متهيئاً إلى حد ما، فتماسكت أمام المحقق، ولم أظهر علامات الرعب والاندهاش، حتى وهو يقول واثقاً: لقد اعترفوا عليك!
    لقد اتخذت قراري في التو واللحظة، لن أعترف حتى لو اعترف علي (ر)، فوجع التعذيب أرحم ألف مرة من وجع النطق بأسماء أناس يجلسون في بيوتهم هانئين.
    تمالكت أعصابي، وقلت بكل ثقة: لا شيء عندي أعترف عليه.
    كان الوقت متأخراً، وكان المحقق مرهقاً، ويبدو أنه قد عرف نفسيتي بعد أربع وخمسين يوماً، ينظر كل منا في تكوين الآخر النفسي، ويبدو أنه قد أدرك قراري، فلم يتعب نفسه معي في ليلة السبت 29/6، لقد أشار بيده للسجان، وقال جملة واحدة:
    اشبحوه في المواسير
    يا ظهري الذي ما عاد يحتمل العذاب، ويا قدماي اللتان ما عادتا تقدران على الوقوف، ويا لهول ما ينتظرني من تمزيق، حين تعود من سبت اليهود طواقم التحقيق.
    سأعترف وأرحم جسدي، فلا فائدة من الإنكار، هكذا قلت لنفسي! سأعترف وأتخلص من هذا الموت البطيء، ولكن قبل أن أكمل حديث الإعتراف مع نفسي، قفز إلى خاطري منظر موسى الغول (أبو زياد)، الرجل الذي يمتلك عشرات الدونمات على شاطئ بحر بيت لاهيا، ويسرح بعينه في الأفق، وهواء البحر يناجي سقف عريشته التي تغفو عليها دالية العنب، لقد تعود موسى الغول أن يخرج إلى شاطئ البحر مع الفجر، كان يلقي الشبكة فيخرج له إفطاراً شهياً، كيف أعترف على هذا الرجل الذي أمنني على حياته؟ كيف أنطق باسمه في التحقيق، لتذهب المخابرات الإسرائيلية إلى بتيه فوراً، وتعتقله، وتلقي به هنا على أرض المسلخ؟

    تعال يا موت، اقترب مني، فلقاؤك أهون من الاعتراف، تعال يا موت، فأنا أشتهيك، أنا أناديك، تعال، فأنت خلاصي الوحيد من عذاب اليهود.
    ذهب موسى الغول في ذلك الوقت إلى بيتي في خان يونس، ودق على باب الدار، فخرجت له زوجتي، يزاحمها على الباب الشك والريبة.
    قال لها: هذا مبلغ ألفي دينار أردني، تركها فايز عندي أمانة، خذيها.
    خافت زوجتي أن تأخذ المبلغ، وحسبته كميناً من المخابرات الإسرائيلية، ورغم إصرار الرجل على تسليمها المبلغ، إلا انها أصرت ـ ليرحمها الله ـ على عدم أخذ المبلغ.
    كان قسم كبير من ذلك المبلغ دين من الناس، فقد كنت من شدة حرصي على الوطن قد استلفت من الأصدقاء والزملاء في العمل، كي أف بالمبلغ المطلوب لشراء سلاح المقاومة، وكان من بين من استلفت منهم فؤاد الفقعاوي، وجبر أبو عكر، ومدير المدرسة التي كنت أعمل فيها مدرساً، الأستاذ خالد حسني الأغا، الذي استلفت منه مبلغ 200 دينار أردني.
    جئت إلى بيت الأستاذ خالد حسني الأغا قبل المساء بقليل، لم يسألني الرجل عن حاجتي لمبلغ 200 دينار، ما يعادل شهرين من راتبي في ذلك الوقت، وإنما استدعى ابنه الصغير "حسني" وأجلسه معي في بيته، وخرج.
    عاد الأستاذ خالد حسني الأغا بعد وقت قصير، وفي يده 200 دينار،
    بعد عدة سنوات، جاءني الأستاذ خالد الأغا إلى سجن عسقلان زائراً، فطلبت منه جواباً على السؤال الذي حيرني سنوات: لماذا خرجت من البيت، بعد أن طلبت منك سلفة مالية؟
    قال الرجل: كنت متأكداً أنك تطلب المال لغرض وطني نبيل، ولم يكن في بيتي المبلغ الذي طلبت، لذلك خرجت، واستلفت لك المبلغ، وأنا أعرف أن سداده في حكم المستحيل.
    يا الله، هكذا كان الوطن، وهكذا كانت فلسطين، وهكذا كان الانتماء والعطاء قبل أن تصير القضية الفلسطينية رواتب آخر الشهر، ومكاسب من وراء الانتماء التنظيمي، وأهواء ترضي الطامعين، وتغري الباحثين عن بطاقات vip .
    يتبع




  5. #25

    (45)
    المفاجأة والصدمة
    ملاحظة: لا أشير هنا إلى شخص بعينه، ولا أتهم أحداً، ولا أشهر بأحدٍ، ولا أعاتب أحداً، ولا أطلب عوضاً من أحدٍ، أنا هنا أسجل للتاريخ ما حدث بالضبط، ليظل شاهداً للأجيال، ربما يتواجد من يتعظ، ومن يتعلم.
    مع نهار السبت 29/6، حاول المحقق أبو ربيع اقناعي بالاعتراف، وأكد أن كل شيئ قد انتهى، وأن عنادي بلا فائدة، وأنه يعرف ما لا أعرف، ليسألني فجأة: هل تعرف فلان (ر)؟
    قلت بلا تردد: لا أعرفه؟
    قال: إنه يسكن في غزة، ويعرفك جيداً، وبينكما عمل مشترك.
    قلت: ولكنني لا أعرفه، وكيف يكون بيننا عمل مشترك، وأنا أسكن في خان يونس؟
    قال: سأحضره لك، وستسمع منه بأم أذنك، ولكن إياك أن تنطق بحرف أثناء وجوده.
    دقائق، كان (ر) يدخل غرفة التحقيق، والكيس يغطي رأسه.
    سأله المحقق: هل تعرف فايز أبو شمالة يا (ر)؟
    قال: نعم؟
    وما علاقتك به؟
    قال: أعطاني سلاح في يوم كذا، وفي المكان كذا، ورأيته يوم كذا، وصار بيننا كذا وكذا.
    لم أكذبه، ولم أرد على حديثه، ولم أعلق بشيء، التزمت الصمت.
    أشار المحقق للسجان كي يخرج (ر) من غرفة التحقيق، ثم سألني: ماذا تقول؟
    قلت: كذاب، أنا لا أعرف هذا الشخص، هذا إنسان لم أسمع به، ولم أره من قبل، ولا صلة بيني وبينيه، وأنا أعمل مدرس، وأسكن خان يونس، ولا أعرف من أين هذا الذي تقول: إنه يسكن غزة؟ هذا الإنسان يفتري علي، ويذكر اسمي كذباً.
    سخر المحقق من كلامي، ولم يحاول انتزاع أي اعتراف مني بالقوة، وقال مهدداً: غداً الأحد تأتي طواقم التحقيق، وأشار بيده إلى السجان: اشبحه بالمواسير.
    عدت للشبح ثانية في المواسير التي عرفتني، وانتظرت عودتي بعد فراق عدة أيام، عدت للشبح في المواسير وأن أكظم وجع ظهري، وأتثاقل على نفسي كي تحملني ساقاي، فأنا جندي في معركة مصير، والجندي لا يشعر بالوهن أثناء القتال، الجندي يقاتل، ولا يلتفت للدم النازف من جراحه، وأمام الجندي في المعركة هدف واحد، الانتصار، وبعد ذلك فإن الوقت كافٍ للتفكير في النفس، وهنالك فرصة لمداواة الجراح.
    كنت أعرف أن أمامي أياماً صعبة من العذاب، وكنت أعرف أن جسدي بعد خمسة وخمسين يوماً أقل قدرة على الاحتمال، وكنت أعرف أن عمودي الفقري نقطة ضعفي، وأن جسدي قد أعجبته الراحة في الزنازين، وتعود لأيام أن يغفو فوق بطانية، ولكنني كنت أعرف في المقابل أن الانهيار جريمة، والاعتراف احتقار لكل أيام العذاب التي عشتها.
    انتظرت أن تقوم قيامتي يوم الأحد 30/6 ، توقعت هجوم المحققين في ذلك اليوم بكل وحشية، وتوقعت الذبح والخنق والضرب، ولكن المحققين أفسدوا توقعي، لقد أهملوني كل أيام الأحد والاثنين والثلاثاء 2/7، وتركوني مشبوحاً بالمواسير، أعاني أوجاعي الداخلية دون أن يتعبوا أنفسهم، لقد تركوني ثمرة فوق الشجرة، ستقع لوحدها مع الجفاف، فالتعذيب أرحم من الشبح المتواصل، لأن في التعذيب تنوع وتجديد يقضي على الرتابة، وفي التعذيب حياة وموت، مواجهة وتصدي، بينما الشبح وجع صامت، وزمن جامد.
    كنت مشبوحاً في مواسير الحمام بينما كان المسلخ يعج بأحداث جسام، كنت أشعر أن تحقيقاً صعباً يجري مع آخرين، فقد كنت أسمع صراخاً، وأسمع نحيباً، وأسمع صدى الصفعات، وأسمع اصطكاك أبواب غرف التحقيق، يخرج منها المحققون ويدخلون، لقد كان الوضع في غرف التحقيق استثنائياً ومخيفاً.
    استمر الحال حتى ظهر يوم الأربعاء 3/7، في ذلك الوقت الذي تكالب فيه المحققون فجأة على جسدي المنهك، لقد بدأوا التعذيب بكل قسوة وعنف، وكأن خطتهم كانت مزيداً من الوحشية والقسوة دفعة واحدة ليصير انتزاع الاعتراف مني.
    تعذيب قاسٍ ومتواصل لم يسبق له مثيل، لقد صار بين يدي المحققين أدلة وشهود، وصاروا أكثر ثقة بضرورة كسري، فكان التعذيب بالخنق، والخصي، والضغط على العنق، والدوس في البطن، وكتم الأنفاس، والتغريق بالماء، تعذيب متواصل دون سؤال ولا جواب.
    رغم عنف التعذيب، فقد كنت أسمع صراخاً وأنيناً من غرفة التحقيق المقابلة، كان الصراخ جهورياً، وكانت الاستغاثة قوية، وكان العذاب الواقع على الشخص الموجود في الغرفة المقابلة يوحي بأنه يتعرض لمثل ما أتعرض له أنا، فكان صراخه مفزعاً، كنت أسمع صرخاته كلما فتح باب الغرفة، ليعبر أحدهم أو ليخرج، كنت أقول لنفسي، وأنا أنتزع أنفاس الحياة من أنياب الموت: ما الذي يجري في الغرفة الأخرى؟ من هو ذلك الشخص الذي يعذب؟
    وفجأة، انكتم الصراخ القادم من الغرفة المقابلة، وخيم الهدوء على المسلخ، وفجأة توقف التعذيب عني أيضاً، وابتعد عن صدري المحققون، ما الأمر؟ قلت في نفسي، ربما مات الآخر تحت التعذيب، فتوقفوا عن تعذيبي!
    صمت رهيب يغطي جدران المسلخ، هدوء يضغط على أعصاب الوقت، ونقاش في الغرفة المقابلة لا أفهم مضمونه، ولكنه يصل إلى مسامعي على هيئة غمغمات لا معنى لها، فما الذي يجري؟ لماذا توقفوا عن تعذيبي؟ ما العلاقة بين عذابي والغرفة الأخرى؟ لماذا تركني المحققون ملقى على الأرض، وذهبوا إلى الغرفة الأخرى.
    طال زمن الصمت، وانشغل المحققون بالغرفة الأخرى، لقد كنت فرحاً بيني وبين نفسي، وأقول: الحمد لله، لقد أنشغلوا عني بغيري، وتركوني ألتقط أنفاسي، الحمد لله أنهم اهتموا بذلك الشخص أكثر مني، ليمتص نقمتهم، ويخطفهم عني قليلاً.
    كنت ألتقط الحدث بأذني، وأتوقع الأسوأ حين أجلسني المحققون، ورفعوا الكيس عن رأسي، لقد كانوا فرحين، ويضحكون، ويهنئون بعضهم، وقال لي كبيرهم بتهكم وسخرية: خلاص يا فايز، انتهى كل شيء، لدينا كل التفاصيل، لا نريد أن تعترف، لسنا بحاجة لاعترافاتك.
    لم أجب، وانتظرت أن يواصل المحقق حديثه، فالأمر مريب.
    ابتسم "أبو ربيع" وأظهر أمامي مجموعة رسائل تنظيمية سرية، وسألني: ما هذا؟
    لم أجب، ولكنني ارتعبت، وسقط قلبي مغشياً عليه.
    قال المحقق "أبو ربيع": أليست هذه هي رسائلك السرية إلى التنظيم، يا فايز؟ أليست هذه هي الشيفرة التي بينك وبين التنظيم؟ ألم تكتب بخط يدك هذا الكلام، لقد أمسكنا بالسلاح والرسائل والرجال، وراح يعدد أمامي حقائق مدهشة، ويقول: لم يبق شيء.
    لقد أصابني الذهول، وانعقد لساني، لقد أصابتني الخيبة، وحطت على كتفي عصافير الانكسار، فأنا أعرف أن ضرورة العمل الفدائي تقضي بأن أحرق كل الرسائل السرية التي تصلني من التنظيم، وقد حرقتها أولاً بأول، وكنت أعرف أن أبسط قواعد العمل التنظيمي تقضي بحرق رسائلي السرية فوراً، فما هذا الذي أمام عيني؟
    لقد ارتعبت حين رأيت خط يدي على الورق، لقد مت حين رأيت أوراقي السرية التي كتبتها من زمن بعيد، وقد تجمعت كلها في يد المخابرات الإسرائيلية.
    آهٍ من الحزن الذي يسقط على الرأس دفعة واحدة! آهٍ من الوجع الذي يرتد كالزلزال، فيحطم كل الأشياء الثمينة! آهٍ على سهري وجوعي واحتمالي واحتراق مفاصلي! آهٍ على قلبٍ تمزق على ألأوراق السرية! واحسرتاه على ظهري الذي انكسر، كي أحفظ السر، ولا أنشر خبر.

  6. #26
    (46)
    مأساة يطرزها الوجع
    لذت بالصمت فترة، وأنا أفكر بالذي يجري من حولي، فالمفاجأة أكبر مما توقعت، والسر الذي حافظت عليه 58 يوماً قد انكشف، والسلاح الذي حسبت أنه سيرد على المحققين في شوارع غزة قد صار في أيدي الجيش الإسرائيلي، فعن أي شيء أدافع أنا؟ ولماذا أحتمل كل هذا العذاب؟ وهل ما تبقى من أسرار تستوجب التضحية؟ ولاسيما أنني الآن أدافع عن نفسي فقط، والدفاع عن النفس لا يستوجب التضحية بالنفس.
    لم يطل صمتي وتفكيري، فالمحققون يستعدون لجولة جديدة من العذاب، ويحضرون أنفسهم، ويجهزون جرادل الماء، وأنا قاعد على الأرض مقيد، وأمامي عشرات السيقان المتحفزة للانقضاض علي جسدي.
    قبل أن يضع المحقق الكيس في رأسي، ليبدأ جولة جديدة من التعذيب، قلت: ماذا تريدون مني؟ ما المطلوب مني، وقد وضعتم يدكم على كل شيء؟
    قال كبير المحققين: لا نريد منك اعترافاً، فقد عرفنا كل شيء، نريد منك أن توقع على اعترافات الآخرين في كل ما يخصك.
    قلت: موافق، سأوقع على كل ما يقوله الآخرون.
    استدعى كبير المحققين رجل الشرطة، الذي راح يكتب اعترافات الآخرين حولي، حتى إذا أتمها، وقرأها أمامي، وقعت عليها.
    لم ينته التحقيق عند هذا الحد، فقد كنت أعرف أن وراء ذلك سؤال كبير، سؤال أجل المحققون طرحه حتى أوقع على الاعتراف بحضور الشهود.
    كان السؤال الذي يبحث عن جواب، والذي لن يغلق المحققون الملف دون معرفته، هو: من أين أحضرت السلاح؟
    لم أتردد كثيراً، ولم أفكر مرتين، فقد كان علي أن أعترف، كان علي أن أحدد مصدر السلاح، وما دون ذلك فروحي معلقة على السياج، وجسدي مستباح.
    قلت: إنه موسى الغول
    لقد نطقت باسم الرجل، وأصابتني قشعريرة الندم، نطقت باسم الرجل واعتصرت أحشائي المهانة، نطقت باسم الرجل وأرتجفت كورقة وحيدة على شجرة، فما أوجع الاعتراف على الآخرين! ما أقسى النطق بأسمائهم! ما أجرم التفريط بسلاح المقاومة! ما أسوأ جبروت عدو يحاصر عدوه من الجهات الأربع!
    ما زلت أعيش الحدث بمرارته بعد ثلاثين عاماً، وكأن السنين ترفض أن تمسح من الذاكرة تلك اللحظات العصيبة، وكأن المحققون يطوفون حولي الآن، وأنا أتوجع بالقدر ذاته الذي أوجعني في تلك اللحظات الحزينة من عمري.
    في مساء الأربعاء 3/7 كان موسى الغول مقيداً في المسلخ، كنت أنظر إليه بانتكاسة، فلم أطق رؤية الرجل بلباس التحقيق، وأنا الذي تعود أن يراه بأبهى صورة.
    صباح الخميس 4/7 أخذني السجان إلى غرفة التحقيق، وكان موسى مقيداً بين يدي المحققين، وهنالك وجه المحقق لي السؤال على مسمع ومرأى من موسى الغول، إنه السؤال نفسه الذي أجبت عليه من قبل، وهو: من أين اشتريت السلاح؟
    التفت إلى موسى الغول، وقلت له: لقد اعترفت عليك، ولم يكن أمامي إلا الاعتراف.
    نظر موسى الغول إلى منظري، وأدرك ما أنا فيه من عذاب، لقد قرأ حقيقة التحقيق في ملامحي، فوفر على نفسه عذاب شهرين، وأراح نفسه من الشبح والتقطيع.
    في مساء الخميس 4/7 كنت أجلس في المسلخ حزيناً، كانت دموعي تبل شعر لحيتي التي طالت، كنت أبكي النهاية، وأبكي حزني على فرح المحققين اليهود بما حسبوه نصراً.
    مر يوم الجمعة ويوم السبت 6/7 وأنا في المسلخ، فلماذا لم ينزلني المحققون إلى الزنازين أسوة بالآخرين، لماذا يحتفظون بي هنا؟ ماذا تبقى لهم عندي؟
    صباح الأحد 7/7، حين بدأت أعد أيام الشهر الثالث في التحقيق، وفي الوقت الذي حسبت أن التعذيب قد انتهى، فاجأني المحقق بسؤال ما زلت أجهل سببه، حين قال: من الذي كان يساعدك في توصيل الأشياء إلى السجون، وفي إخراج الأشياء من السجون؟
    بماذا أجيب على هذا المجرم الذي يعتصر عمري في سؤال؟
    ماذا أقول عن الأشياء التي أخرجها السجناء ومن ضمنها اللوحات الفنية التي أبدعها الفنان محمد الركوعي والفنان زهدي العدوي في سجن عسقلان، تلك اللوحات الإبداعية التي شاركت في معارض فنية خارج فلسطين؟.
    ماذا أقول عن كمال أبو الندا ـ يعمل حالياً عقيداً في وزارة الداخلية في غزة ـ لقد جاء إلى بيتي قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وسلمته أكثر من خمسين لوحة فنية من أعمال السجناء؟
    لقد فاجأني سؤال المحقق، ولا أعرف حتى هذه اللحظة كيف ورد اسم الضابط الإسرائيلي "مردخاي" في التحقيق، هل كنت في غيبوبة ونطقت باسم الضابط اليهودي، أم أنه ورد ضمن احتمالات المحققين، حتى هذه اللحظة لا تسعفني الذاكرة في معرفة الظروف التي استدعت ذكر اسم الضابط الإسرائيلي، ليظل السؤال المكثف الذي حاولت التهرب من الإجابة عليه: ماذا قدم لك الضابط اليهودي مردخاي؟ وما المقابل المادي الذي أخذه منك.
    يتبع




  7. #27
    (47)
    قد شربت الخمر كرهاً
    كان الضابط الإسرائيلي "مردخاي" يأتي إلى غزة، كنت ألتقي معه في محيط المسجد العمري، بعد أن أشتري له عدة زجاجات من الوسكي، كنت اشترى زجاجات الوسكي، وأنا لا أعرف أسماءها، ولا مذاقها، ولا أهميتها، كنت أملأ له سلة، وأقدمها للرجل هدية، وأتسلم منه ما أخرجه من سجن عسقلان، وأسلمه ما نريد أن نوصله إلى سجن عسقلان، وقد تطور الأمر فيما بعد، فصار الضابط يتسلم مني دولارات بلا تهيب أو تردد.
    وفي ذات لحظة سياسية، كانت هنالك ضرورة لإيصال أشياء مهمة إلى سجن عسقلان، وكان لا بد من الذهاب مباشرة لمقابلة الضابط في بيته، وكان الوحيد الذي يعرف بيت اليهودي، ويحسن العبرية هو "ن ز"، صاحب مكتبة في غزة، فرتبت معه الأمر، وأخذته بسيارتي إلى مدينة عسقلان، ووصلنا إلى بيت الضابط اليهودي مردخاي، واستقبلنا الرجل بحفاوة وإكرام، وأدخلنا إلى الصالون، حيث كان يشرب الخمر مع مجموعة من اليهود.
    ارتعبت في البداية، ورحت أتفقد ما في جيبي من أشياء سرية، وترددت في تقديم هديتي من الوسكي، إلا أن "ن ز"، أخذ السلة، وقدمها لمردخاي أمام أصدقائه من اليهود، وصافحهم، وصافحتهم مثله، فنحن عرب أصدقاء مردخاي.
    فتح مردخاي زجاجة وسكي، وراح يصب قليلاً في الكاسات، حتى إذا أنهى الصب، امتدت الأيدي، وتناول كل واحد كأس وسكي، في تلك اللحظة، شعرت بحركة "ن ز" وهو يدفع رجلي من تحت الطاولة، ففهمت معنى الحركة: خذ كأس وسكي أسوة بالجميع، بل همس في أذني: لا يصح أن نحضر معنا بزجاجات وسكي، وندعي أننا لا نشرب.
    أخذت الكأس بيدي، ونظرت إليه، فيه كمية وسكي بمقدار فنجان قهوة سادة.
    قلت في نفسي: لو كان هذا الكأس سماً لما أثر في جسدي، سأجاري اليهود، وأشرب.

    رفع الجميع أيديهم بالكأس عالياً، فرفعت مثلهم، وهم ينظرون إلي.
    قال مردخاي: كلمة "حايم" لفظة عبرية معناها في صحتك
    رد الجميع: "حايم" وأفرغ كل منهم محتوى كأسه في جوفه، فأفرغت مثلهم.
    بعد قليل، صب مردخاي مرة ثانية، وأمتدت الأيدي ترفع كاسات الوسكي إلى أعلي، فرفعت كأسي مثلهم، وحين قالوا "حايم" قلت: "حايم" وأفرغت الكأس في جوفي.
    بعد الكأس الثانية بدأت أتشكك بحالتي، فقد خشيت أن يصيبني السكر الذي يتحدثون عنه، وأصير أنطق كلاماً لا أعرف أوله من آخره، لذلك قلت لصديقي "ن ز" هيا نخرج، أخشى أنا أسقط، وصدري يختنق، وأشعر بحرارة في جسدي.
    في تلك اللحظة كان مردخاي قد صب الكأس الثالث، ولم أجد بداً من رفع الكأس الثالثة مثلهم، والقول: "حايم" وإفراغة في جوفي.
    الان بدأ عرقي يتصبب، وبدأت أشعر أن الأرض تدور، فوقفت بسرعة، ووقف صديقي، رسمت على شفتي ابتسامة، وتماسكت وأنا أصافحهم مودعاً، ونزلت السلالم وأنا أمسك بالحماية خشية السقوط، حتى إذا وصلنا أرض المنزل، ناولت مردخاي ما كان في جيبي من أشياء، وانطلقت بثبات مزيف في اتجاه سيارتي، بعد أن ودعت مردخاي.
    قدت السيارة مئة متر، وتوقفت، كي يكمل "ن ز" قيادة السيارة حتى غزة، كان عرقي يتصبب، وكنت في شبه غيبوبة، وبي رغبة شديدة للتقيؤ، نزلت في بيت "ن ز"، وأسقاني القهون، ومكثت حتى المساء، لأبدأ مشوار عودتي بعد المغرب من غزة إلى خان يونس.
    كنت في طريق العودة إلى خان يونس أسمع شتائم السائقين، وأقول في نفسي: ما بهم هؤلاء، لماذا يشتمون؟ لماذا هم غاضبون مني؟ ماذا أخطأت؟
    ظلت السيارة تسير على هواها من الشجاعية حتى وادي غزة، هنالك تهت، فلم أعد أعرف طريقي إلى خان يونس؛ هل هي من فوق الجسر أم عن يمين جسر وادي غزة؟
    أوقفت السيارة جانباً، وضعت رأسي على مقود السيارة، وغرقت في نوم عميق.
    صحوت بعد منتصف الليل على صوت باللغة العبرية يقول: "كوم" بمعنى قم.
    كانت دورية للجيش الإسرائيلي تقف بجوار سيارتي، وبعد تفتيش دقيق للسيارة، وفحص بطاقة الهوية، قال الجندي: "ساع" فتحركت إلى خان يونس.
    يتبع




صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123

المواضيع المتشابهه

  1. حنين الى رابا قضاء جنين / الحاج لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 02-03-2011, 03:48 PM
  2. حنين إلى زمن الشعر
    بواسطة نادية الزوين في المنتدى فرسان النثر
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 11-17-2009, 08:23 PM
  3. حنين..
    بواسطة نسيم وسوف في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 09-06-2009, 10:47 AM
  4. حنين الى رابا قضاء جنين / للشاعر العروبي لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-29-2009, 06:15 PM
  5. حنين لمدينة جنين ( عين جنيم) الكنعانية / للشاعر العروبي لطفي الياسيني
    بواسطة الشاعر لطفي الياسيني في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 03-02-2009, 10:23 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •