6
علاوي أحد أصدقائه الذين استقروا في الإمارات منذ السبعينات، وأصبح تاجراً الآن وذا نفوذ في البلد. كاد أن يُغمى عليه فرحاً حين شاهده ذات يوم
صدفة، وهو يتجول في محلات (ماركس أند سبنسر)؛ في شارع أوكسفورد).
ـ علاّوي.. ماذا تفعل هنا؟ متى وصلت؟ ما هي أحوالك؟ هل أنت وحدك أم مع نسوان؟
ـ وليد.. يا للصدفة الجميلة، وأنت ماذا تفعل هنا؟
ـ جئت لأبحث عن امرأة أرسمها، وأنت؟. للتسوق أكيد.
خرجــا معاً، كانــت سيارة بسائقها في خدمته، أشار للسائق بالانطلاق والتوجــه إلى مطعــم (مســـقوف ) .
بعد تذوق أطيب الأكلات وألذها قررا أن يلتقيا ليلاً في دار مراكش، هناك ألذ المأكولات المغربية والشيشة. هل تعرف المكان جيداً يا وليد؟
ودعه وليد مؤكداً على معرفته المكان وعلى الذهاب إلى هناك لانتظاره في التاسعة مساء.
معدته لم تألف مثل هذا الأكل، فثارت عليه مترجمة رفضها بآلام حادة، صاحبها قيء وصداع. فقرر عدم الذهاب حسب الموعد قائلاً:
-هذا أحسن، ألم معدتي لم يكن من التخمة بل من فراغ الجيب.
المفروض أنا من يضيّف، هو الزائر وأنا ابن البلد. ثم إذا ذهبت هناك هل أتركه يدفع عني، وأنا لا أملك سعر علبتين من البيرة ؟ يا الله، هذا أفضل. شكراً أيها المغص المنقذ، خلصتني من ورطة كبيرة،من الدفع ومن سيل لعابي على النساء وعلى حديثي عنهن:
-الصدر بضّ، الشعر ناعم، المؤخرة مدوّرة، تفعل ما ترغب به، هي في خدمتك، بينما زوجتي.. ثم يصمت علاوي.
التقط قطعة لحم بالشوكة وقبل أن يضعها بفمه يبرر لي سبب خيانته لزوجته:
صحيح أنا أحبها بجنون، لكنها أكلة واحدة، يا أخي ملــّيت كل يوم بامية، بامية.. إي هم يشتهي الواحد اللحم الروسي الذي غزا شوارع الإمارات ودوائرها ومحلاتها؛ ثم أنا مللت من اللحم الفلبيني.
( حين كانا في المطعم ، كان يضع قطعة من لحم الكباب في صحن وليد ويقول له) :
- كُل يا وليد، كل. هذا لحم إنجليزي.. ويغمز له، أكيد ذقت اللحم الإنجليزي؟
تمدّد وليد على فراشه، وراح يقرأ رسالة عبد الحق التي وصلت صباحا، قرأها أربع مرات، ثم الخامسة، استفزه شعر عبد الحق، تخيل صورة ما، ودخل المرسم، يستعيد الكلمات ثم يرسمها. يتناول الألوان، ويضع حرفاً على شكل قوس، وتمرّ الساعات.. يقف يتطلع ، يرسم، يشعل سيجارة ، يشرب قليلاً من البيرة، يضعها أرضاً ويواصل .
أذهله سحر اللوحة، إنها كيان وليست ألواناً فقط، لا بل قصيدة، لغة بالألوان. يحدث لوحته، يقف وهو يسند ظهره إلى الحائط : وينك يا عبد الحق، وينك تجي وتشوف بيت الشعر الذي قلت فيه:
خضّبتُ المستباحَ
حمّلتُه ميعادكَ وانفلقتُ.
- ها هي انفلقت..
كل المستباح، من رجولتنا إلى أرضنا. ثورة ألوان.
أحمر، أخضر، أصفر، أزرق؛ سأسمّيها المستباح؛ ولن أعرضها في أي معرض، هي لي.. يجب أن أعلّقها على هذا الحائط. لا، في غرفة نومي، لا.. هي هدية يا عبد الحق، هدية.
وراح وليد يدير قرص التلفون، بعد ثلاثة أرقام تطلـّع إلى ساعته، وجد أن الوقت غير ملائم، فقرر الاتصال بعبد الحق غداً.
لم يلتقِ بعبد الحق في سوريا، لكنه التقى به في كلية الآداب في بغداد، وتصادقا بعد أن التقت أفكارهما وآلامهما. كان يلحظ ألماً دفيناً في عيني عبد الحق، وبعد توطد الصداقة حكي له كل شيء، وصارا لا يفترقان. لكن فرّقهما السجن، من وقتها لم يسمع عنه أي شيء، إلا مفاجأة عبد الحق له عبر الهاتف في لندن.