المِكنسة العملاقة
إن الوعد الذي بثته الثورة الفرنسية بإمكانية تأسيس المجتمع المدني والدولة نهائياً على أساسٍ عقلاني ساهم في قلب أفكار جيلٍ كاملٍ من المنظرين. فإذا كانت المؤسسات الاجتماعية والسياسية تستطيع أن تعكس حرية الفرد ومصلحته، فإن الثورة وسمت بطابعها أيضاً الظهور المميز للدولة الحديثة التي جاء انفصالها الرسمي عن العمليات ليغذي التطور المتسارع للمجتمع المدني. فسار البناء كما في الثورات كلها جنباً الى جنب مع التدمير.
وتطَلّب انبثاق الفرد تحطيم البُنَى التراتبية ونقابات الأصناف (Corporate) التي كانت قد شكلت الحياة الفرنسية طيلة قرون. لم تختفِ المؤسسات الوسيطة كلها، ولكن تلك المؤسسات القائمة على الحسب والنسب لم يُكتب لها البقاء طويلاً أمام (مِكنسة الثورة العملاقة).
(1)
لقد أُلغي تقسيم الشعب الفرنسي الى ثلاث طبقات في ليلة الرابع من أغسطس/ آب 1789، وأُنهي رسمياً بمرسوم صدر بعد ثلاثة أشهر. وأُعلن عن مساواة جميع المواطنين في النسب. وأُلغيت امتيازات المدن كُلها، والأقاليم، والمقاطعات، والمديريات، والإمارات.
ولم تعد الدولة مُلكاً شخصياً للملك، ولا إرادته تعبيراً عن السيادة. ومن الآن فصاعداً ستكون الدولة، كما أعلن المجلس التأسيسي، في خدمة مواطنيها. وستتصرف الدولة على وِفق ما يريدون ما دامت قد غدت الممثل للمجتمع بأسره، والهيئة التي تصون القيم الكلية. وألغت الدولة أو حوّلت العديد من الهيئات الوسيطة التي تقوم بينها وبين الفرد.
(2)
أثر إلغاء الامتيازات الإقطاعية في مصائر الكنيسة بشكل مباشر. فقد كانت الكنيسة (دولة ضمن الدولة) بما لها من ممتلكات ومجالس ومؤسسات مالية مستقلة بالإضافة الى نظام (العُشر Tithes) وما الى ذلك.
تلاشت هذه الامتيازات كلها، وبدأت الكنيسة مشوار تحولها الطويل الى مؤسسة روحية. واختفت الأخوات (الطرق) الدينية والأبرشيات التعليمية والخيرية، وأخوية مالطا والكليات القديمة والمشافي، وكل شيء مما كانت ترعاه الكنيسة. وانتقل جزء كبير من ملكية الكنيسة الى الأمة، وكان أعضاء (الأكليروس) موظفين لدى الدولة لفترة من الزمان.
(3)
لم يكن للنبلاء تعبير موحد ناطق باسمهم على غرار الكنيسة، ولكن (النبالة) كانت ممثلة في المجلس العام والمجالس المحلية. فقدت النبالة ألقابها الخاصة، وأزياءها المميزة، وامتيازاتها.
وأُنهيت حقوق القنانة والمزارع الشخصية من دون تعويض، واختفت البلاطات الأرستقراطية. وأُزيلت التمييزات الرسمية كلها بين أراضي النبلاء الإقطاعيين وأراضي العامة، واختفت الاقطاعات والحقوق العرفية وحق الابن البكر بوراثة أبيه، وغيرها من الامتيازات الإقطاعية.
إن قيام المجلس التأسيسي بإزالة التمييزات الرسمية بين النبلاء والعوام مهد الطريق للدولة الحديثة للمواطنة الكلية والقوانين الموحدة. كما حفزت إزالة هذه التمييزات في الوقت نفسه تطور مجتمع مدني تضرب جذوره في الملكية الخاصة وليس في امتيازات الحسب والنسب، مجتمع تديمه العمليات الاقتصادية لا السلطة السياسية.
(4)
كانت البنية السياسية التي انبثقت من الأحداث الأولى للثورة الفرنسية ضعيفة ولا مركزية، ولكن منطق تباطؤ انبثاقها اتجه الى المركزية. فأخضعت الدولة الاقتصاد للإشراف السياسي على امتداد فترة الأزمة الثورية، وبعد الانقلاب ضد (روبسبير) انهارت البنية المركزية واستبدلت لبعض الوقت ببنية ليبرالية حررت الاقتصاد من قيود التوجيه السياسي.
لكن، حروب نابليون بونابرت تطلبت تشديد المركزية، وقد عزز نابليون لجانبها ما سماه بالدولة العقلانية، من خلال تنظيم العلاقة بين الحكومة المركزية والإدارات المحلية، ودوَّن منظومة من القوانين القومية الموحدة، وأسس نظام التعليم الابتدائي، وشجع لغة قومية واحدة، ودشن نظاماً موحداً للموازين والمقاييس، ووضع أسس لنظام صحي قومي ورعاية الأطفال.
(5)
كانت الثورة الفرنسية ثورة من أجل وحدة الأمة من بين أشياء أخرى. وسهل إلغاء الامتيازات المختلفة، وكانت المحصلة تشعباً في الميادين حداثياً بالتحديد. وغدا بالإمكان توسيع الحريات السياسية لتعم القارة الأوروبية برمتها لأن المواطَنة كانت قد فصلت رسميا عن توزيع السلطة السياسية، وباتت دالة على الإقامة في إقليم الدولة.
كانت الثورة الفرنسية جبارة لأن الدولة، على وجه الضبط، لم تعد تقوم على الثروة والمكانة والألقاب الإقطاعية (الخاصة). وإن الفصل الرسمي للسياسة عن الاقتصاد كان بمثابة الإعلان عن ظهور دولة حديثة ومجتمع مدني جزئي منفصل.