(31)
لم يبقَ على علوان إلا أن يعلن عن نظريةٍ ظن أنه هو أول من اكتشفها، نظرية تتعلق بالغربة والألفة، فمدة مكوثه في بلده كانت وكأنها فترة لكسر رقم قياسي في البقاء في مكان لا يرتاح فيه، كالغوص تحت الماء، أو التهام كمية من طعام رديء المذاق، أو مجالسة سفهاء، أو المراهنة على عد أكبر كمية من رمال الصحراء..
كان تواقاً للعودة الى المدينة التي فيها جامعته، وقد قرر في سره أن لن يغادرها بعد تلك المرة، فالمجالسة فيها أكثر متعة والوقت فيها لا يتشابه مع سابقه، فالنمو فيها أكثر اتزاناً وأكثر فائدة...
أما الهواء الذي يتنفسه، فكان عنده ليس تلك الغازات المنتشرة في الفضاء وليس نقائها وجودتها بزيادة نسبة الأكسجين بها، بل كان عنده مختلفاً باختلاف من يخالطهم، فهذا ابن تونس وينتهي اسمه ب (اللومي) وهذا ابن اليمن الجنوبي و ينتهي اسمه ب (با مدهاف) وهذا ابن البحرين وينتهي اسمه ب (الزياني) وهذا ابن سوريا وينتهي ب (الدقاق)، وهذا ابن العراق وينتهي ب (الجبوري) وأسماء كثيرة من كل بلدٍ ومدينة، كانت رئتاه تتمدد الى لا حد، لتستوعب كل ما يصادفها..
هناك فرقٌ أن يعيش الشخص بوسطٍ مكون من عشرة آلاف نسمة، قد يكونوا أبناء جِدٍ واحد أو أبناء خمسة جدود، تناقلوا خبراتهم وثقافاتهم فيما بينهم، فأصبح الأمر محكوما عليه بمساره، وبين عشرة آلاف أتوا من عشرة آلاف جدٍ جاوروا أجداداً غيرهم، فكما أن كل أمة تجر وراءها آلاف السنين المليئة بالخبرات والمعارف غير المدونة في كتب، فهؤلاء الخلطاء الجدد يعتبروا منجماً لتعزيز الثقافة المطلوبة لتكوين الشخصية التي كان يتوق لها علوان.
وحتى لا يكون مملاً وغير مقبولاً عند مقابلة أمثال هؤلاء، كان يجدد في مطالعاته وقراءاته ليحملها (زوَّادة) للتفاعل مع هؤلاء، وهذا سيكون رافداً عظيما آخر لحقن ذاته.
(32)
لاحظ مسئولوه همته وحبه لأدائه في مهامه التنظيمية، فأوصوا بإدخاله دورة للقيادات الوسطى، فبعد أن كان يمارس مسئولية تسع حلقات في الأسبوع الواحد، أضيفت عليه مهمة جديدة وهي الخضوع لدورة مكثفة، حاضر فيها أساتذة جامعات ممن آمنوا بفكر الحزب، ومفكرون كِبار، وتناولت مواضيعها شؤونا مختلفة بين السلوك اليومي والانضباط والاحتراف وكتلة عدم الانحياز والاشتراكية والنهوض وحيوية الفكر الخ.
وفي مساء ذات يوم، جاءه أحدهم يحمل حقيبة مملوءة بأشياء، وأخبره بأن عليه حمل تلك الحقيبة الى خارج الحدود، ودونما أن يعبر بتأشيرة جواز سفر، وأعطاه كلمة سر، سيقابله أحدهم خارج الحدود، ليستلم الحقيبة منه، وحذره من عدم محاولة فتح الحقيبة، وأن الانطلاق سيكون من موقف السيارات في الساعة كذا ...
ذهب في اليوم المحدد، والساعة المحددة الى موقف السيارات حاملاً الحقيبة معه، وما أن حَكَم الوقت، حتى أقبل من أعطاه الحقيبة مبتسماً، وقال له: هاتِ الحقيبة، لقد أُلغيت المهمة، تهانينا: لقد نجحت في الاختبار!
لكنه غافل صاحبه ولاذ، ثم استقل سيارة الى منطقة الحدود وعبر الحدود دون تأشيرة، ودون الحقيبة، وبات ليلة رأس السنة في المدينة الحدودية ثم عاد في اليوم التالي، وعندما فاتحه المسئول بذلك، أجاب: كنت بحاجة الى ذلك الاختبار من تلقاء ذاتي..
(33)
تم تبليغ علوان بموعد ومكان حفل ترديد قَسم المرحلة الجديدة ، وذلك بعد أن أكمل خمس سنوات في مراحل ما قبل ذلك، وتم تبليغه بأنه سيحضر الحفل مسئول حزبي كبير.
كان هناك نقاطٌ للتفتيش، مُقامة على كل تقاطع من شوارع فرعية خلت من الباعة والأطفال وحتى الناس، وحُرَّاس يلبسون ملابس تختلف عن ملابس الجيش والشرطة، ومعهم أجهزة اتصالات كالتي مع عمال تفجير الصخور في الجبال. لم يفتشوا أحداً، ولكن يبدو أنهم تعرفوا على المدعوين قبل وصولهم لنقاط التفتيش.
عند مدخل البهو كان هناك شبان سمر يقفون على جهتي المدخل الواسع، يلبسون بدلات رمادية، ويشبكون أزرار ستراتها الوسطى، ويقفون بوقفة استعداد فارجي سيقانهم قليلاً، كانوا يبدون كأنهم فريق كرة قدم أستدعي لتكريمه.
سار بجانب علوان شابٌ من طاقم الاحتفال مبتسماً ابتسامة رسمية، وأعلمه مكان جلوسه، جلس بجانب شابٍ آخر لا يعرف اسمه ولا من أي منطقة جاء.
تأمل المكان الهادئ، فالمنصة لا زالت خالية من رعاة الاحتفال، والكل في حالة سكون وترقب. أشغل نفسه بتخمين ارتفاع البهو، عشرة أمتار، أكثر قليلاً، ثم بعرضه وطوله، وقراءة الشعارات المكتوبة (فلسطين طريق الوحدة.. والوحدة طريق فلسطين)، (نفط العرب للعرب)، (لا حرية بلا تحرر)، (الشهداء أكرم منا جميعاً)، (الزراعة بديل النفط)..
دخل رعاة الحفل القاعة، فنهض الجميع، وكان نهوضهم كقرقعة سلاحٍ تهيأ للرماية، كان الجو مهيباً، وكان الحضور يجلسون برضا واستعداد وكأنهم نُذروا لتخليص الأمة من ويلاتها...
لم يشاهد الكثيرين ممن حضروا الدورة المكثفة، هل لأنهم خافوا أن يعبروا الحدود، أم أن مهامهم كانت مختلفة؟ ومن يدري هل أفشى بعض المسئولين سر الاختبار بأنه وهمي لبعض من جرى عليهم الاختبار؟
حلَّ عليه شعورٌ غريب وهو يستمع لكلمات (كرنفالية)، هل هيبة الجالسين على المنصة قد استمدت من الحراس والشوارع الملتوية، وغرابة المكان؟ أم أنها استمدت من خضوع هؤلاء الأتباع ومظاهر استعدادهم للولاء والدفاع عن المبادئ؟ ماذا لو كان مثل هذا الاجتماع لم ترعاه دولة قائمة؟ ماذا لو كان الدخول للبهو قد جاء بدون حرَّاس وبدون اختبارات وهمية؟ هل ستبقى درجة ولاء هؤلاء الجالسين كما هي؟