ثانياً / الطريق الي السلام :-
1- بوابة السلام :-
اعطت الانتفاضة مبرراً لاستبدال الفئة العليا التقليدية المكونة من اصحاب الاراضى بقيادة جديدة تحت رعايتها فى مدارس وجامعات الضفة الغربية وقطاع غزة وعمليا، فهى شقت الثغرة امام تغيرات بعيدة المدى فى التفكير السياسي لدى الفلسطينيين . ومع اندلاع اعمال العنف توجه الحكام المدنيون الاسرائيليون الى مخاتير القرى وقيادة الوجهاء التقليدية ، لكن ما اذهل الاسرائيليين – وربما اذهل القادة التقليديين انفسهم – انهم لم يكونوا قادرين علي تقديم شئ يذكر لوقف موجة المقاومة ، ولعلهم ايضا لم يكونوا راغبين بذلك .
فقد تمتع محاضرون فى الجامعات وصحفيون واصحاب مهن حرة آخرون بقدر كاف من الاحترام والدعم السياسي ، لكن مطالبة سكان المناطق المحتلة بتمثيل لهم ازدادت قوة من مطلع التسعينيات نتيجة انعدام الثقة الذى اثارته قيادة منظمة التحرير الخارجية في العالم ، بعد ان دعمت صدام حسين ، وانعدام قدرتها علي استبدال انجازات الانتفاضة بانجازات سياسية . واسهم في احداث هذا التحول الجذرى الدور الذي لعبه قادة الداخل في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائرسنة 1991 ولعل اهم شئ – نتيجة للدور الذي ادوه كوفد فلسطيني الى محادثات السلام المتجددة في مدريد
كان فيصل الحسينى من بين شخصيات (( الداخل)) البارزة وهو ابن الشهيد عبد القادر الحسينى ، الذى ترأس القوات الفليسطينية المقاتلة فى حرب 1948 ويرى الكثيرون ان الحسينى ،المسؤول عن مصالح منظمة التحرير فى القدس الشرقية ، وريثا محتملا لعرفات عندما يحين الاوان اما حنان عشراوى الشخصية الفلسطينية المعروفة فكانت ناطقة باسم القضية الفلسطينية في الحلبة الدولية افضل من أي وقت مضى . وهناك استاذ جامعي آخر من جامعة بير زيت هو "سري نسبية" ، ابن عائلة فلسطينية معروفة كان والده وزير الدفاع في الاردن ،وادار اهم مؤسسة اقتصادية فلسطينية ((وطنية)) هى شركة كهرباء القدس الشرقية الي ان انتهت مدة امتيازها . والدكتور حيدر عبد الشافي من غزة ، الذي يؤيد وينقد في نفس الآن تحركات عرفات وفتح . و قد اكتسب د . حيدر عبد الشافي احتراماً كبيرا لكونه احد مؤسسى منظمة التحرير الفلسطينية ، ومؤسس الهلال الاحمر ورئيس الوفد الفلسطيني الي محادثات مدريد .
منذ اللقاء المتجدد بين المجتمع الاسرائيلي ( اليهودي والعربي علي السواء ) وبين فلسطيني الضفة الغربية وقطاع غزة تحطم جزء من القوالب التي نظر العرب والفلسطينيون من خلالها الي المجتمع والدولة اليهودية . اتضح لهم انها متعددة المشارب والاصوات اكثر بكثير مما بدت عليه ((صنيعة الامبريالية )) التي تخيلوها عندما كانوا في انقطاع تام بين 1948و1967 . فعلى سبيل المثال عرض السرطاوى في 1977 تعايشا بين دولة فلسطينية تقام في المناطق المحتلة في حدود 1967 وبين اسرائيل ؛ وقد اغتاله متطرفون قوميون قبل ان يستكمل طرح خطته امام المجلس الوطني الفلسطيني ، وبعد ان اجري سلسسة من اللقاءات مع ناشطى سلام اسرائيليين . لكن سلسلة من التحركات والاحداث حملت قسما من الفئة العليا في التيار المركزى في الحركة القومية الفلسطينية للامتناع عن معارضة الاقتراح عندما طرح في 1992 مع بداية تفكك الدولة السوفيتية العظمي ، التي اعتبرت حامية العالم العربي عموما والقضية الفلسطينية بشكل خاص
وفي غضون ذلك ، كان حوالي 700.000 مهاجر من الاتحاد السوفيتي وروسيا جاءوا خلال سنوات قليلة لاسرائيل ، غيروا تماما النظام الديموغرافي في فلسطين بصورة لا تخدع مصالح العرب
وحملت الانتخابات التي جرت في اسرائيل عام1992 الي الحكم تحالف اقلية بقيادة اسحق رابين ، الذى توصل بنفسه بعد ان اندلعت الانتفاضة وحاول قمعها باستخدام القوة العسكرية ( كونه وزير دفاع ) الي استنتاج انه لا يوجد حل بالقوة لتزايد روح التمرد التي حلت بالفلسطينيين وان تحويل الجيش الي شرطة قامعة لابد ان يمس بقدراته القتالية في حرب حقيقية وبمعنويات مقاتليه
وايد رابين مبادرة خاصة غير رسمية لعدد من الاكاديميين الاسرائيليين ( وخاصة يئيرهيرشيفلد و رون بونداك ) الذين اجروا محادثات مع رجالات القيادة في منظمة التحرير الفلسطينية ( احمد قريع "ابو علاء" – محمود عباس "ابومازن" ) برعاية حكومة النرويج ووزير خارجيتها يوهان يورغن هولست ، وهى مبادرة حظيت لاحقا بتصديق وزارة الخارجية الاسرائيلية حين واصل "اورى سافير" ونائب وزير الخارجية "يوسي بيلين" ووزير الخارجية ( شمعون بيرس ) نفسه المفاوضات عندما تبين استعداد الفلسطينيين لتسوية مرحلية ، وبموجب ما تكشفت عنه محادثات النرويج ، كانت منظمة التحرير الفلسطينية مستعدة لاخذ السيطرة على القطاع وعلى قسم رمزى اضافى من الضفة الغربية ، كجزء من اتفاق مرحلى تقوم فى اطاره سلطة وطنية فلسطينية مستقلة على هذا القسم ، وعلى اجزاء اخرى من هذه المناطق التى ستنقل الى منظمة التحرير ، من دون تحديد الاهداف النهائيه للتسوية الدائمة
وفي آب 1993 اخذت هذه الموافقة شكلاً رسميا عبر اعلان المبادئ بخصوص التسوية المرحلية لحكم ذاتى ، تم توقيعة فى واشنطن فى 13 آيلول . وقد جاء فى مدخل الاعلان : (( حكومة اسرائيل وطاقم منظمة التحرير الفلسطينية التى تمثل الشعب الفلسطينى ، متفقتان على انه قد حان الاوان لوضع حد لعشرات السنين من المجابهة و النزاع ، وتتبادلان الاعتراف بحقوقهما المشروعة والسياسية ، وتتطلعان لعمل كل ما تسطيعان للتعايش معا ، بسلام واحترام وامن متبادلين ، وللتوصل الى تسوية سلام عادلة ، دائمة وشاملة لتصالح تاريخى بواسطة عملية سياسية متفق عليها .
2- السلطة الوطنيه
لم يكن المقابل الاساسى الذى وعد به الفلسطينيون ، عدا الاعتراف باسرائيل ، نهاية فحسب لحرب الفدائيين ضد اسرائيل ، بل خطوة فاعلة لمنع هجمات عسكرية ضدها ايضاً وضد الاسرائيليين وحتى ضد سكان المستوطنات اليهودية فى المناطق المحتلة . لهذه الغاية اتفق على اقامة شرطة فلسطينية و اذرع امن مختلفة مثل "الامن الوقائى " ، كجزء من السلطة . وكان الجيش الفلسطينى بزيه وسلاحه الخفيف حتى المتوسط جزءا مركزيا من الرموز التى كان على اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية توفيرها للسكان ، ومن مؤشرات الدولة التى سعت السلطة الى خلقها بموجب الاتفاقات . وكان من المفروض ان يصل عدد افراد هذه الميليشيات الى تسعة الاف شخص ، لكن الرقم الحقيقى تدريجيا كان اكبر من ذلك بكثير ، وطمست الحدود بين الميلشيات الرسمية وبين الجماعات المسلحة المختلفة ذات محاور القوة والولاء المتعددة . وكثير من الفلسطينيين عارضوا الاتفاقيه .
وقدم "ادوارد سعيد" تعبيرا حاداً عن هذه الرؤية . باعتباره المثقف الفلسطينى الابرز ، الذى يعد اشهر نقاد الشرق و الاستشراقيين فى الثقافة الغربية ( من خلال الثقافة الغربية ذاتها ) . حيث تبنت السلطة الوطنية الفلسطينية اسلوب ومراسيم الدولة ، فالقائد يسمى "رئيساً" وحملة الحقائب المختلفة يسمون "وزراء" والاقسام المختلفة "وزارات " وتبنت السلطة الوطنية الفلسطينية علم ونشيد منظمة التحرير الفلسطينية الوطنى ، وكذلك ممثليها الدبلوماسيين فى خارج البلاد واقيمت محطة اذاعة رسمية وعدد من محطات التليفزيون المحلية ، التى تبث كلمة السلطات وحتى التقارير المباشرة من المجلس التشريعى ، الذى كان دوره تمثيليا فى الاساس وتم كذلك تشكيل الجهاز القضائى الذى حاول ان يظهر بمظهر المستقل عن السلطة التنفيذية ، دون ان ينجح فى ذلك
بعد توقيع الاتفاقيات بوقت قصير ، فى 25 كانون الثانى 1996 ، جرت فى مناطق السلطة الفلسطينية ، وتحت انظار المراقبين الاجانب ، انتخابات لـ 88 مقعداً فى مجلس السلطة ، الذى اعتبره الفلسطينيون برلمان فى كل شئ ، وفازت فتح ومرشحون مستقلون متماثلون معها باغلبية ساحقة ، لكن هذه التجربة الانتخابية لم تتكرر الا بعد مضى احد عشر عاما منذ ذلك الحين ، وبدات السلطة بتشغيل خيرة المثقفين والباحثين المحليين فى بلورة البرامج التعليمية وكتابة الكتب المدرسية ، لكنها عملية اخذت وقتا طويلا وموارد كثيرة . وجرى تجنيد وسائل الاعلام من صحافة واذاعة وتليفزيون فى بناء الهوية الوطنية الفلسطينية
كان هناك من رغب بالاندماج بـ ((النظام الجديد)) الذى اسسه عرفات ، وحظى بدعم جماهيرى فى البداية على الاقل فى مرحلة الفورة العاطفية والامال الكبار ، وكذلك من سعى للتمسك بالاهداف التقليدية ، أى : بمواصلة ((حرب الجهاد )) ضد اليهود حتى تحرير كافة الاراضى المقدسة ، لتتلوها اقامة دولة الشريعة الاسلامية .و رغب معارضوالاتفاقية بتجديد حرب الفدائيين بتفجير الاتفاقات مع اسرائيل وتقديم البراهين على ان السلطة الوطنية الفلسطينية لا تسيطر فى المناطق المحتلة وغير قادرة على توفير اهم ما تحتاجه اسرائيل – الامن الداخلى فى داخلها . وبين السادس من نيسان 1994 و21 آب 1996 نفذت "حماس" و"الجهاد الاسلامى" سلسلة من الاعمال النضالية ، وخاصة داخل مدن اسرائيل المركزية ، وتسببت بسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى ، من خلال استخدام استشهاديين يحملون على اجسامهم المواد المتفجرة . لكن الاضرار الجماعية اللاحقة بالمواطنين الاسرائيليين فى مراكز المدن الكبرى هددت بانحراف الراى العام الايجابى المتبلور فى اسرائيل تجاه اتفاقات اوسلو والقاهرة ، موفرة الذريعة لادعاءات المعارضة بان ذلك ليس سلاما . وكلما تجددت الاعمال الفدائية ، لجأت اسرائيل الى فرض "الاغلاق" وغير ذلك من العقوبات على مناطق السلطة الفلسطينية وعمدت الى تعليق تنفيذ المراحل الاخرى من الاتفاقات . وظهر مصطلح جديد فى القاموس السياسي الاسرائيلى ، كانت الغاية منه توفير ما يشبه الغطاء الايديولوجى و الواجهة السياسية العقلانية لتبرير اللجوء الى الاغلاق ، المتواصل من يوم ليوم . كان ذلك المصطلح هو "الفصل" وكانت الغاية منه تقليص اى صلة مادية بين الفلسطينيين والاسرائيليين بقدر الامكان .
وكان تحسين مستوى الحياة من بين مجمل الامال التى توقعها السكان الفلسطنيين ، والذين تقلصت مصادرهم كثيرا منذ ايام الانتفاضة وطرد الفلسطينيين العاملين فى الكويت . كان هذا الامل مؤسسا على عناصر خارجية تحول رؤوس الاموال على شكل منح وقروض لتطوير البنى الاقتصادية وكذلك لدعم المؤسسات الاجتماعية ايضا . دول ووكالات كثيرة ( اربعون دولة بينها الولايات المتحدة ودول اوربا و الدول العربية و اليابان وغيرها و وكذلك البنك الدولى ) وعدت بتحويل سنوى للسلطة بقيمة 2.3 مليار دولار (حتى 1998 كان من المفروض ان يصل المبلغ الى 3 مليار دولار )
مع الوقت تقلصت هذه التحويلات ، وخاصة مع انتهاء السنوات الخمس من التزام البنك الدولى بتمويل الخدمات العامة الفلسطينية كانت الغاية من تحويل هذه الاموال تمويل مشاريع محددة خاضعة لرقابة الممولين الدائمة . لكن احداً لا يعرف من الناحية العملية ، كيف تم صرف هذه الاموال وبموجب الاتفاق الموقع فى نيسان 1994 فى بروتوكول اقتصادى تم توقيعه فى باريس بين اسرائيل و منظمة التحرير الفلسطينية قرر ان يتم تحويل 75% من اموال الضرائب المجبية من العاملين الفلسطينيين فى اسرائيل للسلطة الوطنية
لم يتحقق الامل برفع مستوى الحياة مع ارساء الحكم ذاتى ( باستثناء طبقة دقيقة من الفئات العليا بدات تزدهر بعد نقل الصلاحيات من السلطة العسكرية الاسرائيلية للسلطة الفلسطينية ) . وما وقع هو العكس ، ذلك ان مستوى حياة اجزاء كبيرة من السكان الفلسطينيين ( وخاصة فى قطاع غزة ) انخفض ، وتسجل هبوط بنسبة 25% من مستوى الحياة ، منذ ان بدئ فرض الاغلاقات المتواصلة . وخرج حوالى 95.000 – 150.000 عامل فلسطينى بصورة شبه نهائيه من سوق العمل فى اسرائيل ، وبموجب مفهوم ((الفصل)) ، احضر بدلا منهم عمال من اسيا وشرق اوروبا ،عدا ذلك ، اقامت السلطة الوطنية جهازا فعالا لجباية الضرائب ، لتمويل مصاريف السلطة الجديدة . كل ذلك ، ومع البيروقراطية المتكونة ، وضع الصعوبات الاضافية امام رعايا السلطة الوطنية الفلسطينية ، كذلك فان الشائعات بشان اعمال الفساد الذى ازدهر واتصل باسماء قسم من مسؤولى السلطة الفلسطينية ذاتها ، لم تشجع التطوير من الاسفل وخفضت معنويات السكان ورفعت مستوى الجريمة كثيرا .
وبغياب الدولة ، اعتنى الفلسطينيون باجهزة بديلة تمثلت في الجمعيات والمؤسسات الخيريه جاء تمويلها من مصادر اجنبية وهي التي وفرت ومنذ منتصف التسعينيات 60% من العيادات والمساعدات الاولية ، وحوالى نصف خدمات المستشفيات ، وما يقارب 30% من جهازالتعليم ، وجميع خدمات المساعدة والتاهيل للعاجزين والمعتقلين سابقا ، اضافة الى الارشادات والابحاث الزراعية . . حيث اشتغل فى هذه المنظمات مطلع التسعينيات ما بين 20.000 – 30.000 مهني