حياة أميرة عثمانية في المنفى"20"
يا سلمى بنت خيري رؤوف،وخديجة مراد السلطانة. هل تقبلين بأمير،بن أمير علي من بادلبور،وعائشة سليم آباد زوجا لك؟ هل تقبلين؟"كلا .. لا أريده".وتظن سلمى أنها أعلنت صوتها فيما قالت. ولكن النسوة بقين كما هن،حولها. وضاقت صدرا،وبدأت تبحث بعينيها عن زهراء : فلا تجد أمامها إلا الراني عزيزة بوجهها القاسي. وعليها أن تجيب. وفجأة تلاحظ أنها حتى الآن كانت تمثل،تمثل دور الخطيبة،ولكنها في الحقيقة،كانت تحتفظ بقرارها لآخر لحظة،عندما تستطيع أمام الشيخ (المولوي) أن ترى أمير،وتقرأ ما في نفسه من خلال عينيه .... فهل خدعوها! .. أو أنها خدعت نفسها وأخطأت؟ (..) – سلمى هل تريدين أن تقبلي ... "كزوج".وعاد الصوت يتكلم،أولا يَدعون لها لحظة للتفكير؟ وتشعر بأن النسوة حولها يضحكن ملء أفواههن،ويسخرن بنظرات عيونهن. "لعلهن ظنن أني خائفة؟".- بلى أريده.أتراها هي سلمى،التي تكلمت. لقد أعاد الشيخ جملته ثلاث مرات. وثلاث مرات سمعت نفسها تقول : نعم،بصوت المصمم،حتى إن النساء بدأن ينظرن بعضهن إلى بعض وكأنهن يقلن : أي أسلوب غريب يستخدم،لدى فتاة تتزوج!ولكن الحفلة كلها لم تدم أكثر من خمس دقائق. (..) ومن جديد،عادوا فدهنوا جسمها بالعطور،وألبسوها الغارارا الحمراء والمذهبة،غارارا المتزوجات. وعلقوا بعنقها وأذنيها،عددا كبيرا من الحلي الماسية،ووضعوا في زنديها عشرات من الأساور الذهبية،تملأها من الرسغ حتى المرفقين. بل إن رجليها أثقلت بسلاسل ذهبية،وكذلك باهماها{هكذا!!} فقد جعلا يلمعان بالأحجار الكريمة. ولم يعد ينقصها إلا الماسة الوحيدة التي توضع في الأنف الأيمن. والتي لا تكون العروس جميلة إلا بها. ولكنها قبل ذلك ببضعة أيام،عندما جاءت النساء ليثقبن أنفها،صرخت صرخات احتجاج،كانت من القوة بحيث أنهن تركنها،وتخلين عن عملية الثقب.ولكن الشمس قد علت في الأفق،وها إن سلمى،مزينة كوثن معبود،وغارقة في غرارتها القاسية من كثرة التطريز،تنتظر. فهي جاهزة. فهل يتفضل راجاها الجميل،بأن يأتي أخيرا؟ولكن سلمى ليست مستعدة تماما تماما. ذلك أن امرأة تقترب منها ،ماسكة بيدها،مسكة دينية،وشاحا من الموسلين الأحمر،مغطى بستارة من الورد والياسمين،فوقها أشرطة مذهبة. وهذا هو وشاح الزوجة،الذي سيغطي وجهها،طيلة حفلة الزواج. وتشعر سلمى أنها تكاد تختنق،تحت هذا الحجاب المثلث،ولكنها تعرف اليوم أنها لا تستطيع أن ترفض هذا الشيء الذي يرمز إلى الصفة {هكذا} العذرية.وبدأت الفتيات تغني. ثم تأني يدان قويتان فترفعانها وتنقلانها بنعومة،كأنها صرة صغيرة من اللون القرمزي والمذهب،إلى ما تحزر أنه سيكون الفناء المركزي للزينانا. ومن خلال حجابها ترى كرسي العرض يتبوأ منصة. وبألف عناية يضعونها فيه. وبدءا من هذه اللحظة،لم يعد يجوز لها أن تأتي بحركة،ولا أن تتنهد أبسط التنهيد. إذ يعتبر أنها ليست شيئا آخر غير الرقة،والضعف،والاستسلام المنتظر. (..) وتبتسم سلمى ابتسامة مسكينة،محاولة أن تدفع الدوار عن نفسها،فتسمع من يقول لها : - اخفضي عينيك،فالعروس المتواضعة لا ينبغي لها أن تضحك!والراني عزيزة،في قمة الاستنكار : "هذه الحمقاء الصغيرة على وشك أن تفضحنا. أولا تفهم أن من قلة الحياء أن تعرب عن سعادتها،لدى انتقالها من حياة العزوبية إلى حياة الزوجية. وكذلك من المعيب أن يظهر عليها شيء من البؤس،لما لذلك من إساءة إلى أسرتها الجديدة؟".{هذه والله الورطة!!! ويقولن لماذا تثور المرأة وتتمرد؟!!}ومع ذلك فإن هذه الأشياء بسيطة يسهل فهمها. ويزداد الحر أكثر فأكثر،فتتنفس سلمى بعناء ..(..) ترى كم ظلت مغمى عليها؟ إنها لا تعرف.(..) .. أمير!وكانت النساء ترش على قدمي الراجا،ذلك الماء الذي تحممت به الخطيبة،ثم انسحبن باحترام. فتقدم بخطوات خفيفة إلى الكرسي العرائسي،حيث تنتظره سلمى،ويجلس بجانبها،مع الحذر من أن يمسها. أما هي فإنها لا تراه،ولكنها تحس بأنفاسه،القصيرة نسبيا. أيكون في مثل حالها من الهيجان؟ ولقد غطوهما بشال واسع،يخفيهما عن أنظار الناس : وفوق رأسيهما كانت تقف امرأة تحمل القرآن،وبين رجليهما وضعت مرآة. وفي هذه المرآة سيرى كل منهما الآخر لأول مرة."أترفع حجابها،إنه ينتظر هو أيضا ليرفع حجابه. وأخيرا سأراه،فمم الخوف؟". وتتابعت على أنظار سلمى صور مخيفة : فتحت حجاب زوجها،يختفي وجه كوجه القرد،تظهر عليه حبات الجدري ... كما لو أنه مخلوق عجيب. وهي تحسه تعرف أنها تحسه. فكيف لم تحزره من قبل؟ ولهذا رفض أن يقابلها قبل الزواج! أما الصورة. فهي مزيفة وقد أرسلت لمجرد الإقناع. وما من مرة ظهرت لها يدها ثقيلة إلى هذه الدرجة،عندما جمعت كل قواها،لتحملها إلى حجابها. ولما لم يكن أمير ينتظر إلا هذه الإشارة،فإنه أسرع،بحركة خفيفة،فكشف هو حجابه. أما في المرآة فإن وجهه الحار كان ينظر إلى عينين زمرديتين مبللتين بالدموع. ولم تنتظر سلمى نهاية الصلاة. فما إن شعرت أن الحفلة انتهت وجدت نفسها بين أيدي نساء يمسكنها،ويضعنها على الهودج إلى جانب زوجها.ومن خلال الستائر التي كانت تحجبها عن الأنظار،هاهي الآن ترى مسيرة المدعوين (..) ورفعت سلمى الحجاب عن وجهها،وهي على الفيل،بعيدة عن الأنظار الطفيلية وعن النقاد. ونظرت إلى زوجها،مندهشة سعيدة. وهو أيضا لم ينس أن ينتهز الفرصة،فتخلص مما وضعوه على رأسه من المزعجات،وابتسم لها كالمتواطئ معها. فغمر الفرح قلب المرأة الشابة : يبدو إذن أنه يفهمها،ويعرف كم هو صعب أن تتحمل هذا كله.وتوقف الفيل. ثم ركع ببطء،في الحين الذي وضعوا على جنبه السلم الذهبي. أما الخدم والحشم فإنهم (أو إنهن) ينتظرون سلمى،في الطابق الأرضي،لكي يحملوها إلى الأجنحة المخصصة لها. وتحاول أن تتخلص منهم،وتريد أن تمشي. ولكن أمير،الذي كان وراءها،يتدخل ويقول : - إن عليك أن تحترم التقاليد!وكانت هذه أول جملة تبودلت بينهما. ولن تنساها. أما غرفة الزوجية فإنها اختفت تحت أكوام الأزهار. وهناك صوان من الفضة،وضعت فيه فواكه،وسكاكر،صففت كالأهرامات. أما في محارق العطور،الموضوعة في جهات الغرفة الأربع،فيُستهلك المسك والصندل.) {ص 384 - 389 }. كما قفزنا فوق ما لا يخص القارئ غير (المتطفل)،فإننا سوف نقوم بعدة قفزات .. مبتدئين بالحفل الذي أقيم بعد أسبوعين من العرس : ( أما الراني عزيزة،المتألقة،كما لو أن الناس يحتفلون بانتصار شخصي لها،فتأمر وتطلب : وها إن أكواما من"البالايكي جيلوريان"- وهي مخاريط من الكريمة الطرية،المحشوة بالجوز والمعطرة بالهال – والحلوى،والموتانجان – وهي مربى صنعت من لحم الجدي – وكل أنواع الحلوى المخصصة لطعام العرس،تقدم،مرصوفة بشكل فني،على صوان من الفضة المطلية بالذهب.){ص 407}.ثم إلى حفلة حضرتها سلمى وأمير،لدى السير هاري ويغ – حاكم المحافظات المتحدة – وهناك .. بدأت السهرة بداية حسنة : إذ قدم الكبد المعجون وخمرة السوترن،وطير الدرج المسقي بخمر البورغواني المسكر. ذلك أن السيد الحاكم يحسن الاستقبال،ثم إنه حسن التصرف مع النساء. إلى أبعد مدى. وكانت سلمى قد نسيت تقريبا،أن مصاحبة الرجال،شيء سار جدا،وخاصة عندما تشتعل في العيون تلك الشرارة الصغيرة،فتشعر من جديد أنها امرأة.){ص 419}. ليس بالضرورة أن يدقق أحد على تلك الأسطر التي تبدو للناظر وكأنها قد لونت باللون الأحمر!! ولا يتسرب إلى ذهن أحد وجود إشارة إلى الاختلاط ... أو – ربما – الرغبة المحمومة لدى البعض للاختلاط .. كأن يقول قائل : إذا عرف السبب بطل العجب ... كلي أمل ألا يتسرب إي من تلك الأوهام إلى ذهن القارئ ... فنحن هنا نحاول رسم صورة لحالة الترف لدى حكام الهند من الوطنيين والمستعمرين على السواء .. مقابل الفقر المدقع لدى عامة السكان ... حتى أن سيدة قدمت صغيرتها لسلمى لتحتفظ بها .. وتلك طريقة لــ(التملك) كانت موجودة في الهند حتى منعها الإنجليز .. في إستانبول،رأت سلمى،خلال طفولتها،الشقاء،وفي درجة من القسوة،مثل التي تراها في الهند. ولكن هذا الشقاء كان بسبب الحرب التي كانت منذ سنين تعصف بالبلاد. كان ذلك"وضعا استثنائيا"يناضلون ضده،ويعرفون أنهم سيتغلبون عليه. أما هنا،ففي كل يوم،يموت آلاف الأطفال من الجوع،وهذا واقع مقبول،متوقع،داخل في عادات الناس. والعكس هو الذي يستغربه الناس. وتتساءل سلمى : من يعرف؟ ربما أن الأغنياء تقوى شهيتهم لأنهم يعلمون أن الطعام امتياز،وفرط السِمن علامة على لوضع الاجتماعي؟ أو يكون هنالك لذة للأغنياء بالغنى،لو لم يكن هناك فقراء يذكرونك في كل لحظة،بأنك من المحظوظين؟ ){ص 514}. نعود إلى الاحتفالات التي أقيمت بعد أسبوعين من عرس سلمى .. (ومن حسن الحظ بالنسبة إليها،أن هذه الاحتفالات ستختصر بعض الشيء،لأن فترة الحزن،في شهر محرم،ستبدأ قريبا،والحزن هنا على مقتل الحسين {عليه السلام} حفيد النبي {صلى الله عليه وسلم} عام 680،مع أسرته كلها،على يد جيش الطاغية يزيد. وسيبكي المسلمون الشيعة سبعة وستين يوما على ذلك الذي يعتبرونه الوريث الروحي للنبي {صلى الله عليه وسلم} – ذلك أن الخلفاء الثلاثة الأوائل ،المبجلين جدا لدى السنة،هم مجرد مغتصبين في نظرهم. وخلال سبعة وستين يوما لا تشهد العين احتفالا،ولا حليا،ولا ثيابا ملونة،بل تشهد مسيرات جنائزية،ومجالس،أي اجتماعات للصلاة،يقوم خلالها مرتلون،موهوبون للألم،بانتزاع طوفانات من الدموع،يذرفها الحضور،وهم يتذكرون مأساة كربلاء،وفضائل الشهداء. وتشتهر لوكنوف،في الهند كلها،بالجمال الواخز،لهذه الاحتفالات.){ ص 408 }.في احتفال الحاكم الذي نقلنا منه ما يتعلق بالطعام .. طبعا وعنايته بالنساء!! في ذلك الاحتفال،وجدت سلمى نفسها بين مجموعة من النساء الإنجليزيات ... وكن يتطلعن لدعوة هذه (الأميرة) – سمعن من ناداها بهذا اللقب – لمزيد من التسلية وكانت هناك سيدة صغيرة شقراء،أكثر جرأة أو أكثر فضولا من غيرها،فغامرت بهذا السؤال : - أمن زمن بعيد يا أميرة – وكم هي حلوة هذه الكلمة إذا لفظت! – تركتِ فرنسا؟ ودهشت سلمى،ونظرت إليها،وأجابت : - ولكني لم أذهب قط إلى فرنسا .وعندما لاحظت دهشتهن جميعا،أضافت قائلة : - أعتقد أن لهجتي هي التي تحمل على هذا الظن. والحقيقة أني رُبيت في بيروت.وتنهدت امرأة وقالت : - آه،بيروت،إنها باريس الشرق الصغيرة. وحقا فلقد نجح الفرنسيون بتمدين هذه المدينة. فلعل أباك،على الأرجح،هو أحد كبار الموظفين،أو هو ديبلوماسي،أو لعله ضابط؟ وأجابت سلمى،دون أن تفهم ماذا يعني هذا الحديث. - أظن أن أبي لم يفعل قط في حياته شيئا آخر غير الاهتمام بأحصنته.وصادقت السيدات على قولها هذا،وقلن : طبعا،فهو أمير .. - إنه ليس إلا دامادا،ولكن أمي سلطانة.دامادا،سلطانة،هنالك شيء غير منسجم في هذا الكلام،فلعلها تسخر منا! ... - وإذن فلست فرنسية؟ - طبعا لا،فأنا تركية.تركية! وتتجعد الأفواه،محتقرة : تركية! لقد ضحكت علينا تماما. ولكن أين مضت لتحصل على هذا اللون القيشاني،فالأتراك أقرب إلى السواد.وهذا معروف.لا ريب إذن أن أمها اقترفت الإثم،مع أحد جنودنا،عندما كنا نحتل إستانبول ...وتصدت امرأة أكثر طيبا من الأخريات،لإنقاذ هذه الصغيرة المسكينة من هذا الوضع الحرج. - تريدين أن تقولي أنك تركية من أصل إغريقي ومسيحية؟ - لا،أبدا،فأنا تركية مئة بالمئة – وقالت سلمى مستنكرة. - وجدي السلطان مراد.ولكن هذا لا يؤثر أبدا في الحاضرات. إذ لا يصل أي مسلم،في رأي هؤلاء البريطانيات البورجوازيات،إلى كعب حذاء أي بريطاني،حتى ولو كان سلطانا.وترق لحالها السيدة الطيبة،فتقول لها : - وماذا تفعلين هنا؟ - لست هنا وحدي. أنا متزوجة.- وإذن يمكن أن تكون ممن يزار. لابد أن زوجها فرنسي. - إني متزوجة من راجا بادلبور.أمتزوجة من واحد من السكان المحليين! إذن .. هي تركية .. ومسلمة فوق ذلك. فماذا كان يمكن أن نأمل أكثر من هذا؟ فيدرن إليها ظهورهن. وفجأة ظهرت أشياء شخصية جدا بينهن،فهن يتحدثن عنها. أما السيدة اللطيفة،فإنها لم تعد تجرؤ على توجيه الخطاب إليها،خوفا من استنكار صديقاتها،فتعود إلى تطريزها.وحتى في بيروت،وفي المدرسة الفرنسية،لم يحدث قط أن كانت ضحية عرقية صريحة إلى هذه الدرجة،فكظمت بسمة عندما فكرت بأن نساء الموظفين من نوع هؤلاء،ما كن ليحلمن،وهي في إستانبول،بالاقتراب منها. إن هذا حقا لغريب .. (..) إنها تحتقرهم جميعا : "أمير" وزملاءه،الذين تشبهوا بالبريطانيين،والسير هاري الذي يشرفهم بمودته،والليدي فيوليت التي تريد،في هذه اللحظة،أن تكلمها،كرما منها ونبلا. وما من مرة شعرت بمثل هذه الكراهية. ){ص 421 - 423}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة