المَهَمّـــــــ ــــة
آخر قصه متبتها الفقيدة:
سارت بحملها متثاقلة بحذاء الجدار الصقيل ، و كادت أرجلها أن تنفسخ لثقل ما تحمل . وكان الطريق يقودها إلى نهاية مغلقة ، ويبدو أنها تعلم ذلك ، لأنها كانت تغذ السير باتجاه الزاوية التي ينتهي لديها الحائط الصقيل .
في طريقها نحو الزاوية التقت بزميلة لها ، ولعلها جارة أو قريبة ، كانت الأخرى تأتي مسرعة خالية الوفاض ، باتجاهها ، وعندما التقتا أسرت لها بأمر ، أثار حوارا سريعا بدا أنه حوار مهم لأن كلا منهما وضعت رأسها قرب رأس الأخرى ، وتمنيت في تلك اللحظة لو أعرف ماذا دار بينهما ، بحيث جعل تلك القادمة تغير خط سيرها وتركض بسرعة بينما استعدت الأولى لمتابعة السيرالمتثاقل .
خلال سيرها توقفَتْ مرات عدة لتثبيت حملها الثقيل ، الذي كاد أن يقع أكثر من مرة ،
وفي إحدى هذه المرات التفتت خلفها ، ثم إلى اليمين واليسار وكأنها كانت تصيخ السمع لصوت ما ، وكان توقعها في مكانه ، فقد وجدت جماعة تتقدم ناحيتها من زاوية الحائط الأخرى وما أن وصلوا إليها حتى وضعت حملها على الأرض ، فعاينوه وتشاوروا بهمس ، ثم أخذوها معهم عائدين من حيث أتوْا تاركين الحمل لغيرها تكمل به الطريق. ثار فضولي وتمنيت أن أفهم ما يدبرون ، وماذا قالت لهم ، ولماذا عادت معهم ، وفيم بقاء الأخرى ، وما صلة القربى بين الجميع !
لحظات سرحت فيها بما يجري أمامي ، وعندما نظرت وجدت الأخرى التي بقيت، وقد وصلت نهاية الطريق وهي تنوء بحملها ، ثم توقفت في رأس الزاوية لتأخذ قسطا من الراحة ربما ..كان التقاء الحائط الصقيل بالجدار الثاني يشكل خطا – طريقا - عموديا مرصوفا بطبقة من مادة بيضاء خشنة نوعا ما ،ويبدو مرتفعا وصعبا ،
انتابني شعور بالحزن ، وأنا أرى هذا المشهد ..ورغم الضوضاء وصوت من الخارج يناديني فقد أصررت على البقاء ،لأن المشهد كان متحديا مستفزا . على أي حال
لا بد من المتابعة ، كي لا يفوتني أيا من التفصيلات الغريبة التي تحدث بهدوء ومثابرة أمام عيني .كيف ستصعد بحملها هذا؟ إنه المستحيل ! ليتها تقبل مساعدتي ، بل ليتني أستطيع مساعدتها !
اقتربت بنظري أكثر ،فرأيتها تلتفت في الاتجاهات جميعها كأنها تنتظر أحدا ،ثم توترت أعصابي وأنا أراها تحزم أمرها وتحمل حملها وتنوي الصعود ..
سارت خطوتين فسقط الحمل ، ودارت حوله دورة أو دورتين ، باحثة عن مكان أسهل للإمساك به ورفعه فوق كاهلها .. هممتُ بالتحرك باتجاهها ، وتوقفتُ وأنا ألجم ابتسامة ساخرة خفت أن يُساء فهمها ! ولكن ممن ؟ الآن لا بد من الضحك إلا أنني استبعدته تماما. حمَلتْ الحمل و رفعت ساقها الرقيقة ووضعتها فوق بداية الطريق الصاعدة فيما يشبه خطوة أولى فزلقت وتدحرج حملها ، وتشبَثتْ بالطريق
بساق واحدة وهي تنظر إلى الأعلى وإلى الخلف ، تخيلتُها تنظر إليّ فخفق قلبي ،
وتفحصْتُ الطرق كلها فزاد خفق قلبي ، فرَحا هذه المرة عندما رأيت الكثير منهم
قادمين مسرعين لنجدتها ! كيف أتوْا بهذه السرعة ؟ ومن أين ؟
نعم من أين ؟! وأنا أرقب كل المفارق والطرقات من مكاني !!
وصلوا إليها ، وبعضهم ينوء بالأحمال مثلها وبعضهم أكثر . جاءت النجدة وتمت المساعدة ، ووقف الجميع صفا منتظما خلفها ، كل ينتظرُ دوره . أما هي فقد استأنفت
الصعود . والتسلق ، بمساعدة صديقة لها أو صديق ، حتى وصلتا (وصلا )
الطريقَ العلويَ المفضي إلى نفق ما في مكان ما في المنطقة الممتدة أمامهما .. بينما الجميع يواصلون المَهمة بين نجاح وفشل يتبعه نجاحٌ وهكذا ، وأنا أهز رأسي طربا وحزنا ويأسا وغضبا .
في شرعتنا : أنا وأخي على ابن عمي ، وأنا وابن عمي على الغريب ولا نفعل!!
وفي شرعتهم : الفرد للجماعة والكل للفرد والجماعة للجماعة .
لم أسمع صوت الباب وهو يفتح ، وكل ما رأيته إصبعا تحمل كتلة صغيرة من المعجون الأبيض ، تمتد فوق حافة حوض الاستحمام المصنوع من خزف البورسلين الصقيل ، لتسد بعض الثقوب .