اليوم الثالث العاشر : رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم
**** أبو ذر الغفاري الفغاري - زعيم المعارضة وعدو الثروات
تحدثنا عن قوة الزهد لدى أبو ذر رضي الله عنه حتى بلغ معه الأمر لمقاطعة أصحابه ممن أصبح لديهم ثروات وسلطة ، وظل أمينا على نهج ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم يتصدى لفساد السلطة والمال بالكلمة والقول الثابت ويدرىء الفتن حتى تستقيم الأمور ...
نتابع معكم
إذن لما ماتت في مهدها تلك الفتن التي تفقم فيما بعد أمرها واستفحل خطرها ، وعرّضت المجتمع والإسلام لأخطار ، ما كان أقساها من أخطار.
والآن يعالج أبو ذر سكرات الموت في الربذة.. المكان الذي اختار الاقامة فيه اثر خلافه مع عثمان رضي الله عنه ، فتعالوا بنا إليه نؤد للراحل العظيم تحية الوداع ، ونبصر في حياته الباهرة مشهد الختام.
ان هذه السيدة السمراء الضامرة ، الجالسة الى جواره تبكي، هي زوجته..
وانه ليسألها: فيم البكاء والموت حق..؟
فتجيبه بأنها تبكي:"لأنك تموت ، وليس عندي ثوب يسعك كفنا".!"
يجيبها لا تبكي ، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول :
ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، تشهده عصابة من المؤمنين..
وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، ولم يبق منهم غيري .. وهأنذا بالفلاة أموت ، فراقبي الطريق "فستطلع علينا عصابة من المؤمنين ، فاني والله ما كذبت ولا كذبت".
وفاضت روحه الى الله..
ولقد صدق..
فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء ، تؤلف جماعة من المؤمنين ، وعلى رأسهم عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله.
وان ابن مسعود ليبصر المشهد قبل أن يبلغه.. مشهد جسد ممتد يبدو كأنه جثمان ميت ، والى جواره سيدة وغلام يبكيان..
ويلوي زمام دابته والركب معه صوب المشهد ، ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان ، حتى تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله والاسلام أبي ذر.
وتفيض عيناه بالدمع ، ويقف على جثمانه الطاهر يقول :
" صدق رسول الله . تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك".!
ويجلس ابن مسعود رضي الله عنه لصحبه تفسير تلك العبارة التي نعاه بها:
" تمشي وحدك.. وتموت حدك.. وتبعث وحدك"...
كان ذلك في غزوة تبوك.. سنة تسع من الهجرة، وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ لملاقاة الروم، الذين شرعوا يكيدون للاسلام ويأتمرون به.وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ..وكانت الشقة بعيدة.. والعدو مخيفا..ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين، تعللوا بشتى المعاذير..وخرج الرسول وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا ومشقة، فجعل الرجل يتخلف، ويقولون يا رسول الله تخلف فلان
فيقول: " دعوه.فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم..وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه"..!!
وتلفت القوم ذات مرة، فلم يجدوا أبا ذر.. وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام :
لقد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره..وأعاد الرسول مقالته الأولى..
كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من الاعياء خطاه..وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد، ولكن الاعياء كان يلقي ثقله على البعير..ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر، فنزل من فوق ظهر البعير، وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه، مهرولا، وسط صحراء ملتهبة، كما يدرك رسوله عليه السلام وصحبه..وفي الغداة، وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا، بصر أحدهم فرأى سحابة من النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير..وقال الذي رأى:
يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق وحده..وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (كن أبا ذر)..
وعادوا لما كانوا فيه من حديث، ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم، وعندها يعرفون من هو..وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا.. يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلاعا، وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أردك القافلة المباركة، ولم يتخلف عن رسول الله واخوانه المجاهدين..وحين بلغ أول القافلة، صاح صائهحم:
يارسول الله: انه والله أبا ذر.
وسار أبو ذر صوب الرسول.ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية، وقال:
[يرحم الله أبا ذر..يمشي وحده..ويموت وحده..ويبعث وحده..].
وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد، مات أبو ذر وحيدا، في فلاة الربذة.. بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه.. ولقد بعث في التاريخ وحيدا في عظمة زهده، وبطولة صموده..ولسوف يبعث عند الله وحيدا كذلك؛ لأن زحام فضائله المتعددة، لن يترك بجانبه مكانا لأحد سواه..!!
رحم الله أبا ذر ورضي عنه وأرضاه ...
نتابع معكم غدا مع رجل أخر ممن صدقوا ماعاهدوا الله عليه إن شاء الله تعالى
***********
اليوم الرابع عشر : رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم
***** بلال الحبشي رضي الله عنه
تحدثنا عن اصول بلال بن رباح الحبشي وأنه كان عبدا مملوكا لأناس من بني جمح بمكة ... وكان يلتقط السمع عندما يتحدث أسياده عن محمد صلى الله عليه وسلم والدين الذي يدعو إليه ....
بلال بن رباح - الساخر من الأهوال
وذات يوم يبصر بلال بن رباح نور الله ، ويسمع في أعماق روحه الخيرة رنينه ، فيذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويسلم..
ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أمية بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..
عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!
ويقول أمية لنفسه : ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب إلا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!
ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها ، وحماة الوثنية فيها...!
أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده ، وان كان الاسلام أحق به ، ولكنه شرف للانسانية جميعا..
لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام ، ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها ، واعتصمت بباريها ، وتشبثت بحقها.. لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه ، وفي كل زمان ، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حرية الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا ، ولا بملئها عذابا..
لقد وضع عريانا فوق الجمر ، على أن يزيغ عن دينه ، أو يزيف اقتناعه فأبى..
لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام ، والاسلام ، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير ، والدفاع عن حريته وسيادته..
لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان ، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال ، ويلقون به فوق جسده وصدره..
ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم ، حتى رقت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه ، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله ، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم ، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه ، ويشتري بها حياته ونفسه دون أن يفقد ايمانه ، ويتخلى عن اقتناعه..حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!
نعم لقد رفض أن يقولها ، وصار يردد مكانها نشيده الخالد : "أحد أحد"
يقولون له: قل كما نقول..
فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية : "ان لساني لا يحسنه"..!!
ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره ، حتى اذا حان الأصيل أقاموه ، وجعلوا في عنقه حبلا ، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها . وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس: " أحد أحد".
وكأن اذا جن عليهم الليل يساومونه :
غدا قل كلمات خير في آلهتنا ، قل ربي اللات والعزى ، لنذرك وشأتك ، فقد تعبنا من تعذيبك ، حتى لكأننا نحن المعذبون !
فيهز رأسه ويقول: " أحد.. أحد..".
ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غما وغيظا ، ويصيح : أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟ واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.
ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس : "أحد.. أحد.."
ويعود للحديث والمساومة ، من وكل إليه تمثيل دور المشفق عليه ، فيقول :
خل عنك يا أمية.. واللات لن يعذب بعد اليوم ، إن بلالا منا أمه جاريتنا ، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريتها..
ويحدق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة ، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر ، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا: "أحد.. أحد.."
وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة ، ويؤخذ بلال الى الرمضاء ، وهو صابر محتسب ، صامد ثابت. ويذهب إليهم أبو بكر الصديق وهم يعذبونه ، ويصيح بهم:
(أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟
ثم يصيح في أمية بن خلف : خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..
وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..
لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع بلال قد بلغ في نفوسهم أشده ، ولأنهم كانوا من التجار ، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..
باعوه لأبي بكر الذي حرره من فوره ، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...
وحين كان الصديق يتأبط ذراع بلال منطلقا به إلى الحرية قال له أمية : خذه ، فواللات والعزى ، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..
وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريا بألا يجيبه..
ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له ، وندا ، أجاب أمية قائلا:
والله لو أبيتم أنتم إلا مائة أوقية لدفعتها..!!
وانطلق بصاحبه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!
وبعد هجرة الرسول والمسلمين إلى المدينة ، واستقرارهم بها ، يشرع الرسول للصلاة أذانها..
فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟
انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهده ويشويه أن : " الله أحد..أحد".
لقد وقع اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.
وبصوته الندي الشجي مضى يملأ الأفئدة ايمانا ، والأسماع روعة وهو ينادى :
الله أكبر الله أكبر ....الله أكبر الله أكبر
أشهد أن لااله الا الله ... أشهد أن لا اله الا الله
أشهد أن محمدا رسول الله ...أشهد أن محمدا رسول الله
حي على الصلاة ...حي على الصلاة
حي على الفلاح ...حي على الفلاح
الله أكبر.. الله أكبر
لااله الا الله...
وللموضوع تتمة إن شاء الله تعالى