20
القاص: الطيب الجوادي/ تونس
وقائع يوم غير عادي
قررت أن يكون اليوم الثلاثاء، يوما للتفاؤل في حياتي!!
أزمعت بيني وبين نفسي أن أفعل كلشيء لأحافظ على تفاؤلي منذ شروق الشمس
إلى غروبها، وأن أحتفل بهذا الإنجاز، لو تحقق، بعشاء فاخر في مطعم مشهورعلى المتوسط!!
***
على غير عادتي نمت باكرا ليلةالثلاثاء، لأتمكن من الاستيقاظ مع انبلاج أول خيوط الفجر دون أن أشعربأنني مازلت فيحاجة للنوم مما سيشعرني بالضيق، وهو ما حصل فعلا، فقد استفقت نشيطا خفيفا، ولم أشأأن أوقظ زوجتي لتعد لي الإفطار، وتركتها تتمتع بقسط إضافي من النوم، خاصة وأن يومالثلاثاء يوم راحة بالنسبة إليها ،وحسنا فعلت ،لأنني لو أيقظتها لأتهمتني بالأنانيةوالعجز عن فعل أي شيء مفيد ولو كان إحضار قهوة الصباح!!ولكنا دخلنا في خصومة كانتستعكر مزاجي!!
حين فتحتالثلاجة : لم أجد حليبا ولا زبدة واكتشفت أن الأولاد لم يتركوا لي نصيبي
من الكيكة التي أحضرتها أمهم مساءالإثنين ، ولكني لم أكترث بالأمر وقررت أن أتناول إفطاري في كافيتيريا الوزارة،
ولأول مرة منذ سنوات طويلة لمأفتح التلفزيون على قناة الجزيرة وأنا أرتدي ثيابي،
وحتى عندما اكتشفت أن بنطلون البدلة مكرمش ، وأن الكارفتةالتي هيأتها لي المدام ، لا تلائم لون البدلة، فقد بحثت عن بدلة أخرى جاهزة، دون أنأترك الضيق يتسرب إلى نفسي
امتطيت سيارتي، وحرصت ألا أفتح المذياع على الإذاعة الوطنية ، وسلكتطريقا
أخرى كي لا أضطر إلى اصطحابصديقي مختار التازي الذي لا يمل من الشكوى من غلاء الأسعار وانهيار منظومة القيملدى الشباب ، وتدهور الوضع العربي من الماء إلى الماء،وعندما توقفت وراء طابور طويلمن السيارات، فتحت مسجلالسيارة علىأغنية راقصة من أغاني الموجة الجديدة ، متجنبا أغاني فيروز المحزنة!! ولم أشغل نفسيكما كانت عادتي بزامور السيارات ولا بلعنات أصحابها،بل عدت بالذاكرة إلى ذكريات سعيدة انتزعتها في قاعالذاكرة!!
ولأول مرة منذ أكثر منثلاثين سنة ، رفضت بكل لطف أن أتسلم الجرائد من البائع
أمام باب الوزارة، فتساءل ببلاهة:- ألم تعد تهمك أخبارالبلد؟ فابتسمت دون أن أرد عليه !!وحين استوقفني عم بكري الفراش ليعلمني أن المصعدمعطل ، وأنه عليأن أستعمل السلالمللوصول إلى مكتبي في الطابق العاشر، لم أغضب ولم ألعن سلسفيل جدود المسؤول عن أعطالالمصعد المتكررة ،بل طلبت من العم بكريأن يفطر معي في الكافيتيريا المقابلة للوزارة "حتى لا يغمى علي فيالسلالم "
قلت له باسما!!ولكنهرفض ممتنا..
في الكافيتيريا ،وجدت الزبائن مشدودين للتلفزيون يتابعون خبرا عاجلا على إحدى القنوات ،فطلبت أنتُهيأ لي طاولة في الباحة ،حتى لا يصلني صوت المذيع ولا تعليقات الزبائن،.وحين بدأتفي تناول إفطاري جلس أحدهم على مقعد قريب ،
فتح جريدة على صفحة الوفيات ، وراح يردد في كل مرة :الله أكبر ،لا يدومإلا وجه الله!!
تركت إفطاري وقفزتكالملسوع ، صعدت السلالم لا ألوي على شي،وعند الطابق الخامس رن جرس الجوال،فأغلقتهفورا دون أن أكلف نفسي معرفة رقم المتصل،وأنّبت نفسي لأنني ارتكبت هذا الخطأ الفادحبترك الهاتف مفتوحا في يوم مثل هذا!!ولكني كنت سعيدا في أعماقي لأنني تمكنت حتىاللحظة أن أبقى متفائلا !!
فيالمكتب ، وجدتني أمام أكثر من ملف شائك ، ولكنني تعاملت مع كل الإشكاليات بروحإيجابية ، حتى أنني لم أتضايق لما تفطنت أن المدير العام قد زور بعض الفواتير يأنضمنها أرقاما خيالية لمبالغ مالية استخدمها لأغراض شخصية وادعى أنه صرفها للصالحالعام ،واكتفيت بوضعها جانبا ليوم عادي من أيام حياتي!!
أزفت الساعة السادسة، موعدانصراف الموظفين :فغمرني فرح طفولي جارف،
وصرخت أعماقي: ساعة واحدة تبقت على غروب الشمس، وإذا استطعت أن أصل إلىمنزلي دون تشنج سأكسب الرهان!!
وذلك ما كان : سلكت طريقا متعرجة توصلني إلى بيتي دون أن يضايقني الزحام !!
متجنبا تشغيل راديو السيارة ،أو الإنشغال بأي أفكار سوداوية طارئة ، وكم أسعدني أن اتبين عند وصولي أمام بوابةالمنزل ، أن الشمس قد توارت لتوها وراء جبال "النحلي"القريبة ، وبدأت العتمة تحتضنالمدينة بلطف!!
-لقد كسبت الرهان !!صرخت روحي بنشوة !! لقد انتزعت من الحياة يوما كاملا
من السعادة الخالصة!! وهذا يكفيني!!