(29)
أنا الذي نام في عز التعذيب
تتفاوت قدرات الناس على التحمل، فمن الناس من لا يحتمل عذاب ساعة، ومنهم من يحتمل عذاب شهور، ومن الناس من يكون عنيفاً في زمن، ويكون رقيقاً في زمن آخر، ومنهم من يكون شجاعاً في موقف، ويكون جباناً في موقف آخر، فقدرات الناس محكومة بالإمكانيات بشقيها المادي والروحي؛ وهذان الشقان يؤثر كلاهما على الآخر بشكل ديناميكي.
لقد أمضيت ليلة الثلاثاء 11/6 مشبوحاً بالمواسير، وظل جسدي يقاوم تعب الشبح في الليل، وتعب التعذيب في النهار، لقد ظل جسدي قوياً صامداً حتى صباح الثلاثاء حين اجتمع على جسدي خمسة من طاقم التحقيق، بهدف إلقائي على الأرض بالقوة، وممارسة التعذيب المألوف، الذي يبدأ بالتغريق بالماء، وكتم الأنفاس، والضغط على الخصيتين.
في بداية ذلك اليوم كنت واقفاً أمام المحققين والكيس يغطي رأسي، وقد رفضت تنفيذ أوامرهم، فلم أجلس كما طلب مني المحقق أبو ربيع، ولم استجب لصرخات المحققين وحركاتهم التي تشبه صرخات مروضي الأسود، لقد أغلقت أذني عن صرخاتهم، وكنت مصراً أن أتحدى في ذلك اليوم، وأظل واقفاً، فقد مل جسدي روتين الشبح والعذاب، كنت أتمنى أن ينصب العذاب على جسدي مرة واحدة، وأتخلص من هذه المأسة، فما أقسى العذاب حين يوزع بالتساوي على الايام، لذلك جاءتني في تلك اللحظة قوة استثنائية، فتمردت على تعليماتهم راضياً.
لقد قررت التحدي، وقد قرر عدوي قبول التحدي، فالتقيت وجهاً لوجه مع خمسة يهود في معركة غير متكافئة، هم يهاجمونني كي أسقط على الأرض، وأنا باعدت ما بين رجلي، وثبت أقدامي المنتفخة في الأرض، وصمدت، أحدهم يمسك طرف الكيس الذي يغطي رأسي، ويجرجرونني يميناً وشمالاً، وأخر يحاول أن يثني ركبي كي أسقط، ولكنني أنهض سريعاً بعد كل كبوة، أحدهم يضرب في بطني كي انتبه إليه، والاخر يشد بقدمي من أسفل كي أقع، ولكنني أعاود النهوض، كنت أعرف أن لهذه المعركة ما بعدها من قرارات.
لا أعرف كم من الزمن قد مضى، ولكنني رفضت الاستسلام طوعاً، رفضت القعود، وكنت أتخيل نفسي ثوراً في المسلخ يحاول أن يبعد سكين الجزار عن عنقه، في الوقت الذي كنت لا أرى مصدر الخطر، وكانت يداي مقيدتان بكلبشة انجليري من خلف ظهري.
طال زمن التحدي حتى أمسك المحقق أبو ربيع بكتفي من الخلف، ووضع قدمه على الكلبشة، وصعد، فصار كل ثقله الان يقع على يدي المقيدتين خلف ظهري، ليضيف جسده الثقيل عبئاً إضافياً على عمودي الفقري وساقي، ومع ذلك رفضت الهزيمة، وصمدت واقفاً حتى حين بدأ أبو ربيع بهز جسده كي يضاعف من وجع الكلبشة التي تضغط على المرفقين.
لا أتذكر كم من الوقت استمرت المعركة، ولا أتذكر متى وقعت، ولكنني أتذكر الماء الذي كانوا يصبونه فوق رأسي كي أصحو من النوم، لقد نمت نوماً عميقاً، لما أصب بحالة إغماء، كنت صاحياً لم يجري من حولي، وكل ما كنت أشعر فيه هو أنني واقع في دائرة النوم، نوم يهاجمني، ويتسلل إلى مفاصلي، ويسيطر على كياني، فأغمض عيني، وأنام هانئاً، بينما أنا قاعد بينهم، يحركني هذا، ويهزني ذلك، ولكنني نمت رغم صرخاتهم وركلاتهم، نمت رغم أنفي وأنفهم، وأخذ عقلي وجسدي قسطاً من الراحة وسط ذلك التعذيب الشديد.
في ذلك اليوم تواصل التعذيب معي طوال الليل، فلم يذهب المحققون إلى بيوتهم كالعادة، لقد ظلوا في المسلخ وصوت المؤذن لوقت الغروب يقتحم غرف التحقيق، لأسمع أثناء فتح باب غرفة التحقيق صوت السجان، وهو يقول للمتواجدين في المسلخ، "أته صم" هل أنت صائم؟ قم لتأكل، فما الذي جرى؟ لماذا لم يرجع هؤلاء المجرمون إلى بيوتهم؟.
خرج المحققون من الغرفة وعادوا أكثر من مرة، وفي كل مرة ينقضون على جسدي بكل الأشكال التي عرفتها من التعذيب، لقد لذت بالصمت، فينما هم يضغعطون على جسدي، أغلقت عقلي عن أفعالهم، حتى صار التعذيب مملاً لهم ولا يثير لدي كثير الوجع.
في تلك الليلة، بينما كان أبو ربيع يجلس على صدري، قال لي: سأضغ هذين الأصبعين على هذين العرقين في رقبتك، ولامس عرقين في رقبتي، وأضاف: سأضغط لمدة دقيقتين فقط على هذين العرقين، وبعدها ستموت.
قلت للمحق، أنا أتوسل إليك، أرجوك، اضغط، لا تتردد، هيا، افعلها وكن رجلاً، فقد مللت هذا العذاب، أتمنى يا أبا ربيع الموت السريع، فهو أفضل ألف مرة من الموت البطيء.
تفاجأ كبيرهم من جوابي، قام عن صدري، وقال لهم: اشبحوه في المواسير.
يتبع