بعد أن تأمَّلنا معاً الآيات الكريمات التي تقدَّمت في المشاركة السابقة، سأتطرَّق في هذه المشاركة لشرح الآية الأولى منها كما فهمتها:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}.
سأخصُّ هذه الآية بالشرح لأنها عنوانٌ لما بعدها، وسأختار منها أربعة مصطلحات، هي:
1- عباد الرحمن.
2- خاطبهم.
3- الجاهلون.
4- قالوا سلاماً.
1- {عباد الرحمن}: من المعلوم أن مقام "العبديَّة" هو المقام الأعلى في درجات القرب، لأنه المقام الذي وصف به الله تبارك وتعالى نبيّه المصطفى صلَّى الله عليه وسلم حين أكرمه فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ إلا أن الفرق بين المقام النبوي الشريف وبين مقام عباد الرحمن، أنَّ المقام النبوي الشريف قد أُطلِقت نسبته إلى الله بقوله تعالى: {بِعَبْدِهِ}، واسم الله هو الاسم الجامع للأسماء والصفات، بينما في الآية الأخرى قد خُصِّص وقُيِّد باسمه تعالى {الرحمن}، ولهذا التخصيص معنىً مراداً، هذا على الرغم من أنه قد ورد في آية أخرى من سورة الإسراء أيضاً قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، إلا أنَّ هنالك فرقاً بين النسبة إلى اسم الرحمن وبين النسبة إلى اسم الله، وسيتضح معنا ذلك في بيان اسم الرحمن:
الرحمن: صفةُ مبالغة من الرحمة؛ والفرق بين الرحمن وبين والرحيم أنَّ الرحمانيَّة (من الرحمن) تشمل الخلق أجمعين، إنسهم وجنِّهم، مؤمنهم وكافرهم، بينما الرحيميَّة (من الرحيم) تخصُّ المؤمنين فقط.
كما أنَّ اسم الرحمن يحمل صفات الجلال التي تتضمَّن معاني القدرة والعظمة والكبرياء والعزة والجبروت، بينما يحمل اسم الرحيم صفات الجمال التي تتضمَّن معاني اللُّطف والودِّ والأُنس والبِشارة.
إن المعنى الهامُّ في الرحمانيَّة الذي أود الإشارة له، والذي له علاقة مباشرة بموضوع السَّلام: أن الرحمانيَّة قد تتجلَّى بفعلٍ ظاهره الشدَّة والقسوة، وباطنه الرحمة البالغة؛ بينما الرحيميَّة تتجلَّى دائماً بأفعال تتصف بصفات الجمال كماأشرتُ آنفاً.
المثال على ذلك جاء في القصة التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في سورة الكهف بين سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وذلك العبد الصالح الذي نعرفه باسم الخضر عليه السلام، فكل ما فعله الخضر كان في ظاهره قاسياً، شديداً، وربما يظنُّ من لم يعرف دوافعه ومآلاته أنه فعلٌ ظالمٌ؛ لكنه كان في حقيقته منتهى الرحمة في مآلاته.
والمثال الآخر تجلَّى في الغزوات التي غزاها الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، فبالرغم من قسوة الحروب وشدَّتها وكُره المؤمنين لها، وبالرغم مما ينتج عنها من قتلٍ أو جرحٍ أو ضررٍ، إلا أنها قامت لتحقيق العدل والسَّلام، وهذا ما ظهر تحقُّقه بوضوح عند بسط الدولة الإسلامية الأولى سلطتها.
إذاً، عباد الرحمن هم الذين يستقون من الرحمانيَّة صفاتها ليتحقَّقوا بها ويخضعوا لمقتضياتها؛ وسيظهر هذا المعنى بوضوح أكثر في فصلٍ قادمٍ بعنوان "سُبُل السلام".
2- {خاطبهم}: الخطاب هو رسالةٌ يُراد إيصالها للآخَر، تصدُر عن شخص أو جماعة أو هيئةٍ اعتبارية (كالمؤسَّسات أو الحكومات، وغيرها)، سواءٌ أكان ذلك بالقول أم الفعل أم الحال، والمثال على رسالة الخطاب بالحال: الصمت، ملامح السرور أو الغضب، مظهر القوَّة أو الضعف كما جاء في المثال الأكثر تعبيراً والذي يرتبط بموضوعنا ارتباطاً مباشراً هو قوله تعالى في سورة الأنفال:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيل ِاللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؛ فحالُ القوة أبلغ رسالة يُخاطِب بها المؤمن عدوَّه وعدوَّ الله، مَن علِمهم ومَن لم يعلَمهم؛ وهذا دليلٌ على أنَّ رسالة القوة تصل لأبعد مدى، وهي أهم وسيلة لتحقيق السلام، وهذا ما نفتقر إليه ونحتاجه منذ قرون طويلة.
3- {الجاهلون}: الجاهل: مَن خاض في أمرٍ و هو يفتقر للعلم الخاص به؛ إذ إن لكلِّ أمر علمٌ على المرء أن يَعلمه، كما انَّ لكل سلوك آداب ينبغي التحقُّق بها، والأدب من العلم.
قد يكون الجهل بمضمون الخطاب أو يكون بشكله؛ أي من الممكن أن يكون المرء على علمٍ بمضمون خطابه لكنه يرسله (يُعبِّر عنه) بشكل خاطئ، وهذا من الجهل أيضاً.
إنَّ خطاب الجاهلين في هذه الآية قد أُطلِق ولم يخصَّص بقولٍ أو فعلٍ أو حال، وهذا يعني أيَّ خطاب يوجِّهه الجاهلون لعباد الرحمن بأيِّ شكلٍ كان.
في هذه الحال، لا بدَّ لعباد الرحمن من ردٍّ على هذا الخطاب، ولكن ما الذي يحدِّد شكل هذا الردِّ وطبيعته ومقداره؟
لا بدَّ من معيارٍ وضابطٍ لذلك؛ هذا المعيار والضابط جاء في قوله تعالى:
4- {قالوا سلاماً}: السؤال المهمُّ هنا، وهو محلُّ الإشكال: لمن هو موجَّهٌ هذا القول من عباد الرحمن؟ وما القصد منه؟
لقد بحثت في جميع كتب المفسرين عن قولٍ يرفع الإشكال الذي كان يراود فكري فلم أجد! لكنني بعد الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ والتضرُّع إليه راجياً الفهم عنه تبارك وتعالى، اهتديت إلى المعنى المقصود من خلال فهمي لحديثٍ نبويٍّ شريف؛ فقد جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال:
"....، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُل ْإِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ"
الصوم: هو الامتناع عن المفطرات المعنويَّة.
والصيام: هو الامتناع عن المفطرات الماديَّة.
الرسول عليه الصلاة والسلام يوصينا في هذا الحديث الشريف بأنه عندما يكون أحدنا في حالة صوم فعليه أن يحافظ على صومه، وخاصة عندما يجهل عليه أحد بخطابه، بأي شكل من أشكال الخطاب كما تقدَّم، وقد عدَّد الرسول الأكرم في هذا الحديث الشريف بعض أشكال خطاب الجهل كالسباب أو القتال، وفي أحاديث أخرى ذكر الشتم.
فكيف يردُّ المسلم الصائم حين يتعرَّض لمثل هذا الخطاب (السباب أو الشتم أو القتال)؟
الجواب: أن يذكِّر نفسه بالمعيار والضابط، وهو الصوم؛ وذلك بأن يقول لنفسه: "إني امرؤ صائم" مذكِّراً إياها بأنه في حالة صوم وعليه الحفاظ عليه؛ إذاً، عليه الرد بطريقةٍ يحافظ بها على صومه.
كثيرٌ من الناس يظنُّون أنَّ على المسلم الصائم أن يتوجَّه للآخر -الذي يخاطبه بخطاب الجهل- بقوله: إني صائم!!!
ما يضير الجاهل أو يهمُه حين يسبُّ أو يشتم أو يقاتل المسلم إن كان صائماً أم مفطراً؟؟
الصحيح أن يقول الصائم لنفسه: إني صائم؛ والرفث والصخب والشتم والسباب من مفسدات الصوم، كما الطعام والشراب والجماع من مفسدات الصيام. فالصوم هو الضابط والمعيار في ردِّ الصائم.
الآية الكريمة موضوع البحث تتحدث بنفس الطريقة ونفس النهج؛ فكما أن للصائمين ضابطاً ومعياراً في ردِّهم على خطاب الجاهلين هو الصوم، فإن لعباد الرحمن ضابطاً ومعياراً في ردِّهم على خطاب الجاهلين هو السلام؛ وذلك لأن رسالة الإنسان الأولى في هذه الحياة الدنيا هي: تحقيق السلام؛ تحقيق السلام بينه وبين نفسه، وبينه وبين غيره من البشر، وبينه وبين بيئته الشاملة من حيوان ونبات وأرض وسماء و... و... و...! وما لم يحقِّق السلام في هذه الدار فلن يكون من الذين: {لَهُم ْدَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
بذلك يكون معنى الآية الكريمة:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}:
عندما يتعرض عبدٌ من عباد الرحمن لخطابٍ من جاهلٍ، أيَّاً كان شكل هذا الخطاب، فعليه أن لا يتسرَّع بالرد عليه؛ لأنه بتسرعه قد يخطئ في أداء رسالته أو يُفسدها، بل عليه أن يذكِّر نفسه بأنَّ رسالته هي تحقيق السلام؛ إذاً، عليه أن يردَّ بخطابٍ يتوافق مع هذه الرسالة ويؤدي لتحقيقها.
هنا تأتي حكمة المؤمن وعلمه الذي ينفي عنه الجهل؛ فقد يكون الردُّ بليِّن القول،أو يكون بالتجاهل والإعراض، أو يكون بالتعنيف أو العنف إن اقتضى الأمر، أو يكون بوسيلة أخرى يراها مناسبة؛ وهذا يعود لمعرفته بالمخاطَب (الذي هو الجاهل هنا)، ويعود لمعرفته بمضمون خطابه، ومعرفته بأدوات توصيل الخطاب المناسبة.
إنَّ كل أشكال الردِّ التي تؤدي لتحقيق السلام -سواءٌ منها الليِّنة أم القاسية، اللطيفة أم العنيفة- تدخل تحت قنطرة "الرحمانيَّة"، ومَن يتحقَّق بصفاتها وينضبط بضوابطها يدخل مقام "العبديَّة" ويكون من عباد الرحمن.
اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك باسمك الرحمن أن تجعلنا من عبادك، الذين يَعون رسالتهم في الحياة الدنيا، ويسعون لتحقيقها، وينضبطون بضوابطها؛ إنَّك سميعٌ عليم.
(يتبع)