وداعاً عميد الأدب الإسلامي المقارن
بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
............................................
ودّعَنا يوم السبت الثامن والعشرين من شوال 1425ه، الموافق الحادي عشر من ديسمبر 2004م، علم من أعلام الأدب الإسلامي ودراساته المقارنة، وهو الأستاذ الدكتور "حسين مجيب المصري" عن عمر ناهز الثمانية والثمانين عاماً، قضاها في البحث والدرس والتعليم والإبداع.. وقد رحل الرجل كالعادة دون أن يذكره أحد في المجال الإعلامي والصحفي باستثناء "خبر صغير" نشرته إحدى الصحف مدفوناً وسط أخبار أخرى موسعة تتحدث عن أشباه أدباء وكتاب يهتمون بالدعاية أكثر من اهتمامهم بالتجويد والإخلاص.
عرفت الرجل قبل ثلاثين عاماً أو يزيد، ولعل الذي عرفني به صديقه الأديب الكبير الأستاذ "وديع فلسطين"، ولكنه شكا إليه ضعفاً في بصره، الذي فقده فيما بعد، مما اضطره إلى استئجار من يقرأ له ويكتب.
كان يرحمه الله يتحرك في غرفته نشطاً، يطلعني على بعض الكتب ويحدثني في بعض القضايا، ومع أني لم أمكث طويلاً، فقد خرجت ببعض كتبه القيمة ودواوينه الشعرية، وانطباع بتواضع الرجل وإخلاصه للعلم والبحث والأدب، دون أن يهتم بعرض الدنيا ومتاعها الزائل.
لم يكن الرجل يتقن فن العلاقات العامة الذي صار يتقنه أشباه الأدباء والكتاب، ولذا لم يرشح لأية جائزة ثقافية في بلده لا تشجيعية ولا تقديرية، مع أنه بمنطق العلم والأدب يستحق أن ينال أعلى جائزة يمنحها الوطن، ومن المفارقات، فإن دولاً إسلامية عديدة منحته جوائزها الكبرى ودرجة الدكتوراه الفخرية كما فعلت جامعة مرمرة في تركيا، والحكومة الباكستانية، ودولة قازاخستان وغيرها.
وفي الوقت الذي نرى فيه أدباء وكتاباً محدودي القيمة الأدبية والثقافية، على خريطة الأبحاث في الدراسات العليا بالكليات المختلفة، فإن حسين مجيب المصري لم يُطرح موضوعاً لرسالة ماجسيتر أو دكتوراه، والأمر نفسه فيما بتعلق بالحياة الثقافية، فلم يتناوله أحد من الكتاب أو النقاد، باستثناء بعض المقابلات القليلة القصيرة والمقالات وكتاب وحيد، أصدره صلاح حسن رشيد بعنوان: حسين مجيب المصري، تجربة فريدة في الشعر العربي الحديث، أصدرته مكتبة الآداب في القاهرة عام 2004م.
لقد تعرض لظلم كبير في عمله في الجامعة أيضاً ويبدو أن هذا قدر الذين يعكفون على العلم والبحث، فيظلمهم أهل "الفهلوة" والباحثون عن الدنيا والوجاهة والمناصب، ولا ريب أن ذلك كله قد أصابه بالإحباط وخلف في نفسه كثيراً من الأسى نراه عبر مقطوعات شعرية تقطر ألماً ومنها:
أنا من خبت في سعي
أنا من حرت في أمري
غثاء ضاع في سيل
وطير ضل عن وكر
هباء بين أرواح
ودمع سال في البحر
كلامي رجع أوتار
ولكن أين من يدري؟
وشعري نفح أزهار
ولكن من يرى شعري؟
ولد "حسين مجيب المصري" في مدينة القاهرة عام 1916م، وجده لأمه "محمد ثاقب باشا"، كان وزيراً للري في عهد الخديوي إسماعيل، وكان جده لأبيه حسني باشا المصري من كبار الأعيان في القطر المصري، التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الثانوية وفيها قرأ كتب الرافعي وجبران ودواوين شوقي وحافظ وزهير وغيرهم من الشعراء، وسطعت موهبته الشعرية في مدرسة السعيدية الثانوية في الجيزة عام 1932 فنشر أولى قصائده بعنوان "الوردة الذابلة"، وكانت مرثية لابنة عم له توفيت، وكان رحمه الله يعتز بهذه القصيدة اعتزازاً كبيراً.. ويذكر أن حلاقاً كان بجوار بيتهم أثر فيه تأثيراً كبيراً، حيث كان يحفظ كثيراً من عيون الشعر العربي، ويلقيه على مسامعه وهو فتيً يافع، فحببه إلى الشعر وحبب الشعر إليه، مما أحدث نقلة كبيرة في حياته، فجعلته يعيش بالتنغيم والنظم والإيقاع، وهي ظاهرة واضحة في أشعاره التي نشرها، وضمتها دواوينه الستة.
لقد نظم الشعر بالفرنسية، وترجم الشعر عن الإنجليزية، وكانت مسيرته مع اللغات حافلة بالتفوق والجهد الكبير، لقد أجاد ثماني لغات إجادة تامة، وساعده على ذلك انتسابه إلى معهد اللغات الشرقية الذي درس فيه الأردية والإيطالية والألمانية والروسية، وكان يترجم منها إلى اللغة العربية ما يروق له من شعر ونثر.
وقد استخلص من دراساته المقارنة لآداب الشعوب الإسلامية أن الأدب العربي ركيزة أساسية ورصيد يستمد منه شعراء وأدباء هذه الشعوب كثيراً من المعاني والقيم، وهناك تشابه واضح بين الأدب العربي وآداب هذه الشعوب من حيث التأثر بالإسلام وقيمه، والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، فنجد مثلاً في الشعر التركي ما يسمى بالرمضانيات يصف فيها الشاعر مظاهر الاحتفال في هذا الشهر، وكذا الحال في الشعر الأوردي والفارسي... وهو ما ينطبق على موقف هذه الآداب من قضية فلسطين والقدس.
إن اهتمام "حسين مجيب المصري" أستاذاً جامعياً وأديباً وشاعراً بآداب الشعوب الإسلامية، واطلاعه عليها في لغاتها الأصلية التي يجيدها، وكونه أول من اشتغل بالأدب الإسلامي المقارن جعله مرجعاً، ويعود إليه الأساتذة والطلاب، وجعل منه عميداً للأدب الإسلامي المقارن، فقد أخلص له، وبذل جهداً مادياً في البحث والتنقيب والاطلاع، في الوقت الذي كان زملاؤه وغيرهم يفضلون الطريق السهل، وهو التوجه نحو الآداب الأوروبية الأكثر رواجاً، والأفضل عائداً مادياً، ولكن "حسين مجيب المصري" آثر أن يشق طريقه في ميدان صعب ومجهد ومكلف، يبتغي من ورائه خدمة دينه وأمته الإسلامية، وكان هذا الطريق هو "الأدب الإسلامي المقارن"، الذي صار علماً عليه. وقد أنتج الرجل عشرات الكتب التي زادت على السبعين كتاباً.
وظل حتى آخر أيام حياته يعمل بجد ودأب وكان آخر كتاب ينوي نشره هو "بدائع إقبال في الأوردي"، وآخر كتاب كان ينوي أو يعمل في تأليفه كان حول المقارنة بين المدائح النبوية في الآداب الثلاثة: العربية والتركية والفارسية، ولا أدري هل انتهى منه أم لا؟
فوجئت به ذات يوم في العام الماضي يرسل إليَّ على عنواني البريدي رسالة رقيقة طلب فيها كتابي "محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر العربي الحديث"، لأنه بصدد المقارنة بين المدائح النبوية في الآداب الثلاثة، لم أكن في مصر وأخبرتني الأسرة بمضمون الرسالة، فحمل له ولدي النسخة الوحيدة لدي وذهب بها إلى مسكنه واستقبله الرجل استقبالاً كريماً، والأهم بعد ذلك أنه أرسل إليَّ رسالة مليئة بالعاطفة الحارة العميقة، وكنت أود نشرها لكنها ليست تحت يدي الآن.. وهي في مجملها تدل على إخلاصه للعلم، والأدب، وتواضعه الجم، وزهده في الدنيا ومتاعها الفاني.
</i>