وسأواصل كلما سنح نقل ما يعرض لي عن الإيقاع القرآني،
كلي أمل أن يفرق أستاذي الغول بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي .
فمن حواري الطويل معه وخاصة حول النبر لم يتناول بيتا واحدا بالتطبيق ولا أجاب عن سؤال تطبيقي واحد، وإنما يردد النبر على السبب السابق للوتد.
هكذا فإذا سئل في التطبيق تجاهل السؤال. ويبدو أن فرض الذاتي على الموضوعي امتد ليشمل رأي أستاذنا في إنكار الإيقاع في القرآن الكريم .
انقل للدكتور أيوب الفرجي من الرابط:
http://www.siraje.net/index.php/%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AF%D9%8A%D9%86/%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%AD%D8%AB-%D8%B4%D8%B1%D8%B9%D9%8A%D8%A9/2002-%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%91%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%AA%D9%8A-%D9%84%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A9
في دلالات الأنساق القرآنية وأثرها الصوتي:
لا تلبثُ قراءةٌ سليمة للقرآن الكريم أن تدرك بقوة وتلحظ بامتياز ما يتزيّنُ به نسق القرآن من أسلوب إيقاعي ينبعث منه نغم ساحر يبهر الألباب، ويسترق الأسماع، ويستولي على الأحاسيس والمشاعر بل ويهيمنُ عليها بسلطانه، وهذا النسقُ الجمالي يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار والفواصل السريعة، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة، ويتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال، ولكنه يظل دوماً مُلاحظا في بناء النظم القرآني وجوّه العام.
وقد أشار غير واحد ممن بحث الأساليب الجمالية في القرآن وأسرارها الدلالية أنها ترجعُ في ذلك إلى طبيعة نسق القرآن الذي يجمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً؛ حيثُ (أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة، وأخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر؛ الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، والتقفية التي تغني عن القوافي... فجمع النثر والنظم جميعاً[25]).
كما أن طبيعة هذا النسق القرآني، وما يوقعه في النفس من أثر وما يحيي في الذهن من دلالة ومعنى، راجعٌ إلى ملمح سيميائي عام، لا يُتاح للباحث تجزئته ولا اقتطاعهُ، وذلك ما يسمّى بالإيقاع الداخلي، وهو جانب (يُلحظ ولا يُشرح، وهو كامن في نسيج اللفظة المفردة، وتركيب الجملة الواحدة، وهو يدرك بحاسة خفية وهبة لدنية![26]).
إن للقرآن الكريم ـ بهذا الاعتبار ـ وحداته الدلالية الخاصة به، والتي لا ينبغي إخضاعها لقوانين الإيقاع الأدبي مهما تسامت فنونه، ذلك أن ألوان النسق القرآني تتآلف بينها رغم تغايرها في نفس السياق، مما لا تُتيحهُ باقي الأنماط التعبيرية الأخرى، إن لهُ (إيقاعاً موسيقياً متعدد الأنواع يتناسق مع الجو ويؤدي وظيفة أساسية في البيان، فالإيقاع الموسيقي في القرآن الكريم ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومرده إلى الحس الداخلي، والإدراك الموسيقي الذي يفرق بين إيقاع وإيقاع، ولو اتحدت الفواصل والأوزان![27]).
ثم إن للنسق القرآني خصيصة أخرى؛ تجعلهُ أمير كل منظوم، وسيد كل منثور، ألا وهي: انعدام الترادف في اختيار ألفاظه وأساليبه، حيثُ لا يمكنك تعويض حرف مكان حرف ولا كلمة مكان أخرى، وهذا من أعلى درجات الإحكام والانتظام والاتساق في القرآن، ذلك أنه لو (سقط من كلماته حرف واحد منها أو أبدل بغيره، أو أقحم معه حرف آخر، لكان ذلك خللاً بيناً أو ضعفاً ظاهراً في نسق الوزن وجرس النغمة، وفي حس السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هجنة في السمع، كالذي تنكره من كل مرئي لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تتفق على طبقاتها، وخرج بعضها طولاً وبعضها عرضاً![28]).
إن للأنساق القرآنية أثرا من حيثُ الصياغة الصوتية والإيقاعية على بيان المعنى وتشكيل بنائه النظمي، ذلك أن المتأمل في الإيقاع القرآني ما يلبثُ أن يجدهُ يتنوع ويتغايرُ تبعاً للموضوع الذي تتحدث عنه الآيات القرآنية، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
• أثر الصياغة النسقية على بيان السياق؛ وذلك في قوله تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [29]).
إن تأملا ـ ولو سريعا ـ في الآية يهدي إلى طبيعة الإيقاع المستعمل في هذا النسق الإخباري، ويحقق الغاية منه، ألا وهي التخويفُ من أخذه الأليم الشديد جلت عظمته! فانظر إلى الميزان المحكي كيفَ (يذهب طولاً وعرضاً في عمق وارتفاع، ليشترك في رسم الهول العريض العميق، والمدَّات المتوالية المتنوعة في التكوين اللفظي للآية تساعد في إكمال الإيقاع وتكوينه واتساقه مع جو المشهد الرهيب العميق![30]).
• أثر الصياغة الإيقاعية على بيان المكي والمدني[31]؛ وأذكر في ذلك على سبيل المثال أيضا "سورة الزلزلة":
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
أولا: من حيثُ توصيف غرض السورة ودلالتها؛ فإنها تبدأ بحركة إخبارية عنيفة قوية، تُلفت الذهن والقلب لمشهد عظيم؛ مشهد يوم القيامة! حيث ترجف الأرض وتزّلزل، وتنفض ما في جوفها وتلفظُه، كأنها تتخفف من أثقالها التي حملتها وناءت بها، ويقف الإنسان دهِشاً ضائعاً مذعوراً يتساءل: ما الأمر؟ ما الذي أصاب الأرض!؟ وتتحدث الأرض، تصف ما جرى لها، كأنها تجيبُ كل متسائل غافل، إنه أمر الله، أمَرها أن تمور فمارت! أن تقذف ما في بطنها فقذفت! وفي لمحة سريعة يُعرض مشهد البعث والحساب، الناس يصدرون كالجراد، وينتشرون موزعين متخالفين، فقوة الزلزلة وهول البركان العظيم فرّقهم مذعورين أشتاتاً أشتاتاً! حيارى.. يهرعون في كل اتجاه، ولكن إلى أين؟ إلى الميزان ليحاسبوا، لتُعرض الأعمال، كل وعملُه؛ يُحصى له أو عليه ليُجزى به...! وهذه المعاني كلها من أغراض القرآن المكي.
ثانيا: من حيثُ أثر النسق والإيقاع على بيان المعنى وكونه غرضا من أغراض القرآن المكي؛ فإيقاع النص يساير هذا المعنى ويُسايرهُ ويحمله، فهو مثله لاهث سريع يرجف كالأرض وكالإنسان فرقاً واضطراباً، كل ما فيه متحرك بارز ماثل، الكلمات في جرسها، في طِباقها وتوافقها، فيما تنشره من أفياء وظلال.. فكلمات (الزلزلة، أثقال، مثقال، ذرة، أشتاتاَ، ليروا، يره) كلها.. تشي بالموقف وتعبر عنه، ومع ذلك فهذه الكلمات وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ في وصف المشهد قدر ما يبلغه الخيال السمعي والبصري حين يتملى القارئ النص، ويعبُرهُ إلى الأثر المرجوّ منه، فالسورة هزة، وهزة أكبر وأعنف للقلوب الغافلة، هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي، إنها صيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها، فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء.. كل ذلك يحفلُ به معنى بضع فقرات قصار..! (فهل هذا أو بعضه مما يجيء في السور المدنية؟! أو تعبر عنه وتصفه أغراض السور المدنية؟![32]).
• أثر الإلقاء والتلقي الصوتي على خدمة النسق القرآني وبيانه وحفظه: لابد من التمييز هنا بين تلاوة القرآن الكريم وبين تنغيمه وتزيينه، فالتلاوة بطرائقها: (التحقيق والترتيل والتدوير والحدر...)، علم شرعي يتناول الحروف في مخارجها وصفاتها، مع أحكام التلاوة وقواعد الأداء كما سيأتي بيانه. إلا أن القرآن من هذه الجهة، هو الحافظ الوحيد الذي حفظ العربية وطريقة نطق حروفها، ومن يستمع إلى المصحف المرتل أو المجود يستطيع بحق أن يتمثل كيف هي نعمة القرآن على لغتنا!
أما التنغيم أو التغني فمبحثٌ آخر مختلف...، إنه فن المقرئ الخاص، وكيفية تلقّيه وأدائه لمعاني لقرآن، وهو لاشك مظهر من مظاهر الإبداع، أو محاولة من المرتِّل لإظهار براعته، علاوة على تعميق أثر النص الذي يقرؤه في نفوس سامعيه، وهي غاية عليا ومرام سام، تحتاجه بيئاتنا القرآنية عاجلا غير آجل، خاصة لما يراه كل ناقد بصير، من انحراف عن سنة من سلف في علم القراءة، التي هي سُنّة متّبعة، يأخذها اللاحق عن السابق، هيئة متّحدة لا زيادة فيها ولا نقصان.
وقد سعت الدراسات النفسية والجمالية لعملية التلقي[33] إلى أن تثبت أن تركيب الأثر الفني لا يكون تاماً ولا كاملاً إلا إذا التقت في رحابه وتداخلت طاقتان اثنتان:
1. الطاقة الكامنة في النص. (وهي هنا القرآن الكريم بنظامه الإيقاعي والصوتي.. نموذجا) وهو مدار البحث.
2. الطاقة المنبثقة عن التلقي. (وموضوعها هنا قارئ القرآن الكريم، وإمكانات بيان المعنى وتجلية المُراد).
وهنا تبرز أسئلة عميقة من قبيل: ما طبيعة هذا الإيقاع الصوتي في القرآن، وما مكوناته؟
ثم كيف نتلقى القرآن من خلال أدواته البيانية والجمالية؟
وكيفُ نصوغ نظرية أدائية للقرآن الكريم، تجدد البيان الصوتي للآي وتَحفظ له جلاله وهيبته؟