ظل بلا ظل
أحكمتُ غلق الإناء ، وضغطتُ علي الثقل بيدي, ولكن كان
الصفير عالياً متلاحقاً ، يكاد يدغدغ ( يهشم ) عظام رأسي .
حين رأيته منشغلا بتلميع صورة أبيه المحفورة في
مرآة عينيه , رحت أضم حبات كبدي المنثور علي
الأرض إلى قلبي الموثوق بحبال الصبر ، أخيطُ فمي
وأضع لفافات القطن في أذني, وأسدل جفوني حتى
منتصف عيني ، وأنا أنظر إلي الشباك المغلق والسوط المعلق بجوار
السرير ،
كنت أحدق في صورة أبيه ، ذو العمامة الكبيرة والشوارب
المبرومة ، التي تكاد تمر علي عينيه حتى تلتحم بحاجبيه ،
وأرتعد
كل شيْ يسلب مني دون إرادتي ، كنت أرده إلي القد ر كي
أستريح
ولم أعترف بتفسير الأشياء بداخلي بل أخفيها حتى عني .
مادام كل شيْ مقدرا ، فلابد للعقل أن يستريح ، وللمشاعر
أن تتواري ، وللأحاسيس أن تخذل حتى تسير الأمور ،
ولتذهب الإرادة إلي الجحيم.
أغلقتُ الكتب ، وأرحتها علي الرفوف ، حتى يظل نظيفا
طازجا ، وأظفر بالنعيم ،
لكنه لم يسترح ، كلما رآني أزيح التراب عنها ، جذ ب
السوط وضربني .
يقول : هي التي أفسدت عقلي ، فينفلت مني الصراخ ،
فيضع يده على فمي ليكتمها ، فتسقط الصرخة حبيسة في قاع صدري ،
فيظن أنها ماتت ،
فألملم حبات قلبي الخائفة ، أضمها إلي صدري ، وكلماته الجارحة
تتعارك في دمي مع صرخات القطة التي يذبحها كل يوم أمامي
فيزداد الصفير ،
لبست ثوب السكوت ، وألقيت بنفسي في بحور الصمت الباردة ،
قال بأنني عاقلة !!!
، وقال الناس بأنني معذورة!!!
، وقال الطبيب
تعايشي مع الواقع .
رحت أضرب برأسي في صخوره الجامدة ، وهو يمد يديه يحجب
الشمس عني ،
يقشعر جسدي وتزداد الرعشة ، فتتقلص أطرافي ، وأنكمش بداخلي
ويزداد الصفير .
وقفت خلف زجاج الشباك المغلق ، أمسح عنه الضباب بيدي ، وأراقب
النهر الذي يسير بجوار جنازة أمي،
اختلطت دموعي الساخنة بابتسامة ساخرة ، ولم أطلق صرخة واحدة،
كان رنين كلماتها يرن في أذني ، رحت أسأل نفسي بأي ظل
تستظل هي الآن .؟
بظل رجل أم بظل حائط .!؟
علت ضحكاتي فوق أصوات اللذين يولولون ويصرخون، إنهم مجانين
مثلي، لا يعرفون كيف يتعاملون مع الواقع..!
نظرت في مرآتي ، لم تعرفني ، أمعنت النظر فيها و رحت أفتش عني ، فلم أجدني ، فقط
رائحة الكتب كحمم تلفحني ، لن تهدأ بدمي
تكاد تفتق شراييني.
تطلعت إلي الرفوف وقلت ِ
: من اليوم سوف أنكش شعري،
وأمزق ملابسي، وأحطم كل من يعوق طريقي، وأضرب
بقوة كل من يمنعني ..!!!
وقفت علي الكرسي العالي ، أزحتُ التراب عنها ، فوجدتني
هنا ك ، بشوق السنين ، ضممتها وضمتني ،أنزلتها من فوق أرففها
وتناولت منها كتاب..
حين رآني جذب السوط ، وأقبل عليَّ يضربني ، فازداد
الغليان بداخلي ،
وضغطت الأبخرة المتصاعدة علي شغاف قلبي فانفجر واخذ يلقي بما بداخله ، فتناثرت الصرخات
السجينة من زمن بعيد ، تدفقت تخترق الجدران والنوافذ وانطلقت
تدوي في عنان السماء،
حاول كتمها بيديه ، فلم يستطع ، راح ينهال علي بالضرب ، فتزداد
الصرخات وتزداد ، فأسقط علي الأرض وأظل أزحف وأزحف
والكتاب بيدي ، مضمومََا إلي صدري وهو يضرب ويضرب وأنا
أزحف وأصرخ علي أمل أن أصل إلي الحائط العريان وأستظل بظله