القسم الثاني: البيئة الدولية
الفصل السادس: تحديث اليابان من منظور العلاقات الدولية
تقديم: شيباهارا تاكوجي/ جامعة ناغويا/ اليابان
(1)
كثيرٌ من المشاكل التاريخية المرتبطة بتحديث اليابان، كان وراء تأثير الغرب كقوة دافعة مباشرة. فقد كان قدوم الأسطول الأمريكي بقيادة (الكومودور بيري) عام 1853، أول مظاهر الضغط الأجنبي المدعوم بقوة مسلحة. إلا أن تأثير الغرب على اليابان كان متعدد الوجوه.
وكان أحد هذه الوجوه الانفتاح القسري للمرافئ على (التجارة الحرة) والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن ذلك (بما في ذلك سقوط البنية الصناعية التجارية القائمة وإعادة التكوين التي رافقت الاندماج بالسوق العالمية).
والوجه الثاني انطوى على ضغوطات سياسية ودبلوماسية وعسكرية مارسها الغرب على اليابان بموجب المعاهدات غير المتكافئة (التعرفات الجمركية المنخفضة، حق إقامة المستوطنات الأجنبية، المحاكم القنصلية، معاملة الدولة الأكثر رعاية من طرف واحد وبنود أخرى).
أما الوجه الثالث، فقد أضفى توثيق العلاقات الدبلوماسية والتجارية بصورة متزايدة، فقد دخلت التكنولوجيا الصناعية والعلوم الحديثة الى البلاد مما أدى الى ازدياد في نفوذ القيم والحضارة والثقافة الغربية وأنظمتها السياسية.
(2)
مع اندفاع الدول الغربية شرقاً خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بحثاً عن أسواق للمنتجات التي ازدادت نتيجة التصنيع الرأسمالي، ظلت الصين واليابان منطقتين واقعتين فعلياً على أطراف العالم المعروف آنذاك. فحتى الخمسينات من القرن التاسع عشر، عندما بدأ الاستيطان في كاليفورنيا وبات من الممكن عبور المحيط الهادئ بواسطة السفن البخارية، فإن هذين البلدين كانا الأكثر بعداً عن الولايات المتحدة الفتية.
وعلى عكس بلدان آسيوية أخرى مثل الهند وفيتنام اللتين أصبحتا مستعمرتين للدول الغربية في القرن التاسع عشر، فإن الصين واليابان بقيتا شبه مستقلتين عن الغرب اقتصاديا وسياسياً، رغم أن مرافئهما فتحت قسراً وفرضت عليهما معاهدات غير متكافئة.
(3)
كيف نفسر نجاح اليابان في التصنيع وفي تحديث مؤسساتها الاجتماعية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر في حين تعذر ذلك على الصين؟
هناك تفسيران لهذا التساؤل عند الباحثين اليابانيين. الأول يرى أن اليابان كانت في منتصف القرن التاسع عشر قد حققت كثيراً من الشروط اللازمة للتحديث. والثاني يرى أن خضوع الصين للغرب اقتصادياً وسياسياً كان أكبر مما كان عليه خضوع اليابان، وبالتالي توافرت لليابان فرصة أفضل لتحقيق نموها الاقتصادي المستقل.
يرى (بي أي باران) في مؤلفه (الاقتصاد السياسي للنمو) أن نجاح اليابان في التصنيع يعود الى اكتفائها الذاتي النادر (أي انخفاض مستوى تبعيتها للبلدان الأخرى) وهو أمر نادر بين الدول غير الغربية.
أرجعت (مودلر) الاختلاف بين وضع البلدين (اليابان والصين) لأسباب عدة:
أ ـ أن القوى الغربية كانت تركز نشاطاتها في آسيا في منتصف أواخر القرن التاسع عشر على احتلال وحكم كل من الهند وإندونيسيا والهند الصينية والصين، ولم تولِ اليابان اهتماماً كبيراً كونها بلداً ثانوياً ذا موارد قليلة وسوق صغيرة.
ب ـ بالإضافة لتجارة الأفيون مع الصين، فقد أقامت الدول الغربية مع الصين علاقات تجارية ركزت على المنتجات الأساسية اللازمة للإنتاج والاستهلاك الجماعي.
ج ـ كانت الصين مثقلة بالتعويضات الكبيرة المترتبة عليها بسبب هزائمها المتلاحقة في حروبها مع القوى الغربية. وقد أدت استثماراتها الكبيرة على صعيد سكك الحديد والمناجم ودينها القومي الخارجي الى إبقائها في موقع بالغ الهشاشة. وقد أُجبرت الصين على السماح في نشر المسيحية في أراضيها.
أما اليابان كانت أقل عرضة للتدخلات الخارجية (حسب مودلر).
(4)
يبين صاحب البحث رأيه فيما قرره واستنتجه الآخرون وبالذات (مودلر)، فيقارن بين وضع كل من الصين واليابان، فيبدأ بالسكان فالصين في نهاية القرن التاسع عشر كان عدد سكانها 300 مليون نسمة، في حين اليابان 37 مليون. وبعد عدة سنوات من ثورة (المايجي 1867) كان حجم تجارة اليابان مع الغرب يوازي خُمس تجارة الصين معه (مع اعتبار الفارق بعدد السكان).
شنت بريطانيا عدة حروب على الصين باسم (حرب الأفيون) بين أعوام 1840ـ 1858، فانتزعت منها بموجب اتفاقيات (هونغ كونغ وكولون) وفتحت 14 مرفأ وأجبرت الصين على دفع تعويضات ضخمة، كذلك فعلت فرنسا والولايات المتحدة.
بقيت الصين تستورد من الغرب احتياجاتها من الخيوط والملابس، في حين تحولت اليابان بحلول عام 1890 الى مُصدرٍ لتلك البضائع بعدما كانت مستوردة هي الأخرى.
في عام 1885 بلغت ديون الصين المتراكمة لصالح بريطانيا وحدها 5.47 مليون جنيه إسترليني، وهذا الرقم يعادل ثلث دخل الصين الوطني. في حين اقترضت حكومة (المايجي) 4.6 مليون جنيه إسترليني تم تسديدها عام 1898 مع فوائدها. بينما ارتفعت ديون الصين بعد الحرب الصينية اليابانية وثورة (البوكسير).
(5)
يكشف المؤلف قدرات على فهم ما كان سائداً في تلك الفترة وهو ما أطلق عليه (إمبريالية التجارة الحرة)، ويفسر من خلال تلك الرؤيا ما كانت تمثله الهند ككنزٍ للإمبراطورية الإنجليزية كونها خاضعة مباشرة لاستعمارها الرسمي، في حين كانت الصين واليابان وكذلك بلاد فارس (1836ـ 1857) وتركيا (1838 ـ 1861) وسيام (1855) وغيرها، كانت بلداناً سعت إنجلترا الى السيطرة عليها بصورة غير رسمية، وهي سيطرة ارتكزت اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً على المعاهدات غير المتكافئة.
وبالنظر الى ظروف وسائل النقل والاتصالات في تلك الأيام ومدى قدرة بريطانيا على تحريك قواتها العسكرية على امتداد مثل هذه المسافات، فإن إمكانية الاحتلال المباشر أي فرض سيطرة رسمية على الصين واليابان، وهما دولتان ذوات تراث تاريخي طويل في آسيا الشرقية، كانت أمراً لا يمكن حتى تخيله.
لذلك، كانت سيطرة بريطانيا غير المباشرة وغير الرسمية تتمثل بقمع تمرد (تايبينغ) ودعم أسرة (شينغ) وحكومة (المايجي) وغيرها من الإجراءات ما كانت إلا جزءاً يسيراً من الخطة السياسية المعقدة التي اعتمدتها بريطانيا مقارنة مع القوى الغربية الأخرى.
كانت مصالح بريطانيا تتضارب مع مصالح غيرها، وكانت الولايات المتحدة خارج اللعبة، وفي الأعوام من 1861ـ1865، نسقت بريطانيا وفرنسا جهودهما تجاه تلك المنطقة، فتقدمت فرنسا نحو جنوبي فيتنام ووسعت روسيا نفوذها باتجاه الحدود شمالي وشمالي غرب الصين. وتنافست بريطانيا وروسيا على جزيرة (تسوشيما). واختلفت فرنسا وبريطانيا حول سياستيهما تجاه اليابان. كما أن روسيا وبريطانيا اختلفتا حول كوريا. وفي ثمانينات القرن التاسع عشر فرضت فرنسا حكمها على فيتنام وضمت بريطانيا (بورما: ميامارا الآن).
عرفت القيادات اليابانية كل تلك الأمور، وكان عليها لتحقيق مواجهتها لها بنجاح أن تحقق ما يلي:
أ ـ دولة موحدة ملتزمة بحق تقرير سلوكها تجاه البلدان الأجنبية.
ب ـ قاعدة مالية متينة.
ج ـ تنظيم فعال للسلطة فيما يتعلق بالتنمية.
وهذه المحاور في نشاط المايجي لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار عند تقييمها.