منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 20 من 20
  1. #11
    الجزء الثاني: شيخوخة الجنس البشري.


    5ـ محاولة لكتابة تاريخ عالمي

    (( لم يحدث قط، حتى في الأحلام، أن حلقت المخيلة التاريخية في أجواء أعلى مما بلغته اليوم. فتاريخ الإنسان هو مجرد استمرار لتاريخ الحيوان والنبات. وبوسع مؤرخ العالم أن يجد آثارا من ذاته حتى في الأعماق السفلى للبحر، في المادة الغروية الحية. وهو يقف مشدوها إذ يتأمل المسافة الشاسعة التي قطعها الإنسان في عَدْوِه، وتنتابه الرعشة وهو يتأمل الأعجوبة الأعظم: ذلك الكائن البشري الحديث الذي يرى الطريق من أوله الى آخره. إنه يقف فخورا على قمة هرم المسار العالمي. وإذ يضع الحجر الأخير من أحجار معرفته، يبدو وكأنما يصرخ عاليا في أذن الطبيعة المصغية إليه: قد بلغنا القمة! قد بلغنا القمة! واكتملت بنا الطبيعة!)).
    نيتشه: " استخدام التاريخ وإساءة استخدامه"

    يختار (فوكوياما) تلك الفقرة من ما كتبه نيتشه ليبدأ بها الجزء الثاني من الكتاب والذي يتحدث عن شيخوخة الجنس البشري. فيستعرض ما أسس له (مؤرخو الغرب) وفلاسفته، منذ العهد اليوناني (الإغريقي) الى يومنا هذا، من فلسفة التاريخ وتتابع تطوره، مستبعدا في استعراضه أي جهد عقلي أو فكري لأي مؤرخ أو فيلسوف خارج (الدائرة الغربية) معتبرا إباها مركزا للكون ومحركة لتطوره.

    رأي أفلاطون وأرسطو

    لقد تحدث أفلاطون في جمهوريته عن دورة طبيعية معينة للأنظمة. بينما ناقش أرسطو في كتابه (السياسة) أسباب الثورة وكيفية حلول نوع من الأنظمة محل نوع آخر، وكان من رأي أرسطو أنه ما من نظام بوسعه أن يرضي المرء إرضاء تاما، وأن السخط قد يدفع الناس الى إحلال نظام مكان نظام في دورة لا نهاية لها. ولم تحتل الديمقراطية عندهما مكانة خاصة. وأرسطو لم يفترض استمرار التاريخ. فهو يرى أن جذور دورة الأنظمة هي في دورة طبيعية أكبر، تحدث خلالها كوارث دورية كالفيضانات فتقضي لا على المجتمعات البشرية القائمة فحسب، وإنما أيضا على كل الذكريات المتعلقة بها. لتجبر الإنسان على أن يبدأ مساره التاريخي ثانية من بدايته!

    التاريخ على الطريقة المسيحية

    لم يسلك المسيحيون الطرق التي سلكها اليهود و الإغريق، في أن التاريخ يعني اليهود أو الإغريق، وما غيرهما هو مكملات لا علاقة لها بتحريك التاريخ. فإن المسيحية هي أول من جاء بمفهوم المساواة بين البشر أمام الله، وتخيلت بذلك مصيرا مشتركا لكل شعوب الأرض. مثل هذا النمط من المؤرخين الفلاسفة (القديس أوغسطين).

    التاريخ عند برنارد لو بوفييه 1688م

    بدأ التفكير والتنظير المسيحي يجد طريقه الى نفوس الفلاسفة المؤرخين ليذهب الى أن التاريخ والمعرفة به تراكمية لندقق بما كتبه برنارد لو بوفييه (يمكن القول بأن العقل السليم المثقف يحوي كافة عقول أناس القرون الماضية. فهو ليس إلا نفس العقل المفرد الذي ظل ينمو طيلة الوقت ويحسن من نفسه .. غير أن من واجبي أن أعترف بأن صاحب هذا العقل الذي أتحدث عنه لن يعرف الشيخوخة. فسيكون دوما ـ وبنفس الدرجة ـ قادرا على الإتيان بالأمور اللائقة بشبابه، وستزيد دوما قدرته على القيام بمهام تتفق مع عنفوان قوته. وبعبارة أخرى، ودون استعانة بالرموز، سيبقى الإنسان دائما على حاله دون تدهور ولن تكون ثمة نهاية لنمو الحكمة البشرية وتطورها)

    كانط والتاريخ

    يختلف كانط عمن سبقه في أن التاريخ سيكون له نهاية، وهي نظرة حاول أن يقررها باسم المثالية الألمانية في مقال قصير (16 صفحة) عام 1784، ولكنه كاف لتبيان وجهة نظره. فقال بذلك المقال الذي عنونه ب (محاولة لكتابة تاريخ عالمي من وجهة نظر عالمية) : (إن المسار الأبله لأمور البشر يبدو على السطح وكأنه خال من أي نمط معين، وأن التاريخ البشري يبدو وكأنه سجل لحروب ووحشية مستمرة... وقد ذهب كانط الى أن التاريخ ستكون له نهاية، لأن وضع دستور مدني كامل العدالة يضمن حرية الإنسان ويوفق بينه وبين القوانين المدنية، هو أسمى معضلة كلفت الطبيعة الجنس البشري بحلها).

    جدلية هيجل

    بذكاء كبير، قام المؤلف باستعراض فلاسفة القرون المختلفة من قبل عهد المسيح الى عهد الفلاسفة المسيحيين ومرورا بالمثاليين وحتى الماركسيين، ليصور للقارئ أن تلك الحضارة الغربية بمختلف منابعها التي تبدو وكأنها متخاصمة، ليصورها للقارئ بأنها ليست متخاصمة، بل عملت كفريق في صناعة تلك الحضارة الغربية، وإن الأدوار بين هؤلاء الفلاسفة المتباعدين زمانا ومكانا كانت متناغمة ومتعاضدة لتكون في النهاية ما آلت إليه الحضارة الغربية، كمقرر لشكل الحياة في العالم.

    وقد أشار الى أن هيجل الذي أقر لكانط بضرورة كتابة تاريخ عالمي، ولكن هيجل نفى أن التقدم في التاريخ ينشأ عن تقدم مطرد بالعقل، وإنما ينشأ عن التفاعل الأعمى للعواطف التي أدت بالإنسان الى الصراعات والثورات والحروب، وهو ما أطلق عليه وصفه الشهير (دهاء العقل). ومسار التاريخ هو مسار دائب من الصراعات، تتصادم فيه الأنظمة الفكرية والأنظمة السياسية وتتفكك نتيجة لتناقضاتها الداخلية لتحل محلها أنظمة أخرى تحمل تناقضات أقل، فتكون أرقى من سابقاتها وهو ما أسماه (الديالكتيك أو الجدلية).

    و حسب رأي هيجل، فإن طبيعة الرغبة الإنسانية لم تتحدد لتبقى الى الأبد دون تغيير، وإنما تتغير بتغير الأحقاب والثقافات التاريخية. مثال ذلك أن إنسانا يقطن أمريكا أو فرنسا أو اليابان في زمننا هذا ينفق الجانب الأكبر من طاقاته في طلب السلع (سيارات، أحذية رياضية ملبس من أفخر بيوت الأزياء) أو طلب (حي سكن لائق مدرسة عالية) ومعظم هذه الأشياء المشتهاة لم تكن موجودة أصلا في الأزمنة القديمة وبالتالي كان يستحيل اشتهاؤها. كذلك فإن مواطنا في دولة فقيرة بالعالم الثالث يبحث عن الأمن أو أي مأوى لن يفكر في مثل تلك الأشياء.

    حتى ماركس يخدم الفكرة الليبرالية

    يتدرج الكاتب لإثبات نظرته عن مركزية الغرب و تعاون مكوناته، ليصل الى أن ما حدث في إنشاء الشيوعية والاشتراكية، كان مرحلة طبيعية من مراحل وصول العالم لما وصل إليه، فيستخرج من كتاب رأس المال لماركس (مقدمة الطبعة الإنجليزية) فقرة تقول: (إن الدولة الأكثر تقدما في الصناعة إنما تعرض على الدول الأقل تقدما صورة عن مستقبلها) ..

    هذا ما وصل إليه الكاتب (فوكوياما) في هذا الفصل، ليهيئ لما بعده من فصول ينكر فيها دور الآخرين في كتابة التاريخ.

    وللتنويه نقول: أن أول من أسس لعلم فلسفة التاريخ هو ابن خلدون في القرن الرابع عشر، وأخذ الغرب عنه ذلك العلم فظهر (فيكو و أزوالد شبنجلر وأرنولد توينبي) ولم يتناول الكاتب جهد وآراء هؤلاء، الذين أقروا بفضل ابن خلدون، وتنبئوا بزوال حضارة الغرب، فأزولد شبنجلر لم ينكر دور الحضارة العربية، وتوينبي استسخف قيام دولة الكيان الصهيوني وتنبأ بزوالها، لكن للكاتب رسالة واضحة في كتابه، ونرى تلك الرسالة قد تبناها الكثير من القادة الغربيين.

  2. #12
    6ـ آلية الرغبة


    يطرح الكاتب في مستهل حديثه، عدة أسئلة رشيقة لكنها تدفع بالنهاية القارئ الى اعتماد نظريته كما يريد. هل التاريخ غائي؟ هل تتطور كل المجتمعات أو معظمها في اتجاه واحد معين، أم أن تاريخها ينهج نهجا دوريا أو عفويا محضا؟

    يستدرك الكاتب بسرعة، إن كان النهج عفويا، فبالإمكان أن تكرر البشرية أي ممارسة اجتماعية أو سياسية من ممارسات الماضي: قد يعود نظام الرق، وقد يتوج الأمراء والأباطرة في أوروبا، وقد تفقد النساء حق الانتخاب. أما التاريخ الغائي فعلى العكس من ذلك، إذ أنه يعني أنه ليس بوسع أي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي يتجاوزه مجتمع ما، أن يتكرر في نفس المجتمع.

    هل التاريخ يعيد نفسه؟

    التاريخ لا يعيد نفسه أبدا، فلا بد أن هناك آلية دائمة وواحدة، أو مجموعة من الأسباب الأولى التاريخية التي تفرض التطور في اتجاه واحد، والتي تحفظ ذكريات العصور السابقة حتى الزمن الحاضر.

    مفتاح الغائية الوحيد للتاريخ

    المعرفة هي المفتاح للغائية، لكن ليس كل المعارف، فالمعرفة العلمية هي الوحيدة التي ينطبق عليها الكلام، أما الفن والرسم والشعر والأدب والموسيقى والمعمار، فلا ينطبق عليها مفهوم الغائية والتطور الغائي، فلا يمكن أن نقول أن موسيقيين اليوم هم أفضل من موسيقيي القرن التاسع عشر، ولا يمكن أن نقول أن معماريي اليوم هم أفضل منهم في عهد الفراعنة أو اليونانيين، ولا يمكن أن نقول أن الطالب الذي تخرج على يد نيوتن هو أفضل منه. فالمعرفة العلمية لا هي بالدورية ولا بالعفوية بل هي تراكمية تسند طبقاتها السابقة ما يليها من طبقات.

    الحروب تحتم الاستعانة بالتراكم المعرفي

    الطابع العالمي للعلم (يقصد الكاتب هنا عمومية العلم) يوفر الأساس لتوحيد البشرية لما يحمله من تغيرات تاريخية غائية.. كيف؟ فالحروب تنقل المعرفة أو تستفز الغير في امتلاك المعرفة.. كيف مرة أخرى؟ يضرب الكاتب مثلا: أن قبائل (الزولو) لم تكن لتتغلب على بنادق الإنجليز (في جنوب إفريقيا) مهما امتلكت تلك القبائل من الشجاعة ورباطة الجأش.

    ويتدرج الكاتب بأمثلة تاريخية، من اليابان والصين والدولة العثمانية وغيرها، فعندما تستشعر الدولة التي تتعرض لهزيمة قوة خصمها وتفوقه التكنولوجي، تقوم بدراسة هذا الخصم واستلهام عناصر قوته، فتجري إصلاحات إدارية في سياستها الداخلية، وتبعث أبنائها لدراسة العلوم التي زودت عدوها بالقوة (هكذا فعل محمد علي باشا إثر غزو نابليون لمصر).

    وعندما تتكرر الهزائم، فإن الإصلاحات تطال شكل الحكم (تغير الحكم في بروسيا و فرنسا من ملكي لجمهوري وتشريع القوانين التي تنظم تفعيل أدوات المجتمع ليصبح قادرا على صد الاعتداءات).

    العلوم الطبيعية تنظم الحياة الاقتصادية والاجتماعية

    التصنيع، ليس مجرد تطبيق مكثف للتكنولوجيا في عملية الصناعة وابتداع آلات جديدة، وإنما هو أيضا استخدام العقل البشري في حل مشكلة التنظيم الاجتماعي وابتداع تقسيم (منطقي) للعمل. هذه الاستخدامات المتوازية للعقل، لابتداع آلات جديدة وتنظيم العملية الإنتاجية، قد نجحت الى حد أبعد مما كان يحلم به الدعاة الأوائل، فقد زاد دخل الفرد في أوروبا الغربية الآن أكثر من عشرة أضعافه في منتصف القرن الثامن عشر، حين كان الدخل في كثير من دول العالم الثالث أكثر منه في أوروبا!
    [إن الفقرة السابقة تدين ما يعتقد به الكاتب من مركزية الغرب وفضله على العالم، فقد تزامنت تلك الفترة مع الحركة الاستعمارية التي امتصت خيرات الشعوب فتدنى دخل المواطن في العالم الثالث، لينتقل الى جيوب أفراد الغرب. أما حجة التفوق العلمي، فقد رأينا كيف تكالبت سبعة جيوش لقهر جيش ابراهيم ابن محمد علي وتخفيض جيشه من 540ألف الى 12 ألف جندي فقط، وهي نفس التجربة التي كرروها في العدوان الثلاثي على مصر، وفي غزوهم للعراق، لإبقاء الفجوة واضحة بينهم وبين غيرهم من أبناء العالم الثالث، فهل يصلح هذا النموذج أن يكون قاعدة عمل منهجية عامة؟]

    التنظيم الرشيد يستوجب إدخال تغييرات متناسقة

    يقول الكاتب في هذا المجال: أن الطبقة العاملة التي كان يُنظر إليها كمنفذ لبرامج الطبقة الرأسمالية (الليبرالية العليا) وتأتي من الأرياف لخدمة برامج أصحاب المال لم يعد بالإمكان إبقاء مكان سكناها في الريف، فانتقلت الى المدينة لتكتشف أهمية نفسها في تطبيق برامج الرأسمالية، فنظمت نفسها وأخذت تتدخل في تطوير التشريعات التي تضمن حقوقها، حتى أصبح الخطاب الرأسمالي لا يمكنه تجاوز تلك الحقوق، بل أدخل مكونات المجتمع في تشريع نظامه.

    وهنا يضرب الكاتب مثلا للمقارنة، فيقول: إن أربعة أخماس الأمريكيين كانوا يعملون لحسابهم الشخصي (كأفراد) في القرن التاسع عشر، في حين لم يبق اليوم إلا عشر سكان الولايات المتحدة يعملون لحسابهم الشخصي. حيث انخرط معظم السكان في حجم التنظيم (البيروقراطي ـ أهلي و حكومي) بحيث لا يمكن تجاهل هذا الوضع.

    الجانب الأخلاقي في غائية التاريخ

    تبنت الماركسية، إزالة الفوارق الطبقية بين أفراد الشعب، فلا فرق بين المدينة والريف، ولا فرق بين الطبيب الأخصائي أو العالم النووي مع جامع القمامة، فكانت التنظيمات النقابية تشمل كل الأصناف (نقابة موسكو بها الطيار والعالم والزبال). لكن ذلك ثبت فشله، ففي حين استطاع الغرب الليبرالي تقليل الفوارق بين المدينة والقرية من خلال نظام أكثر عدالة، انهارت مبادئ الشيوعية بسرعة كبيرة لعدم قدرتها على ترجمة الجانب الأخلاقي بشكل إجرائي.

    إنما علينا أن نعترف، أن الشركات لا توظف الباحثين لتحقيق سعادة الناس، بقدر ما تخدم تلك الأبحاث مالكي الشركات لتحقيق الأرباح الأكثر. وعلينا الاعتراف أن ظواهر تقسيم العمل والنمو البيروقراطي ما هي إلا ظواهر مبهمة من حيث دلالاتها الخاصة بسعادة الإنسان.

    وهذه ليست مهمتنا، فنحن نريد إثبات أن التاريخ يتقدم نتيجة أسباب ممكن أن نلمسها وأن تطور العلوم الطبيعية الحديثة يؤدي الى أن يصبح التاريخ غائيا. لكن بالمقابل هل يمكن لتلك العلوم أن تتوقف ويعكس التاريخ مساره للوراء؟

  3. #13
    7ـ ليس هناك برابرة على الأبواب

    لينتبه القارئ الكريم لهذا الاستهلال الماكر للكاتب

    في فيلم ((محارب الطريق The Road Warrior)) للمنتج السينمائي الأسترالي (جورج ميلر)، نرى حضارة اليوم القائمة على النفط قد انهارت نتيجة لحرب ضروس تشبه (سِفْر الرؤيا)، وضاع العلم من جراءها، وطاف الفوط والفوندال المحدثون في سياراتهم وعرباتهم التي تجرها (الخيول) يحاولون سرقة البنزين وطلقات الرصاص من بعضهم البعض، بسبب ضياع تكنولوجيا الإنتاج.

    يحاول الكاتب في تقديمه لمقالته، تصوير العالم إذا ما تعرض لحرب من قبل جماعات متخلفة، تقضي على حضارته القائمة وتجعل العالم ينسى فنون العلوم التي قامت عليها حضارة العالم المتمدن. ماذا سيكون شكله؟ وهل يمكن أو يجوز لنا أن نترك هؤلاء الأعداء البرابرة أن يفعلوا فعلتهم؟ ومن هم هؤلاء البرابرة الجدد الذين سيقضون على حضارة العالم؟ ومن أين استقوا فقههم؟. إن المقالة مليئة بمحرضات التنبه لمثل ذلك العدو..

    منابع الفكر المناهض للحضارة

    يحاول الكاتب المماراة ليبعد الشكوك عن نفسه في تحديد العدو المقبل لحضارة الغرب، إنه لم يرغب في جعل القارئ يرى بشكل مباشر أن الإسلام والمسلمين هم من سيكونون أعداء المستقبل، ولكنه يسوق القارئ الغربي ويخوفه من هذا العدو الخطر. ولكن بعد أن يضع تمهيدا مكشوفا بأن من أسس للفكر المناهض للتقدم هم (الغرب) أنفسهم.

    فيقول: يُعتبر (جان جاك روسو) المصدر المشترك لمعظم النظريات المعادية للتكنولوجيا، فهو أول فيلسوف حديث يشكك في فضل (التقدم ) التاريخي. فهو يقرر بأن الحاجات البشرية الحقيقية محدودة العدد جدا. فالإنسان بحاجة الى مأوى ومأكل، وأن موضوع أمن الإنسان من أخيه الإنسان هو افتراض خاطئ أوجدته النظريات الداعية للتقدم، فليس من الضروري أن يشعر الإنسان بخطر من يعيش قربه. باختصار، إن دفع الإنسان لنزعة الاستهلاك هو ما أوجد عنده الطبيعة الشرهة العدوانية.

    ويورد (روسو) مثلا لهذه الظاهرة، في جامع التحف الذي يؤرقه وجود فجوات بين مجموعته أكثر مما يسعده وجود التحف نفسها، فتبقى نفسه مشغولة في إكمال تلك المجموعة. وبوسعنا (يقول فوكوياما) أن نجد مثالا حديثا، أنه في الثلاثينات من القرن العشرين كان من النادر أن نجد جهاز مذياع (راديو) في بلدة كاملة من بلدان العالم الثالث (مثلا) أما اليوم فقد تجد لدى الشاب أو الفتاة عدة أجهزة لتسجيل وضغط الأعمال الموسيقية والسينمائية.

    أثر تلك الأفكار القديمة على الواقع الراهن

    يتهكم الكاتب من طرف خفي على جمعيات حماية البيئة والمعادية للنشاط الصناعي والنووي وغيره، ويرد تلك النشاطات لمرجعها التاريخي (أفكار روسو). فهو يعتبر أحزاب (الخضر) وجمعيات البيئة وغيرها امتدادا لتلك الأفكار القديمة.

    يكابر الكاتب (وليلاحظ القارئ تطابق هذا الفكر مع الإدارة الأمريكية الحالية التي ترفض التوقيع على معاهدة الاحتباس الحراري). فيقول: إن البيئة النظيفة هي من صلب اهتمام الإنسان الراقي المتمدن الصناعي، لذا فإن البيئة القذرة هي في دول العالم الثالث، والاحتباس الحراري يأتي من عندهم نتيجة قطعهم للغابات وإحراقها للوقيد، فغابات أمريكا الشمالية وأوروبا أنظف وأكثر اخضرارا من غابات دول العالم الثالث!

    انتقاص من دعوات العودة للماضي

    لا يستخف الكاتب بالدعوة للماضي فحسب، بل يستخف بالدعوة المتصالحة مع الواقع الراهن، أي تلك التي تدعو الى حضارة صناعية حديثة لكنها غير مؤذية للبشرية. فيتساءل كيف سيحدث ذلك؟

    يضيف: إنه من الغباء تصور الرعاة والعمال الزراعيين الذين تحولوا الى نمط الحياة الحديثة المرفهة أن يعودوا لأساليب الماضي، لذلك فإن تلك التحولات بالعالم الثالث هي التي تهدد العالم المتحضر وليس العكس. فبرأيه حتى يحافظ سكان العالم الثالث على مستواهم المعيشي الذي وصلوا إليه فسيلجئون لتدمير ما حولهم وربما تدمير العالم. وسيجد أبناء العالم الثالث من حولهم ومن العالم الثالث نفسه من يدعو للعودة الى النمط القديم وتحدث المصيبة.

    احتمال نشوب حرب

    إن أي حرب تستخدم أسلحة الدمار الشامل، يمكن أن تقضي على الكثير من القاطنين من سكان الدولتين المتصارعتين، وممكن أن تتفتت الدولتان أو أحدهما ويهجرها السكان الى مكان آخر، لعدم صلاحية العيش في تلك البلاد المدمَرة.

    إن الدول الكارهة للحروب، والتي ستنجو من دمار الحرب سيكون لها شأن بعد نهاية الحرب. بعد أن تتدمر مصانع الدولتين المتحاربتين. وقد تزدهر بعد تلك الحروب نشاطات الأديان المعادية للحضارة والتكنولوجيا، وقد تقوم الجماعات الملتزمة بالأديان المعادية للحضارة بتدمير القدرة على تذكر التكنولوجيا السابقة!

    [ ليتمعن القارئ بالفقرة السابقة، ويرى كيف أن هذا الفقه هو ما أوحى لبوش أن يقول قولته: من ليس معنا هو ضدنا.. ولنتمعن بفكرة عدم ترك الآخرين دون حروب حتى لا ينعموا بنتائج الحروب دون تضحيات .. ولنتمعن بهذا العدو الذي أراد طمس معالمه في حديثه عن روسو بالبداية الى الحديث عن الأديان المعادية للحضارة! .. إنه نهج ذهني وعملي]

    لكن، يعود الكاتب بمكر شديد للقول، إنه لا يوجد برابرة جدد على الأبواب، فمن يستطيع تدمير الحضارة والتكنولوجيا الغربية، يُفترض أن يكون على دراية بتلك التكنولوجيا ولديه القدرة على تدميرها. [ من هنا تبرز الدعوات المستمرة ـ وإن كانت قديمة ـ على منع التكنولوجيا عن الدول الإسلامية وردعها منذ بداية التفكير بها].

  4. #14
    8ـ تراكم بلا حدود


    (( لم تكن بلادنا سعيدة الحظ. فقد تقرر تجربة الماركسية فينا، ودفعنا القدر في هذا الاتجاه. فبدلا من اختيار بلد ما في إفريقيا لهذا، شرعوا في إجراء هذه التجربة فينا نحن. غير أننا في النهاية أثبتنا أنه لا مكان لهذه الفكرة. فقد دفعت بنا بعيدا عن الطريق الذي انتهجته دول العالم المتحضرة، وهو ما تعكسه حقيقة أن أربعين في المائة من أفراد الشعب يعيشون دون حد الفقر. بل ويعانون مذلة دائمة إذ لا يتلقون السلع إلا بعد إبرازهم بطاقات التموين. إنها مذلة دائمة تذكرك في كل ساعة بأنك عبد في هذه الدولة))
    ................... من خطبة لبوريس يلتسين في اجتماع لحزب (روسيا الديمقراطية في موسكو في 1/6/1991

    كعادته، يبدأ المؤلف بانتقاء فقرة تهيئ القارئ لتقبل ما سيقول بمقالته، فاختار فقرته أعلاه من خطاب (يلتسين) ليسوق حجته بأنه حتى التقدم والازدهار وإن تساوت فيه الدول الشمولية كالاتحاد السوفييتي أو الصين، فإن هذا التقدم والازدهار سيبقى ناقصا ما لم يترافق مع العقلية الليبرالية بنموذجها الغربي.

    يقول: كل ما شرحناه حتى الآن هو أن الازدهار الدائب للعلوم الطبيعية الحديثة يسفر عن تاريخ غائي وتحولات اجتماعية متجانسة الطابع في مختلف الأمم والحضارات. فالتكنولوجيا والتنظيم الرشيد للعمل هما من الشروط اللازمة للتصنيع. وهو ما ينجم عنه بالتالي ظواهر اجتماعية مثل التوسع في سكنى المدن، وفي البيروقراطية، وتفكك الأسر الكبيرة والعلاقات القبلية، والارتفاع بمستوى التعليم. كذلك أوضحنا كيف أن هيمنة العلوم الطبيعية الحديثة على الحياة البشرية، لا يمكن التراجع بشأنها في ظل أية ظروف، حتى في أشدها تطرفا. غير أننا لم نوضح حتى الآن كيف أن العلم يؤدي بالضرورة الى الرأسمالية في المجال الاقتصادي، أو الى الديمقراطية الليبرالية في المجال السياسي.

    والواقع أن ثمة أمثلة لدول مرت بالمراحل الأولى من التصنيع، تُعَدُ دولاً متقدمة اقتصاديا وحضرية، وعلمانية، وبناء الدولة فيها متين متجانس، وشعبها جيد التعليم نسبياً، غير أنها لا هي بالرأسمالية ولا بالديمقراطية. والمثل الرئيسي هنا، ولسنوات عديدة، هو الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين، وهو الذي تمكن في السنوات ما بين 1928 وأواخر الثلاثينات من تحقيق تحول اجتماعي مذهل من دولة زراعية معظم سكانها فلاحون، الى دولة صناعية قوية، دون أن يتيح للمواطنين حريات اقتصادية أو سياسية.

    لقد أثر نمو الاتحاد السوفييتي على الكثير من الكتاب الغربيين، فكتب (اسحق دويتشر) في الخمسينات يقول: (إن اقتصاد التخطيط المركزي أكثر فعالية من فوضى آلية اقتصاد السوق، وأن الصناعات المؤممة أقدر على تحديث المصانع والآلات من القطاع الخاص)

    بالرغم من سوء سمعة الرأسمالية سواء لدى اليمين الديني التقليدي، أو اليسار الاشتراكي الماركسي، فإن تفسير انتصارها في نهاية المطاف باعتبارها النظام الاقتصادي الوحيد الصالح للبقاء. [ هكذا يقرر الكاتب خلاصة ما يؤمن به]

    ويضيف: نحن نعلم الآن أن التصنيع لا يأتي طفرة فتنتقل الدول به فجأة الى الحداثة الاقتصادية، وإنما هو عملية دائبة التطور ولا نهاية واضحة لها، بحيث تغدو حداثة اليوم قديمة في الغد. وقد تغيرت على نحو مطرد وسيلة إشباع ما أسماه (هيجل) نسق الاحتياجات، كما تغيرت هذه الاحتياجات نفسها. وقد كان المنظرون الاقتصاديون القدماء (ماركس و إنجلز) يرون أن التصنيع يتكون من الصناعات الخفيفة (نسيج، خزف) لكن الأمر تغير بسرعة، فأصبحت سكك الحديد والصناعات الثقيلة، هي التي تعني كل من (لينين وستالين) .. وقد تسابقت دول كثيرة في الوصول الى مرتبة الدول الصناعية إضافة الى أوروبا والولايات المتحدة فإن اليابان والصين وكثير من الدول قد وضعت أقدامها على هذا الطريق.

    تسارع التطور

    كَتَبَ (دانييل بيل) عام 1967، أن متوسط طول المدة بين اكتشاف مبتكر تكنولوجي جديد وبين إدراك إمكاناته التجارية كان 30 عاما في الفترة ما بين عامي 1880 و 1919، ثم انخفض الى 16 عاما في الفترة ما بين 1919و 1945 ثم الى 9 أعوام في الفترة ما بين 1945و 1967. ويقول الكاتب (فوكوياما) أن الدورة الآن لا تزيد عن بضعة شهور.

    ويضيف الكاتب: أن التطور شمل أيضا التجارة الدولية، حيث كانت في الأجيال السابقة لا تزيد عن 3% فيما بين الدول، ثم أخذت تتزايد سنويا بمعدل 13% ولا شك أن تطور المواصلات والاتصالات والعلاقات بين المصارف التجارية وتدفق المعلومات جعل من العالم سوقا سهل المراقبة.

    الابتكار والاختراع رهنا على الأجواء الحرة

    هنا يعود الكاتب، ليتشفى بانهيار الاتحاد السوفييتي، فيعزي عدم مواكبة علماءه لحركة الاختراع الى النظام المركزي، في حين كان أداء علماء البلدان الرأسمالية أكثر عطاء لاقتران عملهم بالمنافسة الحرة و ما يعود على ابتكاراتهم من أرباح، وقد يكون محقا في هذه النقطة، حيث حولت البيروقراطية المركزية العاملين المبدعين والعلماء الى أرقام لا يحسون فيها بأهميتهم.

    رضوخ أصحاب النمط المركزي لمنطق الاقتصاد المتقدم

    يقول الكاتب ـ تكملة لمقالته ـ : أن الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية والصين، أدركت منذ أواخر الثمانينات، عقم سياساتها الاقتصادية فاختارت طائعة التحول الى الاقتصاد المتقدم (أي الغربي)!

    تعليق:

    لقد ذكر بعض الشيوعيين في تقييمهم للتجربة السوفييتية في مجلة الطريق التي كانت تصدر في بيروت في أواخر التسعينات، أن من أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي هو اضطراب المشاعر التي تصف الواقع، فبين شعور بالفخر لا تسنده حقائق واقعية. وضرب مثالا في هذا الصدد أن الساسة يرددون: الاتحاد السوفييتي أكبر دولة منتجة للبطاطا في العالم، ويقول الكاتب آنذاك (وأظنه الشيوعي عامر عبد الله ـ لم أعد أذكر) أن هذا الكلام صحيح، لكن سوء مكائن الحصاد تهشم ربع الإنتاج، ويقضي سوء التخزين على 50% من المحصول بفعل القوارض وعدم تهيئة المستودعات.

    إذن، فقوام القدرة موجود، ولكن سوء الإدارة و (بيروقراطيتها) هو السبب، وأن حل ذلك قد يكون بتطوير الأساليب الإدارية.

  5. #15
    9ـ انتصار أجهزة الفيديو

    (( ما من دولة من دول العالم، مهما كان نظامها السياسي، نجحت في تحديث نفسها مع انتهاج سياسة الباب المغلق))
    [ من خطبة ل دينج هسياو بنج1982]


    في العقد الأخير من القرن العشرين، بدا جليا للناس أن الرأسمالية ستكون حتمية السيادة في البلدان المتقدمة، وأن الماركسية اللينينية تعتبر عقبة كأداء في طريق التقدم. هكذا استهل (فوكوياما) مقالته بعد أن اختار جزءا من خطاب الزعيم الصيني ليضعه شاهدا على حديثه الذي سيبدؤه.

    لكن، لم يكن الأمر كذلك في منتصف القرن العشرين (الخمسينات والستينات) عند الدول الأقل تقدما، والتي كانت تحلم بالفحم الحجري وصناعة الصلب، فقد كانت تلك الدول غير مهتمة بالتفاصيل التكنولوجية المتقدمة عند الغرب الرأسمالي، فكانت تنجذب للإتحاد السوفييتي والنمط المركزي في السياسة الذي استطاع في الدول الاشتراكية أن يحرق المراحل بالقوة والعنف، فقد قطع الاتحاد السوفييتي مرحلة بربع المدة التي احتاجتها دول الغرب لتصل ما وصلت إليه، لذا كان هذا النموذج مرغوبا في الدول الفقيرة لتحذو فيه التجربة الاشتراكية. وقد شجع الدول النامية على هذا السلوك، ما كانت تواجهه دول أمريكا اللاتينية من فشل متكرر في تطبيق السياسة الرأسمالية.

    (1)


    لقد ظهر نمط من السياسة، سمي ب (التبعية)، كان منشئ هذا المصطلح هو: لينين عندما نشر كُتيب عام 1914 بعنوان: (الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية)، غمز فيها أن الرأسمالية الغربية لا تسعى لإفقار الطبقة العاملة في بلدان أوروبا، بل سمحت بارتفاع مستوى معيشتهم لتحويلهم الى عمال قانعين. ولكن تفسير مصطلح (التبعية) وما تم الزيادة عليه، يعود بالدرجة الأساس الى الاقتصادي الأرجنتيني (راءول بريبيش) والذي كان يترأس أحد اللجان التابعة للأمم المتحدة في الخمسينات، حيث كان يشير في كتاباته الى أن التجارة والعلاقة الاقتصادية بين دول المركز ودول الأطراف تزداد إجحافا لصالح دول المركز، وتبقي الدول النامية بحالة يُرثى لها، فأوجد ما يسمى بالصراع ما بين دول الشمال (المتقدم) والجنوب (الفقير).

    (2)

    لقد ظهر تياران، أحدهما يصف العلاقة بين الشمال والجنوب علاقة طبيعية، يبيع فيها أحد الطرفين التكنولوجيا والطائرات، ويبيع الطرف الآخر المواد الخام! ويتهكم أصحاب التيار الثاني على هذا الرأي، فيقولون: أن الشمال يدفع بأبناء الجنوب على أن يبقوا يقطعون الأشجار ويضخون الماء لصالح أبناء الشمال، وأن الحل لذلك هو الانسحاب من أي حوار بين الطرفين والثورة على الشمال، وقد كانت كوبا و الصين والاتحاد السوفييتي مراكز تحريض لتبني مثل هذا الموقف. فكان لكل طرف أتباع وهنا تكمن صورة فرز المعسكرين في الحرب الباردة.

    (3)

    يستشهد الكاتب بهذه الفقرة بما يدحض آراء أصحاب موقف الرفض للصورة الغربية، فيذكر ما قاله أحد كبار الساسة في سنغافورة [ لم يذكر اسمه]: (أن ثمة ثلاث جماعات تمقتها بلاده ولن تسمح أبدا بها: الهيبيز والفتيان ذوي الشعر الطويل، ومنتقدي الشركات متعددة الجنسية).

    لقد وضع فوكوياما، أرقاما للمقارنة بين النمو في بعض البلدان (التابعة للنمط الغربي) وغيرها ممن لا يتبعون الغرب، فكان النمو في اليابان 9.8% في الستينات، ثم أصبح 6% في السبعينات، [وهي الدولة التي تربض القوات الأمريكية على أراضيها]، وكان النمو في النمور الأربعة (هونج كونج، وتايوان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية) 9.3%.

    ولم يكتف الكاتب بالأمثلة السابقة للتدليل عما يريد، بل تخصص في المقارنة بين دول من نفس المنشأ، فكان متوسط دخل الفرد في كوريا الجنوبية 4550 دولار في الثمانينات وهو يساوي أربعة أضعاف متوسط الدخل في شقيقتها الشمالية (الشيوعية)، ثم قارن بين تايوان والصين فكان متوسط دخل الفرد في تايوان عام 1989 (7500) دولار في حين كان (350) دولار في الصين.

    وهنا يبرز رأي يقول: أن التصنيع هو سبب النمو وليس الرأسمالية، إذ لماذا لم تنجح السياسات الاقتصادية في دول أمريكا اللاتينية عندما كانت تبعيتها واضحة للغرب وبالذات للولايات المتحدة؟

    يجيب الكاتب أنه في دول أمريكا اللاتينية وبلدان الشرق الأوسط لم تبذل محاولات جادة لمتابعة النهج الرأسمالي ووعد مناقشة ذلك في الجزء الرابع من الكتاب. لكنه فرَق بين أمريكا الشمالية التي ورثت التقاليد والفلسفة الليبرالية عن بريطانيا، في حين ورثت أمريكا اللاتينية عن المؤسسات الإقطاعية في البرتغال واسبانيا. ويكفي أن نذكر أن تكلفة إنتاج سيارة في البرازيل أو المكسيك أو الأرجنتين تزيد بين 60 و150% عنها في الولايات المتحدة.

    (4)

    يتحدث (هيرناندو دو سوتو) في كتابه "الدرب الأخير" عن كيف أن معهده في ليما حاول تأسيس مصنع من وحي الخيال وفق القواعد القانونية التي حددتها حكومة بيرو. كان عليه أن يمر بأحد عشر إجراء بيروقراطيا تستلزم 289 يوما وتكلفة قدرها 1231 دولار ومصاريف ضائعة أخرى بينها (رشوتان) أو ما يعادل 32 ضعف لأدنى مرتب شهري.

    ثم يعطي الكاتب مثالا آخرا، هو أن نصيب الفرد الأرجنتيني عام 1913 كان يساوي نصيب الفرد بسويسرا وضعف نصيب الإيطالي، ونصف نصيب الكندي ولكن اليوم أصبح نصيب السويسري 6 أضعاف نصيب الأرجنتيني والإيطالي 3 أضعاف.

    خلاصة

    يستخلص الكاتب في نهاية مقالته هذه، أن معظم السياسيين في مختلف أنحاء العالم اكتشفوا سر التباطؤ في اقتصادهم وحاولوا ويحاولون الانتقال من وضعهم السابق (الصين، روسيا، كل العالم الثالث) الى الوضع الليبرالي، وهذا كله بفضل أجهزة الفيديو.!

  6. #16
    10ـ في مضمار التعليم

    (( كذا جئتكم، يا أناس اليوم، وفي مضمار التعليم... فما الذي حدث لي؟ ضحكتُ رغم كل ما أشعر به من قلق.. لم ترَ عيناي أبداً شيئا مرقعا كهذا الثوب الشبيه بثوب البهلوان. ضحكت وضحكت بينما كانت قدماي ترتجفان، وقلبي في مثل ارتجافهما. وقلت: " من المؤكد أن هذا هو منبع الاختلاط والتخبط ". ))

    نيتشه: هكذا تكلم زرادشت

    (1)

    يضع (فوكوياما) فرضية لمقالته هنا، بعد أن يختار تلك الفقرة مما قاله الفيلسوف الألماني نيتشه. فرضيته هنا، تقرر أن هناك علاقة بين تطور العلوم الطبيعية و التوجه نحو الديمقراطية الليبرالية. يوفق الكاتب أحيانا في اختيار الأمثلة ويخفق إخفاقا شديدا في اختيار أمثلة أخرى، حينما يفسر أو يحاول تفسير ظواهر التقدم التقني والاقتصادي في بعض الدول. كما يتحاشى الكاتب من ذكر بعض الديمقراطيات الكبرى (الهند) كون وضعها لا يخضع لفرضياته.

    يؤشر الكاتب على تجارب أوروبا الجنوبية (اليونان، أسبانيا، البرتغال) وكيفية انتقالها من الحكم الديكتاتوري الى الحكم الديمقراطي، وكيف أن النمو الاقتصادي والدخل الفردي يتحكمان بتحقيق الشروط للانتقال للديمقراطية، فيذكر هنا مقولة للجنرال فرانكو (ديكتاتور أسبانيا) عندما تنبأ بإمكانية انتقال أسبانيا من الحكم الديكتاتوري الى الديمقراطي وقتما يصبح دخل المواطن الأسباني 2000 دولار، ويقر الكاتب بأن نبوءة (فرانكو) كانت دقيقة، حيث حصل التحول عندما أصبح دخل المواطن الأسباني (2446) دولار في عام 1974!

    لن نناقش جدية تلك النظرة، فهي قاعدة تكاد تكون جوفاء، حيث أن مقاييس الدخل تؤخذ كمتوسط، فقد يكون هناك من يكون دخله مليون دولار وآخرون لا يزيد دخلهم عن بضع مئات من الدولارات، ويكون المتوسط العام فوق ال 2000 دولار، كما في بعض البلدان العربية اليوم!

    كما أن هذا الشرط لم يكن ضروريا في تجربة الهند حيث أكبر ديمقراطية في العالم، مع وجود أناس يقتسمون الأرصفة!

    (2)

    يحاول الكاتب تلمس بعض النماذج التي تكون استثناءا لقاعدته، فيناقشها قبل أن يناقشها منتقدوه. فيمر على تجربة (بيرو) حيث يثمن فيه جهد النظام الديكتاتوري في انتزاع أراضي البلاد التي كانت مسجلة باسم (700) شخص ليقوم النظام بتوزيعها على الشعب، وهي خطوة ما كان للنظام الديمقراطي أن يفعلها دون جبروت النظام الديكتاتوري.

    ثم يضرب مثل ديكتاتورية اليابان في عهد حكومة (ميجي) عام 1868 عندما ارتسمت خطا للتزود بالعلوم والنهوض بالبلاد بطريقة ديكتاتورية حازمة. ويشير لتجارب أخرى في الاتحاد السوفييتي (عهد ستالين).

    لكنه يرهن النمو في الديكتاتوريات الى وجود قائد (ملهم)، ما أن يختفي هذا القائد لتختفي معه آثاره ويختفي معه استقرار الحكم، في حين لا تكون تلك الحالة موجودة في الليبراليات المستقرة.

    ويضرب مثلا، في الفلبين، حيث أن من يفوز بالديمقراطيات هم من أرستقراطيي البلاد وبالذات من ملاك الأراضي (كورزان أكينو ـ مثالا).

    (3)

    عندما يأتي الحديث عن الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الكاتب لا يخفي إعجابه الشديد بالتفرد الذي تتمتع به تلك البلاد، حيث يولد المولود فيها ديمقراطيا ليبراليا متحررا من النزعات العرقية والطائفية والتمييز العنصري، بخلاف تلك البلاد التي تعج بالمشاكل الإثنية، فالمواطنون متساوون في الولايات المتحدة، يحق لكل واحد منهم أن يتنافس مع غيره في تبوء مراكز السلطة، وهذا ما يعلن (فوكوياما) عن عدم فهم أسراره!

    أحقا ما يقول (فوكوياما) بهذا التفرد؟ قد يكون محقا في أن كل المواطنين لهم الحق في التنافس على تبوء مراكز السلطة، لكن الحق أيضا ما نقول: في أنه لا يمكن لهؤلاء المتنافسين أن يصلوا الى تلك المراكز، فمنذ وضع الدستور الأمريكي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، والحزبان (الجمهوري والديمقراطي) يتناوبان على ملء تلك المراكز، رغم وجود عشرات الأحزاب التي حاولت وتحاول الوصول الى السلطة. وبالمناسبة فالأحزاب التي تحكم بأمريكا هي أحزاب ليس لها نظرية تنظيمية ولا منظومة أيديولوجية (فلا اجتماعات دورية ولا هناك مناهج تثقيفية) فالطفل يولد جمهوريا ويولد ديمقراطيا وفق رؤية أهله المتناسبة مع النظرة الإمبريالية. كما أن (بوش) سليل العائلة النفطية لا يختلف كثيرا عن (أكينو) سليلة عائلة ملاك الأراضي.

    (4)

    يمكن الاتفاق مع (فوكوياما) في القول أن التطور العلمي والتقني يدفع باتجاه الاتفاق على تناقل السلطة، فالمنتجون يحبون أن يكون هناك من يتفهم حركات إنتاجهم ويتفاعل معها في سن القوانين. كما أن انخراط الكثير من العمال المهرة والمصدرين والمسوقين يعنيهم ما يصدر عن الدولة من قوانين وتعليمات تخدم حركاتهم ولا تعيقها.

    كما أن اكتساب الناس للعلوم والمعارف، يجعلهم لا يقتنعون بسهولة بضرورة الانخراط بالجيش للاعتداء على دولة أو شعب دون قناعات قوية. في حين من السهل على الشعب المتعلم أن ينخدع في اتباع أساليب تغذية أو رياضة تسوق له من أجل الربح.

    لقد استفادت كوريا الجنوبية من تدفق العلوم بأشكالها لا من أجل تطوير اقتصادها فحسب، بل من أجل تطور عادة الانتخاب وتحسين نتائج تلك الانتخابات بما يتماشى مع التطور، ففي كوريا (برلمان) هو الأكثر شبابا بين برلمانات العالم حيث يقل متوسط أعمار الناجحين في البرلمان، وهي دلالة على توافق وتناغم أشكال التطور في كل المستويات.

    (5)

    لكن هناك مشكلة، حاول الكاتب التملص منها، وهي موضوع تلوث البيئة، فإن كان التقدم يفرض على شعب من الشعوب أن يطور أشكال قطاعاته وعلاقاتها مع بعض، فإن السمة العامة لهذا التطور لها علاقة بالربح وزيادة الدخل، سواء للأفراد أو للدولة المستفيدة من ضرائب الأفراد ونشاطاتهم فيها.

    أما فيما يتعلق بالبيئة وتلوثها، فهي متعلقة بالجانب الأخلاقي الإنساني وتبتعد عن الجانب الربحي. وقد تساوت في تجاهلها كل نظم الحكم (مركزية أو ليبرالية) لكن الليبراليون يتبجحون بأنهم يتركون المجال لمنظمات مدنية تطالبهم بالالتزام ببيئة نظيفة. نعم تعطيهم ترخيص في التظاهر ضدها، لكنها تعطي نفسها ترخيص بعدم الاستجابة لتلك التظاهرات!

  7. #17
    (11)

    الإجابة عن السؤال السابق


    وهو سؤال كانط: هل بالوسع كتابة تاريخ العالم من وجهة نظر عالمية؟ وإجابتنا الآن مؤقتة، هي: نعم.

    لقد زودتنا العلوم الطبيعية الحديثة بآلية أضفى ازدهارها المطرد على تاريخ الإنسانية عبر القرون الماضية غائية وتماسكا منطقيا. وقد باتت هذه الآلية عالمية في عصرنا هذا الذي لم يعد بمقدورنا فيه أن نعتبر تجارب الإنسانية في مجموعها هي تجارب أوروبا وأمريكا الشمالية. فبصرف النظر عن القبائل في أدغال البرازيل وغينيا الجديدة الآخذة بالاندثار سريعا، لا نجد سلالة بشرية واحدة لم تتأثر بهذه الآلية ولم ترتبط بسائر سلالات البشر بفضل الصلات الاقتصادية العالمية التي يخلقها الاستهلاك الحديث. إنها نظرة عالمية لا إقليمية ضيقة نتجت عن نمو حضاري عالمي خلال القرون القليلة الماضية.

    من أوجد هذه القاعدة الحضارية؟

    إن من يقرأ لهذا الكاتب، وهو يصف ذلك النشاط بأنه نشاط عالمي، وليس إقليمي أو ليس محصورا بأوروبا وأمريكا، سيصف هذا الكاتب بأنه كاتب منصف وعقلاني. لكن عندما يكتشف القارئ أن العالمية التي يقصدها الكاتب هي عالمية من فكرة وتأسيس وصناعة من يبشر لهم، سيكتشف القارئ عندها مدى استعلاء نظرة هذا الكاتب واستحقاره لغيره.

    يقول الكاتب مدللا لما رميناه به: لم تستطع دول في إيقاف وحدة عالمية تلك الحضارة، فلم يكن باستطاعة الدولة العثمانية، ولا إمبراطورية اليابان، ولا قوة الاتحاد السوفييتي أو الصين الشعبية أو بورما أو إيران وكوبا وغيرها.

    استشعار لتطبيق دورة التاريخ:

    يقول الكاتب: أن قوة التقدم العلمي عطلت من فكرة أن (يعيد التاريخ نفسه)، وهنا يشير لمن يطبق فكرة (أن كل دولة أو إمبراطورية مهما بلغت قوتها، فإنها ستمر بأطوار الإنسان من الطفولة حتى الشيخوخة والموت). لا يريد الكاتب أن يشمل الولايات المتحدة بذلك السيناريو. فيقول أن الصراع بين أثينا وأسبارطة بما يعنيه من صراع بين الديمقراطية (أثينا) والدكتاتورية (أسبارطة)، لن يكون مماثلا لما كان يقوم في الحرب الباردة بين الليبرالية (الولايات المتحدة وحلفائها) وبين الشمولية (الاتحاد السوفييتي وحلفائه).

    يؤكد الكاتب بأن تطور الليبرالية هو تطور تاريخي دياليكتيكي وجد من خلال تجارب (الشعوب المتحضرة) في حين أن التجربة النازية والشيوعية هي أشبه بالطرق الفرعية التي تنتهي بعلامة (نهاية خط أو الطريق مغلق).

    دكتاتوريات صغيرة وطموحات لن تتحقق:

    يترك الكاتب الديكتاتوريات الكبيرة (الصين والاتحاد السوفياتي) ، ويلتفت الى دكتاتوريات قبيحة (كما أسماها) كوبا، إيران، سوريا، العراق، أفغانستان، اليمن (الجنوبي)، إثيوبيا، كوريا الشمالية. ومن يتفحص تلك الدول ووضعها سيجدها تشترك في صفة واحدة وهي الفقر النسبي وقلة الإمكانيات، وهذا مما يدفعها لأن تكون ديكتاتورية!

    ماذا عن ألمانيا و إيطاليا؟ (النازية والفاشية)

    استند الكاتب الى تحليل أو وصف (والت روستو) الذي أطلق عليه: (مرض المرحلة الانتقالية) أي أن المرور بمرحلة الديكتاتورية ضروري جدا للانتقال لمرحلة التصنيع.

    حسنا، إذا كان ذلك الوصف يصلح في الدكتاتوريات القبيحة (كما أسماها)، فما هو تفسير ظهور تلك الدكتاتوريات في مجتمعين صناعيين اجتازا مرحلة الانتقال؟ (ألمانيا وإيطاليا).

    يمر الكاتب على الإجابة عن ذلك التساؤل بشكل غير مقنع نهائيا، فيقول إننا لا نستطيع أن ندافع عن أن النازية والفاشية هما نتاجان من إنتاج (الحداثة) ولن نضمن أن لا يتكرر نموذجهما مرة أخرى بالتاريخ.. لا ندري إن كان (فوكوياما) يحبذ شمول بوش بالنموذجين الألماني النازي والإيطالي الفاشي!

    المحرقة في نظر فوكوياما

    اعتاد الكاتب على عدة أنواع من الصياغات، فهو عندما يريد أن يمرر رأيا لا يضمن ردة فعل الآخرين تجاهه، فإنه يورده بشكل (هناك من يقول: كذا) ويدخل رأيه بين ثنايا تلك الصيغة. وأحيانا يريد أن يضع أسهما كالتي تستخدم في إشارات المرور ( الى رأي فوكوياما بالمسألة الفلانية).

    هذا ما فعله بموضوع (المحرقة) حيث وصفها: بالحدث التاريخي الفريد، واستبعد أن يتكرر مرة أخرى في التاريخ، ويضع أسبابا وراء ذلك الحدث التاريخي الفريد، فالاحتقانات وخيبة أمل النازية هي التي كانت وراء موضوع المحرقة، وطالما أن النازية لن تتكرر فالمحرقة لن تتكرر، هذا وجه الفرادة في موضوع المحرقة.

    من يقول أن المحرقة هي بالسيناريو الذي تم تلقينه للإعلام الخادم للإمبريالية؟ فالمحرقة من زاوية أخرى، هي صنيعة صهيونية للفت نظر العالم لمعاناة اليهود لكي يتم استعجال تهجيرهم الى فلسطين والتمهيد لقيام كيانهم، وبنفس الوقت أن الوشاية التي كان الصهاينة يقدمونها للمخابرات النازية، هي ضد يهود كانوا أعداء لفكرة الصهيونية، وهنا يضرب عصفورين بحجر واحد.

    ثم لماذا تسليط الأضواء على المحرقة تلك ونسيان محارق أبادت سكان قارات كاملة (أمريكا واستراليا)، أو ما حدث في (هيروشيما ونجازاكي بعد ضربهما بالقنابل النووية). كما أن سنين الحصار على العراق والضحايا التي حدثت وتحدث لغاية اليوم تفوق عدة محارق (مزعومة). هذا غير ما يخلفه تلويث أرض العراق والمنطقة سيشوه الكثير من أبناء البشرية!

  8. #18
    (12)

    لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين


    بات واضحاً الآن أن الآلية التي بسطنا قواعدها هي في جوهرها تفسير اقتصادي للتاريخ، والواقع أن " منطق العلوم الطبيعية الحديثة " لا يملك قوة في حد ذاته مستقلة عن البشر الذين يريدون استخدام العلوم لتذليل الطبيعة من أجل إشباع احتياجاتهم، أو تأمين أنفسهم من أخطارها. أما العلوم في حد ذاتها (سواء في صورة الإنتاج الآلي، أو التنظيم المنطقي للعمالة).

    لقد حاول (فوكوياما) أن يقول لمن كان يؤمن بالأفكار الاشتراكية، بأن الاشتراكية وعلى لسان ماركس بشرت بالعدالة الاجتماعية وتحقيق الرفاهية للناس بطريقة عادلة، أقر فوكوياما بذلك، لكنه سخر من الماركسية بأنها لم تحقق ما بشرت به في حين استطاعت الرأسمالية تحقيق ما عجزت عنه الاشتراكية. وهنا يورد فوكوياما فقرة من المجلد الثالث من كتاب رأس المال لماركس ليؤشر للقارئ ما يريد إثباته:
    (( لا يبدأ ملكوت الحرية في الظهور إلا باختفاء العمل الذي تمليه الضرورة والاعتبارات الدنيوية. فهو إذن، وبطبيعة الأشياء، خارج نطاق الإنتاج المادي الفعلي. وكما أن على الهمجي أن يُغالب الطبيعة من أجل إشباع احتياجاته والبقاء على قيد الحياة والتناسل، فكذا على الإنسان المتحضر أن يفعل كل هذا في كافة التشكيلات الاجتماعية وفي ظل كل صور الإنتاج الممكنة. وبتطور الإنسان يتسع مجال الضرورة المادية نتيجة احتياجاته. غير أن قوى الإنتاج التي تشبع هذه الاحتياجات تتزايد هي الأخرى وفي نفس الوقت. ولا يمكن للحرية في هذا المجال إلا أن تقوم على التفاعل مع الطبيعة، بحيث يتحكم الإنسان فيها بدلا من أن يذعن لها إذعانه لقوى الطبيعة العمياء، على أن يتحقق ذلك بأقل جهد ممكن وفي ظل أنسب الظروف للطبيعة البشرية وأجدرها بها. ومع ذلك، فإن الأمر لن يتعدى مجال الضرورة. أما خارجه، فتبدأ تنمية الطاقة البشرية التي هي غاية في حد ذاتها، وهي ملكوت الحرية الحقيقي الذي لا يمكن مع ذلك أن يزدهر إلا باتخاذه مجال الضرورة أساسا له. والشرط الأساسي لهذا هو تقصير ساعات العمل))

    لم يكن ل(فوكوياما) أن يكون كريما بهذا الشكل عندما يقتبس تلك الفقرة المطولة، لو لم يعتقد أن فلسفتها تنطبق على (الليبرالية الإمبريالية). فهو يتهكم بعد إدراجها على مصير الحالمين الشيوعيين في الاتحاد السوفييتي وألمانيا الديمقراطية الذين كانوا يحلمون بتقليص ساعات العمل الى أربعة ليقضوا باقي يومهم في التزلج أو كتابة الأشعار ومراقبة المسرحيات والباليه. بل كانوا يقضون باقي ساعات يومهم في طوابير الانتظار للحصول على سلعة أو شرب (الفودكا) وإن حصل وتنزه أحدهم فإنه سيكون بأشبه بنزلاء المصحات الواقعة على شواطئ ملوثة.

    ما أراد قوله فوكوياما في موضوع الديمقراطية

    ينتهي فوكوياما في هذه المقالة الى أن الديمقراطية ليست متعلقة بالوضع الاقتصادي فحسب، بل هي آتية من إرادة روح الليبرالية وفهمها. ويضرب مثالين: أن أكبر الثورات في العصور الحديثة كانتا في الولايات المتحدة وفرنسا، وهما لم تقوما على هامش التطور الاقتصادي والصناعي بل قامتا بوازع يتعلق بالحرية الليبرالية.

    كما أن المعالجات الاقتصادية التي تحاكي النموذج الليبرالي كالصين مثلا، لا توصل الى حالة ديمقراطية. كما يمكن سحب هذا الكلام على (لي كوان يو) في سنغافورة الذي ذهب الى أن الديمقراطية ستكون عقبة في سبيل النجاح الباهر في سنغافورة.

    يريد فوكوياما أن يقول للعالم إن تداول السلطة والديمقراطية لن تتحقق بالشكل المطلوب إلا بالصورة التي تسير عليها الولايات المتحدة الأمريكية.

    نقد وتعليق

    إن النقاط الفلسفية التي اختارها فوكوياما مما اقتطفه من كتاب رأس المال لماركس، صحيحة في جانب وكاذبة في جانب آخر:

    1ـ إن الماركسية التي كانت شكلا من أشكال الرفض لسحق إنسانية العمال في بداية الثورة الصناعية، هي وما رافقها من أشكال احتجاج فكري وعملي من خفض ساعات العمل في البيئة الرأسمالية من 14 ساعة لما هي عليه الآن. فلم يكن الضمان الاجتماعي والصحي وتخفيض ساعات العمل كرما من الرأسمالية بل كانت نتيجة صراعات وإضرابات قام بها العمال من اليونان الى أمريكا حتى أصبح الشكل للتعاطي مع قضايا العمال كما هو عليه، وإن الدول التي تناوبت فيها الاشتراكية (المحسنة والمهادنة للرأسمالية) [ الدول الاسكندينافية وألمانيا] هي أكثر ثباتا وقوة من تلك التي انفردت بها الرأسمالية [الولايات المتحدة وبريطانيا]. وما يحصل اليوم من انهيارات مالية هو شاهد كبير.

    2ـ إن كان يعاب على النظام الشمولي [الاتحاد السوفييتي وغيره] من أنه يبتعد عن أساليب تناقل السلطة بعدل. فإن هذا العيب موجود بالنظام الرأسمالي الليبرالي، فالديمقراطية المركزية التي كانت تجري في الدول الشمولية تنتخب المندوبين من بين أعضاء الحزب الحاكم في القرى والقصبات لترسلهم الى المدن ومن ثم تنتخب من بين أولئك المندوبين مندوبين أقل عددا لترسلهم للعاصمة، ليختاروا قياداتهم، وهي صورة يطلق عليها أعداء النظم الشمولية بأنها ديكتاتورية الحزب الواحد.

    فإن الصورة لا تختلف كثيرا في الدولة الليبرالية، حيث يترشح من يملك الملايين لمتابعة حملته ويقوم (قادة الرأي) للتبشير بهذا القائد الجديد وتتبنى الشركات العملاقة تمويل الحملات بعد أن تتفاهم على عدد مرشحيها مع غيرها من الشركات، فهي ديكتاتورية رأس المال التي لا تعير اهتماما للجمهور، بل تسرقه لإنقاذها (حسب خطة إنقاذ بوش).

    إن العيب البارز في النظام الشيوعي في إلغاء المواطن كفرد بشكل نهائي، لا يعطي الأفضلية للنظام الرأسمالي، حيث لا يلغى الفرد فحسب بل تلغى الإنسانية جمعاء لضمان رفاهية نخبة عفنة. والعالم ينتظر نموذجا أفضل ولا بد من ولادته.

  9. #19
    الجزء الثالث: الصراع من أجل نيل الاعتراف والتقدير.

    13ـ في البدء كانت معركة حياة أو موت من أجل المنزلة الخالصة

    ( وليس بالوسع نيل الحرية إلا بالمخاطرة بالحياة. حينئذ فقط يمكننا التدليل على أن جوهر وعي الإنسان بذاته ليس مجرد البقاء على قيد الحياة، ولا هو مجرد الصورة المباشر التي يبزغ فيها هذا الوعي لأول مرة .. فالفرد الذي لا يخاطر بحياته قد يُعْتَرَف به فردا، غير أنه لم ينل حقيقة هذا الاعتراف باعتباره وعيا مستقلا بالذات)
    ............................. ج.ف.هيجل: [فينومينولوجيا العقل]

    (( الرغبة الناشئة عن طبيعة الإنسان ـ الرغبة التي يتولد عنها الوعي بالذات وواقع الإنسان، هي في أصلها تعبير عن الرغبة في نيل الاعتراف والتقدير. وما المخاطرة بالحياة التي يبزغ بها واقع الإنسان الى النور، إلا مخاطرة من أجل إشباع تلك الرغبة. وبالتالي فإن أي حديث عن مصدر الوعي بالذات هو بالضرورة حديث عن معركة حياة أو موت من أجل الاعتراف والتقدير))

    ....................... ألكسندر كوجيف: [مقدمة لقراءة هيكل]

    يستهل الكاتب مقالته هنا، والتي تتصدر الجزء الثالث، باقتباسين اثنين، ومن يجمع اقتباسات الافتتاح للكاتب يستطيع أن يتعرف على الدينامو المحرك لتفكيره أو ما يطلق عليه (الدافع الإبستمولوجي). فهو يريد أن يقرر أن الليبراليين هم ورثة كل المفكرين الجادين، والذي يحرص الكاتب أن يكونوا كتابا من الغرب.

    أخطار و مخاوف وأحلام.

    ما هي الأخطار والمحاذير بالنسبة لشعوب العالم؟ (يتساءل المؤلف): ويجيب: إنها ثقل الكولونيلات المكروهين أو قادة الأحزاب الذين يضطهدون غيرهم، والحكام الذين يلجئون للاعتقال التعسفي للمواطنين. إن الشعوب تحلم بالعيش دون خوف، والتمتع بقدر من الرخاء. ولكن الرخاء لن يأتي إلا بالديمقراطية والرأسمالية، وحتى إن جاء الرخاء في ظل حكومات غير ليبرالية كما في كوريا وسنغافورة وتايوان (وهي حكومات أوتوقراطية) فإن هذا الرخاء لن يكتمل إلا بالليبرالية!

    يضيف الكاتب: وحتى نقف المعنى الحقيقي لليبرالية علينا الرجوع الى ما قبل (هيجل)، أي الى عهد ( توماس هوبز ـ توفي 1679)و(جون لوك المتوفى 1704) حيث منابع الليبرالية، لكنه يفضل الوقوف عند ما كتب (هيجل المتوفى عام 1831)، لأنه يفهمنا الليبرالية بطريقة أكثر نبلا، ولأن الآخرين كانوا يميلون لتغليب الحلم البرجوازي الذي ينشغل باستمرار برخاء عيشها المادي. في حين أن الليبرالية تتوجه للجانب الإنساني في فكرها.

    لقد أنكر هيجل أن هناك طبيعة بشرية ثابتة لا تتغير، فالإنسان عنده حر غير محدد، وقادر على تشكيل طبيعته عبر الزمن التاريخي. وقد ذكر هيجل في كتابه (فينومينولوجيا العقل) أن الإنسان الأول (الطبيعي) يشترك مع الحيوان في حاجات طبيعية أساسية كالطعام والنوم والمأوى والحفاظ على حياته، لكن الإنسان الأول يتفوق على الحيوان في أنه يرغب أن يقدره الآخرون ويعترفون به وبوجوده وآثاره، وبقدر ما يفعلون ذلك بقدر ما يحس أنه كائن اجتماعي يختلف عن الحيوان.

    انتصار وهزيمة ومخاطرة

    يقرر هيجل بأن الإنسان هو كائن اجتماعي يميل للمخاطرة، واجتماعيته لا تؤدي به الى الحياة في مجتمع مدني يسوده السلام، وإنما الى صراع عنيف حتى الموت من أجل المنزلة الخاصة. التقى اثنان من (الإنسان الأول) ودارت بينهما معركة، وقد تسفر هذه المعركة الدموية عن نتيجة من ثلاث: فقد يموت المتصارعان، فتنتهي بموتهما الحياة نفسها. وقد يموت أحد المتنافسين، فيظل المنتصر غير راض عن الوضع إذ لم يعد ثمة وعي بشري آخر ليعترف به. وقد تنتهي المعركة بقيام علاقة بين سيد وعبد، إذ يقرر أحد المتنافسين الإذعان لوضع العبودية مفضلا إياه على خطر الموت. وحينئذ يشعر السيد بالرضا إذ خاطر بحياته ونال الاعتراف والتقدير بسبب هذه المخاطرة من كائن بشري آخر.

    هذا التدريج بالفهم لحركة البشر، تكلم عنه أيضا (هوبز) في موضوع الطبيعة وعلاقتها بالإنسان. كما تكلم عنها (لوك) في الحديث عن (الحرب).

    التراتب الاجتماعي والطبقية

    إذا كان المجتمع عند (هيجل) و(لوك) ينقسم الى فئتين: فئة على استعداد أن تخاطر بحياتها وهم (السادة) الذين يرسمون في النهاية شكل حركة عبيدهم وكمية الضرائب الواجب عليهم دفعها الخ، وطبقة الذين ليسوا على استعداد للمخاطرة بحياتهم وهم العبيد، فإن ماركس رفض هذا التقسيم وآثر تقسيم المجتمع الى مالكين لأدوات الإنتاج (أرض، آلات، أموال الخ) وعمال أو زراع يقدمون جهدهم لهؤلاء رغما عنهم وبطريقة غير عادلة.

    لكن هيجل يسوق أمثلة تدلل على نظريته، فيورد مثل الصخرة التي تتدحرج من أعلى جبل بفعل ثقلها وبفعل الجاذبية الأرضية، لا يوقفها شيء ويرجع ذلك الى حرية الظواهر الطبيعية. كما يضرب مثلا: دب جائع يتحرك بوحشية لسد جوعه. ولكن الإنسان بإنسانيته يرفض أن تكون الطبيعة هي من يوجه حركته و (يحدد حريته)، فكلما استطاع الوقوف في وجه تدخلها كلما اقترب من إنسانيته وكان حرا أي غير ملبي لنداء الطبيعة.

    من هنا يشارك هيجل، كل الفلاسفة الذين يعتبرون أن الحروب، حتى لو كانت لأسباب تافهة، فهي تعبر عن الإنسان مستعد للمخاطرة بحياته ضد من يحاول إجباره على القبول بشيء. ويعاود هيجل للقول: أنه إذا كان صراع الحيوانات من أجل إطعام نفسها أو صغارها، أو تحديد الرقعة التي يتحرك فيها الحيوان، فإن الأمر يختلف عند الإنسان فقد يقاتل من أجل علم (راية) أو لتقلد منصب أو يهلك نفسه في تمارين من أجل وسام.

    تعليق:

    يستطيع أي متأمل ـ لغاية الآن ـ أن يفهم مغزى الترابط بين المقالات السابقة التي تمجد من الإنسان الليبرالي الغربي، الذي ورث فلسفة وحكمة من سبقه من أبناء بيئته، ليكون الإنسان المنتصر من أجل الإنسانية، والمستحق لقيادتها، مبعدا الهمجية من طريقه.

    لقد قالها قبل (فوكوياما) كل من (مونتسكيو) و (فولتير) (روسو)، عندما مهدوا للثورة الفرنسية [ التي يجلها فوكوياما]، حيث كانت فحوى دعواهم بأنه لا يجوز احتلال ملك الغير إلا بقانون ولا يجوز قتل الغير إلا بقانون ولا يجوز سن قانون إلا بوجود ممثلين لمن تُسَن لهم القوانين (الشعب)، ولكن بعد عقدين من الزمن وجدنا أن رواد الثورة الفرنسية قد احتلوا (مصر) وكأن من يقطنها هم كائنات غير بشرية، وهذا ما تكرر في تبجح (فوكوياما) بإنسانية (ليبراليته) التي أذاقت العالم من ويلاتها في عقد من الزمن ما لم يذقه في قرون!

  10. #20
    نعم تكفينا الخاصه لتكون نورا على الدرب
    ونتمنى لو تتفاعل مع مواضيع المنتدى................
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

المواضيع المتشابهه

  1. نهاية التاريخ وخاتم البشر – فرانسيس فوكوياما
    بواسطة اعتماد محفوظ في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-19-2014, 05:23 AM
  2. نهاية الإنسان .. فرانسيس فوكوياما
    بواسطة راما في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-10-2012, 02:36 AM
  3. حمل كتاب نهاية التاريخ/لفرانسيس فوكوياما
    بواسطة جريح فلسطين في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-03-2011, 10:15 AM
  4. من هو فرانسيس فوكوياما
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-03-2011, 10:09 AM
  5. نهاية التاريخ .. بين روح الشريعة وفلاسفة الخراب
    بواسطة أبو فراس في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-24-2008, 07:29 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •