10ـ في مضمار التعليم
(( كذا جئتكم، يا أناس اليوم، وفي مضمار التعليم... فما الذي حدث لي؟ ضحكتُ رغم كل ما أشعر به من قلق.. لم ترَ عيناي أبداً شيئا مرقعا كهذا الثوب الشبيه بثوب البهلوان. ضحكت وضحكت بينما كانت قدماي ترتجفان، وقلبي في مثل ارتجافهما. وقلت: " من المؤكد أن هذا هو منبع الاختلاط والتخبط ". ))
نيتشه: هكذا تكلم زرادشت
(1)
يضع (فوكوياما) فرضية لمقالته هنا، بعد أن يختار تلك الفقرة مما قاله الفيلسوف الألماني نيتشه. فرضيته هنا، تقرر أن هناك علاقة بين تطور العلوم الطبيعية و التوجه نحو الديمقراطية الليبرالية. يوفق الكاتب أحيانا في اختيار الأمثلة ويخفق إخفاقا شديدا في اختيار أمثلة أخرى، حينما يفسر أو يحاول تفسير ظواهر التقدم التقني والاقتصادي في بعض الدول. كما يتحاشى الكاتب من ذكر بعض الديمقراطيات الكبرى (الهند) كون وضعها لا يخضع لفرضياته.
يؤشر الكاتب على تجارب أوروبا الجنوبية (اليونان، أسبانيا، البرتغال) وكيفية انتقالها من الحكم الديكتاتوري الى الحكم الديمقراطي، وكيف أن النمو الاقتصادي والدخل الفردي يتحكمان بتحقيق الشروط للانتقال للديمقراطية، فيذكر هنا مقولة للجنرال فرانكو (ديكتاتور أسبانيا) عندما تنبأ بإمكانية انتقال أسبانيا من الحكم الديكتاتوري الى الديمقراطي وقتما يصبح دخل المواطن الأسباني 2000 دولار، ويقر الكاتب بأن نبوءة (فرانكو) كانت دقيقة، حيث حصل التحول عندما أصبح دخل المواطن الأسباني (2446) دولار في عام 1974!
لن نناقش جدية تلك النظرة، فهي قاعدة تكاد تكون جوفاء، حيث أن مقاييس الدخل تؤخذ كمتوسط، فقد يكون هناك من يكون دخله مليون دولار وآخرون لا يزيد دخلهم عن بضع مئات من الدولارات، ويكون المتوسط العام فوق ال 2000 دولار، كما في بعض البلدان العربية اليوم!
كما أن هذا الشرط لم يكن ضروريا في تجربة الهند حيث أكبر ديمقراطية في العالم، مع وجود أناس يقتسمون الأرصفة!
(2)
يحاول الكاتب تلمس بعض النماذج التي تكون استثناءا لقاعدته، فيناقشها قبل أن يناقشها منتقدوه. فيمر على تجربة (بيرو) حيث يثمن فيه جهد النظام الديكتاتوري في انتزاع أراضي البلاد التي كانت مسجلة باسم (700) شخص ليقوم النظام بتوزيعها على الشعب، وهي خطوة ما كان للنظام الديمقراطي أن يفعلها دون جبروت النظام الديكتاتوري.
ثم يضرب مثل ديكتاتورية اليابان في عهد حكومة (ميجي) عام 1868 عندما ارتسمت خطا للتزود بالعلوم والنهوض بالبلاد بطريقة ديكتاتورية حازمة. ويشير لتجارب أخرى في الاتحاد السوفييتي (عهد ستالين).
لكنه يرهن النمو في الديكتاتوريات الى وجود قائد (ملهم)، ما أن يختفي هذا القائد لتختفي معه آثاره ويختفي معه استقرار الحكم، في حين لا تكون تلك الحالة موجودة في الليبراليات المستقرة.
ويضرب مثلا، في الفلبين، حيث أن من يفوز بالديمقراطيات هم من أرستقراطيي البلاد وبالذات من ملاك الأراضي (كورزان أكينو ـ مثالا).
(3)
عندما يأتي الحديث عن الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الكاتب لا يخفي إعجابه الشديد بالتفرد الذي تتمتع به تلك البلاد، حيث يولد المولود فيها ديمقراطيا ليبراليا متحررا من النزعات العرقية والطائفية والتمييز العنصري، بخلاف تلك البلاد التي تعج بالمشاكل الإثنية، فالمواطنون متساوون في الولايات المتحدة، يحق لكل واحد منهم أن يتنافس مع غيره في تبوء مراكز السلطة، وهذا ما يعلن (فوكوياما) عن عدم فهم أسراره!
أحقا ما يقول (فوكوياما) بهذا التفرد؟ قد يكون محقا في أن كل المواطنين لهم الحق في التنافس على تبوء مراكز السلطة، لكن الحق أيضا ما نقول: في أنه لا يمكن لهؤلاء المتنافسين أن يصلوا الى تلك المراكز، فمنذ وضع الدستور الأمريكي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، والحزبان (الجمهوري والديمقراطي) يتناوبان على ملء تلك المراكز، رغم وجود عشرات الأحزاب التي حاولت وتحاول الوصول الى السلطة. وبالمناسبة فالأحزاب التي تحكم بأمريكا هي أحزاب ليس لها نظرية تنظيمية ولا منظومة أيديولوجية (فلا اجتماعات دورية ولا هناك مناهج تثقيفية) فالطفل يولد جمهوريا ويولد ديمقراطيا وفق رؤية أهله المتناسبة مع النظرة الإمبريالية. كما أن (بوش) سليل العائلة النفطية لا يختلف كثيرا عن (أكينو) سليلة عائلة ملاك الأراضي.
(4)
يمكن الاتفاق مع (فوكوياما) في القول أن التطور العلمي والتقني يدفع باتجاه الاتفاق على تناقل السلطة، فالمنتجون يحبون أن يكون هناك من يتفهم حركات إنتاجهم ويتفاعل معها في سن القوانين. كما أن انخراط الكثير من العمال المهرة والمصدرين والمسوقين يعنيهم ما يصدر عن الدولة من قوانين وتعليمات تخدم حركاتهم ولا تعيقها.
كما أن اكتساب الناس للعلوم والمعارف، يجعلهم لا يقتنعون بسهولة بضرورة الانخراط بالجيش للاعتداء على دولة أو شعب دون قناعات قوية. في حين من السهل على الشعب المتعلم أن ينخدع في اتباع أساليب تغذية أو رياضة تسوق له من أجل الربح.
لقد استفادت كوريا الجنوبية من تدفق العلوم بأشكالها لا من أجل تطوير اقتصادها فحسب، بل من أجل تطور عادة الانتخاب وتحسين نتائج تلك الانتخابات بما يتماشى مع التطور، ففي كوريا (برلمان) هو الأكثر شبابا بين برلمانات العالم حيث يقل متوسط أعمار الناجحين في البرلمان، وهي دلالة على توافق وتناغم أشكال التطور في كل المستويات.
(5)
لكن هناك مشكلة، حاول الكاتب التملص منها، وهي موضوع تلوث البيئة، فإن كان التقدم يفرض على شعب من الشعوب أن يطور أشكال قطاعاته وعلاقاتها مع بعض، فإن السمة العامة لهذا التطور لها علاقة بالربح وزيادة الدخل، سواء للأفراد أو للدولة المستفيدة من ضرائب الأفراد ونشاطاتهم فيها.
أما فيما يتعلق بالبيئة وتلوثها، فهي متعلقة بالجانب الأخلاقي الإنساني وتبتعد عن الجانب الربحي. وقد تساوت في تجاهلها كل نظم الحكم (مركزية أو ليبرالية) لكن الليبراليون يتبجحون بأنهم يتركون المجال لمنظمات مدنية تطالبهم بالالتزام ببيئة نظيفة. نعم تعطيهم ترخيص في التظاهر ضدها، لكنها تعطي نفسها ترخيص بعدم الاستجابة لتلك التظاهرات!