9
مرة طرأت لي فكرة زيارة إحدى المقاهي، فكرت في محاورة إحدى بطلاتي وهي تقرأ الصحف في مقهى. اقتربت منها حيث كانت تدخن الشيشة، كانت وقتها لا تعرف ماذا تقرأ، فالصحف كلها سواسية، الكذب على واجهات الصفحات بالعناوين الكبيرة، وبما أني أطلقت عليها اسم عيناء بعد أن وجدتها بلا اسم في الحافلة، أخذت تسألني عن معنى اسمها، وحين شرحت لها أن العيناء هي ذات العيون الواسعة السواد فرحت وقالت لي: إنه يترجم صفتي، كلانا كانت على عجل، وكأن الريح تحتها.
طلبتُ منها أن تحتسي القهوة بسرعة كي نخرج لنتمشى قليلاً، جمعنا أعضاءنا المتناثرة وأخذناها مشيا ، سألتني وقتها:
- إلى أين؟ ثم ضحكت وبدت أسنانها البيضاء كأنها حبات لؤلؤ، يبدو أن قولي المقاهي للكسالى أثلج صدرها، وأدخل بعض بهجة عليها.
في سيرنا كنّـا نعدّ الكنائس التي نمرّ بمحاذاتها، كثرتها جعلتني أقارن بينها وبين عدد المساجد في بلداننا العربية.. إذا كانت الموسيقى ترافق صلاتهم وفنّ الرسم والحفر يملأ كنائسهم، فنحن لنا فن الزخرفة والمنمنمات حيث أعطى مساجدنا خصوصيتها.
أذكر أني دخلت المسجد مع أبي مرة وأنا في الثانية عشرة، بعد أن طلبت منه ذلك سألني فيما إذا كنت طاهرة، استفزّني سؤاله فسألته :
ـ وهل أنا نجسة يا أبي؟
ـ لا يا ابنتي، أقصد، أقصد..
استدرك قصده في دهشة وجهي، وعرف بأني لم يمرّ علي طقس المحيض. رحت معه يوم الجمعة، وأدخلني إلى مكان ذي ستر مخصص للنساء.. كنت أبحث عن روح الله في ساحة المسجد*
ـ لمَ توقفت سيدة راوية؟
ـ تعال، نسأل وليداً عن سعر ثالث لوحة بيعت اليوم.
اقتربا من وليد، وجداه غير مسرور، فمازحه محمود:
ـ ستصبح برجوازياً، هذا ثالث رجل أعمال يشتري منك، من أين وفدوا؟
ـ صديقة قديمة لها معارف كثيرون، وعلى ما أعتقد هي وراء كل ذلك.
(ثم واصل): لغة رجال الأعمال لا تضع النقاط على الحروف في لغة الفن.
وفيما هم يتبادلون الأحاديث دخل مصور يحمل كاميرا تلفزيونية وبرفقته مذيعة، ترتدي بنطلونا ضيقا من اللون البيج، وقد تركت قميصها الأحمر مسدلاً على جانب البنطلون، بينما باقي أطراف القميص عقدتها وتركت العقدة مربوطة من الأمام، وقد زرّت ثلاثة أزرار سفلية فقط من القميص.
بعد أن ترجرج نهداها، وتمايل خصرها الممتلئ بعض الشيء، سألت عن وليد. أسرعت إليه وقتما حدّدوه لها من بين الجمع الغفير، مشطت شعــــرها الأســـــود بأطراف أصابعها، وأشارت إلى المصوّر (أن اتبعني)
وقالت:
ـ لو كنت غير متزوج لخطبتكَ، مرحباً سيد وليد. وعذراً، هذه طريقتي في الكلام؛ لا أحبّ التكلـّف والتصنّع.
ارتبك وليد وهو يجاملها :
ـ أبداً، والله أنتِ لطيفة جداً وعليك السلام، هل من خدمة أقدمها إليكِ؟.
ـ أنا مذيعة من تلفزيون (arb) وأرغب بإجراء حوار معك، هذا إذا لم تمانع.
ـ بكل سرور.. لكن اسمحي لي، مَن أخبرك عن معرضي وكيف عرفت مكانه؟.
ـ اتصل بي الأخ محمود قبل ساعة.
ـ آه. فهمت. تفضلي، كيف تحبين، أنظلّ واقفين أم؟ (تطلـّع إلى الكراسي الأربعة فوجدها غير شاغرة، فأكمل) :
- الوقوف أفضل.
ـ لن أسألك عن بداياتك وحياتك الخاصة، إنه سؤال متهرئ ،صفة المذيعين السذّج.. سيد وليد، الجزء البسيط من حياتنا أُعلن عليه التلف، حتى عواطفنا بتنا نخاف عليها من بخار الدمع، كيف تستطيع كفنان أن تحتفظ بجزئكَ البسيط أو بما تبقى لديك؟
ـ يقول (نيتشه) :
- إن إرادتنا خير مَن يهدم القبور. عواطفنا ومبادئنا الحقيقية هي الشفاء لبؤسنا، فليعلنوا الحرب كيفما شاءوا.
ـ هذا يعني أنك لا تخضع للمقايضة؟
ـ يا سيدتي.. (وراح يتحسّس ذراعه).. أنا يا سيدتي حتى عند حافة الموت أحمل صليبي وأمشي على تلك الحافة. أما ترينني أقف بيد واحدة، أصافح أصدقائي وهذا الحشد الذي اختارني هو ولم أبذل جهداً للوصول إليه؟
- سمعت، وأرجو المعذرة، سمعت أنك مقطوع من شجرة.. أي لا أحد لك، فلمَ العزلة إذاً؟
احمرّت وجنتاه بحرج سؤالها، وسال عرق جبهته، تردّد في الإجابة، ثم انطلقت الكلمات من فمه مسرعة:
ـ الابتعاد أو العزلة كما تسمينها هما أول نقطة الجريان.
ـ جريان ماذا؟
وطلبت بطرف عينها من المصوّر أن يقترب منه أكثر.
ـ جريان النهر، أي نهر يبدأ من نقطة، ثم قطرة.
قالت بعد أن عقدت حاجبيها:
- من خلال نظرتي السريعة للوحاتك وجدت أنك في صراع مع الظلام.. مرة يتغلب عليك، ومرة تنتصر عليه بتسليط الضوء، أليس كذلك؟ أم إنّ حدسي الفني قد خانني؟،.
ـ لقد أصبتِ.. أحياناً تعتريني فرجة أمل، فأبعد الضرير عني وأتحرش بالضوء.
ـ قبل قليل سيد وليد كنت تردّد مقولة نيتشه عن الإرادة، وردك الآن على سؤالي يظهر شخصيــــة غير متوازنة الكفتين. هل أنت من الــرجال الذين يكون منطقهم عكس تصرّفهم؟. بصراحة إني أجد تسعين بالمائة من الشرقيين والعرب تحديداً متناقضين، أين تضع نفسك؟
عن بعد كانت راوية تسترق السمع، ربـّما يردّ وليد على سؤال يتحدى به نفسه. وحين وجدته (نيـﮔتف ) لكل الصور، اتخذت لها كرسياً فرغ للتو، وراحت تعيد ترتيب الصور والأحداث.
***
فاجأتها صورة عيناء الباكية، ووجهها يرسم طفولة منكسرة، وتذكرت أنها طلبت منها أن تكفّ عن البكاء، وتتصبّر.
الخروج من عتمة الألم هي أن تتذكر سوقيـّة العصر، وتنظر للتلفاز، قالت لها: افعلي شيئاً من أجلك أنت لا من أجل رجل لا يعجبه غير فحيحه ، ثم يطلق عليك طلقته ويمنعك من الانضمام إلى عالمه.
وتابعت شعرها الأسود خصلة خصلة، خصرها الذي أطبق عليه ورك شرقي وجعله كغصن يلتوي من ثقل ثماره، تتبعت كل أجزاء جسدها، كلها تنبض عشقاً، سقطت على خدها دمعة دون قصد منها، هكذا خرجت نافرة من حرارة جفن ظليل، حتى كادت راوية أن تشمّ رائحة تلك الدمعة، لم تكن دمعة نافرة بل طفلة في حضن العمر. طبطبت على كتف عيناء قائلة:
ـ الحب هو ترياق الحياة، حفنة من رماد الحب تحيي القلب، حالتان لا يمكن العيش دونهما، الحب والحرية.(و واصلت الحديث) لكن يا حبيبتي، حزنك روّضيه، ومخاوفك من فقدان رجل تعبدينه لا مبرّر لها، مَن يراه وهو يتعطـّف عليك بابتسامة أو نظرة من خلال ألوانه المجنونة مثله، يتمنى أن يخنقه.
ـ دخلك ست راوية، لا تكوني قاسية عليه، تركته يفعل ما يريد، إنها طريقتي في الحب ، يكفيني صوته ورائحته. (ثم استطردت بعد أن وضعت المشط في وسط فرشاة للشعر):
- أنا يا ست راوية أنظر إليه من زاوية أخرى، فمثلاً عندما يهزّ رأسه طرباً وهو يتغزل في شقـــرائه أمامي ويذكر محاسنـها ومميزاتها، أعطف عليه لأنه بعين واحدة ومريضة. فنظره باتجاه واحد، لا يستطيع تحريك عينه يمنة أو يسرة، ولطالما وضع شقراءه نصب عينه لا يرى غيرها .
- إذن؟
ـ كيف تعشقين رجلاً أحادي النظرة؟
ـ هذا أعذب عشق.
ـ قرأتُ مرة لـ (شمس الدين التبريزي)،،، (لا تكلـّف نفسك في الذهاب إلى البستان، انظر إلى وجه العاشق) وأحادي النظرة خاصتك لم يكلـّف نفسه حتى النظر إليكِ.
ـ لا بل ينظر إلي، وإلا كيف رسمني؟
ـ ليست العين هي التي ترى، بل القلب، القلب يا عيناء. العين ما هي إلا ساعي بريد بين القلب ومن نحب، إنها الثقب الذي نُدخل إليه نهارنا وجراحنا*
في محاولتها لإعادة ترتيب الأشياء، وإعطاء البداية أحقيتها بالظهور على مسرح ذكرياتها، بلغ سمعها آخر سؤال وجهته المذيعة إلى وليد:
ـ لماذا لا ترسم الموت والمقابر الجماعية في بلدك؟
فرحت وقتها لجوابه:
لأني لا أجيد تعظيم القتلة. ثم.. ثم.. (تلعثم) هل هناك ما يكفي من اللون لرسم الدم؟
عدّلت راوية من جلستها، ومن خلال ثقب عينيها أدخلت شريطها، وراحت تستعيد كل ما فعلته الكتابة على أوراقها.