منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 27
  1. #11
    ( 10 ) صوت جديد:
    حسين علي محمد في «ثلاثة وجوه على حوائط المدينة»

    بقلم: أحمد سويلم
    .....................

    ظاهرة تدعو إلى التأمل والدراسة معاً، تلك الأعمال الأدبية ـ الشعرية والقصصية ـ التي يُغامر أصحابها بإصدارها على نفقتهم الخاصة بعيداً عن أجهزة النشر التقليدية، فيسقط الكثير منها، ولا يصح غير القليل النادر.
    ولو كان الأمر مجرد قدرة مادية على طباعة كتاب، لهانت كل المشاكل. ومع ذلك فأنا ألتقط اليوم ـ من هذا القليل النادر الواعد ـ صوت حسين علي محمد في ديوانه "ثلاثة وجوه على حوائط المدينة"، ومنذ البداية يُعرِّفنا حسين علي محمد على هذه الوجوه الثلاثة: الوجه الصامت الحكيم في مواجهة المحنة، والوجه الذي تحدّى المحنة بالعطاء والغناء، والوجه الجديد الذي جنى ثمار المعاناة في لقاء مؤكَّد بالحب والحرية. وهي في الواقع محاور ثلاثة لهذا الديوان تتحدّى مجرد ملامح الوجوه إلى غوص شعري في أعماق التجربة الجماعية انطلاقا من الحس الخاص.
    يقول في قصيدة «ثلاثة وجوه على حوائط المدينة»:
    الوجْهُ الأولُ وسْطَ ظلامِ المحنهْ
    رفع السيفَ / القشَّ على الرأسِ وأغفى
    واستلقى في مملكةِ الصَّيفِ ولمْ ينطِقْ حرْفا
    وضعَ على الوجْهِ تعابيرَ الحكمةِ والفِطنهْ
    **
    الوجهُ الثاني رفعَ الكفَّ المغموسةَ بدماءِ الأطفالِ
    وخضَّبَ أوجهَنا بالعطْرِ ، وقالْ
    اليومَ أُغني ..
    (غنى للساحاتِ الرحبَهْ ،
    والمُطربِ ذي الصَّوتِ الفظّْ،
    وكِلابِ السَّادَهْ ،
    والقصْرِ العالي ذي الدَّرَجاتِ الألْفْ ،
    وطِيبَةَ ذاتِ البوَّاباتِ السَّبْعْ)
    وقالْ :
    "الليلةَ عُرْسي يا أشْبالْ !"
    غَنَّى ثانِيَةً ..
    لكِنْ لمْ يبْكِ الأطْلالْ !
    غَطَّى أوْجُهَنا بصراخٍ وضجيجْ
    لمْ نُبْصِرْ شَيْئاً
    (كانَ الفيَضَانُ الكاسِحُ يجْتاحُ مدينتَنا
    بَكَتِ النِّسْوَةُ هلعاً ، والأطفالْ
    والفتياتُ جَرَيْنَ عرايا
    والوجْهُ الجيفَةُ يبْسَمُ
    في بلَهٍ وخَبَالْ !)
    **
    الوجْهُ الثالثُ حارْ :
    هلْ يُوضَعُ بيْنَ الوجْهيْنِ الإلْفيْنْ
    أَمْ يَرْكبُ فَرَسَ النَّارْ ؟
    **
    في اليوْمِ التَّالي ..
    كانتْ صحفُ القُطْرِ تُبارِكُ هذا المشوارْ
    "منْ أجلِ مسيرةِ كلِّ الشرفاءِ الأحرارْ"
    كانَ الوجْهُ الثالثُ ـ بيْنَ الوجْهيْنِ الإلفيْنْ ـ
    مبتهِجاً بعجائبِ هذا الزمنِ الدَّوَّارْ
    ولِقاءِ الثُّوَّارْ ! !
    وفي سبيل ذلك التصاعد ينطلق حسين بين كثير من الرموز التاريخية، والمواقف الوجدانية والتأملية، في محاولة جادة للاقتراب من الشعر الصادق في مواجهة العصر، ورؤيته رؤية فنية خاصة.
    وقد يشوب هذا الديوان كثير من الخطابية والصوت العالي، بالرغم من أن صاحبه لديه إمكانات البُعد عن هذا المزلق، كذلك جاء منهجه في تناول التراث واسترفاده تناولاً تاريخيا ـ في أغلب التجارب ـ يعني بالأحداث دون الأثر الوجداني المطلوب ـ وهذا في تصوُّري يحتاج من الشاعر أن يُعايش تراثه معايشةً أكثر إخلاصاً وحبا.
    وصوت حسين علي محمد ـ في النهاية ـ يسير على طريق التجديد بكثير من الثقة التي سوف تزداد ـ قطعاً ـ لو أخلص في تطوير أدواته الفنية بعيداً عن طوفان التيّارات المتعجلة الارتجالية التي تُضيِّع أصواتها في الزعيق والإحباط وتعاني منها ساحة الشعر.
    أحمد سويلم
    ................................................
    * مجلة "أكتوبر"، العدد (148)، في 26/8/1979م، ص55.

  2. #12
    ( 11 ) قراءة في ديوان «حوار الأبعاد الثلاثة»

    بقلم: محمد حسن حسين
    ...........................

    ليس أروع من الإنسان عندما يُحاول إيصال أفكاره إلى الآخرين ليؤدِّي رسالته التي فرضها الله عليه والتي أرادها منه المجتمع، رغم صعوبة التواصل وقلة المنافذ التي يستطيع الدخول منها لتحقيق هذا الهدف.
    نقول هذا الكلام وأمامنا ديوان واحد لشعراء ثلاثة، هم: حسين علي محمد، ومحمد سعد بيومي، ومصطفى النجار.
    وبالرغم من صغر حجم الديوان واصفرار أوراقه إلا أنه يحمل في ذاته مشكلة تُواجه الشاعر الحديث الذي يود أن ينطلق من ذاته ليُسمع صوته للجميع، فهل نجح هؤلاء؟
    وللإجابة على هذا السؤال نتوقف مع شعر كل واحد منهم، لترى إلى أي حد أبدع، وإلى أي درجة أجاد؟
    وفي البداية نقف مع الشاعر حسين علي محمد الذي شارك بخمس من قصائده، ذات منطلق وطني، ينطلق عبر شوارع القاهرة وميادينها إلى بقية أنحاء وطنه العربي ليُعلن عن حبه له، ومشاركته لما يدور في داخله ومعرفته الشاملة للأحداث التي تنطلق منه والتي تجري به، فيلون أفكاره ويحاول أن يبسطها واضحة أمام الجميع، لتعبر عن المضمون الذي يريده بألفاظ عادية سهلة حياتية تتكرر يوميا، وبعبارات متماسكة، تجمع وتنظم حسب أصول صحيحة وقواعد مرسومة، رغم قلة صوره ووضوحها، ويبدو أن مواضيعه أوسع من خياله، وظروفه تحتم عليه أن يصور الواقع كما يراه، فبالإضافة لقلة اهتمامه بالموسيقا لطغيان الموضوع عليه، وبالإضافة إلى التجربة التي لفتت الشاعر وجعلته يأخذ أحداثه كما هي، ورغم الصدق الموضوعي عنده إلا أنه لم يستطع أن يطغى عليه، ليُحقق الصدق الفني، وتكون عاطفته الجياشة التي نتمناها، ولكن يكفي الشاعر بعد ذلك كله أنه قد استطاع أن ينفذ إلى معرفة واسعة، وجرأة في الحديث، وقدرة على التعبير.
    (…) وبعد؛
    فقد استطاع هؤلاء الشعراء بتعاونهم تحقيق أهدافهم، وقد ضربوا أروع الأمثلة في التعاون والمشاركة في الإطار الثقافي والأدبي العربي.
    ونود في النهاية إلى أن نشير إلى أن الطبعة الأولى من ديوان «حوار الأبعاد الثلاثة» صدرت في مصر، صيف 1967م مقتصرة على حسين علي محمد ومحمد سعد بيومي ومصطفى النجار، وهي ذات الطبعة التي تدور حولها هذه المقالة. أما الطبعة الثانية من هذا الديوان، فقد ظهرت في سورية بحلب، شتاء 1979م مزيدة ومنقحة بعنوان «حوار الأبعاد»، وقد انضم إلى الطبعة الثانية الشاعر السوري سمير ددم.
    محمد حسن حسين
    ...................................
    *أخبار الأسبوع (عمّان) ـ في 6/9/1979م.


    </i>

  3. #13
    (12 ) رباعيات حسين علي محمد

    بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
    ....................................

    الشاعر الشاب حسين علي محمد له تجربة طيبة في عالم الشعر، وقد أخرج أكثر من مجموعة شعرية معظمها بالجهد الشخصي الشاق، وقد أصدرت له هيئة الكتاب منذ فترة مجموعة باسم "شجرة الحلم" نالت إعجاب ناقد كبير، ممّا حدا به إلى الكتابة عنها في مقدمتها.
    وتأتي "رباعياته" التي صدرت مؤخراً ضمن مطبوعات جماعة "أصوات" لتحمل روحاً شفافة تفيض بالعذوبة والأشواق، وتغزو عالماً زاخراً بالألم والأمل، وترتكز على قاعدة من الحلم الجميل بالغد الأفضل والأكرم.
    إنها ـ أي المجموعة ـ مناغاة للواقع المرير برؤية صافية، وترصد السلبيات والإيجابيات بلغة الشعر، مع لمسات من الأسى تطفو على السطح بين الحين والحين.
    والجديد في هذه "الرباعيات" أن الشاعر قد تخلّى عن الشعر المرسل أو شعر التفعيلة تماماً، وأثيت وجوده ـ ربما لأول مرة ـ في عالم الشعر المُقفّى ذي الشطرين، من خلال أداء راق يؤكِّد أن هذا الشعر يملك إمكانات مذهلة لو وجد الشاعر المُجيد الذي يستطيع امتلاك ناصيته.
    قد تبدو بعض الألفاظ غريبة على أذن القارئ أو قاموس الشاعر، مثل "النبيذ" في الرباعية الثانية، أو "عنصريا" في الرباعية الثامنة، ولكن هذا لا يُقلل من هذه المجموعة التي تتألّق بمعانقة الإنسان والانحياز له.
    يقول في الرباعية السادسة والثلاثين، والتي تُذكِّرنا بنغمات الشعر الفارسي:
    قدْ أهاجتْني دموعُ العاشقينْ .:. في عذابٍ لفـــــراقٍ أوْ لِقاءْ
    قدْ قضيْتُ العمْرَ بحثاً عنْ جبينْ .:. تُشرقُ الفرحةُ فيهِ والصَّفـــاءْ !
    وفي الرباعية السابعة والعشرين يقول:
    لمْ تُحَرِّكْني دفوفُ الأرْضِ يوْما .:. أوْ غِناءُ المُطــرِبِ الموْهوبِ ليْلَهْ
    قدْ قَضِيْتُ العمْرَ تسبيحاً وصَوْما .:. في ظـلامِ الليــلِ أشتاقْ الأهِلَّهْ !
    ومن خلال هاتين الرباعيتين يستطيع القارئ أن يُدرك مدى سيطرة الشاعر على ناصية الشعر
    حلمي محمد القاعود
    ................................
    *مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، العدد (2500)، في 12/2/1982م.

  4. #14
    ( 13 ) ملامح بكائية الفقد، وصرخة المقاومة، وهدأة الجراح
    قراءة في ديوان «النائي ينفجر بوْحاً إلى فاطمة»

    بقلم: أ.د. أحمد زلط
    .......................

    أمّا قبل:
    فثمة حقيقة غائبة يجب أن نُفصِح عنها قبل الدخول إلى التجربة الشعرية الإنسانية في ديوان حسين علي محمد الذي بين يدي القراء، والمعنون بدلالة لفظية أو فكرية تقول "النائي ينفجر بوْحاً إلى فاطمة"، أما الحقيقة فمفادها متابعتي النقدية لكل عطاء يثمره الشاعر أو يُطالعنا به، وليس قلمي فيما قد يظن البعض هو الوحيد المتابع، بل هناك عشرات الأقلام التي تابعت نتاج الشاعر في الربع الأخير من القرن العشرين، أمثال الأساتذة والدكاترة: طه وادي، وعلي عشري زايد، وحلمي القاعود، وصابر عبد الدايم، وحامد أبو أحمد، وحسني سيد لبيب، ومحمد جبريل، ومصطفى النجار، وأحمد سويلم، وأحمد فضل شبلول … وغيرهم.
    إن جيل السبعينيات والذي تحول إلى تجمّعات أدبية أشبه بالمعادل الموضوعي الذي تحقق حلمه في الطموح الإبداعي غداة انتصار 1973م، ألفيناه يتجمّع في جماعات أدبية، مثل: الكلمة الجديدة، وأصوات معاصرة، وفاروس، وإضاءة … وغيرها، ولقد نحتت هذه الجماعات نقّادها، وقدّمت إلى الساحة الأدبية نخبة من المبدعين طوال الربع الأخير من الألفية الثانية، وكانت المتغيرات المحيطة بجيل السبعينيات في قوتها واندفاعها كفيلة بأن تعكس هموم هؤلاء وأولئك بنفس فدر التطلع إلى حلمهم الإبداعي المشروع الجميل.
    في ضوء تلك التوطئة خرجت إلى النور "أصوات معاصرة" ممثلة لما ذكرناه، منذ أن أصدر مؤسسها حسين علي محمد عددها الأول في أبريل 1980م.
    ومن المنطقي أن يكون من بين كل تجمّع أدبي الأقلام التي يقع على عاتقها هم الإبداع الأدبي ونقده، في خط مساوٍ لهموم النشر والتوزيع، ذلك أن المجهودات الفنية والطباعية والتسويقية وغيرها عبّرت عن إرادة جيل أدبي لفّه الانكسار ـ مع أنه جيل الإنجاز ـ كانت أقلام حسين علي محمد، وصابر عبد الدايم، وأحمد زلط تختط مع بقية جماعة "أصوات معاصرة" طرائقها، وتحدّد ملامح رسالتها، وتنوّعت التجربة عند كل في الشعر والقصة والمسرحية والنقد، كأنما تتكرّر تجربة الأجيال الروّاد الأوائل الذين قادوا النهضة الأدبية في الأدب المصري، بل الأدب العربي الحديث، حيث عضّد كل قلم الآخر، في موضوعية وصدق، ولذلك تواصلت نجاحات "أصوات معاصرة" من طباعة "الماستر" المحدود إلى الطباعة المعاصرة الفاخرة، وهي في ضوء ذلك وعاء لمحتوى رصين وباق، لا يكتب المكرور والتافه، ولا يقصد إلى إزهاق روح المتلقي بأفانين ما بعد الحداثة.
    ومؤسس الجماعة (حسين علي محمد صاحب هذا الديوان الجديد) يمتلك مع زميليه صابر عبد الدايم وأحمد زلط آفاق التجديد، لكنهم لا ينطلقون إلا من ثوابت أصيلة في أرض الواقع إلى فضاءات التجديد المحلقة النقية التي تبني ولا تهدم، ويقيني أن عدة طبعات في عشرات من العناوين لأقلام هؤلاء في الإبداع والنقد كفيلة بالرد على كل راصد للحركة الفاعلة في جماعة "أصوات معاصرة" وحيويتها.
    إن الحرية الفكرية أو مبدأ الاستقلال لفكري عند هؤلاء لم يكن ليمنع من تحقيق رسالتهم الجماعية (الأدب العربي المعاصر: حق وخير وجمال)؛ فلكل خطه الإبداعي أو نهجه الفكري الفردي، لكنه لا يتعارض مع كون "أصوات معاصرة" رسالة تبني وتعلو، وبحمد الله لم تؤطَّر "أصوات معاصرة" في أي منحى إيديولوجي أو مادي، ذلك لأن أصحابها أدركتهم هواية الأدب، ونوافذ أحلامه المعطّرة بأنداء الحياة.
    أبعاد التجربة الإنسانية في ديوان
    "النائي ينفجر بوْحاً إلى فاطمة"
    بين يدي القراء ديوان صغير الحجم، كبير القيمة، أسماه صاحبه الشاعر حسين علي محمد "النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة"، ويضم عشرين قصيدة، منها التجربة المطولة والتجربة المكثفة، وهي نصوص شعرية ناضجة كعهد القارئ بالشاعر في إصداراته الأخيرة غنائية أو درامية. وعنوان الديوان من العناوين المستقاة من وحي غربة الشاعر حيث يعمل بالمملكة العربية السعودية، ولا ينخدع القارئ بأن عنوان الديوان تكرار لتجربة الغربة في ديوانه السابق "غناء الأشياء" الذي أهداه لفاطمة؛ فالبوح هنا غناء في أبعاده الإنسانية المستجادة، حول الفراق أو الموت، وثلة الأصدقاء، وهي في عمومها غنائيات تدور في دائرة البعد الإنساني (الأسري / العائلي)، ولم تشذ عن هذا الاتجاه العام إلا قصائده:
    1-الجنرال والوطن المنفى.
    2-الشاعر والجنرال.
    3-سبع سنبلات خضر إلى بغداد
    4-هوامش المسلم الحزين.
    بينما عبّرت ست عشرة قصيدة عن الأبعاد الإنسانية التي ألمحنا إليها، وهي قصائد:
    1-فراشات زرقاء.
    2-أغان صغيرة إلى فاطمة.
    3-عرس أمينة.
    4-صبيحة الغياب.
    5-انكسار.
    6-رحيل آخر 1996.
    7-النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة.
    8-الصارخ في البرية.
    9-فخاخ الصحراء.
    10-الغائب.
    11-.. ونام في سلام.
    12-حوار سيدين في مطلع الرحيل.
    13-دموع الحاسوب.
    14-مكان بالقلب.
    15-أحزان صباحية.
    16-القاهرة 1968.
    وسنحاول استقراء النص الشعري لغةً وفكراً وبناءً في مجموع قصائد الديوان، وليكن استهلالنا في مقاربة تللك النصوص التي تتكئ على علاقة المثقف بالنخبة العسكرية، ثم مردود فعل العسكر في نص "هوامش المسلم الحزين"، يقول الشاعر حسين علي محمد في قصيدة "الجنرال والوطن المنفى"، يخاطب الجنرال المتوهم بالغزو، وأم معارك النصر، وما آل إليه فعله الأحمق:
    ماذا تفعلُ
    تحت غيومَ الوطنِ
    المُثقَلِ بالفقْدِ ،
    وأوحالِ الدَّاءْ ؟
    خُضتَ بحارَكَ حتَّى الرَّقَبَهْ
    هلْ كان الموتُ يُسابِقُ حُلْمَكَ ..
    يَسْرِي في نبْضِ دِماءْ
    تُعلِنُ عنْ ليْلٍ يتخفَّى
    تحت الأضلاعِ الستة للنجمةِ
    في الأنحاءْ ! (ص21)
    لقد أجاد الشاعر وصف الجنرال في عناده وغيه، وفي تعطشه الدموي، وفي أوحال يجول ويصول فيها العسكر الذين أذاقوه الخزي والعار، وجعلوه يردد طعم المذاق المر / العلقم: الانتصار!
    وفي مقطع لاحق من القصيدة يفطن الشاعر إلى فداحة جرم الجنرال الذي عذب وطنه، بل أوجد ـ بعناده ـ عذاباتٍ وجراحاً لا تندمل، وقد استعار الشاعر تفصيلات الزمن في المقطع كي يؤكِّد على طول المعاناة، وآثلر الذكرى الأليمة التي تُشبه العلقم، نتيجة وسبباً لخيلاء الجنرالات، أو عنادهم البغيض.
    (يتبع)


    </i>

  5. #15
    (تابع/ دراسة أ.د. أحمد زلط)
    ..................................
    يقول الشاعر في رسم تصويري يُجسِّد العار:
    نمشي فوقَ مناكِبِ قتلانا
    كلَّ مساءْ
    تصفعُنا ذكراهُمْ
    ليلاً ،
    فجْراً ،
    ظُهْراً ،
    عصراً ،
    صيفاً ،
    وشِتاءْ
    فلماذا تُمسِكُ مرآةَ الأيامِ السوداءْ
    وتُحدِّقُ في الأُفْقِ المجدولِ بعارِكَ
    في خُيَلاءْ ؟ (ص21،22)
    ويبدو أن الشاعر حسين علي محمد لم يكف عن إلقاء السؤال مرة أخرى في قصيدة ثانية مماثلة، بعنوان "الشاعر والجنرال"، حيث يتساءل في مطلع استهلالي قائلاً:
    لا تسألني عن آخر أشعاري
    فأنا في الليلِ الدَّامسِ .. أخطو
    ولحفلٍ شرسٍ أدعو الغربان
    وفوقَ الطَّاولةِ المملوءةِ بالجثثِ المذبوحةِ
    والخُطَبِ النَّاريَّةِ
    ودسائسِ أولادِ القَرَدةِ
    أخطُبُ ..
    حتى يتثاءبَ في الليلِ الآتي
    ظِلُّ غزالٍ يُشرقُ في برْقٍ ونُعاسْ (ص24)
    والتجربة ـ كما نلاحظ ـ في هذا النص مغايرة لنصه الأول "الشاعر والوطن المنفى"، وإن بقيت الصورة النفسية لسيكولوجية الجنرال، تومئ للطغاة أينما كانوا، لكن الشاعر في ظل إجاباته عن تساؤلاته، يلعب دوراً إيجابيا مأمولاً من المثقف أمام الطغاة من العسكر.
    إن لعبة تحييد البعض، وتجنيد بعضهم على بعض، أو التهديد بالسجن ـ وما أدراك ما سجن العسكر! ـ … وغيرها أضحت ـ كلها عند شاعرنا ـ غير ذي بال، فالشاعر هنا يقف مقاوماً، منوباً عن المقهورين والمظلومين، ومن ثم فإننا نراه ينتظر السياف:
    حدُّوا شفْراتِكمو المُتأجِّجَةَ لبعضِ الموتْ
    الرابضِ بينَ دمي والحرفْ
    وليحفرْ كلٌّ منكمْ قبْرَهْ
    وليعزِفْ موسيقاهُ السَّوداءْ

    أبْعِدْ عنِّي يامسْرورْ
    هذا الكذَّابَ المُختالْ (ص25)
    يا تُرى كم صاحب قلم تحوّل إلى مُقاوم يقاتل كل محتال كذّاب بحد السيف وحد الكلمة المقاومة الحقيقية التي هي حدُّ الحق؟! حتى يتحوّل "مسرور" أداة الجنرال الطاغية وسيافه إلى رجاء يكشف احتيال وكذب الجنرال المختال طوال الوقت.
    إن الشاعر إزاء السلطة في موقف فكري منشود يتكرّر بالإلحاح الصادق:
    لا تسْألْني
    هلْ هذا آخرُ شعرِكْ ؟
    آخرُ شعري لمْ يُكْتَبْ بعْدْ !
    فاكتُبْهُ أنتْ (ص28)
    وقد يقول قائل إن الشاعر تراجع عن موقفه كبطل إيجابي مقاوم، وترك أغلى ثرواته، وهي هبة الفكر ووميض الإبداع: الشعر، حين تركه للجنرال وأعوانه يكتبونه، ومما لا شك فيه أن شعرهم سيكون النقيض الذي يكون معاكساً للحياة وتدفقها، بينما شعر الشعراء رسالة تحتاج إلى مناخ يكون أكثر وعيا بالحياة وصدقاً في تصويرها، لا كذباً أو تسلطاً أو اختيالاً، وهذا ما قصده شاعرنا من تهكمه اللاذع في سطره الساخر الأخير "فاكتُبْهُ أنتْ".
    إن إتباع قصيدة "الجنرال والوطن المنفى" بقصيدة "الشاعر والجنرال" لا يعني أنهما متصلتان معاً بروابط فنية، أو أن القصيدة الثانية امتداد للقصيدة الأولى، أو هما ثمرتان لتجربة شعرية واحدة، كلا .. رغم أن "الجنرال" اسماً وصفة يظل كما هو بسلوكه العدواني ـ أو الفردي ـ غير أن التجربة عند الشاعر حسين علي محمد في القصيدتين ليست واحدة، بل متعددة التأويل.
    أما ما نحمده للشاعر من شجاعة فكرية ومزية فنية معاً فهو بوْحه العاقل ـ أو شاعريته المُدرِكة ـ في نصه الشعري "سبع سنبلات خضر إلى بغداد"، وبغداد ـ كما هو معروف تاريخيا ـ من أهم مراكز الإسلام الحضارية، وعاصمة الخلافة والعلم، وصاحبة القوة والمنعة، بل هي بغداد الشاطئ والنخيل، يستعيدها الشاعر في رؤى ثاقبة: المآذن والقباب، والمروج والضياء، أين بغداد القديمة؟
    إن حسين علي محمد يستحضرها، ويذكرها مشيراً إلى من ابتعد بها عن مجرى الحضارة:
    "وأشارتْ: نأيْتَ بعيداً وكنتَ السِّراجْ
    ـ …
    ـ تناءيْتَ في الظلماتِ بعيداً
    أعاقَكَ هذا السِّياجْ ؟" (ص63،64).
    وليس من شك أن ما جعل حالها يؤول إلى تلك الحال هو:
    "ذاكَ العتلُّ الزنيمُ على صدْرها جاثمٌ في اشْتهاءْ" (ص63)
    والعتل الزنيم فيما صوّره الشاعر عن الجنرال المتوهّم القاعد على كرسي الطغاة، يشرب في لذة نخب الخراب والدمار، وموات الوطن في مكتسباته، ومجموع شعبه العظيم الذي أصابه اليأس والقنوط.
    وفي المقطع الثاني من النص تهفو النفس ـ مع الشاعر ـ إلى تلك المواجهة:
    "لأزقِّةِ الكرخِ العتيقةِ
    شفَّني وجْدٌ ..
    وكمْ يهْفو الفؤادْ
    لصبيَّةٍ خضراءَ
    في قصْرِ الرَّشيدِ
    نأتْ عن القلْبِ المُضَرَّجِ بالسَّوادْ
    ولخصلةِ الشعرِ الجميلِ على جبينٍ فاتنٍ
    .. لحكايةٍ فاتتْ ليالي شهرزادْ
    لقصائدِ الشِّعْرِ المُضَمَّخِ بالبطولاتِ النبيلةِ والعواطفِ والودادْ !
    والجُرْح يرعفُ بالسؤالِ وقدْ نبا عنَّا الرُّقادْ :
    أعصابةُ الأشرارِ تُخفي رأسَها في الجُحْرِ
    هانئةَ ، ويُدمينا القَتَادْ ؟" (ص64)
    وفي نقلة متباعدة مع الزخم الموروث السابق واقعة وذكرى، حيث يومئ الشاعر إلى غياب عقل بغداد، و"مقياس" وجودها المعنوي .. أحلام الشعراء، وأفكار النخبة في مزج الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل، حيث تسقط إلماعات نازك الملائكة المجددة، وثورة بدر شاكر السياب الموغلة في الآتي، وتسقط الأفكار والأحلام إلا من فكر واحد، وحلم مخرب واحد للعتل الزنيم الطاغي الذي لسان حاله يقول: أنا قائد الغر المنهزمين، لقد حاربتُ كل الجيران، وناس كثر من كل أجناس العالم راحوا جميعاً، وبقيت وحدي، ولا يفيق الطاغية إلا على كابوس مزعج: أين بغداد القديمة الجديدة، وكأنه لا يعلم ماذا جنت يداه قبل وأثناء وهم "أم المعارك"، ويقول الشاعر على لسانه:
    "ـ أنا أبغي الأمامْ !
    ـ هيّا إلى النَّوْمِ اللّذيذِ .. أما .. تنامْ ؟
    الموْتُ مفتتَحُ الكلامِ ..
    ـ أنا .. أنا ..
    أبغي الأمامْ !" (ص67)
    أما بغداد ـ يا حادي الطغاة ـ فتحتضر في اليوم ألف مرة، وأنت في وهم وغي بالغين. لقد كانت بغداد صنو القاهرة ودمشق والرياض والدار البيضاء، و.. ويا للأسف خاب الأمل وضاع الرجاء، ولقد أرجعت بغداد قروناً إلى غياهب الوراء، والظلام، والموت، والعجز. وما مِن نهوض لأنك جاثم فوق الصدور المتعبّة! وياللخزي إذ تغني للنصر الكاذب والفتح الكذوب، وأنت تعرف ـ وكل أفراد شعبك يعرفون ـ أنك مهزوم مهزوم!
    لا يفقد الشاعر سراجه، أو صوته الحر المأمول دائماً بين الكاف والنون، الله أكبر على كل طاغية وباغ. ويفطن الشاعر حسين علي محمد إلى اللمسة الإيمانية الصافية في نصرة الشعب، ونهضة بغداد، بالرغم من مصيدة أعداء الأمس، وأعداء اليوم، فلا بد من كبوة لهم، ولا بد للطاغية من ميتة، فتحيا بغداد، وتحيا الحياة .. يقول الشاعر حسين علي محمد تحت مقطع غنائي آمل يحمل عنوان "الله أكبر":
    "…
    وبعدَ قليلٍ ،
    أمُرُّ على بيْتِكِ الحلْوِ
    أتْرُكُ أحزانَ قلبي ورائي
    ورتْلُ الجرادِ إزائي
    سيسْقُطُ دونَ كرومِكِ
    أهتفُ :
    يا أيُّها العابرونَ
    مضيْتُمْ .. كليْلةِ حزنٍ طويلٍْ
    ويا أيها الصُّبْحُ أشرقْ عليْنا
    تَرَ اللهَ أكبرَ فوقَ المآذنِ ..
    تسمعُ رجْعَ الصَّهيلْ
    .. وهذي مروجُ الضِّياءِ
    وهذي قناديلُنا في الليالي البهيجةِ
    تضحكُ "نازكُ" ..
    يُشرقُ وجْهُكَ يا "بدْرُ"
    يُشْعَلُ في الليْلِ ضوْءُ السِّراجْ
    وجئتُكِ بغْدادُ ..
    .. غنَّيْتُ شعبَكِ ، أرْضَكِ ..
    ما عاقَني ـ في الطريقِ ـ السِّياجْ !" (ص68،69)
    لقد أضاف النص قيمةً ووزناً فكريا، بل تعاطفاً إنسانيا تجاه بغداد الإنسان والزمان والمكان، وهو شعور عربي وإسلامي جارف، عكسه الشاعر في أبعاده الإنسانية العميقة.
    ***
    (يتبع)


    </i>

  6. #16
    (تابع/ دراسة أ.د. أحمد زلط)
    ..................................
    وقصيدة "هوامش المسلم الحزين" تعد من الأصداء المباشرة لأفعال الجنرالات في أية بقعة من العالم، ولقد نَهَجَ الشاعر في كتابة نصه نهجاً فنيا رائعاً، وهو استخدامه أسلوب القص الشعري الجزئي عن طريق تحويل النص إلى مقاطع، وجعله كل مقطع يتصل بالآخر زمناً وفنا، وهو أشبه بمذكّرات الوقائع.
    والطريف أن المقاطع في القصيدة (9 مقاطع)، استغرقت مذكرات مقتضبة لمسلم من البوسنة، أُخرج من بلده "موستار"؛ ويصف الشاعر الذئاب البشرية من الصرب والكروات في مقطع دال، يقول:
    الطفلُ ماتَ في الصَّباحْ
    وأمُّه قضَتْ
    وجفَّ في عروقها الرحيقْ والوجيبْ
    فقد عدا على الدِّيارِ ذيبْ ! (ص46)
    وذئاب العسكر هنا يُنفذون سياسة الجنرالات في التصفية العرقية، وما يُصاحبها من جرائم متوحشة، ويستنفر الشاعر حسين علي محمد أمة الإسلام قائلاً في آخر المقطع الرابع من قصيدته:
    يا مسلمونْ !
    متى ستنهضونْ ؟
    وبالعدوَّ تفتكونْ ؟ (ص47)
    وقوله أيضاً على لسان بوسنوي مسلم:
    هذا هو القرآنُ في العيونْ
    رفيقي الحنونْ
    يضيءُ دربيَ المسكونْ
    بالرُّعبِ والجنونْ !
    متى سنتلو "سورة القتال"
    نكونُ خيرَ أمةٍ قدْ أُخرجتْ للناسْ (ص47)
    والأجمل في نص "هوامش المسلم الحزين" هو التحول من رصْد الجرائم البشعة لطغاة الصرب والكروات وتجاوز تفصيلات المآسي التي حدثت إلى الحديث المتفائل عما يجب أن يقترن بوعي قادة الأمة ورجالها لمجابهة سديدة تحول دون تكرار ذلك، ومنه قول الشاعر الآمل في الله، وفي غد أفضل:
    حبيبتي ( )
    بينَ الرحيلِ والرحيلِ
    والفرارِ والفرارِ
    كانتْ هذه الرؤى،
    وكانت هذهِ الأشعارْ
    فكيف أُخبرُكْ
    بأنني أُحبُّ بيتيَ الصَّغيرْ ؟
    وأنني أُحبُّ ذاك الحيَّ، والجيرانَ، والدروبْ
    والمسجدَ العتيقْ
    وكلَّ نبتةٍ على الطريقْ !
    فهل تُرى أعودُ للدِّيارْ
    إليْكِ يا مُستارْ ؟!

    متى نُضمِّدُ الجراحْ ؟
    ونملؤ الآفاقَ بالغناءِ للصباحْ ؟! (ص48)
    إلى قوله:
    حبيبتي ..
    سأذكرُكْ
    سأذكرُ النسيمَ حانياً يُداعبُ الجفونْ
    سأذكرُ النجومَ حينما تُوشوشُ العيونْ
    سأخبرُكْ
    بدفقةِ المطرْ
    بكلِّ جملةٍ كتبتها ..
    عن الغيابِ، والرحيلِ، والسَّفرْ ! (ص49،50)
    ولعل الشاعر حسين علي محمد قد نجح في المراوحة بين وصف الواقع الآسن في البوسنة من جراء جرائم الصرب والكروات، وبين الأمل في نهضة أو استنفار، يبني ما تهدّم في جزء مسلم من قطعة حيوية من العالم. ومما لاشك فيه أن رؤية الشاعر هنا رؤية إنسانية، وتجربة فنية مهمة تتجاوز الخطاب الأدبي السطحي إلى نص عميق يُقدِّر أبعاد التجربة الإنسانية، ورؤيتها الصافية
    ***
    * وفي قصائد الديوان الباقية يجسد الشاعر في غنائية حزينة، وفي أغلب الأحوال طبيعة العلاقات الاجتماعية مع الناس، وعلى وجه الخصوص دائرة المحيطين به من الأسرة والأصدقاء في دائرة الأدب والصحاقة والعلم، أو البيئة التي شهدت مولده، كما سنرى:
    غنائية راضية في النص الاستهلالي:
    يناجي الشاعر حسين علي محمد حلمه وواقعه السرمدي: زوجته المحلقة في حدائق عمره، وحولها الفراشات تطير وتحط في فرح بهيج وعقول متوازنة، وهي أفرخ الشاعر الصغيرة واليافعة، التي يطل عليها كل حين، أو يُغادرها للغربة والليل الطويل، والفراق القاسي. والألم / الحلم، والزوجة / الفراشة كم تتعب في الحديقة، وكلها أمل أن يعمرها الله بالخضرة والنماء والصلاح والاستواء. يقول المطلع مشيراً إلى تضاعيف الجهد في نوفمبر مع شواغل بدء الدراسة لدى الفراشات / الأبناء:
    "هذا في الليلِ مدارُكِ
    يا أيتها المُتْعبةُ
    تعاليْ في آخرِ نوفمْبرْ
    تطلُعُ منْ خَصرِكِ ـ في ظلِّ الضَّوْءِ ـ
    فراشاتٌ زرْقاءْ !" (ص5)
    والمرأة / النجمة، المرأة / الوعد المشتهاة (ولو بحروف الشعر)، ظاهرها عند الشاعر إطفاء رغبة المغترب، حين يُغادرها، لكن مكنونها في إجابة حلم الشاعر ورغبته تكون دائماً:
    "وبراريكِ الأولى تخْضَرُّ
    بِعُشْبِ الدَّهْشَةِ" (ص5)
    أو قوله عن الجبين:
    "كاللؤلؤةِ يُضِيءُ
    فتكْشِفُ عنْ ليلِ غوايَتِها الصَّبْوَةُ
    وتُفَكِّكُ في الفجْرِ عناصِرَها
    تتحرَّرُ في الصُّبحِ إشاراتُكِ
    والأصْداءْ !!"(ص8)
    الحلم إذن يتحوّل إلى فعل معيش، والصّدى مردود لأدوار المحبوبة المؤثرة، وأدواتها الضوء والخضرة والعشب والصباح الذي يعقب فجر الأم المتعبة في سبيل أداء رسالتها، ولن تكون هناك محبوبة أخرى يقصدها الشاعر بمثل هذه الحميمية الشعرية والواقعية في آن.
    والنص في النهاية غناء آمل مفعم بالرضا والسكينة والأشواق.
    أغان صغيرة إلى فاطمة:
    فاطمة في العنوان وفي المقاطع الغنائية للنص هي ابنة صديق الشاعر، وكان والدها الناقد حلمي القاعود قد رُزق بها مؤخراً ـ لتكتمل في أسرته نعمة الخالق في البنين والبنات.
    والتهنئة بالمولود أحد أغراض الشعر العربي، تناوله الشعراء بمختلف طبقاتهم، ومثّل ذلك اللون ظاهرة فنية عند روّاد الشعر العربي الحديث في القرنين الأخيرين.
    وقد نظم الشاعر أغنياته إلى فاطمة (ابنة الصديق)، وفاطمة (الأنموذج والمثل المرتجى)، فهي العصفورة، والحلم الذي يتغنّى له الشاعر بالأمهودة تلو الأخرى، وهي حين تشب وتكبر تتحوّل إلى فاطمة الأخرى، تقتدي ببيت النبوة وطريق محمد  ، وقد ألمح الشاعر ببراعة إلى ذلك في المقطع الثالث الذي جعل عنوانه "الجرح الرّاعف" حيث يقول:
    "أطِلِّي على ضِفَّةِ الغَيْمِ
    هاتي ظلالَ النَّخيلِ..
    عطاءَ السَّعَفْ
    وقولي لعمِّكِ:
    ياكمْ تعِبْتَ منَ السُّهْدِ
    والمَشْيِ في المُنتصَفْ
    تعالَ لِبرْدِ اليقينْ" (ص10)
    وفي الواقع: إن تهنئة الشاعر بالمولودة ـ هنا ـ قد أدّت مهمتها منذ المقطع الأول، وبقيت الرؤى العميقة المنشودة فيها والمأمولة في أجيال الأمة، وبخاصة إن لغة الشاعر تحولت من البساطة إلى العمق. يقول لفاطمة:
    "وَرَوِّ الفؤادَ طيوبَ الحقيقهْ
    وهذا هُوَ الجُرحُ يرعُفُ
    هلاّ عرفتَ طريقَهْ ؟
    وهلاّ شممْتَ رحيقَهْ ؟" (ص10،11)
    إن الشاعر يتحول إلى مرب، وإلى هادٍ إلى طريق الإسلام الفاعل، الذي يُضمِّد جراح المسلمين، ويجعل لهم شأواً بين العالمين، تلك هي الأغنية في باطنها الذي لا يقل أهمية عن الفرحة بمولد فاطمة ابنة صديقه الدكتور حلمي محمد القاعود، وفاطمة / الرمز سيدة نساء بيت النبوة، المغزى والقدوة، وبيت القصيد.
    ***
    ونستقرئ مع الشاعر حسين علي محمد أحب قصائد الديوان إليه فيما أعتقد وهي قصيدة "عرس أمينة"، فما أجمل القطاف، وما أطيب الحصاد الحلال، وفي الحديث الشريف "إنما لأعمال بخواتيمها"( ). وفي قصيدة "عرس أمينة" ينسج الشاعر خيوط فرح عائلي يتمنّاه، ولعله أقرب إليه من حبل الوريد. والعرس هنا تتمة أو تتويج لدور اجتماعي فيه السعي والمكابدة، والرضا والشكر، وهاهم أولاد الشاعر وبناته من الراشدين والراشدات، حصاد عقود ثلاثة من السهر والمكابدة، والثناء والحمد، عقود ولّت بعذاباتها وخيرها، لذا فرسالة الوالديْن (الشاعر وصاحبته) بحاجة إلى توقيع بالزغاريد، وليس هناك أحسن من اجترار الذكريات مع أم الشاعر أمينة (اسماً وصفة) لتكون أمينةً على الفرح الذي لا بد وأن يغسل مكابدات الماضي البعيد. فرح ينتظره الجميع في الأسرة الصغيرة، ويومئ الشاعر إلى فرحة الأسرة بنجاح الابن في بدايات التكوين:
    "فكُلُّنا للفرْحِ في اشتياقْ
    وناظِرونَ للغدِ السَّنِيّْ"
    وفي موضع آخر:
    "العُرسُ حان وقتُهُ
    فأيْنَ ياصِغارْ ..
    الدّفُّ والمزمارْ ؟" (ص)
    وقد أعجبني هذا السطر الشعري العفوي القائل:
    "فالدَّارُ عندنا فسيحَهْ" (ص12).
    وسطر شعري مثل هذا قد يمر على البعض دون تأمل، لكنه يحمل أمل العودة إلى الأم في رحابة صدرها والدار في اتساع قلوب أهلها بالفرحة والاجتماع النادرين، بدلاً عن الأندية والفنادق المعلبة!
    ويخرج الشاعر عن سمته في الصمت المدرك، الموصوف به، إلى صياح طفولي لا بد وأنه من مكنون وعيه الباطن في مقطع من النص يقول:
    "زَغْرِدْنَ يابناتُ لِلْفَرَحْ
    حسيْنُ قدْ نَجَحْ
    كأنَّما النَّخيلُ قدْ طَرَحْ
    والموْجُ للسَّلامِ قدْ جَنَحْ !" (ص12)
    أي عفوية وأية بساطة في قدرة فنية أروع من المقطع السابق، حسين الأب وحسين الابن الشاعر يمتزجان .. فالفرح قد جمع الأهل والأصحاب، وفيه تتويج يُذيع على الناس نجاحه في أداء مهمته في الحياة، وقد وُفِّق الشاعر في استعمال شجرة النخيل دون سواها، لأنها شجرة مباركة (لا يسقط ورقها) دون كل الشجر، والورق هنا (أوراق الماضي) أو ثمار نجاح الأبناء مع الآباء، ولتتم الفرحة في حضور الأمينة على الجميع، فرحة وسلام، لا مكان اليوم لأي متحاسد أو متباغض، وأعتقد أن العلاقة بين الشاعر والأم في حياتها ومماتها أشبه بالأنموذج في البر وصلة الأرحام، فالشاعر مع زوجه وأولاده يهدي ثمار الفرح إلى أمينة، يوم أن أحس أنه نجح:
    "وأنتِ في السَّماءِ تبسمينَ في براءهْ
    وتُشرقينَ في وضاءهْ
    : العُرْسُ حانَ وقْتُهُ
    للدُّرَّةِ المكْنونهْ" (ص14)
    ***
    غنائيات الموت الحزينة:
    أودع الشاعر حسين علي محمد ديوانه بضعة قصائد من شعر المراثي، ونصوصه بكائيات غنائية ملتاعة، يسكب فيها الدمع على ثلة افتقدهم من أقرب المحيطين به من زملائه وأصدقائه. لقد فوجئ الشاعر بالموت يخترمهم الواحد تلو الآخر، فكتب ـ عنهم ولهم ـ غنائياته الحزينة، فكانت قصائده:
    ـ صبيحة الغياب.
    ـ رحيل آخر العام 1996.
    ـ الصارخ في البرية.
    ـ ونام في سلام.
    ـ الغائب.
    والنص الأول مُهدى إلى روح الشاعر عبد الله السيد شرف، وهو من أصدقاء الشاعر، والنص الثاني مرثية حارة تمثل جزع الشاعر لرحيل عزيز عليه، لم يكشف عن اسمه، لكنه من المحيطين به، أما "الصارخ في البرية" فعنوان لا يدل على بكائية حزينة، ذلك لأن الميت هنا صديق للأدب والأدباء، والفكر والمفكرين، وهو الأستاذ الشاعر كمال النجمي، وقد عبّرت قصيدة "الغائب" اسماً وصفةً ودلالة عن رثاء ذي مغزى إنساني صافٍ، حيث يقول فيها الشاعر:
    .. وفي الليلِ كانَ يُهدْهِدُ حُزْنَ القمرْ
    ويسمعُ شدْوَ السواقي
    إلى إلفِها المُنتظرْ
    هو الوعْدُ والسُّنبلاتُ / المطَرْ
    هو الماءُ أيتها الأرضُ
    كيفَ إذنْ ..
    يقطِفُ الموتُ وردتهُ في السَّحَرْ
    ويسبِقُ وقْتَ التلاقي بليلٍ ،
    وينْوي السَّفَرْ ؟ (ص58)
    ومن شعر المراثي أيضا قصيدة ".. ونام في سلام" التي يُهديها للمرحوم الدكتور محمد علي داود، ويكشف النص عن زمالة لا تُنسى، وصداقة لا تبلى، والقصيدة زفرة وجد والتياع صادقين، وكيف لا؟ وشاعرنا يودِّع فيها أحد أهم أصدقائه، وقد وُفِّق في اختيار المفردات الهادئة كهدوء شخصية الفقيد، كما وُفق في استعماله الدقيق لكلمة "ونام" بديلاً عن الموت / الفقد / الوفاة، ونظائرها. أما "في سلام" فكأنما وداعة الشخصية التي اخترمها الموت قد نامت في هدوء، وكأن الفقيد كان على موعد مع النوم الهادئ الأبدي عند البارئ الحي الذي لا يموت، يقول الشاعر:
    تعودُ للترابْ
    يا أيُّها المسافرُ الحبيبْ
    تعودُ .. في العينيْنِ أُغنيهْ
    وفي الدروبْ:
    مقاطعُ الغيابْ /
    مدى كيانِكَ الرَّحيبْ /
    ونبْضُ أُمسيَهْ
    .. ملأتَها بالشعرِ والسَّمَرْ
    يا أيُّها الغريبْ ! (ص59)
    ويتوهَم قارئ الديوان أن حسين علي محمد يكرر تجربة المراثي لشخص واحد في نصين (هو صديقه الراحل الدكتور محمد علي داود)، والواقع أن قصيدة "مكان بالقلب" آهة ودمعة، وفاء لذكريات وأماسٍ، وتذكرة لمكان واحد جمع الصداقة بيد اليقين، ولا يعيبنّ كائد أو حاسد نعمة الوفاء النّادر والصداقة المشتركة، والمعيشة المشتركة الجميلة، ذلك أن الشاعر حسين علي محمد كان من أقرب المحيطين بصديقه الراحل الدكتور محمد علي داود في غربة العمل بالمملكة العربية السعودية، وقد بلغ الحزن المفعم بالتوتر مداه عند شاعرنا حينما مرض صديقه، ثم غادر المملكة عائداً إلى مصر؛ فلقد كانت النتائج الطبية المعملية تشير إلى قرب رحيل الصديق الراحل ـ الذي عاد إلى أسرته في مصر ـ إلى الدار الآخرة. وما أقسى أن تتحوّل الحياة إلى موات، في لعبة أرقام تشكِّلها أمراض العصر!
    لقد جمع الإيمانُ والرضا شاعرنا بصديقه، وليس من طريق إلا الرحيل والسفر، والموت المنتظر، وكأنما كانت تصدق على الصديق في حالته تلك "الموت ملاقيكم بعد قليل"!
    اهتزّت المشاعر، وأفاض حسين علي محمد في سكب الدمعة تلو الدمعة، لا تُفارقه اللوعة لفراق اللؤلؤة المملوءة بكنوز الذكريات، لؤلؤة القلب وحبته في الموضع اللائق به، يحتل مكاناً تحت الثرى وفي مستقر فؤاد الشاعر، يقول الشاعر في تجربة عروضية خليلية موقّعة ذات تأثير نفسي فعّال:
    أتهْوي مَعَ الفجْرِ هـذي اللآلْ .:. بشُبَّاكِ صمْتِ الهوى .. في ارتحالْ؟

    و"أنـوارُ" مكـةَ كمْ أيْقظتْ .:. بعُشْبِكَ عهدَ الصبـا والجمـالْ
    وتحضنُهــا في وَدَاعٍ صموتٍ.:. وتهتفُ في الفجْرِ: نحنُ الرِّجالْ (ص70)
    ويسترفد الشاعر من أسرار صديقه عشقه لمكة: الرمز، والوطن، والسكن، ولزوجه: سنوات الصبا والجمال، ها قد غادرنا الصديق ومضى في صمت، بل في خشوع الرجال ورضاهم. إن الشاعر يسترجع أدق التفاصيل قبل رحيل الصديق، فيذكر:
    وتطلبُـهـا في ابتهـاجٍ رؤومٍ .:. وأنتَ تُراقِــبُ مالا يخـالْ ! (ص70)
    والطلب هنا إيماءة للمهاتفة التي كان يحتشد لها الراحل احتشاداً، أي لزوجته وأولاده، ومع ذلك لم ينس الشاعر حسين علي محمد مسامراته مع صديقه محمد علي داود، وتعدد سفرهما إلى مكة معاً لأداء العمرة، والصلاة في بيت الله الحرام. إنها ذكريات لا يُمكن نسيانها فهي محفورة بالقلب، ومكانها دفقات الفؤاد ونبضه، وعن ذلك يقول الشاعر في صدق فني:
    وفي مكــةَ الحـلمُ كمْ ضمّنا .:. خيــالٌ لـهُ في الفيافي جلالْ
    وقُلتَ: أنـا في القـصائدِ نبْضٌ .:. وفي الشعرِ عاطفةٌ لا تُنـــالْ
    كذلكَ أنـتَ صديقي هنــا .:. مكانُكَ بالقلبِ .. أغلى اللآلْ! (ص71)
    لم تكن الرياض (مكان غربتهما) أو دمنهور أو ديرب نجم (مستقر أسرتيهما) هي المكان الذي ذُكِر في النص، ولكنها مكة المكرمة، الرمز الروحي الذي لا يتقدّمه أي رمز، وهنا ـ عند بيت الله الحرام، وفي الله ولله ـ عاشت صداقتهما، مرجعها القلب "أغلى اللآلْ ".
    والنص في ضوء ذلك يُعمِّق البعد الإنساني من خلال الإشارة إلى أواصر العلاقات الاجتماعية بين الفرد والآخر، وقد وفق الشاعر في تصوير خلجات النفس الإنسانية، حيث أعاد في فنية استرجاع مشاهد الرحيل / الأفول، عن طريق اجترار ذكريات لا تبلى ولا تنقضي.
    (يتبع)

    </i>

  7. #17
    (تابع/ دراسة أ.د. أحمد زلط)
    ..................................
    أما عن الصورة المتخيَّلة في رثاء صديق آخر، اخترمه الموت عام 1996 فيقول فيها الشاعر:
    أيا نخلةَ البرْقِ
    كيف رياضُ المحبينَ
    في الهجرِ ؟
    يا موجةَ البحرِ!
    كيفَ غيابُ السَّفينْ .. ؟
    .. متى عودةُ الرَّاحلينْ ؟ (ص36)
    وقد رسم الشاعر حسين علي محمد صورة نفسية دقيقة للفقد والغياب، ودونما غياب، وقد كثَّف الشاعر ذلك في قصيدته "صبيحة الغياب"، حيث يقول:
    وقُرْصُ شمسِهِ البعيدْ
    يغرُبُ في السَّماءْ
    ماعادَ يسْألُ السؤالَ ، أوْ يُعِيدْ
    قدْ سافرَ الأحبابْ
    فمنْ تراهُ باكِياً صبيحةَ الغِيابْ ؟!
    لكن الشاعر في نصه الذي يحمل عنوان "فخاخ الصحراء" ألقى على بصائرنا مرثية مطوّلة حول صديق لم يُفصح عنه بصورة تامة إلا بالاسم الأول "أحمد"، والذي لقي حتفه في رحلة عمل مغترباً بالباحة، في جنوبي المملكة العربية السعودية، والبكائية في النص تميل إلى الإطالة التي لا ضرورة لها.
    يقول الشاعر في رثاء صديقه أحمد:
    "الباحةُ" خاتِمةُ الأسفارْ
    وأنت قديماً كنتَ تُشاكِسُ باللفظِ
    وترجِعُ بالغارِ
    فكيفَ خرجْتَ من الدَّارِ
    صباحاً
    ومهما يكن من أمر، فإن الرثاء لا يتحمّل ـ باعتباره فنا شعريا ـ الحوار المطوّل، أو المناجاة المطوّلة، فهو دمعة وفكرة، ومدح لصفات الميت الراحل، وإن هلك.
    والفجيعة بالموت ورثاء من ماتوا عادة مألوفة عند الشعراء، حيث نجدهم في قصائد الرثاء يتتبعون من يرثونهم، فيذكرون ذكرياتهم معا،كما يذكرون مآثرهم، وسجاياهم، ويمدحون صفاتهم وسلوكهم في الحياة الدنيا قبل الرحيل الأبدي للدّار الآخرة.
    وبالإضافة إلى قصائد الرثاء، فقد كتب حسين علي محمد في ديوانه هذا آهاته المحزونة حول فراق الأحبة، وله في فراق صديقه الشاعر أحمد فضل شبلول حينما ترك الرياض وعاد إلى الإسكندرية ـ بعد صداقة امتدت سبعة أعوام ـ قصيدة بعنوان "دموع الحاسوب"، يقول فيها وهو يناجي الحاسوب ـ ومن المؤكد أنه يتذكّر صديقه الذي غادر الرياض، ويتذكّر جولاتهما وسهراتهما الأدبية معاً:
    ياحاسوبي الساهرَ في أحنائي
    والحالِمَ بالضَّوْءِ وبالسَّعْدْ
    سافرَ أحبابي ..
    تركوني في دائرةِ الوجْدْ
    وانفضُّوا منْ حوْلي ..
    تركوني في سِردابَ الفقْدْ
    انفضُّوا .. فرداً .. فرداَ
    وبقِيتُ أُعاني ..
    من وطْأةِ أحزاني
    في مَجْمَرةِ البُعْدْ ! (ص38-39)
    وكأنما الشاعر ينتقل من لوعة الفراق وألم الابتعاد عن الصديق، فينتقل من التجريد إلى المحسوس في قوله:
    لِمَ لَمْ تبصرْ طابعتي ..
    وهْيَ تُنادِمُ نافذتي ..
    بحروفِ الهمسْ ؟
    لِمَ لَمْ تأكلْ طبقَكَ ،
    لمْ تشربْ قهوتَكَ
    ونايكَ مُرْتَهَنٌ للحزنِ
    وفُقْدانِ الأُنسْ .. ؟ (ص38)
    والحاسوب أحد الرموز المادية في النص عنواناً وتشكيلاً ورؤيةً، بينما الألفة والوفاء يعذبان الشاعر، الذي غادره الصديق في سفرة أخيرة لمحل إقامته، وموطنه، وداره، وأهله.
    ولن نغادر هذه النصوص في هذا الموضع، دون أن نتذكّر العنوان الدال "النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة"، وهو العنوان الأساس للمجموعة جميعاً، ففيه الفراق المكرور، وتداعيّات الشوق والبوح حول من غادرهم إلى موطن عمله وغربته.
    أما المحاورة الشعرية الوحيدة في قصائد الديوان، فقد جعلها حسين علي محمد تمتلئ بالتهكم والسخرية ممّن بلغا النضج وحكمة السنين، بينما يطفح من سلوكهما الحمق والادّعاء، والنص مع جودته قطعة فنية محكمة، لا يُمكن أخذ الشاهد منها إلا بنصها كاملاً، يقول الشاعر:
    ـ إني حاربْتُ كثيراً في صفِّكِ
    ـ لكنِّي لمْ أُبصِرْكَ بليغاً ،
    تتحدَّثُ في جمْعِ السُّفهاءْ
    ـ إني مشغولٌ بهمومِ العامَّةِ ، وحقوقِ الضُّعفاءْ !
    ـ هذا ما نرجوهُ على يدكَ البيضاءْ !!
    لكني أسألُ نفسي :
    لِمَ لمْ أسمعْ منك قديماً
    ـ من فيكَ المثقلِ ببلاغتِهِ الشوهاءْ ـ
    شيئاً عنْ فقرِ الفقراءْ
    ـ إنك تُغمطُني حقي يا شيخْ
    فلماذا هذا الظلمْ ؟
    ـ إنكَ وقِحٌ
    ـ بل أنتَ الأبلهُ ، والشعرورُ ، وبيْتُ الدَّاءْ

    نصَّان من قصائد النثر:
    ضمّن الشاعر حسين علي محمد ديوانه قصيدة نثرية مطوّلة سمّاها "أحزان صباحية"، سوّدت الصفحات (72-75) من هذا الديوان، والطريف أنها كرصيفتها الأخرى بالديوان ـ والمعنونة "القاهرة 1968" تتخذان من "قصيدة النثر" أداة تعبيرية. والصياغة الفنية في قصيدة النثر لشاعر يكتب القصيدة الخليلية والحرة باقتدار لا تروق لي، لكني أقدّر حرية التعبير لدى المبدع، ولا أُصادر حقا يراه!
    والواقع أن الاستقراء المبدئي للنصّ الأول يجد مفارقة غريبة ـ وإن لم تكن مقصودة ـ وهي أنها إعادة صوغ لتجربة كتبها الشاعر قصّة قصيرة، ومرّ عليها زهاء عقدين من الزمن!
    ولن أتحدّث عن نجاح التجربة في الشكلين فيما يرى البعض. غير أني زعيم هنا بأن قصيدة "أحزان صباحية" كانت الأضعف من توأمتها "مهاتفة صباحية" المنشورة في مجموعة قصصية للشاعر تحمل عنوان "الطريق الطويل أو أحلام البنت الحلوة" .
    إن تضمين الشعر فقرات النثر المتساوقة أو الجمل ذات البنى الإيقاعية لا يعني أنّ هناك قصيدة، بل حصادنا ـ وقتئذ ـ هو النثر في لغة شاعرة!
    فالسرد القصصي راق في سائر معاييره عند شاعرنا على نحو ما ظهر في "القاهرة 1968" و"مهاتفة صباحية"، والسرد في البناء القصصي كان واضحاً متماسكاً في القصة، أما في قصيدة النثر المزعومة فالشاعر مجرّب، ويخرج نصه في تداعيّات أرى عدم مشروعيتها في الشعر ، باعتباره فنا، عماده وحدة الفكر (الموضوع)، ووحدة الإيقاع النغمي العروضي، ووحدة الائتلاف في اللغة وسيلةً ودلالةً.
    إن "قصيدة النثر" المزعومة تخرج من دائرة ضروب الأجناس الأدبية، والأوْلى أن يُجوِّد المبدع في النوع الأدبي الذي يبرز فيه؛ فالمبدع ـ في حقيقته ـ هو الأساس الجوهري في الإبداع الأدبي، وليس هو الوسيط أو الناقل، أو الدراماتولوجي، أو السينماتولوجي كي يُلفِّق بين الأنواع الأدبية فوق مائدة الفنون المجمّعة، والفنون المجمّعة قد تقبل مثل ذلك التجريب بالتحوير والمعالجة والاقتباس والأخذ من أي نوع أدبي، بعد توطئته وترويضه للفنون المجمّعة، بينما فنون الشعور ـ ومنها الأدب، وأهم أنواعه الشعر ـ يجب أن تكون محافظة على تقاليدها الفنية، ومن ثم فإن الشعر يجب أن يظل شعراً كما هو في أدب أية لغة.
    نصوص موازية في التجربتين:
    يقول القاص حسين علي محمد في فصة "مهاتفة صباحية": "الظهيرة تبصقهما بجوار المستشفى الجامعي، يتحسس سحابة الجهامة .. كل المشاوير خاطئة في فم فائزة المحشو بالكراهية والنفور. فكيف تكونين يا رباب ضفة مشتهاة، وأنتِ ثمرة محرمة في يد الهارب البعيد؟!"
    ويقول الشاعر حسين علي محمد في قصيدته "أحزان صباحية":
    "الظهيرة تبصقنا
    بجوار المستشفى الجامعي
    أتحسس سحابة الجهامة
    المشاوير خاطئة
    فكيف تكونين ضفة مشتهاة" (ص74)
    وليس من شك في أن القارئ المتذوّق سيُعجب بالفقرة القصصية في دقة تكوينها وعمق دلالتها، بينما التكرار مع التعديل في بعض المفردات في "قصيدة النثر" لا يُضيف جديداً عمّا أدّته سردية القصة.
    وفي مقطع آخر يقول القاص حسين علي محمد في القصة نفسها:
    "قبل أن أفكِّر في صعود الدرج للطابق الخامس ـ في نفس العمارة التي أسكن في الدور الثاني فيها ـ لمحادثة صديقي "حلمي أحمد"، كي يمنحني فسحة من الوقت ، لتأجيل خيباتي:
    خيبة قديمة .. خيبة جديدة .. خيبة مقبلة. في زمن تضرّج بالسواد والحداد!" (ص88).
    وفي نص مواز يقول الشاعر حسين علي محمد:
    "قبل أن أفكِّر
    في صعود الدرج للطابق الخامس
    لمحادثة صديقنا "أحمد زلط"
    كي يمنحنا فسحة من الوقت
    لنؤجل خيباتنا:
    خيبة جديدة
    خيبة قديمة
    خيبة مقبلة" (ص75)
    فهل اختزال جملة واحدة من النص القصصي، وتعديل اسم الصديق من "حلمي أحمد" إلى "أحمد زلط" هو الذي سينقل النص من أدبيات القص إلى ما يُسمّى (قصيدة النثر)؟
    إن مستوى شاعرية حسين علي محمد يربأ به عن ذلك التجريب الفني المراوغ، وعليه ألا يضمِّن أشعاره بعد ذلك ما يسمّى بـ"قصيدة النثر" ، ومن حسن الحظ أنه لم يكتب خلال ثلث قرن إلا ستة تجارب من هذا الأدب؛ فاللغة الشاعرة التي يمتلكها حسين علي محمد قادرة على الإبداع من خلال هيكل الشعر وميزانه وقوالبه، وهو يمتلك المضامين والرؤى التي تستحيل بين يديه شعرا.
    وإن نصين مثل "القاهرة 1968" و"أحزان صباحية" منحا الشاعر الفرصة ليشير إشارة ذكية إلى التيّار الحداثي، ويكشف لهم أنه قادر على التجريب والتجويد أيضا.
    ونحن نقول: فليجرّب الشعراء والكتاب في الأنواع الأدبية ما يشاؤون شريطة الوقوف فوق قاعدة يستندون عليها، وبعبارة أخرى: عليهم المحافظة على منطلقات كل نوع أدبي وخصائصه، وبالتحديد: من جذوره وأصول نشأته.
    ***
    ظواهر فنية في الديوان:
    أولا: في المحتوى والمضمون:
    تنوّعت مضامين قصائد الديوان إلى مقاصد أو موضوعات متفرقة، مما يدل على قدرة الشاعر على التنقل من تجربة إلى أخرى، وأهم موضوعاته وفقاً لذيوعها في القصائد:
    ـ رثاء الميت صديقا أو زميلا، أو من المحيطين به.
    ـ الحزن لمن فارقهم الشاعر أو فارقوه.
    ـ تشريح طبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة.
    ـ الإحساس بمآسي المسلمين في العالم (مسلمي البوسنة نموذجاً).
    ـ الشعور الأسري والاجتماعي (واقعاً، وفنا، وتخيلا).
    ـ في أدب الحكمة، والسخرية من الحمقى والأدعياء.
    ثانيا: في المستوى اللغوي:
    من مكرور القول التأكيد على امتلاك حسين علي محمد للغة الشاعرة، وعدم وجود مستويات متفاوتة في لغة الديوان، حقا إن لكل تجربة لغتها الخاصة إلا أنها تظل على مستوى معجم الشاعر وثقافته وقاموسه الأدائي التعبيري، ولغة شاعرنا لغة فنية ذات مستوى ثابت: فيها تجويد للفصيح المستعمل، وتنأى عن الغريب المتقعِّر، ونلاحظ أن الديوان يكاد يخلو خلوا تاما من المفردات الأسطورية، أو الإشارية المُلغزة لدرجة التعقيد.
    وقد تنوّع الأداء التعبيري عند الشاعر من قصيدة إلى أخرى، فمرة نرى صوت الشاعر، ومرة ثانية يُقابلنا الحوار الداخلي، ومرة ثالثة يختفي صوت الشاعر ليترك الحوار للآخر (انظر قصيدة حوار سيدين في مطلع الرحيل، ص62).
    ومن الملاحظ على الشاعر أنه لم يقف في سائر قصائد الديوان موقف المختزل للغة، أو يضعها في مخيلته ضمنا، مما يجهد القارئ أو المتلقي إلا في مقطع شعري وحيد في الديوان، حيث يقول في "منولوج" استفهامي:
    أُبْصِرُني كهْفاً مهْجورا
    ما هيْكلهُ الأوَّلُ ؟
    هلْ كانَ الجامِعُ ..
    فِيهِ الصَّلواتُ وفيهِ الذِّكْرْ ؟
    ...
    هلْ كانَ الشِّعْرْ ؟ (ص29)
    ربما كان وعي الشاعر بالتنقلات الاستفهامية في هذا المقطع تُفصح عن شيء لم أستطع استكناه مقصوده، أو تأويله إلى إدراك قريب، مع مقطعه السابق أو اللاحق، ذلك أن مسافة لغوية مكتنزة ومختزلة بدرجة كبيرة، كنا نودّ التقريب لها من لدن شاعرنا المجوِّد.
    في التشكيل الموسيقي والعروضي:
    تفعيلات البحور القصيرة والخفيفة هي الوحيدة دون سواها معزوفة البنى الإيقاعية في الديوان: الرجز، المتدارك، الخبب، وهي بحور ـ سواء أكانت صافية التفعيلة أم مبتورة ـ فهي تميل إلى نسق التكرار، لتنسجم وحدات التفعيلات، في إيقاعها الداخلي المصاحب ـ وبالثبات دوماً ـ في كل قصيدة.
    ولم يلجأ الشاعر إلى التنويع العروضي دالخل النص الواحد ـ في القصائد القصار والطوال ـ وإنما أسعفته مجزوءات البحور الخليلية القصيرة والخفيفة، حتى في أطول قصائد الديوان "فخـاخ الصحراء" وجدناه يُحافظ على النسق الموسيقي الأخّاذ، وهو يسترجع الذكرى مع صديقه الذي قضى نحبه:
    تعالَ إلى حِضْنِ "عصايِدِكَ" الملهوفةِ
    بالشوقِ
    أعدْني طِفلاً ، لأهازيجِ الحقلِ
    ولغوِ السُّمَّارِ
    وقُلْ لي :
    كيفَ تُضِيءُ حقولَ الصمتِ / الثرْثارِ
    وتُسْرِجُ في قفْرِ هزائمِنا
    خيْلَ النار ؟ (57)
    أو قوله في ثبات موسيقي مستجاد:
    أحببْتُكِ .. لكنْ لمْ أتكلَّمْ !
    عانيْتـُكِ .. لكنْ لمْ أتألَّمْ ! (ص30)
    ومنه قول الشاعر:
    لاتسْتاْذِنُ أُفْقي / أفْقَكْ
    كيْ تعْبَثَ فيهْ
    شهقةُ صمتي / صمْتِكَ
    تُنْبِئُ عن موتي / موتِكَ
    ورحيلِ العُمرِ غُباراً في هذا التِّيهْ .. ! (ص23)
    واللافت للنظر ونحن نحتفي بتلك المجموعة الشعرية الجديدة صغيرة الحجم، كبيرة المغزى، أنه كلما لجأ الشاعر ـ في غير تعمد ـ إلى تكثيف التجربة في شكلها المعماري، كلما تحولت إلى آية فنية نغبط الشاعر عليها.
    أما الطول المفرط في بعض القصائد، وإن خدعنا الشعر بحكم خبراته ووعيه بتجديد دماء اللغة، كي يُفوِّت علينا الإطالة، لكنها بالرغم من كل احتراز فقد دوّنت الإطالة في بعض مقاطع القصائد، وأزعم أن لكل تجربة مدداً أو بوحاً قد لا ينتهي بمثل ما نلحظه في تجارب القصائد القصار؛ إلا أنني أميل إلى التكثيف دونما تعتيم، فالضباب يحجب الرؤية واقعاً وفنا. ونحمد الله تعالى أن نسبة القصائد الطويلة في الديوان لا تمثل سوى خمس عشرة بالمائة من مجموع قصائده.
    تحياتي للشاعر في غنائياته ومراثيه، وفي أبعاده الإنسانية التي أومأ إليها، وفي مواقفه من الحياة والأحياء، وفي تهكمه الساخر مما يراه خطأً. وعلى الله قصد السبيل.
    أ.د. أحمد زلط


    </i>

  8. #18
    (14 ) «الشجن» ملاحظةً وشرحاً في ديوان
    «النائي ينفجر بوحاً» لحسين علي محمد

    بقلم: بـدر بـــــــــــديـر
    ..........................

    هذا الديوان الجديد للشاعر حسين علي محمد نافذة واسعة نطل منها على عالم هذا الشاعر المتعدد السمات والاتجاهات، كما لاحظ ذلك النقاد الذين تناولوا دواوينه السابقة بالنظر والتحليل، والذين تناولوا هذا الديوان الجديد بالدراسة السريعة، ومنهم الدكتور أحمد زلط الذي ألحقت دراسته بآخر هذا الديوان، وضَمّنها حديثه عن الشاعر مؤسس سلسلة "أصوات معاصرة"، مع بعض أصدقائه المعاصرين، كما ضمّنها نظرته التحليلية لقصائد هذا الديوان، وجعل عنوانها "أبعاد التجربة الإنسانية في ديوان النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة".
    ولقد كان لقرب الناقد الدكتور أحمد زلط من الشاعر أثر واضح في فهمه لصاحبه، وفك بعض رموزه، والوقوف على أسراره التعبيرية ومذهبه الفني. وهذا أسلوب معروف في النقد الأدبي منذ القدم؛ فكلما كان الناقد على صلة بظروف المبدع الحياتية، وأطوار نموه اجتماعيا وثقافيا كان هذا الناقد أقدر على تقديم التحليل النقدي الأنسب لإبداع الشاعر.
    ورغم أني قريب أيضاً إلى الشاعر موطناً وصداقة وصحبة إلا أني سأعتمد في رصدي لسمة وجدانية وحيدة تبدو واضحة في هذا الديوان على التعبير الشعري المجرد فقط، وهي سمة التعبير الشجني في قصائد هذا الديوان.
    ومنذ البداية يبدو الشجن عنصراً شعوريا أساسيا في أكثر القصائد، وحتى في العنوان، فكلمات العنوان الثلاث تشع بشدة هذا الإحساس بالشجن، فالنائي الذي يُفارق أسرته زوجةً وأولاداً وأحباباً وأصحاباً، ماذا تتوقّع أن يكون لون الشعور الذي تفيض به نفسه؟؟
    هذا النائي الذي تفصله عن رؤية أهله الشهور الطويلة الثقيلة كل عام. ورغم أنه في نهاية القرن العشرين يستطيع النائي أن يحدث أحبابه مهاتفة، ليرش بعض الندى على القلب المتحرق شوقاً، إلا أن برد الضمة إلى الصدر وروعة نظرة العين إلى العين، وبلاغة البسمة المعبرة عن الحب، وسكر اليد النائمة في أحضان اليد الأخرى .. كل ذلك شيء آخر غير مجرد سماع الصوت من خلل الهاتف.
    وتأتي الكلمة الثانية "ينفجر لتُشير إلى الكم الهائل من المشاعر التي ضاق بها هذا القلب، وهل ينفجر القلب بمشاعره إلا إن كانت هذه المشاعر ساخنة متجددة؟
    والبوح إفضاء وتعبير، لكن هذا الإفضاء والتعبير يأتي نتيجة انفجار شعوري. وهكذا يأتي عنوان الديوان معبراً ومبشراً بكم كبير من العواطف السيالة، والشجن الذي عرف طريقه إلى خارج النفس بعد مدة، يبدو أنها طالت من الحبس الإرادي لهذا الشجن.
    ويظن كاتب هذه السطور أن حبس هذه المشاعر الممتزجة من الحزن والحنين لدى شاعرنا إنما كان بسبب الحياء الذي يرثه الرجل الشرقي من تراثه وتربيته، إلى الحد الذي يجعلنا لا نرى شيئاً يُذكر من الغزل بالزوجة، والتعبير عن حب صاحبها إيّاها، والحنين إلى لقياها، والتلميح إلى ملامح جمالها النفسي والجسدي، ورقة عشرتها، وحدبها، وحنانها. أقول: إن الحياء الذي لا يجعل الرجل الشرقي يعبر عن ذلك، حرمنا من ممارسة هذا اللون الغزلي من الشعر مبدعين ومتلقين على امتداد تاريخ الأدب العربي.
    فلقد تغزل الشاعر العربي القديم بالمعشوقة، بل وصَرَّح بما لا يجوز التصريح به ـ كما نجد عند امرئ القيس ـ ولكن أن يبوح الشاعر بعاطفته تجاه زوجته وصاحبته وشريكته، فهذا الذي لم يحدث إلا حديثاً، عند القليلين الذين منهم كاتب هذه السطور.
    ومن هنا كان هذا الحبس عند شاعرنا الذي أدّى إلى الانفجار بوحاً، ولكنه ـ وهذه ملاحظة هامة ـ لم يكن انفجاراً مدمراً، أو حتى انفجاراً حقيقيا يحمل سمات الثورة على الموروث، وإنما جاء "انفجاراً" فقط ـ من وجهة نظر صاحبه، الذي مازال مرتبطاً ومشدوداً إلى تراثه الحضاري الذي لا يُعطي للرجل حرية الحديث عن أسرته وشريكته، كما يتحدث الرجل الغربي. لكنه على كل حال محاولة للبوح في حدود العرف والقيم الشرقية، بنسبة محددة.
    وتبدو صورة شاعرنا شَجِناً حتى في لحظات العطاء الدافئة، لنقرأ المقطع الثاني من قصيدة "فراشات زرقاء":
    في صُبْحٍ آخَرْ
    ـ وصهيلي في الآفاقِ يُردِّدُ أُغنيةَ البدْءِ
    أراني قُدَّامَكِ
    تتفتَّحُ أزْهارُكِ
    ويُمازِجُني عِطْرُكِ
    وتُفاجِئُني أطيارُكِ إذْ تخْرُجُ
    في كَفَّيَّ لآلئَ خضْراءْ
    تنفَتِحُ على القلْبِ
    أماكِنَ
    ومجالاتٍ
    ورُؤى
    تتجدَّدُ ، أوْتُخْصِبُ باللذَّةِ
    (هذا النَّصُّ يُغايِرُ
    ما ألِفتْهُ العيْنُ قديما
    في آفاقِ الشُّعراءْ !)
    ...
    فلماذا يقْبَعُ حسْنُكِ
    في الطَّلَلِ الباكي
    إيقاعاً
    خاصًّا
    يتَنَزَّى في شريانِ القلْبِ
    صباحاً
    ومساءْ!
    فوْقَ رُخامِ الحسَدِ الجنَّةِ
    فوقَ النَّهْدِ
    وتحتَ الخَصْرِ
    وحوْلَ العيْنيْنِ
    وفَوْقَ جبينٍ
    كاللؤلؤةِ يُضِيءُ
    فتكْشِفُ عنْ ليلِ غوايَتِها الصَّبْوَةُ
    وتُفَكِّكُ في الفجْرِ عناصِرَها
    تتحرَّرُ في الصُّبحِ إشاراتُكِ
    والأصْداءْ !!
    في قمة صورة السعادة "يقْبَعُ حسْنُكِ في الطلل الباكي" يصرح الشاعر بين قوسين أنه يأتي في هذه القصيدة بما لم يتعوده الشعراء قديماً من البوح، فهو يكسر القاعدة، ويبوح في جرأة ـ من وجهة نظره ـ بما لم يتعود القارئ أن يجده في قصائد القدماء.
    ومع ذلك فاللفظ عفيف رغم روعة الصورة "فوْقَ رُخامِ الحسَدِ الجنَّةِ، فوقَ النَّهْدِ، وتحتَ الخَصْرِ".
    حتى عندما يُخاطب الوليدة فاطمة ابنة صديقه العظيم حلمي القاعود بهدف تهنئته، فإنه ـ أي شاعرنا ـ لا يُضيع الفرصة، فيعبر شجناً، ذاكراً همومه:
    فهلْ يَسْعَدُ القلبُ حيناً
    بإشراقةِ الموْجِ .. وهوَ رهينُ القَلَقْ؟

    وقولي لعمِّكِ: يا كمْ تعِبْتَ منَ السُّهْدِ
    .. والمَشْيِ في المُنتصَفْ
    وفي قصيدة "عرس أمينة" نراه في لحظات السعادة التي تعلن فيها أمينة (وأظنها الأم) عن فرحتها، وتطلب من البنات أن يزغردن لأن حسيناً قد نجح، حتى في هذه اللحظات السعيدة يختار حسين علي محمد أن يلتقط الصورة النقيضة، فعلي (وأظنه الوالد) تلمع عيناه بالدموع، وتصرخ النساء معلنات عن موت أمينة!:
    زنابِقُ الربيعِ تحتضرْ
    والسيِّدُ الكبيرُ ..
    أُبصرُ الدُّموعَ في عينيْهِ تنْفَجِرْ
    .. وتصرُخُ النِّساءُ :
    يا أمينَهْ !
    يا دُرَّةً مكنونَهْ
    إلى آخر الصورة التي يتذكرها الشاعر الذي آثر أن يضع الفرحة والسعادة، والبكاء والحزن لقطتين متجاورتين متضادتين، تبرز كل منهما الأخرى في موكب الحياة العجيب.
    *
    هذا هو الشجن حزناً ممتزجاً بالحنين في أكثر قصائد هذا الديوان، فما بالنا بالرثاء الذي لا يحتاج القارئ إلى جهد يذكر في اكتشافه أيضاً، إلى جوار اللقطات السعيدة؛ فبضدها تتميّز الأشياء.
    فعبد الله السيد شرف الذي كان يقف مفجراً شعره الجميل الأخضر، وحوله الأصحاب يحلمون .. قد غاب إلى الأبد، صورة سردية خبرية بسيطة، ومن بساطتها جاءت عبقريتها:
    ما عادَ عبدُ اللهِ غاضِبا
    من الغزالةِ الشقراءِ فوقَ العُشْبْ
    وقُرْصُ شمسِهِ البعيدْ
    يغرُبُ في السَّماءْ
    ما عادَ يسْألُ السؤالَ ، أوْ يُعِيدْ
    قدْ سافرَ الأحبابْ
    فمنْ تراهُ باكِياً صبيحةَ الغِيابْ ؟!
    هكذا ينتهي الشاعر حسين علي محمد من قصيدته التي اعتمدت على الجملة الخبرية البسيطة في أغلب تشكيلاتها، راثياً صديقه عبد الله السيد شرف.
    هكذا ينتهي بهذه الجملة الخبرية، كآخر خبر في السياق "قدْ سافرَ الأحباب" ثم يأتي فجأة بالسؤال: "فمنْ تراهُ باكِياً صبيحةَ الغِياب ؟!".
    وفي قصيدة "انكسار" يبدو الشجن غالباً، فالصور والألفاظ كلها نتاج طبيعي لهذا الشجن؛ فالمدن تنكسر بقلبه، وأقلامه جفّت، وحتى تعبيراته تكسّرت خطوطها على الورق، ونراه يبصر نفسه كهفاً مهجوراً، يذكر موت الأم (وهو صغير في العاشرة) لدرجة أن صاحبته التي يتحدث إليها، تطلب إليه أن يمتنع عن الحديث عن الأموات:
    أَكْرهُ قِصصَ الأمواتِ ،
    فحدِّثني عنْ نفسي الآنْ !
    ...
    ...
    ألْقَتْ فوقَ الرملِ النَّعْشَ
    نظَرْتُ إليْها ..
    كانتْ تمشي كالبحْرِ ..
    وساقاها يصطفِقانْ !
    وهكذا لو أمعنا النظر إلى أغلب القصائد لطالعنا هذا الشجن والحنين، لكن ذلك لا يعفينا من إمعان النظر إلى تلك القصيدة الفريدة الخريدة "دموع الحاسوب"، والتي صبّت في الحاسوب نوعاً فذا من الحياة التي جعلت الحاسوب نفسه حزيناً، ولم يكتف بحزن الحاسوب، وإنما في هذا الحوار الذي دار بينه وبين حاسوبه الحزين نرى الحاسوب يوجه للشاعر الأسئلة، التي يبوح فيها الأول بشجنه، ويلحظ شجن صاحبه:
    هذا الحاسوبُ يُحدِّقُ فيَّ ..
    يُحادِثُني صبحاً ومساءْ
    لمَ لمْ تُبصرْ
    دمعي المتخثِّرَ .. والأنْواءْ ؟
    في أوراقِ الأمسْ ؟
    لِمَ لَمْ تبصرْ طابعتي ..
    وهْيَ تُنادِمُ نافذتي ..
    بحروفِ الهمسْ ؟
    لِمَ لَمْ تأكلْ طبقَكَ ،
    لمْ تشربْ قهوتَكَ
    ونايكَ مُرْتَهَنٌ للحزنِ
    وفُقْدانِ الأُنسْ .. ؟
    *
    يا حاسوبي الساهرَ في أحنائي
    والحالِمَ بالضَّوْءِ وبالسَّعْدْ
    سافرَ أحبابي ..
    تركوني في دائرةِ الوجْدْ
    وانفضُّوا منْ حوْلي ..
    تركوني في سِردابَ الفقْدْ
    انفضُّوا .. فرداً .. فرداَ
    وبقِيتُ أُعاني ..
    من وطْأةِ أحزاني
    في مَجْمَرةِ البُعْدْ !
    *
    هذا شايٌ باردْ
    لنْ التفِتَ إليْهْ
    لنْ أُبعِدَهُ عنْ طاوِلَتي
    في هذا الصُّبْحْ
    فالحاسوبُ يُراقِبُ بادِرتي
    هلْ يُمليني شيئا من حكْمتِهِ
    ويُداوي الجُرْحْ ؟
    وهكذا نرى الشجن بوضوح، كما نلمح بعض أسبابه في معظم قصائد الديوان. وإذا كانت هذه الدراسة تنصب على ملمح فني ونفسي واحد من ملامح كثيرة لتجربة حسين علي محمد فإني أكتفي بهذه الأمثلة التي قدمتها من ديوانه الجديد "النائي ينفجر بوحاً".
    ولعلي بذلك أكون قد قدّمت ملمحاً أصيلاً في قصائد هذا الديوان، وهو الشجن أو الحزن الممزوج بالحنين، مشيراً إلى أسبابه الاجتماعية والنفسية، حيث الغربة عن الوطن الأصلي مصر، والصاحبة النقية التقية والذرية، والغربة عن مراتع الصبا والشباب، والحنين إلى الأصدقاء الراحلين عن عالمنا أو الذين لم يزالوا يقيمون، ولكن بعيداً عن العين.:
    وما وطنُ الإنسان إلا الذي له به سَـــكَنٌ يشتاقُهُ وحبيبُ
    أدعو الله سبحانه أن يُذهب عن شاعرنا الحساس كل حَزن، وأن يملأ حياته سروراً ونشوةً، والله المستعان، وعليه قصد السبيل.
    بدر بديــر


    </i>

  9. #19
    (15 ) الآخر في شعر حسين علي محمد

    بقلم: مصطفى النجار
    ........................

    «الرحيل على جواد النار» عمل شعري جديد يهل به علينا الشاعر حسين علي محمد من مصر الشقيقة، مُضيفاً إلى أعماله الشعرية والنثرية العديدة خطوةً على طريقٍ قطع منه شوطاً بعيداً، وملمحاً في شخصية تكتمل وتنضج، وآثر الشاعر ألا يتخلى عن أدواته الفنية التي عُرف بها، وأن يحتفظ بسمات شعره من غنائية وبساطة ونثرية محببة، وحوار داخلي (مونولوج) ومونتاج سينمائي، مُضيفاً إليها بشكل أوسع (الدراما).
    فالشاعر مازال على تماس مُباشر مع فنون الأدب والقول في مسرح وصحافة وتعليم، فرسالته للماجستير كانت في المسرح الشعري عند عدنان مردم بك، ورسالة الدكتوراه كانت بعنوان «البطل في المسرحية الشعرية المعاصرة»، ولا بد أن تنعكس هذه الأنشطة بأي شكل من الأشكال على أدبه وشعره، سواء ما تم إنجازه وما سوف يتماثل إلى النور، فالشاعر ابن بيئته وعصره الذي يعيش فيه، مهما زعم بعضهم باستبعاد البيئة بناسها وحيواتها المختلفة، واستبعاد شخصية المبدع عن نصه المُنجَز.
    والشاعر حسين علي محمد يُعلن في شعره عن تواصله الحميم مع البيئة ومع الآخر، وهذا الآخر إما أن يكون من شخصيات مُعاصرة ـ وغالباً ما تكون من الشعراء والأدباء ـ وإما أن يكون من الشخصيات التاريخية التي يُلقي عليها بعض ظلال العصر الراهن.
    ومن يتصفَّح مجموعاته الشعرية يجد مصداقية هذا الرأي؛ فهناك إهداءات يُتوِّج بها قصائده، مستوحاةً من أدباء وشعراء، ومهداةً إليهم في آن. وقد سار على هذه السنة الكريمة في «الرحيل على جواد النار» فأهداه إلى صديقه الدكتور صابر عبد الدايم من منطلق الشعر والمُعاناة الواحدة، كما أهدى قصيدة «دمعتان» إلى الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور، وهي قصيدة مدوّرة، تحفل بمؤثرات هذا الشاعر المجدد الرائد، وهناك قصيدة بعنوان «الأسوار» مُهداة لإلى صديقه الروائي محمد جبريل، كما أهدى قصيدة «الصوت الأخضر في غابات القيظ» إلى صديقه الناقد الدكتور علي عشري زايد، حيثُ يقول:
    صوتُكَ يأُسرُني
    يأخذني منْ عبَقِ الموتِ،
    ويُبعدُني عن لحظةِ كدَرٍ
    تمتدُّ بعرضِ الساعاتِ / الأيامِ / الأشهُرِ
    قل لي أينَ ذهبتَ
    لماذا غابتْ كلماتُكَ ـ نهرُ الحبِّ الدّافقِ عنِّي ؟
    إني أغرقُ في اللحظاتِ السودِ
    ولا أجدُ القشَّةَ
    هلْ تُعطيني لحظةَ ضوءٍ مُشبعَةٍ بالودِّ الأخضرِ ؟
    ومثلما يتعامل مع شخصيات مُعاصرة فهو يُدير حواراً مع شخصيات تاريخية ويتفاعل معها، يستبطن الأعماق، ويتخذ منها أقنعة أو ما يُشبه (المُعادل الموضوعي) لحشد أفكاره، وجيشان عواطفه، ويتجلى ذلك في قصيدته «الرحيل على جواد النار» وهي من مكابدات عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ ، ومتفرعة إلى عناوين صغيرة:
    1-خطوة أولى.
    2-لحظة كشف.
    3-يشتعل الجسد الفارع.
    وقصيدة «أغنية خضراء إلى حلب» هي من يوميات الشاعر الفارس أبي فراس الحمداني، وهي قصيدة مدورة تتلاءم مع الشخصية القلقة السجينة، ذات الأنفاس المُتلاحقة واللاهثة، كما أشارت إلى ذلك التوافق بين مضامين الشعر المُعاصر المتوترة اللاهثة وبين هذا النمط وبذوره وشيوعه بين شعراء هذا العصر الصاخب (الشاعرة نازك الملائكة في دراسة لها). وفعلاً وجدتُ أن نفسية أبي فراس المضطربة تلاءمت مع الشكل الذي أدار الشاعر عليه يومياته:
    أرسفُ في قيْدي في مدنِ الثلجِ،
    وقلبي عصفورٌ غَرِدٌ
    يحلمُ بربيعِ الأرضِ،
    ولا يعبأُ بالطرقِ الضيقة الوعْرةِ
    في جَبَلِ الأصداءْ
    *
    أرسفُ في قيدي، والحرْبةُ تُغمدُ في الصَّدرِ،
    ولكني أركبُ فرسي،
    أخرجُ منْ أسْرِ الذاكرةِ الصلبةِ،
    أُبصرُني أبني فوقَ الأنقاضِ بلاداً
    تفتحُ حضنيْها للشمسِ،
    ويحيا فيها الأطفالُ جميعاً سعداءْ
    *
    يصحو الطَّمْيُ،
    وينتفضُ سياجُ النيلِ عفيا وسخيًّا،
    هذا الوعدُ قديمٌ يا حلبُ الشهباءُ،
    وإني أرسمُكِ الليلةَ قوْساً قُزحيًّا في ذاكرتي،
    وشْماً ناريًّا في جسدي ..
    ويُحاصِرُني حبُّكِ
    أسقُطُ في حَلَقاتِ الوجْدِ،
    وأعشقُ رنَّةَ صوتِكِ
    نبضةَ قلبِكِ،
    كيفَ أُحوِّلُ هذا الحبَّ الكاسِحَ جمرةَ نارٍ،
    فتفُكَّ القيْدَ ..
    فلا ينتفضُ الأطفالُ من الرُّعبِ
    ولا تتعقَّبُ خطوَهمُ الأخضرَ أصداءٌ الأشلاءْ؟
    *
    منْ فوقِ السورِ أُنادي:
    يا حلبُ الشهباءُ، تعاليْ
    فالأرضُ الحُبْلى بالأحزانِ مُضمّخةٌ
    بالقولِ الفجِّ،
    وحاناتِ القردةِ
    والأطفالُ على الطرقاتِ يريدونَ الفجرَ الأخضرَ،
    يقتسمونَ رغيفاً ملحيًّا
    يرسمُ كلٌّ منهم في كراستهِ النوريةِ
    وشماً أخضرَ منتطقاً بالسيْفِ،
    تعاليْ،
    صدري مفتوحٌ للحربةِ كيْ تُغمَدَ فيهِ،
    وإني عاشقُكِ الصَّامدُ في زمنِ الرِّدَّةِ
    عاشقُكِ الحالمُ بورودٍ بيضاءَ،
    وشارةِ حبٍّ خضراءَ
    تُطرِّزُ أوجهنا بالظلِّ الطيبِ
    في ساعاتِ القيْظِ وطُرُقِ الأنواءْ
    والشاعر في هذه القصائد المطولة مثل قصيدة أبي فراس الحمداني يختلف إيقاعه عن القصائد القصيرة، التي تعتمد على السطر الشعري أو الدفقة الشعرية القصيرة، حيث نراه يقول في قصيدة «العودة إلى مكة»:
    وصَلَتْ كلُّ خيولي
    عيناي معلقتانِ على فمك الفيروزيّْ
    يمكنني الآنْ
    أن أحلمَ بالفاكهةِ الصيفيةِ في نيسانْ
    وحيث يقول في «مقطع من دفتر قديم» من قصيدة «صهيل الجواد الخشبي»:
    لو أملكُ يا ملكةَ أحلامي كلَّ كنوزِ الدنيا
    لجعلتُ النهرَ المخصِبَ ملكَ يمينكِ
    تغتسلينَ ..
    وتمتشقينَ السيفَ
    وتنتفضينَ
    وأركضُ بينَ يديْكْ
    يا أجملَ وجهٍ في عالمنا
    وهناك في شعر حسين علي محمد، ومن زاوية التواصل الحميم مع الآخر نوع من الشخصيات التي يُطلق عليها تسميات، مثل: الرجل الأجوف، وجه ميت .. تتعمّق ملامحُها بوساطة الحوار، وأسلوب الحكاية والقص المشوق، وبصيغ التساؤل:
    تنادوْا لقتلي
    وكانتْ معي زوجتي …
    فخافتْ وقالتْ:
    أما قلتَ من زمنٍ موغلٍ في العذابْ
    بأنَّ السحابْ
    سيومضُ برقاً وأنت بعيدْ
    وحين تجيءْ
    ستُغلَقُ صفحةُ هذا الكتابْ؟
    ويبقى هناك نوع يُشير إلى ذاك الآخر القابع في أعماق الشاعر، وهذا الآخر مبثوث هنا وهناك في معظم قصائده: الآخر الداخلي ما هو إلا انعكاس شخصيات خارجية؛ ففي قصيدة «ملامح وجه ميت» تشكيل لافتٌ للنظر، يتألف من مقطعات ذات عناوين: توطئة، ثرثرة مقتضبة، مما قاله، والمقطع الأخير: صفحات من مذكراته خلال عشرين سنة، تتضمن سطوراً تتسلسل تاريخيا (1956، 1961، 1967، 1970م)، وفي كل هذا كما يبدو نمط تسجيلي واقعي، ولكني لاحظتُ أن هذا التشكيل لا يتنافى من داخله، والعلاقة بين الجزئيات غير معمارية، لكنها خاضعة للحدث الداخلي. وهذا لا ينفي مدى ما يتركه هذا التشكيل من إدهاش!!
    كما أن اعتياد الشاعر على التبسط في الإفضاء والمُشافهة مع القارئ في معظم قصائده، هذا الاعتياد ـ وهو سمة بارزة ليست في هذا الديوان فحسب، وإن كانت إيجابيةً فيه ـ فتراه في القصائد القصيرة المعتمدة على الومضات واللقطات المكثفة، يؤثر تأثيراً يُخلخل من بنية اللفظة، وإلا ما معنى ما ورد في المقطع الأول:
    كنا نجلسُ في واجهةِ المقهى
    نتطلّعُ ..
    نتحدَّثُ ..
    يتفحّصُ كلٌّ منا ذاتَه
    وأخيراً
    صافحني وجهُهْ
    أخجلني
    فلقد فارقني من عشرينَ سنهْ
    أرسلَ لي أكثرَ من مرَهْ
    لكني
    كنتُ أُغلِّفُ نفسي في شرنقةٍ
    كيْ أُبعِدُها عن ثرثرةِ الخلاّنْ !
    إن الروح المسرحي مسيطر على جو الديوان؛ فالحدث، والحوار، والمباشرة، والشخصيات .. مفردات هذا المناخ الذي يصبغ شعره بنكهة ديناميكية، وتنتقل بالقصيدة المُعاصرة من الغنائية إلى الدرامية، وفي هذا كسب جديد للشعر العربي المُعاصر، وإضافة تُذكر إلى ديوان الشعر العربي القديم.
    ويبقى الشاعر حسين علي محمد يكن كل الود إلى قرائه، وما «الآخر» إلا وجه من وجوه هذا الود الحميم، تبدّى بالتعبير عنه صدقُ الفنِّ والقولِ معاً.


    </i>

  10. #20
    ( 16 ) إشكالية البوح والكتمان في «حدائق الصوت»
    للشاعر حسين علي محمد

    بقلم: حسني سيد لبيب
    ...........................

    يحرص الشاعر حسين علي محمد على التعبير عن إرهاصات ذاته الموزعة، والأمل الأخضر، والزهو بماض يرى فيه الطريق الذي ينطلق منه إلى غد مشرق، وأبرز ملمح لقصائد ديوانه "حدائق الصوت"(1) هو تميز صوت الشاعر الذي ينتظر خلاص الذات بالإيمان. ولتسمية الديوان (2) إشكالية من حيث كونها شعاع ضوء كاشف عن هوية الشاعر. أما كان الأجدر به أن يسميه "حدائق الصمت"؟ فلماذا آثر "الصوت" على "الصمت"؟ إنه صوت الشاعر المغنِّي، يأتي من حدائق غنّاء تُبشِّر بالأمل الأخضر، بعيداً عن صخب الأباطيل، والصوت تأكيد للهويّة، وإن كان مُقطّع الأنفاس، إلا أنه مفعم بالإيمان والرؤى الواعدة، وفي الصوت إيجابية تطرح سلبية الصمت.
    ولا مشاحة في أن هموم الوطن هي الهاجس المؤرِّق للشاعر، ومن تواريخ القصائد نجد معظمها كتب في صنعاء حيث كان يعمل (1984-1989م) لكن آفاق الوطن تمتد وتتسع، فتتكاثر الهموم تاريخاً ونضالاً، وفي قصيدة "فواصل من سورة الموت" تتفتّح أمام الشاعر صورة حزينة للوطن الذي يخرج من سكرته فيضرب في وهدة حيرته، وتتسع رقعة الوطن باتساع الهموم، فإذا به "وطن يخرجُ من تيهٍ / كيْ يضربَ في تيهْ". والشاعر تُضنيه أوجاع الوطن، لكنه لا يبين ولا يفصح، مكتفيا برسم رقعة الوطن، وفي رسمه إيماء ورمز، دون أن يُصرِّح أو يصف أو يُشخِّص.
    وهنا يُطرح سؤال عن وظيفة الشعر ورسالة الشاعر، فبعد أن كان الشاعر صريحاً في قوله، فيّاض الشعور، مسترسل الكلام عن قضيته وآلامه وآماله .. إذا بالشعر الحديث ينفض يديه عن كل كلام صريح، متدثراً بالصورة الفنية التي ترسم اللوحة التشكيلية، ويرتد الشاعر إلى إيماءات وومضات، تارة يستعيرها من التاريخ القديم، وأخرى بتقطيع القصيدة إلى مقاطع معنونة.
    وقد أُغرم الشاعر بتقطيع قصائده على هذا النحو، مستهدفاً أن يرسم بها صوره الفنية وأخيلته، من منطلق أن القصيدة في النهاية ما هي إلا لوحة جمالية لا تكتمل بمقطع واحد، وإنما بمجموع المقاطع .. وتعمل هذه المقاطع على تسليط الأشعة الضوئية الكاشفة للصورة من زوايا مختلفة، بغية تجسيدها أو تعميقها او شحذ الخيال، مثل المجسّم في الفراغ، تتحدّد أبعاده الهندسية بالطول والعرض والارتفاع، فيتكوّن المنظور الحقيقي للشكل بالأبعاد الثلاثة، لعل المقاطع تفيد في مثل هذا الاتجاه .. لكنها لا تكون مقاطع مبعثرة، تنتفي منها الغاية، وإنما هي تخدم الصورة الشعرية والموضوع، وترقى بالخيال وصولاً إلى تشكيل جمالي.
    وتتكوّن قصيدة "القمر" من ثلاثة أصوات، والتقسيم من عندنا، فالصوت الأول وصفي: قرص النبيذ ـ قبضة الدماء ـ وردة الحنّاء ـ قطة تموء ـ موجة تفيض .. وهو في وصفه للأشياء يرسم صورة بالكلمات مثلما يرسم الرسام صورته بالألوان والظلال. هذا عن الجانب الوصفي. أما الصوت الثاني فيبوح به في صيغة الخطاب / السؤال (الاستفهامي) في محاولة للكشف عن شخصية سيده في مدن النيون والظلام .. وتركه هذه المدن وغيابه. أما الصوت الثالث فرد فعل الغريب، الذي يُعطي الجواب بأنه يُحب ويعطي، وضمن ما يُعطيه موائد الأحلام، لكن الضمير المتكلم يظلُّ يُحاوره، فيرد على جوابه بأنه يُعطي القصائد الأوهام، ويمضي الغريب في سلام.
    ماذا يريد الشاعر أن يقول؟ أهي محاولة لتصوير غربته في دنيا الضجيج والزحام؟ أم أن صوت الشاعر في دنيانا ضعيف إزاء إغراء الماديات الطاغية الضاغطة؟ وماذا عن عنوان القصيدة "القمر"؟ هل يقصد به ظهور القمر مرة كل شهر، وأنه يبدأ هلالا ثم يكبر حتى يكتمل ثم يضمحل ويختفي؟ هنا نقف على مغزى العنوان، وارتباطه القويّ الدلالة بالمعنى، فالقمر هنا بُعد رابع مكمل للوحة التشكيلية المسماة "قصيدة" رغم عدم ذكر "القمر" لفظاً في سطورها، مكتفياً به عنواناً رمزيا، هنا تبرز حساسية الشاعر في تلوين القصيدة، ويبرز تميزه في تعدُّد الأصوات، وتغيير الصياغة من مقطع إلى آخر، بحيث تكون الصياغة دالة على المعنى رامزة له.
    وفي قسيدة "فواصل من سورة الموت" .. يتحدّث عن الوطن، فيقطع القصيدة بعناوين: "الخروج ـ التيه ـ فاصلة الجرح المناوب ـالموجة". فالحروج من السَّكرة يجعله يضرب في حيرته، وهو يرسم خريطة للصمت فيخرج من تيه كي يضرب في تيه، إلى أن يصل إلى نقطة اللاعودة. وهي حالة إحباط موئسة .. ويشير إلى الغزاة الذين يأكلون البقرات السمان .. لكنه لا يبين ولا يُفصح، وإنما يرتد إلى جنات عدن، محلقا في مملكة الله، وماذا بعد التيه؟ يقف الشاعر عند محطة انتظار، هي المقطع الثالث "فاصلة للجرح المناوب" طارحاً أسئلته بثلاثة أبيات من الشعر العمودي، وكان يُسطِّر في المقاطع الثلاثة الأخرى كتابته الشعرية متحلِّلاً من الشكل العمودي وإن لم يتحلل من الوزن الشعري، في إشارة واضحة إلى أهمية عودة الشاعر إلى الجذور، واكتشاف الهوية، لكنه لا يُضمِّن شعره مثل هذا المعنى، وإنما استخلصنا المضمون من حرصه على الشكل العمودي في طرح أسئلة تبينُ عن لحظة تنوير، كما أنه يتحلل من الكتابة الشعرية الرمزية، والإيماءات، ويصل إلى السؤال المباشر، أو البوح بعد طول كتمان، يقول:
    ما الذي يقطعُ الصمْـتَ غيرُ ندا ئكَ: أقبلْ إليَّ ، وكنْ لي الغناءْ ؟
    ما الذي يقْهرُ الرُّوحَ غيرُ فحيـ حِ الغـرائزِ، غيرُ جميلِ النداءْ ؟
    ما الـذي ظلَّ يقبرُ فينا صلا ةَ النبيينَ غيرُ هوى الشعـراءْ ؟
    والأسئلة الثلاثة ـ بوضوحها ونصاعة بيانها ـ تقف بنا عند لحظة تطهير وتنوير .. فالشاعر في غربته، وقد استشرف الرقعة الواسعة للوطن مترامي الأطراف، وأبان عن الإحباط والتيه، وحذّر من الغزاة، نجده يطرح الأسئلة التي في إجابتها الخلاص والطهر والصّفاء. وفي المقطع الرابع "الموجة" يتوق الشاعر إلى العودة بحراً إلى وطنه مصر .. لتوقظُ أعراسَ الحُلْمِ / مواسمَ فجْرِ القلْبِ" ويصف وطنه الذي يتدحرجُ في صبْوتِهِ، ألقأً يتوهّجُ في غُربتِهِ ..وتنتهي القصيدة رباعية المقاطع بصرخة منفلتة:
    أيتها الموجةُ
    هُبِّي برحيقِ الموْتِ
    تعاليْ بدبيبِ الوحشةِ
    ولْيُغرقني موْجُكِ
    ولْيعصِفْ بضلوعٍ هشَّهْ
    فالبرزخُ فيهِ متَّسعٌ لوميضِ الدَّهشهْ !
    ويتزيّا الشاعر بزي الجنرال، ويخطب قصيدته القصيرة المركزة المكثفة في ثلاثة مقاطع، وإن كان الشاعر/ الجنرال لا يبين عن شخصيات من يتوجّه إليهم بخطبته .. ولعله يخاطب الإنسان أيا كان منبته ومشربه، وهذا أرجح وأوقع، لاسيّما أنه ضمْن دعوته رغبة في الرقص والعزف والغناء، وإن تكتَّم تباريح الفؤاد، وما يُغنِّيه أغنيات يُقلق بها الثوابت، ويفاجئنا في ختام القصيدة أن نصره تقاسمه الصمت والأدعياء‍ هنا تتكشّف مأساة الشاعر الذي تزيا بزي الجنرال، أو الجنرال الذي تزيا بزي الشاعر. وتعد القصيدة وعنوانها "خطبة قصيرة للجنرال" ـ بصياغتها وإيقاعها السريع ـ نفثة شاعر مصدوم، يُعاني من الأدعياء وسارقي نصر الآخرين!
    وثمة قصيدة طويلة بعنوان طويل أيضاً: "من إشراقات عمرو بن العاص أو التحديق في وجه الشمس" وتنقسم إلى عشرة مقاطع، وقد أفسح التقسيم المقطعي المجال إلى للانتقال من حالة شعورية إلى أخرى، لكننا نبحث عن الترابط العضوي بين المقاطع العشرة. وقد أتاح طول القصيدة المجال للركض عبر صفحات التاريخ الإسلامي العربي، فيلتقط رموزاً تُثري المعنى، وتُضفي عليه نوعاً من التاريخ غير مقروء، او أن دائرة الضوء لا تقترب منه كثيراً.
    وأذكر كتاباً أصدره الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي بعنوان "من تراث مصر الإسلامية"(3) .. كان تأريخاً لفتح مصر، وبناء مدينة الفسطاط، وجامعة الفسطاط الإسلامية، وكانت فترة ازدهار للعلم والآداب والفنون، ويكتب الشاعر حسين علي محمد قصيدته هذه من وحي إرهاصات تلك الفترة .. جوّالاً في أماكن تاريخية، ذاكراً أعلاماً يستضيء بسيرهم التاريخ، ووقائع مجيدة. لكن الشاعر لا يسترسل في بيان الرمز أو التدليل على مغزاه، وإنما يُسلِّط أشعته الملونة، يستبطن بها الحالة النفسية المراد التعبير عنها.
    فلنحاول قراءة مقاطع القصيدة العشرة، ليس الهدف منها تفسيرها أو شرحها، وإنما لبيان الانطباع الأوّلي / التلقائي الذي يستشفه المتلقِّي الذواقة للشعر، بغير خوض في تنظيرات نرى أنها قد تؤدّي إلى تلغيز النص.
    المقطع الأول:"منازلة الغيث":
    والمنازلة مفتتح لصراع واقتتال وتحد، والغيث وجه الحياة الخصيب. الصراع أحد أوجه الحياة .. والراوي الشاعر يعمد إلى تكثيف صور الإحباط، منذ امتطاء صهوة جواد مخاتل، وركضه في صحراء العيون بحثاً عن إخوة الصَّيْد. ونقف عند تساؤله الذي يشي بالمرارة: "فكيف نصيدُ الصقورَ ونحنُ نُصادْ؟". والراوي يعتريه خوفٌ، ويُطرح أرضاً. فالإحباط والخوف يؤديان إلى الهزيمة أمام خيول الشراسة، وثمة صورة أخرى للانكسار والهزيمة في قوله:
    على أضلُعي جبلٌ
    والعنادلُ ترثي فتاها
    خرجتُ وحيداً إلى الغيْثِ
    نازلْتُهُ
    فسقطْتُ
    وكالشَّبحِ الشَّفقيِّ نهضْتُ
    تحرَّكْتُ
    أبصرْتُ سرْبَ عنادلَ في الظُّلُماتِ
    يقولُ: تقدَّمْ
    رأيْتُ الجبالَ تكرُّ ،
    شهِدتُ الرجالَ تفِرُّ،
    النقاطَ تُغادرُ أحرُفَها ..
    تتسرّبُ كالماءِ منْ راحةِ اليَدِ
    كانَ جوادُ "سُراقةَ" في الرَملِ يهوي
    ويغرقُ
    واللوحُ فيهِ أساورُ كسْرى
    وخلْفي جيوشُ أبابيلَ
    تُمطرُني بالصَواعقِ
    ترصُدُ خطْوي
    ورغم الصورة المأزومة للبطل / الراوي .. إلا أنه مازال يبوح بأنات قلبه المعذب، ومازال يحمل سيفاً، ولا يستسلم. وينطلق صوت الإصرار والتحدِّي قائلاً: حملتك مكةَ في أضلعي" و"إني رأيتُكِ ـ مكة ـ في الليلِ تمتشقينَ الحسام".
    المقطع الثاني: "تهليلة إلى رايات مكة":
    والإرهاصة التي أنهى بها المقطع الأول، تفتح الطريق إلى المقطع الثاني، حيث يتجه إلى مكة بالتهليل والدعاء والمل والرجاء.
    المقطع الثالث: "بيت في الريح":
    والبيت الذي في مهب الريح مهدّد بالانهيار، فيعود للشاعر أنينه المكتوم، تهفو نفسه إلى يثرب وإلى الرسول الكريم  ، ورعشة حلم تتألّق في العيون، وقلب متفائل يُسافر في غيمة!
    المقطع الرابع: "أشعل النار":
    والعنوان ينتقل بالمتلقي من دائرة الحلم إلى دائرة الفعل. وفي سطور المقطع مزج بين الحلم والفعل (أو الواقع) كقوله "أعزفُ لحناً" يعقبه قوله: "أحلمُ بالظلِّ" .. و:
    أفتحُ شُبَّاكَ قلبي ،
    أُفتِّشُ فيهِ عن الحُبِّ
    أُبصِرُ فيه بقايا من الأمسِ
    ويرى مكة شاهقة كالسماء، ناحلة كالنخيل، ويبشر بمشرق الشمس منها.
    المقطع الخامس: "أهازيج مكة":
    حيث يتوجه بالخطاب إلى مكة:
    ووجْهي الكسيرُ يُناجيكِ:
    مكةُ ..
    هذي أغانيكِ
    تهزِجُ
    هذا زمانُ الولادهْ!
    المقطع السادس: "اللآلئ تضيء بكفَّيك":
    وفيه لحظة توهُّج وصدق رؤية .. ذلك أنه مزج بين التسلسل النامي للمقاطع وذاته المغتربة. ونجد النفس الشعري يُطاوعه بطلاقة، إلا أننا نقف عند السطر الشعري:
    فأعينُك العشرةُ الآنَ تسرُدُ حلماً شهيًّا
    محاولين تفسير ما يرمي إليه بقوله "الأعين العشرة" .. يقودنا ظن بأنه يعني بها المقاطع العشرة للقصيدة. وإذا صدق ما ذهبنا إليه، فإنه يوجز في هذه المقولة المراد بقصيدته على أنها "تسرد حلماً شهيا"، رؤياه مكة التي يتطلّع إليها، فهو يُناجيها ويُخاطبها، فهي القبلة والكعبة ، وهي الرمز المواتي لصنع غد مشرق بالإيمان، فالأعين العشرة هي التي تسرد حلماً شهيا، وهي التي:
    تصوغُ الأمانيَّ
    ترسمُ في الأُفْقِ قوْساً من الماءِ
    تطلبُ منِّي الرحيلَ لأصعدَ هذا النخيلَ المُشاكسَ
    المقطع السابع: "رياحين للذكرى":
    وفيه يرسم صورة متناقضة بين اندفاع الرجال نحو غرائزهم، فكيف تضحك مكة؟ ومكة رمز جاهز حاضر في مخيِّلة الشاعر، يضعه للإيمان المنشود إزاء تفكّك أواصر الصلة التي تربطنا بتاريخنا ورجاله، ويجرف الشاعر حنين إلى الليل والماء والنيل، وإلى "ليلى"، وإن كانتْ "ليلاه" ظهرت بصورة مفاجئة، ولا نعلم هل يقصد بها حبيبة تركها بأرض الوطن، أم هي إيماءة لأي "ليلى" حبيبة؟!
    المقطع الثامن: "محاورة صوت مشاكس":
    وتتحدّد ملامح الصوت المشاكس بصوت طفولي يقبر بوحه، ذي قناع يحاور سفراً تحنَّط، وفي محاولة لرسم وجهه الآسر، وقد أعياه القول والكر والفر، يقول:
    هلْ نتكاشفُ
    ندخلُ أرضَ البراءةِ
    يأتي علينا زمانُ اقتحامِ الورودِ؟
    والصوت المشاكس ماهو إلا ذات الشاعر المتقلبة الحائرة، ويدخل في محاورة داخلية عن بيت النبوة، وسيوف أمية والخوف منها، وسبع بقرات عجاف تُحاصر الشاعر في كل آن.
    المقطع التاسع: "محاورة ثانية":
    وهي محاورة مع وردة النهر، وينتقل في البلاد منقباً عن وجهها، يدفعه حنين وتوق للبوح، لكن الأحزان تطغى.
    المقطع العاشر / الأخير "العصافير والسنابل":
    حيث يرسم نهاية لإشراقات عمرو بن العاص، وينادي مصر بعاصمتها الإسلامية القديمة "وفسطاطنا"، وبداخله غضب شديد، يراقب النهر والشمس والسنبلة، ويرى مصر تخرج "فجرا من البرد المتوهج / سبع سنابلَ / تضحك". ويتساءل في النهاية:
    هلْ تمتطي صهوةَ الريحِ ثانيةً
    هلْ سنحْلُمُ
    نخرجُ منْ أسْرِ أحلامِنا المُثْقَلهْ ؟
    والقصيدة في مضمونها إرهاصات مغترب عن وطنه، يتطلّع إلى وجه الوطن وإلى مكة ويثرب وكل المدائن الإسلامية، ويتحسّر على مواجع عصره، بما فيها من كبت وكتمان، ووجه مغترب، سواء أكان الاغتراب لشخص أو مدينة. ويسترجع التاريخ، فيجد في الماضي بطش فرعون، وسيوف أمية. ويتوق إلى زمن البراءة والطهارة، يتوق إلى إشراقة الوجه الذي تتفتّح فيه الزهور، ويعود المغترب إلى بلده وإلى ذاته.
    ويستظهر صورة يثرب، رياض المدائن كما يسميها، وتاريخها المجيد الناصع(4)، وذاك سعد بن معاذ ـ  ـ يقول للرسول الكريم  : "لو خضت البحر خضناه معك"، وفي قصيدته "من أوراق سعد بن معاذ" مزج بين سيرة سعد وفروسيته وحسن بلائه، وتاريخ يثرب .. وحققت المزاوجة بين سعد بن معاذ ويثرب جمالا فنيا يُغري بالتذوُّق ومعايشة تجربة الشاعر معايشة حميمة.
    (يتبع)
    .............................................
    (1) د. حسين علي محمد: حدائق الصوت، ط1، مايو 1993، دار الأرقم للطباعة والنشر بالزقازيق،384 صفحة، ويضم الديوان أربع مجموعات شعرية، هي: «حدائق الصوت»، «زهور بلاستيكية»، و «من دفاتر العشق»، و«تجليات الواقف في العراء».
    (2) تقتصر الدراسة على المجموعة الأولى: «حدائق الصوت».
    (3) د. محمد عبد المنعم خفاجي: من تراث مصر الإسلامية، رابطة الأدب الحديث، عام 1996م.
    (4) قصيدة «من أوراق سعد بن معاذ» رضي الله عنه.

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. دراسات في فقه اللغة - محمد الأنطاكي
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-10-2015, 04:04 AM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-08-2013, 08:06 PM
  3. العمامة والوردة : فرانسوا نيكولو
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-10-2011, 06:57 PM
  4. مهرجان ابن أحمد يزين مدينة ابن أحمد المغربية
    بواسطة ابراهيم خليل ابراهيم في المنتدى فرسان الأدبي العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-09-2008, 09:37 AM
  5. «محمد الماغوط العاشق المتمرد»
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 11-12-2006, 09:49 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •