( 10 ) صوت جديد:
حسين علي محمد في «ثلاثة وجوه على حوائط المدينة»
بقلم: أحمد سويلم
.....................
ظاهرة تدعو إلى التأمل والدراسة معاً، تلك الأعمال الأدبية ـ الشعرية والقصصية ـ التي يُغامر أصحابها بإصدارها على نفقتهم الخاصة بعيداً عن أجهزة النشر التقليدية، فيسقط الكثير منها، ولا يصح غير القليل النادر.
ولو كان الأمر مجرد قدرة مادية على طباعة كتاب، لهانت كل المشاكل. ومع ذلك فأنا ألتقط اليوم ـ من هذا القليل النادر الواعد ـ صوت حسين علي محمد في ديوانه "ثلاثة وجوه على حوائط المدينة"، ومنذ البداية يُعرِّفنا حسين علي محمد على هذه الوجوه الثلاثة: الوجه الصامت الحكيم في مواجهة المحنة، والوجه الذي تحدّى المحنة بالعطاء والغناء، والوجه الجديد الذي جنى ثمار المعاناة في لقاء مؤكَّد بالحب والحرية. وهي في الواقع محاور ثلاثة لهذا الديوان تتحدّى مجرد ملامح الوجوه إلى غوص شعري في أعماق التجربة الجماعية انطلاقا من الحس الخاص.
يقول في قصيدة «ثلاثة وجوه على حوائط المدينة»:
الوجْهُ الأولُ وسْطَ ظلامِ المحنهْ
رفع السيفَ / القشَّ على الرأسِ وأغفى
واستلقى في مملكةِ الصَّيفِ ولمْ ينطِقْ حرْفا
وضعَ على الوجْهِ تعابيرَ الحكمةِ والفِطنهْ
**
الوجهُ الثاني رفعَ الكفَّ المغموسةَ بدماءِ الأطفالِ
وخضَّبَ أوجهَنا بالعطْرِ ، وقالْ
اليومَ أُغني ..
(غنى للساحاتِ الرحبَهْ ،
والمُطربِ ذي الصَّوتِ الفظّْ،
وكِلابِ السَّادَهْ ،
والقصْرِ العالي ذي الدَّرَجاتِ الألْفْ ،
وطِيبَةَ ذاتِ البوَّاباتِ السَّبْعْ)
وقالْ :
"الليلةَ عُرْسي يا أشْبالْ !"
غَنَّى ثانِيَةً ..
لكِنْ لمْ يبْكِ الأطْلالْ !
غَطَّى أوْجُهَنا بصراخٍ وضجيجْ
لمْ نُبْصِرْ شَيْئاً
(كانَ الفيَضَانُ الكاسِحُ يجْتاحُ مدينتَنا
بَكَتِ النِّسْوَةُ هلعاً ، والأطفالْ
والفتياتُ جَرَيْنَ عرايا
والوجْهُ الجيفَةُ يبْسَمُ
في بلَهٍ وخَبَالْ !)
**
الوجْهُ الثالثُ حارْ :
هلْ يُوضَعُ بيْنَ الوجْهيْنِ الإلْفيْنْ
أَمْ يَرْكبُ فَرَسَ النَّارْ ؟
**
في اليوْمِ التَّالي ..
كانتْ صحفُ القُطْرِ تُبارِكُ هذا المشوارْ
"منْ أجلِ مسيرةِ كلِّ الشرفاءِ الأحرارْ"
كانَ الوجْهُ الثالثُ ـ بيْنَ الوجْهيْنِ الإلفيْنْ ـ
مبتهِجاً بعجائبِ هذا الزمنِ الدَّوَّارْ
ولِقاءِ الثُّوَّارْ ! !
وفي سبيل ذلك التصاعد ينطلق حسين بين كثير من الرموز التاريخية، والمواقف الوجدانية والتأملية، في محاولة جادة للاقتراب من الشعر الصادق في مواجهة العصر، ورؤيته رؤية فنية خاصة.
وقد يشوب هذا الديوان كثير من الخطابية والصوت العالي، بالرغم من أن صاحبه لديه إمكانات البُعد عن هذا المزلق، كذلك جاء منهجه في تناول التراث واسترفاده تناولاً تاريخيا ـ في أغلب التجارب ـ يعني بالأحداث دون الأثر الوجداني المطلوب ـ وهذا في تصوُّري يحتاج من الشاعر أن يُعايش تراثه معايشةً أكثر إخلاصاً وحبا.
وصوت حسين علي محمد ـ في النهاية ـ يسير على طريق التجديد بكثير من الثقة التي سوف تزداد ـ قطعاً ـ لو أخلص في تطوير أدواته الفنية بعيداً عن طوفان التيّارات المتعجلة الارتجالية التي تُضيِّع أصواتها في الزعيق والإحباط وتعاني منها ساحة الشعر.
أحمد سويلم
................................................
* مجلة "أكتوبر"، العدد (148)، في 26/8/1979م، ص55.