منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 29
  1. #11

    رد: «نانوبيديا» واسب .. واندال .. ويرْد

    «نانوبيديا»
    شاي.. شانتي.. شوفيني




    دائرة معارف مصغرة في 30 حلقة عن مصطلحات ومسميات عاشت في زماننا، من هنا نقدم سبيكة معرفية نحكي فيها عن أصول الكلمات والمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمونها في حياتنا الراهنة.. من الانجليزية الى العربية.


    ومن خلال هذا الجهد الذي استغرق مراحل زمنية مطولة وعمد الى استشارة مراجع متخصصة شتى.. آثرنا أن نعرضه على شكل موسوعة عربية مصغرة نانو موسوعة رتبناها على حروف الأبجدية العربية من الألف الى الياء بحيث نخّص كل حرف منها بثلاثة مصطلحات يطالعها القارئ الكريم على امتداد أيام رمضان المعظم.


    شاي: في عام 2005 صدر في أميركا كتاب من تأليف توم ستانداج، وهو المحرر العلمي لمجلة الايكونومست البريطانية.. وبين سطوره حاول المؤلف أن يتابع تاريخ الحضارة الإنسانية على مدار عصور شتى، لا من خلال تطور المعمار مثلا ولا من خلال الحروب والغزوات أو حتى تقدم العلم والفكر أو الفلسفة..


    لقد اختار أن يتابع حضارة البشر من خلال المشروب الذي كانوا يفضلون احتساءه من زمن إلى آخر.. ومن بلد أو ثقافة إلى أخرى ولهذا جاء عنوان الكتاب على النحو التالي: .. تاريخ للعالم في ستة أقداح من بين هذه الأقداح كان طبيعيا أن يتوقف الكاتب الصحفي الانجليزي عند فنجان الشاي..


    هناك من يربط بين اسم الشاي وبين «تشاينا» الاسم الذي تعرف به الصين في لغات كثيرة.. وثمة أساطير صينية تقول أن أول من احتسى «كاسة شاي» في العالم كان الامبراطور الصيني شن نونغ في الفترة 2737 - 7972 قبل الميلاد.


    وفي كل حال فأساتذة علم النبات يصنفون شجيرة الشاي ضمن الفصيلة الكاميلية (كاميلا سبينانسيس) وترجع أهمية أوراق هذه الشجيرة إلى أنها ارتبطت - لا بمجرد كونها شرابا لطيفا ومنعشا فقط - ولكن ايضا إلى أنها أنشأت ما يمكن أن يوصف بأنه ثقافة «الشاي» بمعنى أساليب قطفه وخلطه وتحضيره واحتسائه.. الخ.


    وعلى خلاف مرطبات الكولا التي ذاع صيتها عند الأميركان ومن خلالهم، فإن الشاي مشروب له تاريخ طويل لأنه ارتبط بالتطور الحضاري وأحيانا بالصراعات والمشكلات الدولية التي شهدتها حقب شتى من مراحل العصر الحديث.


    ورغم أن الشاي يرتبط من حيث الأصل بالصين إلا أنه من حيث الثقافة وربما الاقتصاد ارتبط بالانجليز.. وعلى وجه التحديد بالمد الامبريالي الانجليزي الذي بدأ بعد حركة الكشوف الجغرافية التي حملت أساطيل بريطانيا إلى ما وراء بحار الشرق الأوسط ثم الشرق الآسيوي البعيد.


    وفيما أطلق الحاكم الإداري البريطاني سير جورج ماكارتني مقولته الشهيرة عام 1773 بأن «هذه الامبراطورية (البريطانية) لا تغرب عن ارضها الشمس» - فإن كاتبا انجليزيا هو سير سوثي سميت (1771- 1845) وجّه شكره إلى مولاه لأنه منح البشر مشروب الشاي وماذا كانت الدنيا ستصنع بغير هذا المشروب العجيب..


    الذي بلغ من أهميته خلال سنوات السيطرة البريطانية على أجزاء آسيا وأفريقيا.. وخاصة منذ أيام شركة الهند الشرقية في القرن 18 - الحد الذي جعل مؤرخين كثيرين يصفون لندن بأنها كانت «عاصمة امبراطورية الشاي».


    وإذا تأملت مسميات هذا المشروب الشهير في لغات وثقافات العالم لأدركت على الفور أن ثمة تسميتين هما الغالبتان.. أولهما «تي» في الانجليزية والفرنسية والإيطالية والاسبانية والألمانية ولغات اسكندافيا الشمالية (حتى الأندونيسية..) والثانية هي «شاي» ومشتقاتها الصوتية من التركية إلى العربية إلى التشيكية إلى الروسية..


    إلى سواحيلية شرق أفريقيا وحتى اليابان. وربما يكون الاستثناء، الذي لم نفهمه، عند أهل بولندا الذين لم يعجبهم فيما يبدو لا كلمة تي ولا كلمة شاي فإذا بالفرد فيهم يسأل ضيفه في مقاهي وارسو مثلا قائلا: - تحب تشرب هرباتو؟.. يعني شاي.


    ينمو نبات الشاي في المناخ الدافئ وخاصة في قارتي آسيا وافريقيا.. وقد استوردته شركة الهند الشرقية الهولندية إلى أوروبا نحو سنة 1600 للميلاد. وشرع الانجليز في استعماله منذ عصر اعادة النظام الملكي، وربما ابتهاجا بانهاء نظام جمهورية كرومويل في عام 1660 وبعدها احتكرته شركة الهند الشرقية البريطانية وبواسطتها دخل إلى المستعمرات الأميركية.


    ورغم أن مرطبات الكولا الأميركية التصنيع تعد من أشهر الأسماء شيوعا في العالم المعاصر إلا أن مشروب الشاي يعد أكثر المشروبات (المشاريب كما يقول عمال المقاهي في القاهرة) شيوعا في تاريخ العالم وحاضره لا يسبقه في الأهمية الحيوية سوى الماء بجلالة قدره في حياة البشرية.


    ليس صدفة إذن أن يختار الكاتب توم ستانداج الذي أشرنا إليه عنوانا للفصل الذي كتبه عن هذا المشروب العبارة التالية: .. قوة.. (أو سلطة) الشاي وبحكم جنسيته فهو يتوقف بقدر كبير من التأمل وربما من الاستعبار إزاء الصلة التي ربطت بين قدح الشاي وبين إزدهار الامبراطورية،


    وهو ينهي سطوره بالتأكيد على أن حكاية الشاي تعكس الجاه والسلطان اللذين تمتعت بهما امبراطورية بريطانيا حيث كان يتساوى في شرب الشاي القادة والجنود والوزراء والدهماء.. ومن يومها اصبح يصدق على الانجليز حتى الآن صفة أنهم شعب من شاربي الشاي..


    شانتي: كلمة تنازعتها ثقافات كثيرة رغم أنها تصدق على أوضاع من التعاسة والمشْغبة وقلة الحيلة وسوء الأحوال.. شانتي هو أساسا الكوخ البسيط لا بمعنى عدم التعقيد ولا بمعنى الرغبة في عناق الطبيعة أو الالتحام المباشر بمجاليها..


    إنها بساطة الفقر المدقع الذي يحتال فيه المرء على سوء الأوضاع فيذهب إلى الغابة إن وجدها.. كي يحتطب أو إلى مستودع النفايات يجمع خشبة من هنا ولوحا من هناك وبعدها يحاول أن يصطنع كوخا يفتقر إلى أبسط مقومات المرافق ولكنه في كل حال سقف..


    مجرد سقف يغني البشر عن التحاف السماء بمعنى أنه يسترهم عن عيون الآخرين (وهي الجحيم كما قالها يوما الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر) وقد يقيهم أنواء الطقس الذي لا يرحم قيظا في منطقة هنا أو زمهريرا في إقليم هناك..


    لأمر ما ارتبطت أكواخ شانتي بالمهاجرين الأيرلنديين إلى الأصقاع الأميركية وهناك من ذهب إلى أن الكلمة مشتقة من مقطعين في لغة هؤلاء الأيرلنديين وهما «شن» بمعنى قديم و«تيج» بمعنى بيت ولم يكن الأمر غريبا لأن الكوخ ما هو إلا بيت قديم أو مثوى متهالك إلى حد التداعي والتهافت.


    لكن البحث اللغوي الحديث عمد إلى متابعة أصل الكلمة فإذا بها وقد دخلت عمود الانجليزية - الأميركية ـ من اصل فرنسي وعن طريق الحدود الكندية.. يعني من الأقاليم الناطقة بالفرنسية الواقعة في كندا شمالي الولايات المتحدة ومنها بالذات إقليم كيبيك وعاصمته مونتريال ـ مونريال كما يحب أهلها أن ينطقونها في إيقاعها الفرنسي.


    الكلمة الفرنسية هي شانتييه ومعناها مستودع الأخشاب وهي بدورها مأخوذة من اللاتينية الأم «كانثيروس» التي تشير إلى دواب الحمل مثل الحمير أو الخيول التي تحمل الحطب فوق ظهورها آية على أنها من الطبقة الدنيا، طبقة الشغيلة من فصائل الأنعام. ويرجع أصل الكلمة بنفس نطقها اللاتيني إلى اللغة اليونانية وكلها تحيل إلى الأخشاب الرخيصة


    ومن ثم إلى الأكواخ الفقيرة التي يراها الناظرون أو الزائرون متراصة يتساند بعضها إلى بعض خوف التداعي والوقوع - ومن ثم فهي تشكل في مجموعها شانتي تاون أي أحياء الشقاء التي عادة ما توجد على أطراف المدن الكبرى بسبب الهجرات المرتجلة المتدفقة إليها من فقراء الأرياف والبوادي


    وأحيانا تكون هذه الأحياء الفقيرة موجودة في قلب العواصم والحواضر موروثة عن أوضاع عتيقة لم تمتد إليها بعد أيادي التمدين أو التطوير أو العمران ومن ثم فهي تحمل اسما دالا على أصلها وهو يرادف معنى «الأحياء ـ أو التجمعات الداخلية».


    شوفيني: في ذروة مجد بونابرت ارتفعت شعارات نابليون وخفقت راياته وذاعت انتصاراته فاتحا وغازيا وقنصلا وامبراطورا وبطلا تاريخيا.. وكان طبيعيا أن يحتشد من حول اسمه وأمجاده معجبون ومؤيدون كثيرون..


    ومن هؤلاء المعجبين عاش الجندي الفرنسي البسيط «نيكولاس شوفيني» أسيرا لكاريزما الامبراطور الذي كان يرى فيه البطل المغوار والإنسان العظيم.. وكان ذلك طبيعيا بحكم نجومية الامبراطور، وتواضع العسكري «شوفيني».


    لكن الذي لم يكن طبيعيا هو أن يظل المسيو شوفيني يردد شعارات الامبراطورية بعد سقوطها ويعلن اعجابه وولاءه لجلالة امبراطور فرنسا وزين رجالاتها وتاج رأسها نابوليون بونابرت.. رغم أن الأخير كان قد تحوّل من امبراطور في قصر ؟رساي في باريس إلى مجرد أسير مهزوم ومنفي في جزيرة سانت هيلانة في قلب البحر المحيط.


    راحت أيام الامبراطورية، وغربت شمس بونابرت.. وسكتت كل الأصوات وضمدت كل نوازع الحماس إلا عند نيكولاس شوفيني المذكور أعلاه الذي ظل حتى آخر أيام حياته، ورغم أن الدنيا تغيرت، يعلن عن ولائه للامبراطور..


    ويحتفل بمناسبات الامبراطور ويردد أمام القاصي والداني شعارات وخطب وأقوال الامبراطور.. وهكذا تحولت المسألة من وهج الشعور الوطني إلى حالة أقرب إلى الدروشة التي كانت مثار إشفاق البعض وسخرية البعض الآخر.. لكن فريقا ثالثا ما لبث أن اشتق معاني مهمة من اسم الجندي البونابرتي الساذج فكان أن بقي ذِكره في التاريخ..


    بعد أن تحول اسمه من «شوفين» إلى صفة شوفيني والى مذهب أو اتجاه سلوكي بل وسياسي وهو «شوفينية».. وكل هذه المسميات تصدق على المبالغة في التمسك المذهبي إلى درجة التعصب المرفوض بل والأحمق المأفون في بعض الأحيان..


    في النصف الأول من القرن 19 كان الشوفيني هو الوطني المتعصب لدرجة الانغلاق.. ودخل هذا المعنى إلى الثقافة الانجليزية مع أواخر ذلك القرن ليعني التعصب الأعمى لكل مبدأ أو مذهب أو فكرة أو نظرية. ومع تنامي الحركات النسائية المطالبة بحقوق المرأة..


    استعاروا ـ بالأدق استعرن ـ نفس المصطلح ليصدق على تعصب الرجل لذكورته وعلى حساب حقوق النصف الآخر من المجتمع. ومن هنا جاء تعبير شوفينية الذكورة.. ترى أليس هناك مرادف للمرأة التي تتعصب إلى حد الغلو لبنات جنسها؟ المشكلة أنه لم يصح لنا حتى تاريخه أن نصادف التعبير المرادف أو المقابل الذي يصف مثل هذه السيدة أو الآنسة بأنها فيميل شوفينست بمعنى «الأنثى المتعصبة» إلى حد خطير.


    يكتبها : محمد الخولي

  2. #12

    رد: «نانوبيديا» واسب .. واندال .. ويرْد

    نانوبيديا»
    صنداي .. «صامي» .. صندوق البريد




    دائرة معارف مصغرة في 30 حلقة عن مصطلحات ومسميات عاشت في زماننا، من هنا نقدم سبيكة معرفية نحكي فيها عن أصول الكلمات والمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمونها في حياتنا الراهنة.. من الانجليزية الى العربية. ومن خلال هذا الجهد الذي استغرق مراحل زمنية مطولة وعمد الى استشارة مراجع متخصصة شتى.. آثرنا أن نعرضه على شكل موسوعة عربية مصغرة نانو موسوعة رتبناها على حروف الأبجدية العربية من الألف الى الياء بحيث نخّص كل حرف منها بثلاثة مصطلحات يطالعها القارئ الكريم على امتداد أيام رمضان المعظم.


    صنداي: عندما احتاج الانجليز إلى تسمية شهور السنة فقد لجأوا إلى استعارتها من أصول لاتينية ولكنهم استوردوها عن طريق جيرانهم الفرنسيين.. حدثت هذه العمليات من الاستعارة والاستيراد في عام 1000 للميلاد أو نحوه، وهي الفترة التي شهدت تدفق العناصر الفرنسية بالغزو وبالهجرة وبالزيارة من شمالي فرنسا إلى الجزر البريطانية حاملة معها أساليب الحياة وموتيفات الثقافة الفرنسية ومفردات اللغة الفرنسية التي تطورت عن اللغة اللاتينية الأم. وكان أن طبعت بذلك اللغة الانجليزية التي وقعت تحت نوعين من المؤثرات كان أولهما المؤثر الجرماني - السكسوني وكان الثاني هو ذلك المؤثر الفرنسي - اللاتيني الذي أشرنا إليه فيما سبق من سطور.


    من ناحية أخرى ظلت أسماء الأيام مقتصرة في معظمها على المؤثر الجرماني. ويذهب بعض الباحثين إلى أن تقسيم الأسبوع إلى 7 أيام لا يرجع فقط إلى حضارة الرومان بل يرجع إلى عهد أقدم من ذلك وهو مرحلة الحضارة البابلية التي ازدهرت - كما هو معروف - في بلاد الرافدين، أرض العراق القديم. هنالك ربط البابليون بين أيام الأسبوع وبين الأجرام السماوية السبعة التي كانت معروفة في زمانهم.


    ثم ورث الرومان هذا الربط وهذا التقسيم فكان أن صاغوا من لغتهم أسماء الأيام وقد ارتبطت بالكواكب والنجوم وكان منها سولس دايس وهو يوم الشمس الذي أصبح أول أيام الأسبوع.. فهو الأحد (أي رقم واحد) ومن بعده ثاني الأيام وهو يوم القمر لوناي دايس (لوندي بالفرنسية) أي الاثنين.. ومارتس دايس الثلاثاء (ماردي) أي يوم الكوكب مارْس وميركوري دايس - الأربعاء وهو يوم الكوكب ميركوري الزئبقي - عطارد ومن بعده اليوم الخامس وهو يوم جوفس دايس وهو يوم كبير المعبودين جو؟، ويوم ؟ينوس فيريس دايس أي الجمعة وأخيرا يوم الكوكب زحل - ساتوري دايس.


    الثقافة الجرمانية التي نقل عنها الانجليز كان لها رأي آخر.. لقد عمدت لا إلى نقل أيام الأسبوع بالصيغة السابقة ولكن إلى ترجمة معانيها.. وهكذا أصبح القمر مثلا هو مون داي (منداي الانجليزية) وأصبح يوم الشمس أيضا هو (صن داي) وهكذا. اختلطت الثقافات بالخرافات.. وامتزجت تقسيمات الروزنامة بالميثولويا الحافلة بأسماء الأرباب والأوثان والرموز التي كان القدماء يقدسونها فوق الأرض فيما تفرغ بعضهم من أجل أن يرصد مسارها في أجواز السماء..


    ومن هنا ورث الإنسان المعاصر، في أكثر من لغة وثقافة، كل هذه الروافد المختلطة التي انحدرت من أصولها الفينيقية أو البابلية أو الفرعونية أو الفارسية أو السنسكريتية فكان أن اندمجت مع حضارة الاغريق والرومان والسكسون وال؟ايكنج - النُورس في شمال أوروبا لتصب في نهر الحضارة الواحد الذي ما برح البشر يمتحون من مَعينه حتى الآن.


    صامي: جنس من سكان أهل الشمال الأوروبي وهم رحّل يجوبون الصحارى الثلجية في منطقة القطب هم بدو ثلجيون إن صح التعبير لأنهم يتنقّلون بقطعان حيواناتهم وعبراتهم المتزلجة على صفحة الجليد المصقول في منطقة لابلاند القطبية الدائمة الثلوج في معظم فصول العام.. يفضل العلماء اطلاق لفظة «صامي» و«صاميين» للدلالة على جنسهم بدلا من كلمة «سامي» و«ساميين» وهم الشعوب المعروفة في منطقة الشرق الأوسط وفي مقدمتها بطبيعة الحال شعوبنا الناطقة باللغة العربية.


    منطقة لابلاند التي يسكنها هؤلاء الصاميون تشتق اسمها من لفظة لابي بالفنلندية بمعنى المساحة الشاسعة وهي تمتد لتشمل أراضي في فنلندا والسويد والنرويج.. ورغم قسوة طقسها إلا أن بها غابات صنوبرية وبحيرات عديدة ومستودعات طبيعية من أغنى الثروات المعدنية (حديد ونحاس ونيكل).


    لكن سكان الأصل الصامي يشتغلون أساسا برعي حيوان الرنّة ويزاولون صيد البر والبحر ويُعتقد أن أصلهم من بدو آسيا الوسطى طوحت بهم الرحلة إلى تلك الأصقاع الشمالية من قارة أوروبا فاتخذوا منها مستقرا ومستودعا عبر مراحل سبقت من التاريخ.. وقد ظلوا على بداوتهم بعيدا عن العقائد الدينية إلى أن نشط بين صفوفهم مبشرون من الروس وأهل سكندناوه فكان أن تحولوا إلى المسيحية في القرن الثامن عشر للميلاد..


    ورغم أن هناك إحصاءات تفيد بأن عددهم بلغ 30 ألفا إلا أن المصادر المتخصصة تؤكد أن حجمهم أكبر بعدة اضعاف وأن المشكلة هي صعوبة حصرهم إحصائيا بحكم أسلوب حياتهم البعيد عن الاستقرار (تقول مصادر برلمان الصامي السويدي أن عددهم في النرويج وحدها بلغ 40 ألف نسمة) وتفيد مصادر أخرى بأن الأجيال الصاميّة الجديدة بدأت تتخلى عن احتراف مهن الرعي وصيد الأسماك والصيد البري لصالح احتراف مهن جديدة أخرى في مجالات الصناعة أو الخدمات.. الدنيا تتغير والحياة أصبحت أكثر تعقيدا والمعايش صعبة حتى عند سكان الصامي، جيران القطب الشمالي من كوكب الأرض.


    صندوق البريد: البريد هو توصيل الرسائل التي درج الناس على التواصل بواسطتها منذ الزمان القديم.. عرف قدماء الفرس والعرب والرومان نظام توصيل الرسائل وكان أغلبها لصالح الدولة وحكامها وعمّالها ومصالح رعاياها الرسمية ويقال إن لفظة البريد مشتقة من معنى البَرَد وهو الثلج الذي كان يغطي رؤوس الجبال حيث كان يتعين على دواب الرسائل - البغال بالذات - أن تصعد من أجل توصيل ما تحمله جعبتها من خطابات تتعلق بشئون البلاد والعباد.


    لفظة «ميل» التي تدل على نظام البريد تعود إلى كلمة «حقيبة» في الألمانية القديمة وقد استعارتها الفرنسية في مراحل سبقت لتقصد بها الحقيبة الجلدية وينطقها الفرنسيين بوصفها «مال» ثم استعارها الانجليز، وكثيرا ما يفعلون، عام 1200 للميلاد لتدل على أي حقيبة والسلام ولكن مع مجئ القرن 17.. بدأوا يحددون الاستخدام لينصرف بالذات إلى الحقيبة - المصنوعة غالبا من قماش خشن وسميك لتحمل الرسائل العامة والخاصة.. «زكيبة البريد» كما كان يسميها الصحفي المصري الرائد أحمد الصاوي محمد الذي كان يحرر بابا في جريدة الأهرام يحمل هذا الاسم إلى جانب مقاله الذي ظل ينشر لسنوات طويلة تحت اسمه الشهير «ما قلّ ودلّ».


    على أن نظام البريد الحديث اكتسب طابعه المؤسسي، الحكومي العام.. والأهلي الخاص في خمسينات القرن السابع عشر وتحديدا في عام 1553 في فرنسا حين منح ملكها لويس الرابع عشر رئيس ديوانه فيلاييه امتيازا بإنشاء صناديق للبريد توضع في كبرى شوارع العاصمة باريس ويتم توزيع المراسلات نظير درهم واحد يدفعه الراسل مقدما لكل خطاب يراد توصيله إلى أحياء المدينة الأخرى.. وبعد 3 سنوات (1657) أدخلت انجلترا نفس النظام في عاصمتها لندن وسائر حواضرها الكبرى..


    وفي هذا الإطار استحدثوا نظام طوابع خاصة يتم لصقها على صفحة الرسالة لدى دفع المعلوم.. ورغم أن زكيبة البريد المصنوع من مادة الجوت - السيسل النباتية السميكة كانت المفضلة عمليا لدى السادة سعاة البريد - إلا أن عالما سويديا هو الدكتور وايبرغ توصل إلى اختراع الصندوق الميكانيكي الذي تفرغ محتوياته من الصندوق العمومي إلى حيث تنزل الرسائل والطرود الخفيفة في الحقيبة التقليدية للبريد.. ثم تفتح قاعدة الصندوق بطريقة آلية تحول بين العامل أو الموظف وبين أن يتناول بيديه أيا من محتويات الصندوق في حين تفتح الحقيبة بمفتاح خاص في مصلحة البريد.


    أما وسائل نقل الرسائل فقد تطورت تبعا لتطور الحضارة الإنسانية ما بين أفراد العبيد الذين كانت تكتب الرسائل على جلود رؤوسهم ثم ينتظرون إلى أن يطول الشعر ليغطي فروة الرأس وطبعا يخفي مضمون الرسالة.. إلى كتائب العدائين الذين كانوا يركضون من محطة إلى أخرى في أنحاء العالم القديم.. إلى النجاّبين الذين كانوا يمتطون الدواب السريعة كما صوروهم في أفلام هوليوود أو البطيئة (كما صورهم في أغنية ساخرة الكوميدان الأشهر إسماعيل ياسين)..


    وبعدها جاء دور الكوتش أو عربة البريد الشهيرة التي كانت تنقل الغيد الحسان في أرياف وبوادي أميركا وغالبا ما تعرضت للسطو والنهب في حكايات أفلام رعاة البقر.. ثم جاء دور السفن البخارية (كان أشهرها في العالم العربي بواخر البوستة الخديوية في مصر) وبعدها دخل الطيران - البريد الجوي عالم نقل الرسائل السريعة بين أقطار المعمورة وكان ذلك اعتبارا من سنة 1918.


    وربما ظن الكثيرون من أهل النصف الأول من القرن العشرين أن حكاية طائرة النقل الجوي هي آخر صيحات، أو ختام السبل الناجعة للبريد المحلي والعالمي.. لكن ها هو العالم وقد طور الوسائل المستخدمة حيث بدأ بالتصوير - الاستنساخ خلال الحرب العالمية الثانية وفي السبعينات توصلوا إلى مبرقة الفاكس العجيبة.. ولم تغرب شمس القرن العشرين إلا وقد دخل إلى حياة الناس البريد الالكتروني الذي يبعث بالرسالة ويتلقى الرد عليها خلال ومضات ينبض بها جهاز الحاسوب..


    مع هذا كله.. تظل الرسالة المكتوبة بخط اليد.. ويظل لصندوق البريد الميكانيكي وحتى الحقيبة الجلدية البسيطة - يظل لهذا كله أهميته في زمن الإيميل ومازال مرأى ساعي البريد أو ساعيته مألوفا ومرغوبا تطالعه العين كل صباح في أكثر دول العالم تقدما.. آية على أن التواصل الإنساني بين الناس مازال أمرا مهما ومندوبا إليه في كل حال.


    يكتبها : محمد الخولي
    رد مع اقتباس

  3. #13

    رد: «نانوبيديا» واسب .. واندال .. ويرْد

    «نانوبيديا» -الحلقة السادس عشر
    ضريبة الملح .. الضحك .. ضريح
    بقلم :محمد الخولي



    ـ إن جابِل ـ ضريبة الملح عند الفرنسيس - كانت من الأسباب الأساسية لاندلاع ثورة فرنسا الكبرى في 14 يوليه من عام 1789.


    في هذا الخصوص، يسترعي الاهتمام الكتاب الذي أصدره العالم الألماني ماتياس شيلندر عام 1875 بعنوان «داز سالز» (عن الملح) وتكلم فيه عن ارتباط رآه عبر التاريخ بين ضرائب الملح ونظم الاستبداد والطغيان في العالم على نحو ما شهدته حضارات غابرة في أقطار مثل المكسيك غربا والصين شرقا..


    وكان بين هذه النظم فرنسا في وسط الكرة الأرضية بعد أن فرضت حكوماتها ضريبة الملح - الجابِلْ المذكورة أعلاه - مدعية أنها ضريبة رؤوس بمعنى أنها مفروضة على كل أبناء الدولة الفرنسية. ولم يكن ذلك صحيحا، بل كان الصحيح أنها كانت مستحقة فقط على الغلابة.. الفقراء من معدمي الفلاحين (ممن لا يملكون أرضا ولا عقارا) وعلى صغار الحرفيين ممن لا يملكون شروى نقير كما يقول المثل العربي القديم والمعنى يفيد العاجز من فرط الفاقة عن شراء نواة البلح).


    هكذا كان فقراء فرنسا لا يجدون مع الخبز سوى أن يقتاتوا بالملح.. ثم يدفعون أيضا ضريبة على هذا الملح الذي يقتاتون، هذا بينما كان الموسرون من الأرستقراطية والإقطاعيين وأصحاب الضياع الشاسعة والأبعاديات والقصور القوطية المعمار.. ومعهم الكرادلة والجنرالات وحاشية الملك ووصيفات الملكة وسائر نبلاء نظام أسرة البوربون - كان هؤلاء القادرون يعفون من ضريبة الملح فضلا عن امتيازاتهم الطائلة الأخرى. وكلما نضبت خزائن العاصمة باريس واحتاجت قصور ؟


    رساي والتويلري إلى أموال جديدة لزوم الترف والمتعة الفارغة وأحيانا لزوم الغزوات العسكرية العقيمة.. كان ملوك فرنسا يتوسعون في ضريبة الملح لدرجة أن جاء عام 1760 فإذا بالملك لويس الرابع عشر.. يعتبر ضريبة الملح مصدرا أساسيا لخزانته القومية ولم يقتصر أمر ضريبة الجابِل على فداحة المبالغ ولا على تحميل العبء على كاهل عامة الفقراء وإعفاء السادة الموسرين وصفوة الأغنياء..


    بل زاد الأمر فداحة أسلوب الجباية الفظ الغليظ الذي كان يتبعه جباة الحكومة وقد حملوا اسم «الجابيلوز» الذي أصبح مرادفا لكل موظف حكومي قاس ومتجبر حيث كان كل منهم مشروع طاغية.. أو فرعوناً صغيراً كما يقول المصريون.


    وفي هذا الجو المشبع بالظلم والمترع بالقسوة والتمييز كان طبيعيا أن تستشري آفة فساد الحكومة ورشوة عملائها ومحاولات تهريب الملح بعيدا عن أعين السلطة ولو في مواضع من أجساد البشر.. هذا فضلا عن تنامي السخط الشعبي العام الذي تولدت في أتونه شرارة الرفض والتمرد والثورة حين زحف العامة الساخطون على سجن الباستيل صبيحة الرابع عشر من يوليو.


    وبعدها انعقدت أول جمعية برلمانية في ظل الوضع الثوري الجديد وكان أول قرار أصدرته هو إلغاء ضريبة الملح التي وصفها خطباء الثورة وزعماؤها بأنها بغيضة إلى أفئدة جميع الفرنسيين. ومنذ صدر القرار النهائي بالانعقاد في عام 1791 نسى أهل فرنسا ضريبة الملح ولم يبق منها سوى تاريخها وما ارتبط بها منذ القرن الخامس عشر من معاناة وشظف وحرمان.


    الضحك: هو الحالة أو المزاج النفسي التي يعيشها الإنسان السوّي في كل أطوار حياته، سواء كان الضحك من باب التفكه والسعادة والحبور أو إدراك المفارقة في المواقف أو الأقوال وهو ما يفهمه الموهوبون في لمحة ذكاء.. أو سواء كان ضحكا كالبكاء على نحو ما قال المتنبي. وفي هذه الحالة يكاد المرء (يجهش) بالضحك من شدة المأساة والتعبير لكاتب كبير من مصر هو الأستاذ كامل زهيري.. وقد ورد الضحك في الكتاب الكريم في سبعة مواضع منها ما يفيد الاستنكار إزاء الذين يعجبون من هذا الحديث..


    وإذا بهم يضحكون بغير مسؤولية ولا يبكون تدبرا للعواقب: أين هذا الضحك اللاهي الخائب غير المسؤول من نبي الله سليمان.. وقد وهبته السماء معجزة فّهْم لغة الحيوان.. فإذا به يسمع النملة الشاطرة الذكية تنصح قومها أن يدخلوا مساكنهم (شقوقهم في شعاب المباني) وإلا داست عليهم جنود سليمان وساعتها.. ترتسم الصورة الجميلة لسليمان عليه السلام.. إنسانا ودودا وشغوفا.. فكان أن ابتسّم.. ضاحكا من قولها وما لبث أن شفع هذه اللحظة الرائعة من تواصل الإنسان مع الحيوان وكلاهما من فطرة الله عزّ وجل فكان أن سارع نبي الله إلى مناجاة مولاه قائلا:


    «رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه» والتبسّم يقول عمنا القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» هو أول الضحك. (أحيانا ينفجر الإنسان ضاحكا دون اجتياز مرحلة الابتسام) ومع ذلك فلنا أن نوافق المفسر الكلاسيكي الكبير على أن الضحك يبدأ معتدلا بالبسمة فإذا زاد واتسع نطاقه فهو يوصل إلى القهقهة وإن غلب التبسم على ضحك الأنبياء.. أما عبارة «رب أوزعني» كما وردت في هذا الموضع الجميل من سورة النمل (الآية 19) فمعناها «رب ألهمني» والله أعلم.


    وليس لأحد أن يظن أن الضحك مجرد لهو ولعب أو حالة أو أسلوب لإزجاء الفراغ. هناك «علم اسمه.. الضحك» كما يقول صديقنا الراحل منذ أسابيع البروفيسور أحمد مستجير أستاذ علم الوراثة (في كتاب مختصر وجميل أصدره مستجير، عليه رحمة الله، في سلسلة «بحور العلم» في مثل أيامنا هذه من العام الماضي). وفي الكتاب يقول:


    - نولد جميعا ولدينا القدرة على الضحك: إنه لغة عالمية لا تحتاج إلى أن نتعلمها.. كل الشعوب تضحك فالضحك جزء من السلوك البشري. والفرد منا يضحك في المتوسط 17 مرة كل يوم.. بل أننا نضحك أكثر مما نأكل أو نغني أو نحب. والضحك هو أقصر المسافات بين اثنين وأنت إذا رأيت شخصا يضحك شاركته الضحك حتى قبل أن تعرف السبب.


    . بعدها يمضي عالم البيولويا العربي وقد كان أيضا أديبا وشاعرا ولغويا قديرا - ليواصل دراسته العلمية تحت عناوين من قبيل: لماذا نضحك.. وما هو الضحك.. وهل تضحك الحيوانات؟ ثم التشريح الصوتي للضحك ودائرة الضحك في المخ والسلوك الاجتماعي واللغوي للضحك.. الخ.


    وهو لا ينسى أن يقدّم بين يدي هذا البحث العلمي الطريف بزهرة يقطفها من بستان شاعرنا العربي التونسي الكبير أبي القاسم الشابي في بيته الأشهر واصفا وجه الحبيبة يقول:


    كالسماء الضحوك كالليلة القمر


    اء كالورد، كابتسام الوليد


    ومثلما ذهب أحمد مستجير إلى أن هناك علما اسمه الضحك.. فقد سبق الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (1859 - 1491( إلى التعامل مع ظاهرة الضحك من منظور الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع. (وعليه فقد ظل برجسون الحاصل على جائزة نوبل العالمية سنة (1927) معنيا بالضحك وتحديدا بإبداعات الكوميديا بوصفها ظاهرة اجتماعية في حين أن التراجيديا - المأساة كانت في رأيه ظاهرة فردية..


    وفي رسالته الشهيرة عن الضحك جاء تركيز الفيلسوف الفرنسي على نشوء الضحك نتيجة المفارقة بين الأعراف الاجتماعية المقبولة أو السارية وبين سلوك الفرد البشري الذي كثيرا ما يكون ميكانيكيا أو تلقائيا وأحيانا فطريا بغير تأمل أو روية.. وهي مفارقة يلحظها الناس ويضحكون منها على مستوى الموقف واللغة وأنماط الشخصية.


    في كل حال.. فقد يسترعي الاهتمام ما تكاد تجمع عليه نظريات علمية حديثة من حقيقة تقول:


    -النساء يضحكن أكثر من الرجال.


    من أين يأتي النكد إذن؟!


    ضريح: هو بداهة المبنى المخصوص الذي يودع فيه رفات الراحلين البارزين من أعلام البشر.. ويسمى أحيانا المشهد أو التُربة (المدفن) ويتخذ في الثقافة الإسلامية أشكالا معمارية شتى مربعة أو مستطيلة وإن كان المصممون يستلهمون في هيكلته معمار المساجد وقد يلحقونه بها.


    ومن أشهر الأضرحة الإسلامية تاج محل الشهير الذي بناه الملك شاه جيهان (1630 - 8461( ليضم رفات زوجته التي كان كَلِفاَ بها وهي الأميرة «ممتاز محل».. وقد صممه المهندس الأستاذ عيسى في مدينة أجرا - ولاية أوتار برادش بالهند ومازال يعد نموذجا رائعا ونفيسا لإبداع العمارة الإسلامية حيث يجمع بين عناصر البهاء والفخامة والإبداع.


    وفيما جاء تاج محل تجسيدا عاطرا في عالم الإسلام لمحبة زوج طيب عطوف لزوجة جميلة راحلة.. فقد جاء نظيره في التاريخ القديم ضريحاً آخر تم تشييده عام 352 قبل الميلاد في منطقة هاليكارناسوس تخليدا لذكرى زوج حكيم ومحارب اسمه ماوسولوسي كان يدير باسم الامبراطورية الفارسية القديمة منطقة الحكم الذاتي فيما يعرف حاليا بالأناضول جنوب غربي تركيا..


    كان الرجل شغوفا بفكرة تخليد ذكراه. وبعد أن شرع في بناء ضريحه الخاص كي يدفن فيه - توفي قبل أن يكمله فما كان من زوجته الوفية «أرتمسيا» إلا أن عكفت على استكمال الصرح السامق الجميل.. لدرجة أن اعتبره اليونان واحدا من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، ورغم أن الضريح المذكور أصبح اليوم أثراً بعد عين بسبب ما أصاب المنطقة من زلازل وهزات أرضية فضلا عن استخدام أنقاض البناء في تشييد صروح مستجدة أخرى.


    فقد خلعت الثقافة الغربية من العصور القديمة إلى عصر النهضة والعصر الحديث اسم الحاكم القديم ماوسولوس على أي ضريح يضم رفات المشاهير، وبه دخلت إلى لغات الغرب كلمة ماوسولوم منذ القرن الخامس عشر وحتى اليوم شريطة أن يكون البناء تحفة معمارية وأن يدل بتصميمه وتنفيذه ومشهده الخارجي، فضلا عن مداخله ومجمل مرافقه على أنه استلهم موتيفة أو موضوعه مستمدة من الثقافة العقائدية أو الفكرية أو الإبداعية، السائدة لكي يمثل بامتياز تعبيرا صادقا عنها..


    وليس صدفة في كل حال أن يرتبط الضريحان الشهيران في تاريخ العالم.. ماوسولوم القديم الذي انمحى وتاج محل الذي مازال صرحا رائعا يستهوي الزائرين ويسر الناظرين.. بوشيجة إنسانية طيبة تتمثل في وفاء الزوجة المحبة في حالة الأول وتتجسد في إخلاص الزوج الحادب في حالة الصرح الثاني.

  4. #14

    رد: «نانوبيديا» واسب .. واندال .. ويرْد

    نانوبيديا» الحلقة الثانية عشر
    زيرو.. زودياك.. زا
    بقلم :محمد الخولي



    زيرو: رغم أن الكلمة تستدعي بداهة حشداً من الأفكار والطروحات وربما الذكريات السلبية.. وخاصة في أذهان التلاميذ والطلاب.. وربما أيضاً في أذهان قطاعات من بيدهم مقاليد الأمور حين يعمد هذا الطرف أو ذاك إلى تذكيرهم بضروب الفشل الذي منيت به شعوبهم وأوطانهم في مجالات التنمية.. أو التعليم أو حتى المنافسات الرياضية أو الفنية وما إليها.. رغم هذا كله فإن علماء الرياضيات.. والحواسيب والإحصاءات يحتفلون بالزيرو أو بالصفر ويرون أنه بدونه أو بغير وجوده في حياة البشر لصادفت الحضارة عنتاً شديداً ومصاعب جمة ومشاكل بغير حدود..


    كلمة «زيرو» كما يتعامل معها «معجم أسرار الكلمات» من سلسلة التراث اللغوي الأميركي يعود الفضل فيها إلى استعارة من اللغة العربية وبالتحديد من مصطلح «صفر». والكلمة في مادتها العربية تفيد الفراغ ومنها طبعاً عبارة صفر اليدين بمعنى خاوي الوفاض في لغتنا وهو البساط يفرش للمرء كي يقعد عليه فإذا كان خالياً فالمعنى هو الجدب.. الفقر وقلة الأثاث وضيق المعاش..


    الخ.. وهناك من يعود بكلمة صفر في لغتنا الشريفة إلى أصل من السنسكريتية - لغة الهند القديمة وتعني فيها أيضاً معنى الخلو والفراغ واللاكمية.. ولا جناح على لغتنا، فالمعروف أن العرب في عصر اندفاعتهم النهضوية مع العصور العباسية.. كانوا يعرفون - بيقين ـ أن مشعل الحضارة الإنسانية قد انتهى إلى أيديهم وأصبح من مسؤولياتهم بعد أن استضاءت حياتهم وأفكارهم وطموحاتهم وإبداعاتهم بنور الإسلام وهديه ـ فكان أن شرعوا، ولا تثريب عليهم، يفيدون من حضارات من سبقوهم.


    وإذا كانوا قد نهلوا من كلاسيكيات اليونان والرومان في علوم المنطق والفلسفة.. فقد أفادوا كثيراً من انجازات العقلية الهندية في مجال الرياضيات على وجه الخصوص.. وإن كان منطقياً أن يواصلوا مسيرة النهضة الإنسانية بأن يضيفوا إلى ما أنجزه هؤلاء أو أبدعه أولئك..


    ومثلما أضاف ابن رشد في غرب العالم الإسلامي (1126ـ 1198) إلى فلسفة أرسطو حتى تداولت أوروبا اسمه بصيغة ابتدعتها وهي «أ؟يروس» وما برحت تعرفه باسم «المعلم الثاني» بعد أرسطو - فقد جاء «أبوعبدالله الخوارزمي» (ت850م) من مشرق العالم الإسلامي لكي يحدث ما يشبه الثورة في دنيا الرياضيات، فوضع كتابه في علم الحساب وأسس علم «الجبر» مستقلاً عن الحساب وأخذته عنه أوروبا والعالم بنفس الاسم،


    تماماً كما أخذت جداول الأرقام الرياضية التي ابتدعها أبو عبدالله وخلعت عليها اسم اللوغريتمات وهو تصحيف عن اسم الخوارزميات المشتقة من لقب العالم المسلم الذي ترجمت أعماله من العربية إلى اللاتينية منذ القرن الثاني عشر للميلاد. كلمة «زيرو» دخلت إلى الانجليزية نقلاً عن الإيطالية في القرن السابع عشر.


    ورغم أنها كانت مرادفة لكلمة زيفرا أو صفرا المستخدمة بنفس المعنى في العصور الوسطى، إلا أن تداول الكلمتين ما لبث أن أدى إلى اختلاف معنى كل منهما: احتفظت كلمة زيرو بمعنى الصفر الذي كان إدخاله في نظام الحساب العَشري أهم خطوات ترقية نظام العَدَد مما أتاح بالتالي استخدام الأعداد الكبيرة في العمليات الحسابية وهو ما فتح الباب رحباً واسعاً أمام حسابات في علوم أكثر تعقيداً مثل الفلك والكيمياء والفيزياء..


    من ناحية أخرى تميزت كلمة صفرا أو زيفرا بمعنى مختلف حيث طورت لنفسها معنى الرمز.. الكود والشيفرة أو الشفرة في العربية التي اشتقوا منها فعل «تشفير» وأحياناً «ترميز» بل واشتقوا كلمة ترامُز كناية عن عملية الاستخدام المتبادل للشفرة بحيث يبدأ الأمر بالتشفير.. الترميز.. التكويد (تأمل ثراء الاشتقاق العربي)


    وينتهي بفك الشفرة والرد عليها من الطرف الآخر للعملية التي ربما كان أول من شرع في استخدامها هم جماعات من أهل التصوف وأرباب الأحوال.. أخوان الصفا مثلاً.. ثم كانت محور أنشطة هيئات وأجهزة الاستخبارات.. ومن بعدها دوائر العمل الدبلوماسي.. إلى حيث حطت رحالها أيضاً على ضفاف التعامل مع الحواسيب الالكترونية التي ما انفكت تزحف لتسيطر على أنشطة الحيز الراهن من عمر زماننا.


    زودياك مادة «زو» في أصلها اليوناني تنصرف إلى معنى الحياة.. الكائن الحي.. وبديهي أن ينصرف الذهن فورا إلى أن «زو» في الانجليزية هي حديقة الحيوان وعند اللغات بنات عمومتها يستخدم نفس الاسم مع إضافة بارك بمعنى حديقة في الفرنسية أو الاسبانية، على أن اليونانية تستخدم كلمة زودياك لتعني الخطوط المائلة التي تشكل دائرة تضم رموزاً لكائنات حية تشير بالدرجة الأولى إلى رهط من فصائل الحيوان..


    ومن ثم فالمعنى الحرفي لكلمة «زودياك» أصبح عند اليونان هو دائرة الحيوانات الصغيرة. ولكن العرب وقد برعوا - كما لا يخفى عليك - في علوم الفلك ورصد حركات الأجرام السماوية.. أطلقوا على زودياك عبارة «دائرة البروج». والبرج في لغة العرب هو أصلاً ركن الحصن بمعنى أنه زاوية من تقسيمات أجواز الفضاء السماوي على نحو ما يشتغل به الفلكيون..


    وقد أقسم كتابنا الأكرم بالسماء ذات البروج وفي هذا المعنى ذهب أئمة المفسرين إلى أقوال أربعة على نحو ما يفصلها القرطبي رحمه الله أحدها ذات النجوم، والثاني ذات القصور - الدور الفارهة السامقة الباذخة - (وهنا نستدعي معنى الصروح أو الحصون) والثالث أنها ذات الخَلْق الحسن والتشكيل الرائع الذي أبدعه فاطرها عز وجل أما المعنى الرابع فهو السماء ذات المنازل ما بين الكواكب والشمس والقمر.


    ومن نفس المواد اللغوية يدخل إلى العربية مصطلح «الزايرجة» وهو بدوره جدول تنجيمي ورد وصفه في مقدمة عبدالرحمن ابن خلدون وقد فصّل ذلك العلامة الشهير (1322 - 6041( عناصر تركيب هذا الجدول وأساليب استخدامه، ويقال ان لهذه الجداول الفلكية التي أبدعها علماء المغرب المسلمون صلة بمثيلاتها التي يعرفها الفرس باسم «الزيج».. وهذه الجداول ترسم ما تصفه بأنه التقاسيم التي تضم التطابق بين بروج الكواكب ومنازلها وبين حظوظ البشر ومسارات حياتهم.


    ويدلل هذا على الشغف المفهوم من جانب الناس لاستطلاع ما يضمره المستقبل، حيث وفيما تعتقد جمهرة لا يستهان بحجمها من الناس بهذا الربط بين دائرة البروج إلى 12 برجاً أو 12 علامة يعطي منها 30 درجة من الطول أو الامتداد ويرمز لكل من هذه البروج بعلامة أو رسم أو شكل يفيد معناها الموروث منذ عصور الإغريق. وأغلب هذه المعاني - كما ألمحنا- يرتبط بأنواع الحيوان.. الحَمَل.. الثور.. السرطان (البحري).. الأسد.. والجِدْي ثم الدلو (وعاء الماء) والحوت (أصناف السمك).


    ويذهب الفلكيون إلى أن مسارات الشمس والقمر والكواكب الكبرى تقع ضمن إطار هذه الدائرة السماوية.. مسارات الأجرام في السماء وحظوظ البشر فوق الأرض. بيد أن ثمة ظاهرة يرتقبها باستمرار محبو الطبيعة وعاشقو الحياة بصرف النظر عن حكاية الأبراج الحظوظ: هي ظاهرة النور الزودياكي..


    أو الضوء البروجي الذي يجسده وهج رائع الجمال ينتشر في صفحة السموات ويرى في الغرب بعد المغيب فيما يشاهده أهل الشرق قبل انبلاج الصبح وإطلالة الشروق.. وسبحان ربنا العظيم. زا: واضح أنها مقطع بغير معنى.. ولكنها مقطع في كل حال، بمعنى أنها صوت، أو بالأدق صويت مقطوع من أصل مكتمل ومفهوم أو كان مكتملاً وكان مفهوماً.. وببساطة: فالأصل - تصوَّر! ـ هو فطيرة البيتزا الإيطالية الشهيرة.


    وقد درج الشباب في الغرب وربما في أصقاع أخرى على أن يختصروا من الكلمات حروفاً ومقاطع وأجزاء مع الإبقاء على أجزاء يمكن أن تفي بالمراد.. هكذا تحولت «البيتزا» إلى مجرد «زا» آخر مقاطع الكلمة تماماً كما أصبحت كلمة «فون» عَلَماً يدل على التليفون أو الهاتف كما ترجمناه بصيغة بليغة ورقيقة إلى لغتنا العربية. صحيح أن «فون» تنصرف أساسا عند ناطقها الانجليزية إلى معنى الصوت أو الجرْس وعندما أدخلوا عليها البادئة اليونانية الأصل - تيلي فقد أنجزوا بها معنى الصوت البعيد،


    تماماً مثل تيليسكوب بمعنى الصورة البعيدة أو تيلغراف بمعنى الكتابة البعيدة.. إلا أن استخدامات الشباب المعاصر.. بكل عجلته وربما بكل ضجره إزاء التأني في استيفاء الأبعاد والظلال والتفاصيل.. آثر أن يحول الهاتف إلى مجرد فون، وأن يختصر حافلة الركاب من أو مني باص


    ومعناها ركوبة الجميع (وتؤديها إلى حد معقول لفظة حافلة) إلى حيث يقتصر الاستخدام الراهن على كلمة «باص».. بل يصل هذا الاختصار - الذي نراه مخلاّ وربما مفتقراً إلى كياسة الفطنة وحسن الذوق إلى حيث يتحدث الشاب في الغرب عن والديه فإذا به - أو بها - يكف عن استخدام لفظة الأبوين - بِيرنت في الانجليزية ـ


    ويقتصر على آخر مقاطعها وهو «رنت» وهي كلمة تعني بداهة الإيجاز أو الاستئجار.. صحيح أن أصحاب المطاعم لم يتعودوا كثيراً بعد على أن يقدموا «زا» كناية على البيتزا.. ولا المجتمع استساغ بعد كلمة رنت -الإيجار بدلاً من «بيرنت» لتدل على الوالدين المحترمين.. لكن من يدري ما يؤول إليه الحال خلال الخمسين عاماً المقبلة؟ لقد بدأ الناس يتعاملون مع فون وباص ومثيلاتها بقدر ملحوظ من التوجس والاستغراب وأحياناً الاستهجان..


    ومازلنا في بلادنا اليعربية السعيدة نتحفظ على استخدامات شباب الحواسيب والانترنت مصطلحاتهم في مجالات التسييف (بمعنى الحفظ) والتدليت (بمعنى الحذف) والتهنيج (بمعنى التوقف).. والتصطيب (بمعنى الإنشاء) وما إليها.. لكن الكلمات حظوظ مثل الأفراد تماماً.. منها ما ينشأ ثم يتوارى ويذوي وينتهي.. ومنها ما يصمد ويستمر ويفرض نفسه على مجالات الاستخدام بلطف أحياناً.. وبإصرار مثابر أحياناً أخرى وبصفاقة بالغة في بعض الأحيان.

  5. #15

    رد: «نانوبيديا» واسب .. واندال .. ويرْد

    «نانوبيديا» -الحلقة السابع عشر
    طابور .. طروادة .. طرابلس




    طابور: في عالم البناء والتشييد تصدق الكلمة على العمود في تصاميم المعمار التي اشتهر منها معماريات قدماء المصريين وفي صدارتها صرح الكرنك (في صعيد مصر الأعلى) ويزينه بهو الأعمدة الذي تعلوه تشكيلات نبات البردي المرتبط أبدا بمياه النيل.


    وهناك كذلك صرح الاكروبول الذي يقوم على هضبة تطل على أثينا عاصمة اليونان وقد بدأ قدماء الإغريق تشييده وجرت عليه عوادي الزمان إلى أن أمر المصلح بركليس الإغريقي (ت429ق.م) بإعادة بنائه فاسترجع بهاءه الغابر وخاصة عند بوابته الرائعة التي عرفت باسم البروبولايا.


    أما الطابور في عالم تعبئة الجيوش وحشد القوات للزحف إلى ساحات القتال فهو بداهة الصف من المحاربين ينتظم أفراده في أنساق رأسية أي في متوالية من البشر كل فرد في أثر زميله..


    وما كان لأحد أن يماري أو يناقش مثل هذه الأنساق سواء كانت في تصميم المعمار أو في ساحات القتال.. لولا ما حدث خلال السنوات الأخيرة من عقد ثلاثينات القرن العشرين.. وفي أقاليم أسبانيا على وجه الخصوص.


    في ذلك الزمان والمكان اشتعلت نيران الحرب الأهلية الأسبانية. دامت الحرب ثلاث سنوات بين عامي 1936 و1939 (العام الأخير شهد اندلاع حرب أخرى أشد خطرا وأوسع نطاقا وهي الحرب العالمية الثانية).


    وكان طرفا الحرب الاسبانية هما: الوطنيون أو القوميون وهم اليمين الوطني والديني والارستقراطية القديمة وقد انضم إليهم الجنرال فرانكو قائدا لقوات الكتائب الفاشية.


    أما الطرف الآخر فكان يتألف من العناصر اللبرالية وقوى اليسار والاشتراكيين والشيوعيين. وعلى المستوى الخارجي نالت قوى اليمين دعما من إيطاليا الفاشية (موسوليني) والمانيا النازية (هتلر) وخاصة بالنسبة لتجريب الأسلحة الجديدة وتكنولوجيا القتال المتقدمة وهو ما تم استخدامه في الحرب العالمية بعد ذلك بفترة وجيزة.


    فيما توافدت على اسبانيا للمشاركة مع قوى اليسار ومؤازرتها عناصر من المثقفين والمبدعين والفنانين من بلاد شتى فكان أن جاءهم من أميركا الروائي ارنست همنغواي (1899 - 1691( وجاءهم من انجلترا الروائي جورج أورويل فضلا عن مشاركة شاعر اسبانيا الشهير فدريكو جارسيا لوركا (1898 - 6391(..


    والحق أن مشاركة مثل هؤلاء الأدباء وأهل الانتلجنسيا كانت مفيدة معنويا وربما كان فيها ما أشعل في نفوسهم روح الإيثار والإبداع أو حتى المغامرة إلا أنهم كانوا بداهة أقل خبرة بفنون الحرب وأدنى تجربة بشظف القتال.. ومن ثم فقد كان النصر لقوات الفاشست التي دخل قائدها فرانكو ليسيطر على العاصمة مدريد ويفرض على اسبانيا حكمه الديكتاتوري حتى يوم وفاته في عام 1975.


    مع ذلك بقي كثير من الإبداع الأدبي كمحصلة للحرب الأهلية الأسبانية وبقيت معها حكاية الطابور.. الخامس التي مازالت قائمة ومتواترة حتى أيامنا.


    أصل الحكاية يرجع إلى الجنرال «مولا» الذي كان يزحف على مدريد على رأس أربعة طوابير مسلحة من الجنود والضباط.. ربما راجعه أركان حربه في قلة عدد الطوابير الزاحفة والهادفة بغرض الاستيلاء على عاصمة البلاد.. وكان جوابه الذي مازال مسجلا في دفاتر التاريخ:


    ـ لا تخشوا شيئا.. لدينا طابور «خامس» مستعد لانتظارنا والتعاون معنا داخل المدينة ذاتها.


    كان الجنرال الاسباني يشير إلى جموع المؤيدين والمتعاطفين ولاسيما العيون والأرصاد والجواسيس الموالون لقواته ممن لا يعرفهم أحد وممن حرصوا على ستر ولائهم بانتظار لحظة الانقضاض المناسبة.


    بعدها شاع استعمال هذا التعبير وخاصة حين سعى المحللون إلى تفسير السهولة الغريبة التي استطاعت بها جيوش هتلر أن تغزو أقطارا مجاورة في غرب وشمال أوروبا مثل هولندا أو النرويج.. يومها قال قائلهم:


    ـ لم يكن الفضل فقط للقوات الزاحفة، بل كان لديهم المعلومات الموثوقة والاستخبارات الدقيقة والمتعاطفون المتسترون.. كان لديهم الطابور الخامس..


    ولأن كل شئ يتغير حتى المصطلحات الراسخة المستقرة، فقد فضل دهاقنة الإعلام الأميركي، وخاصة بعد 11 سبتمبر ألا يستخدموا تعبير الطابور الخامس.. وبدلا منه استقروا على مصطلح «الخلايا النائمة» بمعنى المخططات الكامنة تحت السطح ولكنها لا تلبث أن تنشط للعمل في أي لحظة.. وهو مصطلح سلبي مازال ساريا ومتواترا في مفردات السياسة والميديا الأميركية لزوم الاستمرار في ترويع الجماهير وإدامة استنفارها.


    طروادة: بها يحتفل تراث الإغريق وإبداعهم الثقافي الذي لايزال جزءا عزيزا من ذاكرة الإنسانية حتى الآن.. دارت على ساحاتها حرب طروادة الشهيرة التي خلدتها أبيات ملحمة «الإلياذة» المرتبطة باسم هوميروس شاعر الإغريق القديم الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد وإن تنافست على إدعاء مولده ونشأته كثير من حواضر العالم القديم ومنها اثينا وأزمير..


    وكم افتتن أدباء الدنيا على مر العصور بإلياذة هوميروس.. وقد ترجمها إلى العربية سليمان البستاني (1856 - 5291( وكان من رجال الأدب وأعلام السياسة:


    ولد في لبنان وعاش في كل من القاهرة وبغداد والبصرة وبيروت والآستانة وتولى الوزارة والنيابة في البرلمان واحتشد لترجمة ملحمة هوميروس وأتقن من أجل الترجمة عدة لغات ثم عمد إلى تصديرها بمقدمة ضافية تعد بدورها من عيون الكتابات الأدبية حيث أجمل فيها تاريخ الأدب عند العرب.


    وترتبط طروادة بأمور شتى منها طبعا حربها الشهيرة مع اليونان من أجل استرداد هيلين اليونانية الجميلة التي اختطفها أمير طروادة الشاب وكان اسمه باريس..


    وعندما أبحرت الأساطيل من أثينا واتجهت شرقا إلى ساحة القتال في طروادة بأرض الأناضول، البلاد التي تغني هوميروس بثرائها وازدهارها على يد مليكها الأشيب الوقور بريام وابنه الفارس الشجاع هكتور فضلا عن ثراء طروادة غنية بمواردها المعدنية والزراعية..


    وبهذا كله ربما كانت مؤهلة لكي تهزم غزاة اليونان أو على الأقل تصمد أمامهم، لولا.. أن اصطنع الغزاة حيلة أدخلوا بها حصانا من خشب إلى داخل المدينة وكأنه لعبة أو ملهاة..


    لكن كان يختبئ في جوف اللعبة الخشبية عدد من الفرسان الأغارقة الذين ساعدوا على فتح أبواب المدينة واستباحة مرافقها أمام الغزاة القادمين.. ومن هنا أصبح تعبير «حصان طروادة» عَلَما على كل حيلة أو مؤامرة تقصد إلى التضليل والخداع..


    ولأن طروادة كانت غنية بمناجم الذهب - على نحو ما تقول أساطير الميثولوجيا - فقد اصطنعوا مصطلح «الوزن الطروادي» أو «نظام طروادة» الذي يتم بمقتضاه وزن وتقدير قيمة المعادن النفيسة وأحيانا المواد الخطيرة (العقاقير الثمينة). والحق أن تلك نسبة غير صحيحة، وأن طروادة لا علاقة لها بالمسألة لا من قريب ولا من بعيد..


    والمشكلة هي الخلط بين طروادة (طُروى في الانجليزية) وبين مدينة طروى الفرنسية التي كانت مركزا تجاريا مزدهرا أيام العصور الوسطى وكانت موئلا لأكثر من سوق وأكثر من معرض للتجارة وعرض السلع المهمة في تلك الأيام ابتداء من الذهب والفضة وليس انتهاء بالسكر والمشروبات والحبوب.


    . وفي تلك المدينة اعتمدوا تقسيم الرطل (باوند) إلى 12 أوقية وخلعوا على الأجزاء الصغرى تسمية «أونصة طروى» فكان أن خَلَط الناس بينها وبين ملحمة الإلياذة وأسموها «أوقية طروادة» ربما من باب الإعجاب بما أبدعته عبقرية شاعر الإغريق الأكبر هوميروس.


    طرابلس: عند شطري الوطن العربي توجد مدينتان باسم واحد: الأولى طرابلس - المشرق في لبنان.. والثانية طرابلس الغرب في ليبيا.. وهذه المشاركة.. هل نقول التآخي في الاسم، تعكس عراقة التاريخ الممتد الذي تصدر عنه المدينتان.. حيث قد يرجع الاسم الموحد إلى لغة اليونان فيفيد المقطع الأول من الاسم بمعنى الثلاثة أو الثلاثي..


    فيما يفيد المقطع الثاني «بولِس» بمعنى المدينة أو الحاضرة على نحو ما كانت أثينا أو اسبرطة في دنيا الإغريق. هذا النمط من الحواضر المثلثة كان سائدا منذ أيام النشأة الأولى لكل من المدينتين:


    طرابلس - لبنان التي يرجع تشييدها إلى الفينيقيين نحو 800 سنة قبل الميلاد لتكون عاصمة اتحاد لممالك فينقية كانت زاهرة في تلك الفترة الباكرة وظلت على ازدهارها حتى أيام الرومان إلى أن فتحها المسلمون عام 638 للميلاد لتبقى ميناء وحاضرة متوسطية وموئلا للثقافة العربية القومية فضلا عن آثارها التي تجمع بين المسجد الكبير وقلعة دو سان جيل من أيام الحروب الصليبية إضافة إلى حمامات أثرية ومكتبات إسلامية.


    طرابلس الإفريقية - التوأم مدينة متوسطية بدورها يعود تاريخها أيضا إلى أيام الرومان (القرن السابع قبل الميلاد) إلى أن فتحتها قوات عمرو بن العاص بعد فتح مصر.. وكان ذلك تحديدا في عام 643 للميلاد ومازالت عاصمة الجماهيرية الليبية.


    وشأن كل الحواضر والثغور الساحلية ذات الأهمية الاستراتيجية، كان طبيعيا أن تتعرض كل من المدينتين إلى غزوات وحروب، وأن تخضع في هذه المرحلة أو تلك لقوات الغزو الامبريالية على اختلاف العصور والجنسيات: طرابلس لبنان استولى عليها (الصليبيون) بل حّولوها إلى إمارة لاتينية في الفترة 1109 - 9821 للميلاد .


    ولكنها استردت طابعها الوطني والقومي وهويتها العربية - الإسلامية بعد أن زحفت قوات السلطان المملوكي قلاوون (1279 - 1290) من القاهرة والشام إلى حيث استعادت طرابلس وطردت منها قوات الاحتلال الأوروبي الذي كان يرفع شعار الصليب.


    من ناحيتها أيضا تعرضت طرابلس الغرب - الأفريقية إلى غزوات جحافل قرطاجنة والرومان ثم استولت عليها قوات قبائل الواندال البربرية الأوروبية وبعدها قوات بيزنطة (الدولة الرومانية الشرقية) عام 534 للميلاد إلى أن أضاءت بنور الإسلام واكتسبت هويتها العربية بعد أن وصلتها قوات عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي سرح فاتح منطقة أفريقية إلى حيث أقطار المغرب العربي.

  6. #16

    رد: «نانوبيديا» واسب .. واندال .. ويرْد

    «نانوبيديا» -الحلقة الثامن عشر
    ظلّ.. ظفرنامة.. الظاهر
    بقلم :محمد الخولي



    في مجال السياسة بشكل عام.. وفي مضمار المدرسة الديمقراطية بشكل خاص، ثم في انجلترا بشكل أكثر خصوصية يعرف النظام السياسي حكومة الظل.. وإن كانت هذه التسمية الغربية ينقصها الدقة.. فالمقصود بالذات هو مجلس وزراء الظل.. وتلك ممارسة سياسية لا سبيل إلى تطبيقها سوى في البلدان التي يحكمها نظام حزبي.


    أو بالأدق نظام حزبي ثنائي يقوم على أساس حزب حاكم وحزب معارض على نحو ما هو الحال في بريطانيا، حيث يتبادل الحكم - الوزارة الحزبان الرئيسيان وهما حزب العمال (الحاكم حالياً) وحزب المحافظين (المعارِض حاليا)..


    وقد استخدمنا تعبير «الرئيسيان» لأنه لا مانع في ظل نظام سياسي حزبي أن يوجد في إطار هذه الثنائية الحزبية طرف ثالث وربما أكثر يتمثل في حزب آخر أقل شأنا وعددا وأهمية (حزب الأحرار في انجلترا مثلا) ولكنه يكتسب مع ذلك أهميته عندما يتسابق الحزبان الكبيران على خطب ودّه ونيل تأييده في مواسم الانتخابات بهدف ترجيح الأغلبية لصالح أي من الحزبين الكبيرين.


    إذن فالحزب الفائز في الانتخابات هو الذي يشكل الحكومة التي يتربع على رأسها مجلس الوزراء بيد أن الحزب الآخر الذي لم يفز والذي يشغل مقاعد المعارضة سواء في مجلس العموم (البرلمان) أو في الحياة السياسية بشكل عام (ويسمى أعضاؤه في مفردات السياسة الانجليزية بأنهم الخارجيون بمعنى المستبعدين من جنة الحكم) - هؤلاء الخارجيون يبادرون حسب التقاليد المتبعة إلى إنشاء حكومة من جانبهم يقوم على أمرها بنفس المقياس مجلس وزراء آخر أو مواز للوزارة الحاكمة ويوصف بأنه مجلس وزراء الظل أو حكومة الظل..


    والهدف هنا مزدوج لأنه من الناحية السيكولوجية يبشر أو يعزّي قادة المعارضة وجماهيرها بأن النجاح سيكون من نصيبهم في جولة الانتخابات المقبلة. ولأنه أيضاً يوزع على هؤلاء القادة مناصب الظل الوزارية المكافئة للمناصب الفاعلة الحاكمة والحقيقية.. وإذا بوزير صحة الظل يدرس قضايا الخدمات الصحية في البلاد ويرصد ويتابع بمعيار النقد والتقييم سلوك وقرارات وزير الصحة الحقيقي وكذلك يفعل وزير الزراعة أو وزير الشئون المحلية ومن إليهم..


    ثم ان المسألة لا تقتصر على موسم مقبل من الانتخابات.. في النظام الديمقراطي.. إذ يمكن أن تطرح الثقة بالحكومة القائمة من جانب أعضاء البرلمان وخاصة في الأزمات الكبرى وفي القضايا القومية العليا..


    وطرح الثقة هنا ينطوي على مراجعة أو هي وقفة للتصدي إزاء سلوك هذا الوزير أو قرارات تلك الوزيرة.. وإذا أمكن إثبات الخطأ.. يسحب البرلمان الثقة من الوزير المختص، ولأن المسؤولية الوزارية تضامنية.. تسقط الوزارة - الحكومة بأكملها.. ويفسح الطريق أمام تولي المعارضة شؤون الحكم حيث يكون مجلس وزراء الظل جاهزا وعلى أهبة التمرس والاستعداد التقني والموضوعي لاستلام مقاليد البلاد.


    ولأن الانجليز قوم عمليون.. ومجاملون أيضا فهم لا يتعاملون مع المعارضة على أنها العدو اللدود أو الخصم الذي ينبغي أن يُقهر.. ومن ثم تقضي تقاليدهم الديمقراطية باحترام المعارضة لا من باب السلوك الملائكي أو التطوع لفعل الخير، ولكن لأن الحكومة القائمة تدرك بأن الديمقراطية في جوهرها تعني أساسا تداول السلطة وتعني تناوب الأطراف على مقاعد الحكم..


    ويوم لك ويوم لي وأنت اليوم تحكم ولكن غدا - من يدري - أنت معارض.. لهذا اصطنعوا تعبيرا مهذبا يصف الحزب «الآخر» الذي لا يحكم بالعبارة التالية: «معارضة صاحبة الجلالة». ولا بأس أيضا من إضافة المخلصة أو الوفية ذات الولاء لوصف هذه المعارضة.


    والمهم في هذا كله.. أنهم يأخذون المسألة على محمل الجد.. بمعنى أنهم لا ينظرون إلى وزارة الظل على أنها مجرد كيان رمزي أو مسألة شكلية.. واجهة مظهرية.. كِمالة عدد كما قد يقال.. بالعكس.. فالتقاليد تقضي بالتعامل مع حكومة الظل بكل جدية. وأهم مظاهر هذه الجدية يتمثل في ضرورة إتاحة المعلومات الموثوقة - معلومات الدرجة الأولى كما قد نصفها أمام وزير.. الظل المختص..


    ومرة أخرى فهذا الأسلوب الذي يتيح تدفق المعلومات ومن مصادرها الأصلية المسؤولة يكمل الجوانب الحيوية الأخرى من الممارسة الديمقراطية، ويكفل تعاون الطرفين: حكومة الأصل (في مقاعد السلطة) وحكومة الظل (في مقاعد المعارضة) من أجل تحقيق المصالح القومية العليا التي تهم المحكومين.


    ظفرنامة


    تمثل العمل التاريخي والأدبي الذي صنّفه أساسا في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي مؤلفه نظام الدين شامي بناء على طلب من الغازي المغولي الشهير «تيمور لنك» )6331- 5041(. تشير في أصلها الفارسي إلى معنى «كتاب الانتصارات» أو «سفر الغزوات أو الفتوحات»..


    لكن شهرة المؤلف شامي المذكور ما لبثت أن فاقتها وتجاوزتها شهرة كاتب آخر جاء من بعده بنحو 50 سنة واسمه شرف الدين علي يزدي الذي تعده الموسوعة البريطانية من أعظم مؤرخي القرن السادس عشر في إيران. ورغم أن المعلومات شحيحة عن نشأة هذا المؤلف الذي احترف مهنة التعليم، إلا أن المهم هو الصداقة التي ربطت بينه وبين شاه روخ الذي حكم إقليم يزد الذي ينتمي إليه المعلم المثقف..


    والغريب أن شرف الدين لم يتورع عن استخدام نفس عنوان السيرة التي سبقه إليها نظام الدين شامي.. ربما لأن كلا العملين كان يتناول سيرة «تيمور لنك» ويحاول إنصافه من مؤرخيه بل ومن معاصريه بعد أن شاعت عن الرجل قسوته الشديدة إلى درجة الفظاعة في معاملة خصومه وخاصة من كان يهزمهم في ساحات القتال حتى لقد صار تيمور لنك هو البطل - الضد كما قد نسميه، بمعنى الرمز الأقرب إلى الشر والظلم والظلام في المأثورات الشعبية التي رددها الناس على مدار عصور..


    ويقال أن تيمور لنك بدأ حياته العسكرية بادعاء انه ينحدر من سلالة محارب مغولي آخر شهير ورهيب هو جنكيز خان. وكان منطلقه في البداية من أراضي تركستان في آسيا الوسطى وعاصمتها سمرقند وبعدها انطلقت جيوش تيمور كإعصار صاعق كي تكتسح بلاد الهند وتستولي على دلهي وبعدها تحوّل إلى الشام والعراق ثم إلى الأناضول وآسيا الصغرى حيث هزم العثمانيين في موقعة أنقرة عام 1402 للميلاد.


    مع ذلك تدل صحائف التاريخ أن الأتراك العثمانيين لم تنكسر شوكتهم من جراء هذه الهزيمة.. ها هم بعد 50 سنة لا أكثر من موقعة أنقرة ينجزون عملا تاريخيا حين دكّت جيوش سلطانهم محمد الثاني (الفاتح) المظفرة أسوار مدينة القسطنطينية (أسطنبول) التي طالما استعصت على الغزاة والفاتحين وكان ذلك في عام 1493للميلاد.


    في سيرة تيمور لنك التي كرستها رسالة «ظفرنامة» نسجل ملحوظتين على الوجه التالي:


    الأولى: أن الرجل حين دخل دمشق.. بادر لتوه إلى جمع طائفة من أفضل علمائها وأمهر صنّاعها وأروع فنانيها وأمر بحملهم جميعا الى عاصمته سمرقند..


    ومن عجب أن يدور الزمن دورة كاملة قوامها 117 سنة بالضبط فإذا بالسلطان العثماني سليم يدخل القاهرة غازيا في عام 1517 ويتخذ نفس القرار ليحرم مصر من أمهر مبدعيها وأفضل العاملين فيها ويأمر بتسفيرهم الى عاصمته في اسطنبول.. وبين سمرقند المغولية واسطنبول - الأستانة التركية، يتأكد الاعتراف العملي بأن الوافد بالغزو والقوة العسكرية الغاشمة يدرك بيقين أنه أقل مستوى وأدنى حضارة من البلد الذي تعرض للغزو بمعنى أن العبرة هي للحضارة والتقدم الفكري والتقني قبل ان تكون للسيف أو المدفع.


    أما الملحوظة الثانية فقد حاولت أن تسجلها بعض المراجع الرصينة والمنصفة (الموسوعة العربية بإشراف المفكر الراحل شفيق غربال) ومفادها شهادة تقول:


    بالرغم مما تحفل به سيرة تيمور لنك من أعمال القسوة.. إلا أن له مآثر مذكورة منها أنه كان يعمل على تشجيع الفن والأدب والعلم، وعلى إقامة المنشآت الحكومية الضخمة.. لصالح جموع الناس.


    الظاهر


    هذا اللقب الذي يدل على البروز أو النبوغ وأحيانا على من يتظاهر بالنبوغ أو البروز حمله أكثر من حاكم في دول المماليك التي حكمت مصر قرونا من الزمن امتدت من عام 1250 (حكم شجرة الدر وعز الدين أيبك التركماني) وعام 1516 حكم طومان باي الذي قاوم الغزو العثماني وشنقه السلطان سليم على باب زويلة بالقاهرة).. أربعة قرون إلا قليلا تنوعت فيها دول هؤلاء المجلوبين من آسيا الصغرى والوسطى ما بين المماليك البحرية والمماليك السلجوقية والمماليك البرجية.. عشرات من الملوك والسناجقة والسلاطين والأمراء (48 بالتمام والكمال) بعضهم أسقط التاريخ ذكره من فرط الخمول .


    وبعضهم حرص التاريخ على أن يذكره مقرونا بلعنة الظلم أو التخلف أو الفساد.. لكن ثمة فئة من هؤلاء الحكام المماليك ما برح تاريخ المشرق يذكرها بامتنان شديد. وفي مقدمة هذه الفئة.. يلمع اسم «الظاهر بيبرس البندقداري» وهو السلطان رقم 5 الذي تولى باسم الظاهر ركن الدين على مدى الفترة 1260 - 7721 للميلاد.


    وبقدر ما شهدت في حقه دفاتر المؤرخين، بقدر ما لهجت بمآثره ملاحم الفولكلور الشعبية.. حتى ليكاد يتفرد دون الثمانية والأربعين حاكما من هؤلاء المماليك بأنه بطل القصائد الطوال التي ما برح الناس يسمعونها على ألسنة شعراء الربابة الجوالين في مهرجانات الحصاد وفي موالد أولياء الله الصالحين في دلتا النيل وفي الصعيد وربما في بقاع شتى من أرض الشام.. لماذا؟


    لأنه بطل معركة المنصورة (شمال شرقي دلتا النيل) التي استطاعت فيها جيوشه المسلمة أن تصد غارة الصليبيين وتهزم جحافلهم عام 1258، ولم يكتف الظاهر بيبرس بهذا الانتصار التاريخي على أرض مصر..


    بل حشد قواته لملاقاة التتار الذين اكتسح إعصارهم الصاعق أراضي المشرق إلى أن لاقاهم الظاهر بيبرس وأوقع بهم الهزيمة في عين جالوت (سنة 1260 للميلاد) التي أظهرت أيضا شجاعة وبطولات قادة المماليك وعلى رأسهم السلطان سيف الدين قطز. حيث أمكن احتراز هذا النصر التاريخي على جحافل التخلف المغولية التي كانت كفيلة في حال فوزها أن تعود بحياة العرب والمسلمين قرونا عديدة إلى الوراء.


    أحرز بيبرس كل هذه الانجازات العسكرية إذ كان قائدا للجيوش.. وبعد أن استوى على عرش السلطة بالقاهرة المملوكية لم يخلد إلى ترف الدعة والجاه بل واصل جهاده من أجل تحطيم ما تبقى من قوى الأوروبيين المستترين بشعار الصليب وكانوا يستعمرون بقاعا عديدة في سورية الكبرى وفي فلسطين.. ثم اتجه الظاهر جنوب مصر فكان أن توسعت دولته الإسلامية لتشمل بلاد النوبة بين مصر والسودان..


    وفيما ترجمت هذه المنجزات إلى حروف وسطور في سيرة الظاهر، وفيما ارتفع به الوجدان الشعبي إلى مصاف الأبطال فمازال المسجد الجامع الذي شيده في قاهرة المعز القديمة قائما يشهد بروعة المعمار المملوكي ويحض زوار المسجد على أن يقرأوا الفاتحة داعين لصاحبه بالرحمة والثواب وربما بالمغفرة التي يحتاج إليها كل إنسان حتى ولو كان في صفوف الحاكمين أو المجاهدين.

  7. #17

    رد: «نانوبيديا» واسب .. واندال .. ويرْد

    «نانوبيديا» -الحلقة التاسع عشر
    عبدالحميد .. العم سام ..عود
    بقلم :محمد الخولي



    عبدالحميد لأن خير الأسماء ـ على نحو ما يقول الأثر الشريف ـ هو ما ينصرف إلى معاني التعبيد والتحميد.. فإن الباحث في دفاتر الثقافة الإسلامية ـ العربية لا يلبث أن يصادف أكثر من اسم عبدالحميد متكررا في صفوف الأَعلام الذين تركوا آثارهم في سياق ثقافتنا.. وخاصة في العصر الحديث.


    لن تتوقف عند «عبدالحميد» كاتب بني أمية ولو في المراحل الأخيرة من دولتهم.. وقد توقف عنده المؤرخون بإعجاب إزاء موهبته التي حوّلت رسائل الحكومة الميري إلى أدب رفيع أو فلنقل إنها أفضت إلى تأديب المكاتبات الرسمية حتى شاعت مقولة إنه بدأت الكتابة بعبدالحميد (ت سنة 750 للميلاد) وإن لم تنته في رأينا بمنشئ كبير آخر هو عبدالحميد (ت970 ميلادية).


    لكننا سنتوقف عند طائفة من مشاهير من حملوا الاسم في مرحلة تاريخية قريبة نسبيا هي القرن التاسع عشر.. وفي مقدمتهم طبعا البادشاه عبدالحميد الثاني سلطان تركيا ورأس الدولة العثمانية (1842 ـ 1917).


    وقد سبقه عبدالحميد الأول الذي حكم في الفترة التي بدأت 1774 وانتهت عام 1789 أي عام الثورة الفرنسية وقد ازدادت الدولة في عهده تدهورا من الناحية الاقتصادية وهزالا من الناحية السياسية والحربية حيث منيت بهزائم عسكرية شتى من جانب خصومها في النمسا وروسيا ورومانيا..


    وعندما اعتلى عبدالحميد الثاني في عام 1876 عرش السلطنة كانت امبراطورية الأتراك الزاهرة الشاسعة تلفظ أنفاسها الأخيرة وقد فاضت روحها فعلا بعد ذلك التاريخ بأقل من 50 عاما.


    لهذا كان السلطان يحكم بأساليب تجمع بين الخديعة واستخدام الجواسيس، وبين رشوة المؤيدين وفساد ذمم المعاونين وبين فرض الرقابة المشددة على حرية التعبير إلى حد التزمت الباعث على السخرية في بعض الأحيان.. كيف لا وقد كان الرقيب العام للدولة العليّة واسمه عندهم «المكتوبجي» يحّرم استخدام، ناهيك عن، نشر كلمات من قبيل استقلال.. حرية.. دستور.. صحافة.. حقوق.. الخ.


    ولأن مثل هذا الضغط هو البيئة التي تتكاثف فيها سحب البخار ومن ثم الانفجار.. فقد حدث الانفجار سنة 1908 حين أجبر شباب الضباط الأتراك ساكن قصر بلدز على ضفاف البوسفور على إعلان الدستور وبعدها عزلوه ليعيش بقية حياته سجينا إلى أن رحل عن الدنيا في عام 1918 دون أن يشهد النهاية الحاسمة لامبراطورية بني عثمان التي ألغيت فيها الخلافة وزالت الدولة في عام 1923.


    من ناحية أخرى يعتز الاقتصاد العربي المعاصر باسم «عبدالحميد شومان»، العصامي الفلسطيني الذي لم يكد يعرف القراءة والكتابة (والعهدة على المؤرخ المعاصر أيضا الأستاذ خير الدين الزركلي) وقد ولد في قضاء القدس بفلسطين عام 1890 .


    وبدأ حياته بائعا متجولا وتقلب في أعمال شتى إلى أن هدته عقليته الثاقبة إلى أن مقاومة مخططات اليهود في فلسطين لا تكون بالأمنيات أو الشعارات بقدر ما تكون بإنشاء صرح اقتصادي وطيد الأركان.


    ومن ثم جاء إنشاء البنك العربي في عام 1930 الذي ما لبث أن توسعت أنشطته وأصبح له أكثر من 50 فرعا في العواصم العربية إلى جانب فروعه في أوروبا والولايات المتحدة. ومازال البنك شاهدا على عصامية هذا.. الـ عبدالحميد الفلسطيني الناجح الفالح الذي تحدى الظروف وارتاد آفاقا غير مسبوقة في النشاط العام إلى أن رحل إلى عالم البقاء في عام 1974.


    أما عبدالحميد الأخير في هذا السياق الموجز فهو الصحافي العربي المناضل «عبدالحميد الزهراوي» وهو من مواليد حمص السورية عام 1855 وتشاء الأقدار أن يتصدى عبدالحميد العربي السوري لحكم الجواسيس وخفق الحريات الذي تولاه سِمّيه عبدالحميد التركي العثماني.. هكذا كافح الصحافي لإصدار جريدة «المنبر» من وراء ظهر المكتوبجي ـ الرقيب العثماني وكان الكاتب السوري الشاب يوزعها سرا لأنها كانت تطالب بالدستور ميثاقا للحريات..


    ومع ذلك فقد ظل ينشر أفكاره ودعواته التحررية في صحف وجرائد شتى في دمشق وأحيانا في الأستانة ذاتها وفي مصر بعد أن توسعت أفكاره فلم تقتصر على دستور عثماني بل امتدت إلى الدعوة القومية لوحدة العرب وإعلاء شأن لغتهم وثقافتهم ومن ثم استقلالهم عن سيطرة تركيا وخاصة بعد أن هيمنت عليها دعوات الشعوبية الطورانية الرامية إلى تتريك الشعوب العربية.


    وعندما انعقد أول مؤتمر قومي عربي عام 1913 في باريس انتخبوا عبدالحميد الزهراوي رئيسا له.. وهو أمر لم تغتفره سلطات الاحتلال التركي للشام التي كان يتولى مقاليدها جمال باشا الملقب بالسفاح.. الذي استحق هذا اللقب الشائن بالفعل عندما عقد محاكمة ظالمة لكوكبة من شباب الأمة العربية ورجالاتها وأصدر عليهم ديوان عاليه (جبل لبنان) حكما بالإعدام وكان في صدارتهم بطلنا الصحافي.. الفقيه الداعية القومي العربي عبدالحميد الزهراوي وكان ذلك في عام 1916 للميلاد.


    العم سام


    صورته مطبوعة.. ومعروفة في كل مكان.. قبعته الطويلة وعليها رسم العلم الأميركي المخطط بنجومه الكذا والخمسين رمزا لكل ولاية داخلة بالفعل في إطار الاتحاد الفيدرالي الذي تديره العاصمة واشنطن، هذا بالإضافة إلى لحيته الطويلة البيضاء التي عملت فيها أصابع التهذيب والتمشيط.. فضلا عن سرواله الطويل المخطط والمتهدّل وعلامات الكهولة البادية على ملامحه..


    في كل حال فقد أصبح العم سام اسما يستخدم في مجال الصحافة والدعاية بالذات للدلالة على حكومة الولايات المتحدة.. وربما أصبح رمزا لكل ما هو أميركي في نظر جماهير الشعوب الأخرى.. تماما مثلما هو الحال بالنسبة لرمز بريطانيا جون بول الذي يرسمونه رجلا ربعة مكتنزاً عريض الوجه يرتدي قبعة أقرب إلى الصحن العميق وقد تابعهم في ذلك المسار صحافة القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين إذ كانت تقدم لقارئيها صورة «المصري أفندي»®.


    إنسانا أميل إلى القِصر والامتلاء فوق رأسه الطربوش الأحمر الذي تطالعه الأجيال الشابة في أفلام الأبيض والأسود وفي يده مسبحة تتوازى مع علامات الطيبة المرتسمة على ملامح سحنته.. ويحار المؤرخون في تقصي الأصل الذي نبعت منه تسمية؛ ومن ثم صور أو رسومات العم سام الأميركاني وإن كانت هناك رواية تاريخية تنسبه إلى موظف أميركي كبير عاش في أوائل القرن التاسع عشر..


    اسمه صامويل ويلسون من ولاية نيويورك وكان يعمل مفتشا على إمدادات الجيش الأميركي وخاصة في الحرب الأميركية ـ البريطانية التي اندلعت بين عامي 1812 و1814 حول حقوق الملاحة والأراضي بين انجلترا ومستعمراتها السابقة في العالم الجديد.


    يقال إن ويلسون المذكور أعلاه كان شديد التحمس للدولة الفتية الجديدة التي يفتش على قواتها (كان عمرها وقتها لا يزيد على 16 سنة فقط لا غير) ولذلك كان يضع علامة على كل مادة يفحصها ترمز إلى دولته الشابة ـ الولايات المتحدة وقد اختصر اسمها الانجليز بالحرفين يو.. إسْ (u.s) يومها كان العمال والجنود يستخدمون نفس الحرفين لكي يصطنعوا للرجل المتحمس اسما جديدا هو أنكل سام من باب الطرافة والمزاح..


    وبعدها ذاعت التسمية. ولأنها مختصرة ومبسطة فقد كانت تستجيب للعقلية الأميركية ومن ثم اكتمل لدولة الولايات المتحدة الرمز المبسط الذي كانت بحاجة إليه تجسيدا لشخصيتها وكيانها في أوقات السلم حيث يقول الفرد الأميركي وقد تنفس الصعداء:


    ـ الحمد لله.. لقد دفعت فلوس العم سام (يعني سددت حصتي من الضرائب للدولة).


    أما في زمن الحرب فلا يزال الأميركان يذكرون العم سام.. وقد كادت صورته تحتل إعلانا علقوه في الطرقات العامة.. اكتست ملامحه جدية صارمة وقد مد إصبع السبابة وهو يقول:


    ـ أنا بحاجة إليك.


    تلك كانت دعوة إلى التطوع في سلك التجنيد ولاسيما وسط لهيب الحرب العالمية الثانية.


    في متن العربية الشريفة نطالع في هذه المادة نوعين من النبات أولهما شجرة استوائية تزدهر في الأصقاع الأميركية الجنوبية وهي دائمة الخضرة ولها إفرازات صمغية (راتنجية) تستخدم في صناعات العقاقير.


    . ولأن لأخشابها قيمة كبيرة فقد اصطلحت المعاجم العربية على وصفها بأنها «عود الأنبياء» وأحيانا يصفونها بأنها «شجرة خشب النبي».


    وهناك أيضا عود الخير وهو شجرة صغيرة دائمة الخضرة بدورها، وأزهارها ـ يا للغرابة ـ وحيدة الجنس بمعنى أن الجنس المذكر فيها ينمو بطريقة معينة والجنس المؤنث ينمو بطريقة مغايرة تماما ويستخدمها أهل أميركا في أغراض الزينة في حفلات عيد الميلاد. وهناك طبعا بخور العود الذي ترتفع أثمانه بقدر ارتقاء نوعية الأريج الطيب الذي ينبعث منه.


    لكن الأهم في هذا السياق هو آلة العود التي تحتل حيزا واسعا بل شاسعا من سطور كتاب «الأغاني» الذي صنّفه أبوالفرج الأصفهاني (897 ـ 967 للميلاد) ليصبح من أمهات كتب الثقافة العربية على نحو ما أشار العلامة ابن خلدون.


    وليس لأحد أن يظن أنه كتاب في فن الغناء أو التلاحين رغم ما ألمحنا به عن أهمية العود والموسيقى في فصوله.. إن الأغاني كتاب جامع أقرب إلى الموسوعة الشاملة التي تعرض لمواضع شتى في التاريخ والأدب وفي النقد والأخبار وفي الأنساب والسير والتراجم..


    ولعله استمد عنوانه الجذاب من واقع اهتمامه بفن الغناء وإبداع الموسيقيين ولاسيما المئة صوت (بمعنى 100 قالب غنائي) التي ازدهرت كأعمال موسيقية رائعة خلال ذروة حضارة العرب المسلمين في العصر العباسي .


    حيث كانت الحياة الاجتماعية تضم الحاكم المثقف مع المسؤول المتذوق مع الموسيقار الموهوب (ابراهيم الموصلي مثلا) مع الجارية ذات الصوت الصادح والإجادة المتقنة في العزف على الآلة الفاتنة التي مازالت تحمل في زماننا اسم العود وقد اشتقوا اسمها من أصول فرعونية أو سامية وتحولت عند أهل الأندلس ومن بعدهم أوروبا إلى «لُوت» فيما يفضل بعضهم الاحتفاظ باسمها في لغة العرب..


    والكل يسلكونها (موسوعة كولومبيا الأميركية مثلا) في تصنيف الوتريات الدقيقة بأوتارها الخمسة وأحيانا السبعة المزدوجة المشدودة على قرصة بيضاوية يتفنن مهرة الاختصاصيين في صناعتها وتنسيقها بحيث يتاح للعود أن يصدر نغماته على سلم الموسيقى الشرقية بمقاماتها التي يعبر كل منها عن حالة مزاجية للإنسان ما بين الخفة والمرح (النهاوند) والرصانة (البياتي) إلى البهجة (الراست) إلى الابتهال (الحجازكار) إلى الشجن (الصبا) وغير هذه المقامات كثير من التفريعات والتنويعات ـ السكك المقامية كما يقول أهل الصنعة.. الذين يسلّمون في مضمار الموسيقى الشرقية أو العربية بأن العود هو سيد آلات الشجن الجميل الرقيق الأقرب ما يكون إلى الروح الشرقية.


    ومنهم من يضيف عن خبرة وعلم أيضا أن نغمات العود هي الأقرب إلى أصوات أوتار الحنجرة عند البشر. ولعل هذا هو السبب الذي جعل العود صديقا وفيا ومقربا وحميما إلى كبار المطربين في دنيا النغم العربي المعاصر.

  8. #18

    رد: «نانوبيديا» واسب .. واندال .. ويرْد

    نانوبيديا» -الحلقة-20
    غنائي.. غنوصية.. غيريللا




    غنائي للوهلة الأولى يتصور قارئ هذه الكلمة أنها تصدق أساسا على أوصاف الطرب والسلطنة وإيقاع الصوت الجميل.. ولا تثريب على القارئ في هذا التصور.. لكن الصفة لها إطار أوسع وأعمق في دنيا الشعر والتذوق الفني والنقد الأدبي..


    إنها تصدق على الإبداع الشعري الذي يودعه صاحبه عواطفه الحميمة ومشاعره الخاصة التي يتفرد بها ويترجم من خلال أبياته أشواق الروح ولواعج النفس وشجن الحياة..


    بهذا يصبح الشعر خاطرا جليلا وجميلا كأنه نَفَس الرحمن مقتبس كما وصفه يوما الأستاذ العقاد. وهو خاطر شديد الخصوصية وئيد الإيقاع مثل ضوء خافت في الليل.. أو مثل تباشير الصباح أو طلائع الشَفَق.. ذلك هو الشعر المهموس كما وصفه يوما أستاذ النقد الراحل الدكتور محمد مندور..


    الشعر الغنائي أمر يرتبط بالجانب الخاص في حياة مبدعيه.. في حين أن الشعر الوصفي.. الملحمي.. (المسرحي) يرتبط بالجانب العام من حياة الجماعة.. فالملحمة تتغنى بأمجادها وأساطير حياتها والقصيدة الوصفية تتمدح بآلاء طبيعتها في حين أن الشعر المسرحي يتابع دراما الحياة الإنسانية وصراعات الفرد مع مجتمعه أو مع الظروف.. ومع ذاته في بعض الأحيان.


    الشعر الغنائي نشيد يحتفل بالحياة أحيانا.. ونشيج يبثّ الكلمات هموم الشاعر وأحزان النفس في أحيان أخرى.. وهو ما تعارفت عليه ثقافات كثير. وعليه فثمة اتفاق على أن هذا اللون المتفرد والخاص من إبداع الشعر يرتبط بإيقاع الموسيقى حتى أن أساطير اليونان ترسم شخوص شعرائها الأقدمين وقد أمسك كل منهم بقيثارة يوقّع عليها ألحانه..


    وحتى لغتنا العربية تستخدم تعبير إنشاد الشعر، وتربط بينه - عند الأصفهاني مثلا - وبين أداء الغناء.. وقد عرف الجاهليون من كبار شعرائهم قامة سامقة هي الأعشى الكبير (أعشى قيس المتوفي عام 629 ميلادية) صاحب القصيدة اللامية الشهيرة.


    وقد وصفه معاصروه بأنه «صناجة العرب» إذ كان يطيب له ولهم أن يسمعوه وهو يردد أبياته بل يتغنى بها منشدا ومستمتعا في الأسواق والمنتديات.. ربما لهذا يفخر المتبني بإبداعاته الشعرية التي يتحول بها دور الزمن من راوية إلى منشد حيث يقول أبو الطيب:


    وما الدهر إلا من رواه قصائدي


    إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا


    لهذا يطلق معجم وبستر الأميركي وصف ليريك على مفردة «غنائيات» وليريك مشتقة من معنى القيثارة - ليريكوس في اليونانية ويلمح القاموس الانجليزي في هذا السياق إلى أن القصائد المقطوعات القصيرة (بعكس الملاحم الألفية الطويلة) تحمل صفة الغنائي (ليريكال) إما بحكم ارتباطها بآلة القيثارة الوترية المرهفة الرقيقة وإما لأنها تؤدي معاني بالغة الرقة ومشاعر بالغة الخصوصية وتعبر عن عواطف شديدة العمق والجيشان..


    ومثلما عرف العرب موسيقار الشعر الجاهلي - الأعشى - كان لدى اليونان نظيره أنا كريون (عاش نحو 470 قبل الميلاد) وكان الشاعر اليوناني أقرب في غنائياته وإيقاعاته وربما مجونياته إلى شاعر العصر العباسي الأول أبي نواس (757- 814م) ومثلما أسلمت إيقاعات الأعشى إلى تراث أروع الشعراء الغنائيين في إبداع العرب..


    من أبي نواس إلى البحتري وحتى شوقي والشابي في العصر الحديث، فقد أسلم ميراث أنا كريون إلى إبداعات بنداروس (ت عام 438 قبل الميلاد) الذي يعدونه أعظم الشعراء الغنائيين في تراث اليونان.


    وقد وصلنا من غنائياته 44 قصيدة كان ينشدها بمصاحبة جوقة (أوركسترا) الموسيقى في كرنفالات أعياد الإغريق، وإن كان بنداروس قد أضفى على خصوصية أشعاره طابعا عاما، ولكنه حافل بالبهجة والحبور فقد كان ينشئ وينشد قصائد تحتفل بوصول أبطال اليونان الفائزين في مسابقات الأولمبياد في ذلك الزمن القديم.


    في العصور الوسطى.. وبفعل ازدهار ممالك الأندلس العربية - الإسلامية.. تعمقت وشيجة الارتباط بين الشعر والموسيقى بفضل الطروبادور وهم شعراء القصائد الرومانسية الجوالون يعزفون على قيثاراتهم أناشيد العشق الجميل والهوى العذري في كل أنحاء أوروبا وكان هذا التراث هو المعين الذي استقى منه عباقرة الإبداع الشعري في الغرب.. ما بين شكسبير في انجلترا إلى هوغو في فرنسا إلى جوتة في ألمانيا وغيرهم كثير.


    غنوصية: طول عمر الإنسان فوق ظهر الأرض وهو دائب البحث عن.. الخلاص.. يريد الإنسان أن يروي أشواق الروح ويطفئ الظمأ الدائب نحو استشراف المجهول الكامن وراء حجب الطبيعة وما وراء الطبيعة.. ولا سبيل إلى اقتحام هذا العالم المفعم بالأسرار إلا بوسيلة واحدة هي:


    المعرفة


    والمعرفة في تراث الأقدمين لها لفظة يونانية هي «غنوسص». والغنوصي هو الفرد الملاح في بحور المعرفة وخاصة معرفة الميتافيزيقا.. ما وراء الطبيعة، تلك التي لا سبيل إلى إدراكها بمجرد الحواس الطبيعية بل ينبغي أن يتفرغ الفرد كي يطرق أبوابها بأدوات التأمل أو التفكر أو الاستبطان.


    أو بكل هذه الأدوات جميعا.. من هنا كان بحث الإنسان الدائب عن اليقين، عن سلام النفس.. وسكينة الروح أو حتى راحة البال.. ولا سبيل إلى هذا أيضا سوى بالعقيدة.. الدين.. الإيمان بأن الإنسان مادة وروح.. جسم ونفس كما فطره خالقه عز وجل..


    ومن هنا كان العناق الطيب بين الفلسفة والدين. وقد تجسد هذا العناق في مراحل مبكرة من مسير الحضارة الإنسانية لعل أهمها ما شهدته حركة الغنوصية التي تصفها المعاجم الفلسفية المتخصصة بأنها «مذهب العرفان» الذي انشغل دعاته ومعتنقوه برياضة النفس والسير على طريق المعرفة الروحية التماسا لمعرفة الحق تبارك وتعالى وحالة الإيمان بفاطر العالم ومنشئ الكون بوصفها أسمى مدارج العرفان والباب الحقيقي المفضي إلى مرافئ اليقين.


    ألا ترى إلى استخدام العرب مصطلح «العارف بالله» آية على الفرد الصالح والمتبتل في محراب العبادة والباحث دوما عن الحقيقة المطلقة المثلى؟


    هكذا كان أهل الغنوصية: المذهب الذي ازدهر في آخر العصر الهيليني - غروب الحضارة اليونانية في العقود الأخيرة قبل الميلاد، وهي نفس الفترة التي شهدت تباشير العقيدة المسيحية التي بدأت بالطبع مع مولد نبي الله عيسى المسيح بن مريم عليه السلام منذ ألفي سنة أو تزيد قليلا.


    مذهب الغنوصية حافل بالأسرار والأفكار والطروحات المتعلقة بما يسمى عالم الماورائيات. وأصحابه يقولون بثنائية التمييز بين الخير والشر بوصفهما ركيزتي الوجود وربما أوغل القوم غوصا في بحر الأسرار ومن ثم كان طبيعيا أن تخالط أفكارهم أوْشابا شتى من الأساطير والخرافات والمرويات التي يصعب توثيقها والاقتناع بوجاهتها..


    وكان طبيعيا كذلك أن تتمازج معها روافد من العقيدة اليهودية وأن يصل الأمر في القرن الثاني للميلاد إلى تقسيم خلق الله إلى ثلاث فئات:


    تضم أولاها أتباع مذهب الغنوصية - العرفاني وخلاصهم مضمون. والثانية تتمثل في الباحثين عن طريق الإيمان فإذا بلغوا غايتهم كان في ذلك خلاص أرواحهم ونهاية معاناتهم.. أما الفئة الثالثة فهي التي لاتتبع طريق الغنوصية بمعنى أنها لا تشتغل بحكمة الفلسفة ولا بفضيلة التأمل ولا في التماس المعرفة سبيلا إلى اليقين.. وتلك هي الفئة التي ساء حظها وتعثرت خطاها ولا سبيل إلى خلاصها من قريب أو بعيد.


    وقد يسترعي النظر غلبة مثل هذه التقسيمات في حياة البشر وعلى مدى مراحل شتى من تاريخ الإنسان، ومن تطور العقائد والملل والنِحل والديانات: إنها فكرة الفئة الناجية، تنال الجزاء الأوفى في عالم الماوراء..


    ويقابلها بداهة الفرقة الهالكة أو الظالمة أو الباغية وبينهما الفرقة الباحثة.. التي تقف عند الحلقة الوسطى.. على صراط المطهر (البورغاتوريو) بين مدارج الفردوس (باراديسو) ومهالك الجحيم (انفيرنو) إذا استخدمنا مصطلحات الشاعر الإيطالي دانتي الليجري (1265- 1921م) في ملحمته الشهيرة بعنوان «الكوميديا الإلهية»®.


    غيريللا


    كلمة يتعمد الممتحنون أن يلقوا بها وسط سطور اختبارات المترجمين الجدد أو دارسي علم الترجمة كي ينخدع شباب الترجمة بشكلها وأحيانا بإيقاع نطقها، فما بالك حين يصادفون الكلمة محاطة بمعان وسياقات تدل على الغابات الاستوائية الكثيفة والأشجار المدارية الباسقة الملتفة الأغصان.. الخ. بعضهم ينقاد إلى كلمة الغوريللا التي لا تتميز سوى بحرف العلة (الواو بدل الياء) وبعضهم يحار في فهم النص أو ينتابه بعض الارتباك ولو إلى حين..


    ويحلّ هذا الحين عندما يمعن القارئ في النص ليدرك أن «غيريللا» كلمة مشتقة من لفظة «غير» الفرنسية بمعنى الحرب.. وأنها تصغير للكلمة الفرنسية ومن ثم فهي الحرب الصغيرة. ولأن اللغة ليست حروفا أو مقاطع ولكنها مفاهيم ومصطلحات فقد اتفق الناس على إطلاق لفظة غيريللا لتعني حرب العصابات وهي صغيرة لأنها تتميز بسرعة الحركة ومرونة التشكيل وبالاستقلال عن القوات النظامية .


    وبالوحدات القتالية الصغيرة الأقرب إلى الخلايا التي تستمد أهميتها وربما اندفاعاتها - الفدائية في الغالب، أولا من واقع الإيمان بقضية (وطنية أو عقائدية أو هما معا) وثانيا من واقع زعامة يجسدها فرد يتمتع بقدرات قيادية ومواهب الجاذبية الكاريزمية بحيث يجمع بين أدوار المفكر أو المنظّر وبين مسؤوليات الكولونيل وضابط الأركان المحنك والفدائي أيضا.


    يمكن أن نعد حرب العصابات أسلوبا من أساليب القتال وحسم المواقف في الحروب الحديثة.. تجلت أهميتها مثلا في الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة (ستينات القرن 19) وفي حروب الاستقلال بدول أميركا اللاتينية (عن اسبانيا أو البرتغال) وحروب الصين بقيادة الزعيم ماو ورفاقه ضد الاحتلال الياباني وفي معارك التصدي المعاصرة التي خاضتها فصائل عربية فدائية ضد الاحتلال والعدوان الصهيوني.


    وفيما تؤكد المراجع المختصة (موسوعة السياسة مثلا - الصادرة في ولاية فرجينيا الأميركية) على أهمية أسلوب الكر والفر في حرب العصابات..


    إلا أن هذه المراجع تحرص على إضافة ما تصفه بأنه المهام الأساسية الست لحرب العصابات وقد بلورتها تجارب قادتها المحنكين وهذه المهام تنصح الفرد الذي يخوض هذه الحرب التي تسمى أحيانا بحرب الفدائيين وأحيانا بحرب الكوماندوز أو المغاوير بأن يقوم بما يلي إزاء العدو الذي يتصدى لمواجهته:


    * إعاقة + خداع + تشتيت + تدمير + هزيمة - ثم مغادرة الموقع بغير توان.

  9. #19

    رد: «نانوبيديا» واسب .. واندال .. ويرْد

    نانوبيديا»
    فاشيّة.. فهرنهايت.. فارْس




    دائرة معارف مصغرة في 30 حلقة عن مصطلحات ومسميات عاشت في زماننا، من هنا نقدم سبيكة معرفية نحكي فيها عن أصول الكلمات والمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمونها في حياتنا الراهنة.. من الانجليزية الى العربية. ومن خلال هذا الجهد الذي استغرق مراحل زمنية مطولة وعمد الى استشارة مراجع متخصصة شتى.. آثرنا أن نعرضه على شكل موسوعة عربية مصغرة نانو موسوعة رتبناها على حروف الأبجدية العربية من الألف الى الياء بحيث نخّص كل حرف منها بثلاثة مصطلحات يطالعها القارئ الكريم على امتداد أيام رمضان المعظم.


    فاشيّة


    فاسكيزمو ـ فاشيزمو في اللاتينية ومن ثم في الايطالية تعني الحزمة أو المادة المتجمعة، وبالتالي فهي العصبة والفصيلة من البشر حيث يعلو انتماء الفرد إلى عصبته وجماعته فوق أي انتماء آخر، وحيث يعلي الفرد انتماءه إلى الجماعة إلى مستوى التعصب لسلالة ينحدر منها أو إلى أمة ودولة يعيش بين ظهرانيها. ومن هنا فالفاشية - الفاشستية كما تسمى أحيانا تلعب على أوتار النعرات القومية والتعصب العرقي وتجعلها في مرتبة أوْلى بالاهتمام والتكريس من كيان الفرد بوصفه كائنا وإنسانا.


    من هنا ثارت تساؤلات غاضبة لها مشروعيتها عندما استخدم الرئيس الأمريكي بوش مؤخرا وصف الفاشية والفاشست في معرض حديثه عن فصائل بعينها من المنتمين إلى الإسلام او إلى المسلمين. وفي كل حال فلم يكن الوصف موفقا ولا كان هذا التعميم سليما ولا دقيقا.. فالعالم يعرف أن جذور الفاشية بدأت في أوروبا والغرب بالذات وأنها ترجع إلى معارضي ثورة فرنسا الكبرى عام 1789 وكانوا من طبقات الارستقراطية الإقطاعية ممن جمعوا صفوفهم من أجل استعادة ما كانوا ينعمون به من امتيازات.


    لكن الفاشية ظهرت وتجسدت كدعوة أيديولوية ونظام سياسي واقتصادي مع زعامة بنيتو موسوليني (1833 - 5491( الذي أصبح من شخصيات العمل العام في ايطاليا عام 1919 وتميز من حيث صرامة التطبيق وديكتاتورية الحكم والمبالغة في الانضباط والولاء للتشكيلات الحزبية التي اتخذ معظمها شكل الميليشيات العسكرية وشبه العسكرية، لدرجة أن عرف أفرادها بذوي القمصان السود..


    وعمد موسوليني إلى إحياء رموز الامبراطورية الرومانية القديمة في محاولة لإثارة وحشد جموع الشباب الايطالي الذين عانت بلادهم بعد الحرب العالمية الأولى مشاكل وأزمات اجتماعية - اقتصادية كان في مقدمتها البطالة والفوضى والسخط العام على ما آلت إليه الأوضاع وعدم الثقة في ولاة الأمور: تحية الفاشست كانت باليد الممدودة المبسوطة على غرار أباطرة روما القديمة.. وشعارهم الاثير كان يصف البحر الأبيض المتوسط بأنه «بحرنا».


    وفي تلك الفترة - من سنوات العشرينات والثلاثينات إلى منتصف الأربعينات - اتخذ موسوليني لنفسه لقب «الدوتشي» ورفع شعار حزمة العيدان الصلبة تتقاطع عند قمتها بلطة حادة وقد استعارها من روما القديمة التي كانت ترمز بها إلى السلطة الزمنية للأباطرة الكبار، وكان معناها ضرورة الطاعة الكاملة بغير مناقشة للمستويات الأعلى في الحزب وفي الدولة.. انتشرت الأفكار الفاشية بمعنى الديكتاتورية المتسلطة في المانيا على يد هتلر (باسم النازية) وفي اسبانيا على يد فرانكو (باسم الفالانغزم أو الكتائبية) بل انتقلت شراراتها إلى بعض دول أمريكا اللاتينية.. (ومنها ما عاش وعانى هذه الديكتاتورية الفاشية في فترة متأخرة شهدها النصف الأخير من السبعينات على يد الجنرال أوغسطو بينوشيه في شيلي).


    كان للفاشية وجه إيجابي جسدته ضرورة احترام القانون والالتزام بالضبط والربط ومحاربة الفساد والتشدد في معاقبة المفسدين والمنحرفين والتركيز على العمل الجاد والتطوع بالجهود الفردية لصالح المجموع.. بل كان هذا الجانب الإيجابي مثار اهتمام وتقدير زعماء أجانب ليس أقلهم الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت الذي كتب لسفيره في روما عام 1933 مبديا اعجابه العميق بانجازات موسوليني في ايطاليا!


    يمكن القول بأن الفاشية حققت نجاحات مادية - اقتصادية ولكنها دفعت الفرد إلى الانزواء والانكسار والخوف المستمر من بطش الدولة والحزب ومن تنكيل الجماعة بشكل عام.. هذا هو التناقض بين ما أعلنه موسوليني من اهتمامه الشديد بأن تتحرك قطارات روما في مواعيدها حسب جداول التوقيت وبين المظالم التي ألحقها بشعبه من جراء ديكتاتورية نظامه فضلا عن المد الامبريالي الذي حاول أن يركب موجته بحثا عن عظمة موهومة فكان أن أرسل جيوشه لتستعمر كلا من أثيوبيا وليبيا، ثم تحالف مع هتلر وخاض إلى جانبه (في إطار دول المحور) الحرب العالمية الثانية ضد الحلفاء في غرب أوروبا وروسيا - ستالين وأمريكا..


    وكانت النتيجة أن تجمعت صفوف معارضيه وانكسرت جيوشه بهزائم مروعة وجماعية في ميادين القتال.. وجاءت نهايته وسقوط نظامه الفاشي الغاشم عندما قبضت عليه قوات المقاومة (الانصار) ونفذوا فيه حكم الاعدام وعلقوه مع رفيقته كلارا بيتاتشي عبرة للقاصي والداني. وكان ذلك يوم 27 ابريل من عام 1945. ومن بعده تحولت الفاشية من مثال إلى أمثولة.. ومن نظام قائم إلى كابوس يود العالم أن يفيق منه.. وكان أن نسى الناس الإيجابيات وبقيت أوصاف فاشية وفاشست آية على استبداد السياسة وعلى ديكتاتورية الفكر وعلى آليات الفرض والقسر والإملاء في علاقات الفرد والجماعة على السواء.


    فَهْرنهايت


    في مدينة جدانسك البولندية، وفي عام 1686 للميلاد، ولد جابرييل دانييل فهرنهيت الذي يدل اسمه الاخير على أنه ينتمي إلى عائلة ألمانية الأصل. توفي أبواه فجأة فأرسله أقاربه لدراسة مهنة الاعمال التجارية (البيزنس) في أمستردام عاصمة هولندا.. وبحكم عقليته العلمية التي فطره الله عليها.. اجتذب اهتمامه عمليات التجارة في مجال الادوات والاجهزة العلمية ايضا وكان أن صحب عالم الفلك الدانماركي أولوس رومر الذي يُنسب إليه استحداث أجهزة القياس الحرارية لاستخدامها في عمليات الرصد الجوي.


    في 1709 استطاع الفتى فهرنهيت شخصيا أن يتوصل إلى ابتكار جهاز قياس درجات الحرارة باستخدام الكحول ثم جهاز آخر باستخدام الزئبق وأطلقوا عليه من يومها اسم ثيرمو بمعنى حرارة وميتر بمعنى عدّاد أو أداة للقياس.. وهي الترمومتر كما تعرفه لغتنا العربية وكان ذلك عام 1714 للميلاد.. وقد ركز صاحبنا على درجة 32 كأساس لنقطة تجمد الماء ودرجة 212 كأساس لنقطة غليان الماء بعد ان لاحظ أن الماء يمكن أن يظل سائلا تحت درجة تجمده وأن نقطة الغليان يمكن أن تختلف حسب ظروف الضغط الجوي.. وقد ظل هذا القياس الحراري المنسوب إلى فهرنهيت معمولا به حتى سنة 1970 للميلاد على صعيد الأقطار الناطقة بالانجليزية وبعدها تخلت عنه معظم تلك البلدان واعتمدت بدلا منه المقياس المئوي لدرجة الحرارة المعروف باسم ميزان سلسيوس.


    وفيما كانت بولندا مسقط رأس فهرنهيت كانت السويد مسقط رأس نظيره - المئوي كما قد نسميه.. وهو أنديرس سلسيوس وبالذات في مدينة أوبسالا عام 1701 للميلاد: أبوه كان فلكيا يعمل بالجامعة وقد تخرج منها أستاذا لعلم الرياضيات.. وفي عام 1742 خلص إلى مقياس درجة الحرارة المئوي السنتجريد الذي شاع بعد وفاته (في عام 1747) ويلاحظ استخدامه في الأقطار التي تتبع النظام المتري في قياس المسافات.. وربما يكون أبرز الاستثناءات في هذا الصدد هو الولايات المتحدة الأمريكية التي مابرحت تستخدم نظام فهرنهيت في قياس درجة الحرارة ونظام الميل والبوصة والقدم والياردة في قياس المسافات.. وهو ما يؤدي إلى إرتباك زائريها والمهاجرين اليها.. ولله في خلقه شؤون.


    فارْس


    غريب أن يحدث خلط تاريخي ولغوي أيضا بين كلمتي فَارْس (بتسكين الراء) وفورس حيث ترجع كلتاهما - على نحو ما يقول اللغوي (هيوروسون) - إلى كلمة فاركيري اللاتينية (فارسيري إن شئت) ومعناها الأصلي يفيد الحشو والملء والتعبئة وما إلى ذلك. ورغم أن كلمة فارْس في العربية المعاصرة أصبحت تفيد الفكاهة الهزلية إلى حد العبث يعني كوميديا درجة ثانية أو ثالثة.. فالعجيب أن أول استخدام قديم لها في الانجليزية لم يكن يتصل لا بالضحك ولا بالكوميديا ولكن بالطهي والأكل وربما بحشو المصران..


    ومع تطور الزمن بدأ الناس في فرنسا خلال القرن الرابع عشر يتحولون من حشو الفم بصنوف الطعام إلى حشو المناسبات الاجتماعية والاحتفالات الفنية - الكرن؟الات الشعبية وأعياد القديسين ومهرجانات القديسات بكل صنوف الترفيه والترويح عن الجموع الشعبية.. وجماهير الدهماء. وفي مقدمة أساليب هذا الترفيه كانت فنون الاضحاك والتنكيت شبه البدائية التي كان يؤديها المهرجون والمضحكون المحترفون.. ويعرفهم تراثنا الأدبي والتاريخي المعاصر باسم غريب وطريف هو: المحّبظون على نحو ما يذكر المؤرخ المصري - الحبشي الأصل عبدالرحمن الجبرتي.. وسواء كانوا مهرجين (كلاونز في الانجليزية) أو كانوا مضحكين أو محبظين إن أجزنا تعبير الجبرتي فالشاهد أن كانوا يُضحكون الجماهير من خلال النكات الفظة والمفارقات الخشنة والحركات البدائية العبثية أحيانا والسوقية في بعض الأحيان.


    وكان أشهرها - كما يقول مؤرخو الفن - هو تبادل المواقف والمكانة الاجتماعية، حيث يتفق السيد مع خادمه على هذا التبادل فيصبح السيد خادما ويصبح الخادم سيدا ويخفي هذا التناقض على سائر شخصيات العرض المسرحي البدائي وخاصة على البطلة الحسناء التي يود السيد أن يخطب ودها ولكن بعد أن يتأكد أنها تهواه لشخصه وليس لشخصيته بمعنى أنها تحبه شغفا وليس طمعا في أمواله.. (تكررت هذه التيمة الساذجة في الأفلام القديمة وخاصة في أفلام المطرب الراحل فريد الأطرش).. ولما كان الجمهور فاهما لهذه الحيلة ومتابعا لتناقضاتها.. فإن الضحكات تدوي في أرجاء المكان سواء كان صالة عرض متداعية شبه مهدمة أو كان خيمة كبيرة من النوع المنصوب في الأسواق.. أو حتى لو كان العرض في الهواء الطلق يغشاه الجمهور لقاء اجر أقل من زهيد.


    ومن فرنسا انتقل هذا النوع من دراما الضحك الساذج إلى ايطاليا ليتطور إلى فصيل درامي فكاهي جديد حمل اسم «كوميديا دي لارتي» بمعنى الخفيفة البسيطة القائمة على تناقض المواقف بدلا من التعقيد الدرامي المعتاد. وبعدها عاود الفرنسيون إبداع هذا اللون من فنون الإضحاك تحت عنوان «ال؟ود؟يل» وهو ما تأثرت به مدارس الاضحاك العربية مع سنوات القرن العشرين وخاصة مع بدايات مسرح نجيب الريحاني وسيد درويش وعلي الكسار في مصر كما عرفه الانجليز وقرنوا بينه وبين كوميديا الساتاير بمعنى السخرية واستهداف الاضحاك بحد ذاته وهو ما انتقل بدوره إلى مجال السينما منذ الثلاثينات وحمل معه خشونة وسذاجة وربما فظاظة الفارْس - كوميديا الأسواق القديمة..


    حيث كان الممثلون في السينما الصامتة يتبارون في تبادل الصفعات والركلات وتبادل التنكر بين أزياء النساء والرجال.. وقد تجلى هذا الاتجاه في أفلام المغفلين الثلاثة وما في حكمها.. ولم ينقذ الإبداع الإنساني في الغرب من هذه السذاجة الفنية سوى أفلام شارلي شابلن (1889 - 7791( أما في الشرق فقد تطورت ونضجت موهبة الفنانين نجيب الريحاني (ممثلا) وبديع خيري (كاتبا) إلى أن ارتقيا بفن الإضحاك ليصبح كوميديا أكثر عمقا وأبعد غورا وأرفع مستوى ليمهدا الطريق بذلك - مثلما فعل شابلن أمام امكانية رقي الفن الضاحك المضحك ولو إلى حين.


    يكتبها : محمد الخولي
    رد مع اقتباس

  10. #20

    رد: «نانوبيديا» واسب .. واندال .. ويرْد

    نانوبيديا»
    قيصر.. القرم.. قسطنطين




    دائرة معارف مصغرة في 30 حلقة عن مصطلحات ومسميات عاشت في زماننا، من هنا نقدم سبيكة معرفية نحكي فيها عن أصول الكلمات والمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمونها في حياتنا الراهنة.. من الانجليزية الى العربية. ومن خلال هذا الجهد الذي استغرق مراحل زمنية مطولة وعمد الى استشارة مراجع متخصصة شتى.. آثرنا أن نعرضه على شكل موسوعة عربية مصغرة نانو موسوعة رتبناها على حروف الأبجدية العربية من الألف الى الياء بحيث نخّص كل حرف منها بثلاثة مصطلحات يطالعها القارئ الكريم على امتداد أيام رمضان المعظم.


    قيصر


    هو اسم نوع بقدر ما أنه اسم يجري تعميمه ليصدق على شكل وأسلوب من أساليب ممارسة السلطة والحكم - وهو أيضا اسم عَلَم معروف في التاريخ، ولكنه تحوّل مع الزمن ليصبح لقبا ومكانة وعلامة على مناصب الشرف والنبالة.. «قيصر» اسم ولقب عائلي حملته أسرة قديمة من أشراف روما أيام مجدها الإمبراطوري: كانت روما قد ورثت مكانة أثينا بمعنى أن تحولت حضارة الإغريق إلى حضارة الرومان


    وبمعنى أن حلت اللاتينية محل اليونانية بوصفها اللغة العالمية التي هيمنت على ثقافة العالم القديم طوال سنوات مجد الرومان التي امتدت من مرحلة تشييد إمبراطوريتهم منذ القرن الثاني قبل الميلاد إلى مرحلة «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية» التي أجاد رصدها وتسجيلها، بقلم واع وفكر نابه ولغة راقية، المؤرخ الانجليزي إدوارد يبون (1737- 1794) في كتاب أصبح من النيوكلاسيكيات الانجليزية ويحمل عنوانه الشهير الدال على حالة الاضمحلال ومصير السقوط وقد أصدره جيبون في عام 1780.


    أما اسم العَلَم فقد اشتهر به كايوس يوليوس قيصر (ت عام 44 قبل الميلاد) الذي بدأ حياته نصيرا لعامة الجماهير من سكان روما البسطاء بوجه سيطرة طبقات النبلاء والأشراف الأرستقراطية ثم ذاع صيته كسياسي ديمقراطي بفضل صولاته الخطابية المفوهة في مجلس الشيوخ (السينيت) دع عنك جولاته وفتوحاته كقائد عسكري باهر الانجازات وكان في مقدمتها غزوته في بلاد غالة المعروفة حاليا باسم فرنسا التي دخل إقليمها حيث سجل له التاريخ جملته اللاتينية الشهيرة:ـ جئت ورأيت وانتصرت


    ثم اتسعت فتوحاته وانتصاراته إلى حيث دانت لجيوشه المظفرة مقاليد السيطرة على كل إيطاليا واسبانيا وسواحل الشمال الأفريقي ومنها مدينة الإسكندرية التي التقى فيها بمليكتها كليوباترا ابنة حاكمها السابق بطليموس ويقال إنهما اتفقا على الزواج على أن تنتقل كليوباترا إلى روما بعد أن يعلن قيصر نفسه حاكما مطلقا على دولتها ويتخذ لقب ملك أو إمبراطور.


    ـ لم يكن أحباء قيصر يخشون عليه لا من الهزيمة ولا من قادة الأعداء بقدر ما كانوا يخشون عليه من عدو أشد خطرا وخطورة هو.. قيصر نفسه.! نعم كانوا يخشون عليه من الغرور وهو آفة مدمرة خاصة إذا خالطته مقاليد القوة - العسكرية بالذات - واختلطت به نوازع التطلع والطموح.. قال الراوي - اللاتيني - الروماني :


    ـ ربما لهذا عمدوا إلى تعيين موظف مسؤول.. لا عمل لديه سوى أن يتابع مواكب يوليوس قيصر الظافرة.. وقد شقّت طريقها وسط تهليل الجماهير وهتافاتها التي تدوي مثل هزيم الرعد في أسماع الحاسدين والخصوم من نبلاء روما فيما كانت تصل إلى أسماع قيصر المنتصر كأنها نغمات شجية ومنعشة من أحلى الموسيقى.. وإذ كان القائد الظافر يمد ذراعه إلى أمام محاذيا صدره المدجج بقميص جلدي سميك اتقاء للدروع والرماح.. وإذ كان يهز رأسه تحية لآلاف المستقبلين وقد تكلل الرأس بنبات الغار (اللاوري) جريا على عادة روما مع أبطالها العائدين بالنصر من ميادين القتال.. وسط هذا كله كان الموظف المسؤول.. لا يلبث يميل على كتف القائد المغوار هامسا: ـ قيصر.. تذكّر أنك.. بشر.،.


    ربما أحسن قيصر استدعاء هذه الذكرى.. مؤكدا لنفسه رغم كل شيء أنه.. بشر.. لكنه نسي.. وربما نسي الموظف المسؤول أن البشر ضعفاء أمام الغرور.. وأن هذا الغرور لا يلبث يحول الطموحات إلى أطماع وأن هذا الخليط من غرور القوة ودوافع الطمع دفع بيوليوس قيصر إلى دخول قاعات مجلس الشيوخ طالبا أن يتحول من حاكم بدرجة قنصل إلى حاكم مطلق بدرجة إمبراطور..


    كان ذلك في ربيع عام 44 قبل الميلاد.. وكانت جلسة مشهودة وخطيرة عقدها مجلس السينيت من حكماء روما وشيوخها ونوابها وبقدر ما دونت وقائعها بدقة دفاتر تاريخ الفترة.. بقدر ما سجلتها قرائح الشعراء وعبقرية الكاتبين.. الذين احتفظ تاريخ الإبداع الأدبي بأسمائهم ما بين ويليام شكسبير في مسرحيته «يوليوس قيصر» .. وون درايدن في مطولته الشعرية بعنوان «الكل من أجل الحب» إلى برنارد شو في مسرحية «قيصر وكليوباترا» وحتى أمير شعرائنا أحمد شوقي في «مصرع كليوباترا».


    شكسبير بالذات عالج الحكاية بعبقريته الشعرية المتفردة، فأنت تقرأ أبيات شعره المرسل (بلانك ؟يرس) في المشهد الأول من الفصل الثالث للمسرحية: كل بيت كأنه رمح مشروع أو كأنه خنجر مخبأ في غمد يخرج فجأة ويلمع في صالة مبنى الكابيتول التي استقبلت يوليوس قيصر غازيا وفاتحا.. بل وركع البعض أمام هيلمانه ثم يتحول الموقف إلى حيث تتجمع عليه مكائد الساسة ومنهم أصدقاء مقربون - بروتوس بالذات - كل منهم يوجه طعنة إلى حيث يغتالون الرجل بينما يصيح واحد منهم هاتفا: مات الطغيان.


    وعندما تلقى يوليوس قيصر آخر الطعنات من يد صنيعته بروتوس لفظ عبارته الشهيرة باللاتينية: ـ ايت تي بروتي (حتى أنت يا بروتس). ورغم أنها كانت آخر كلمات يتفوه بها رجل يحتضر.. فقد سارت في البرية مثلا على منتهى خيبة الأمل فيمن كنا نعقد عليه الآمال المرتجاة العراض.


    انتهى يوليوس قيصر.. الفرد الإنسان.. والاسم العَلَم.. لكن لم ينته قيصر - اللقب والمرتبة - المنصب الأعلى في سلك الحكم في روما القديمة.. لقد جاء من بعده ابن أخته أوكتافيوس الذي عاش حتى السنة الرابعة عشرة بعد ميلاد السيد المسيح. وقد سطع نجمه وذاع صيته بعد أن هزم جميع منافسيه إلى أن أعلنته روما إمبراطورا عليها..


    واتخذ لنفسه لقب قيصر ولافتة أغسطس ومعناها في اللاتينية السيد العظيم المبجّل. وله الفضل في إشاعة الاستقرار ومن ثم الازدهار والمنعة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية التي بلغت في عهده ذروة مجدها وخاصة بفضل تشجيع القيصر.. الإمبراطور.. أوكتافيوس أوغسطس للإبداع والابتكار سواء في مجالات العمارة الرومانية أو في ميادين الشعر الملحمي والوصفي (فرجيل وأوفيد وهوراس وأندادهم من عباقرة شعر اللاتينية) حتى أن عصره أصبح علامة على هذا الازدهار الإبداعي..


    لا يدانيه سوى العصر الاليزابيثي في انجلترا (من منتصف القرن 16 إلى منتصف القرن 17) والعصرين العباسي الأول والثاني - من هارون الرشيد إلى المأمون والمتوكل- (من منتصف القرن الثامن إلى القرن العاشر للميلاد). من حكام العصر الحديث من عمد إلى إحياء تقاليد روما الإمبراطورية القديمة فاتخذ لقب قيصر شارة للحكم سواء عند آل رومانوف حكام روسيا حتى ثورة أكتوبر البلشفية عام 1917 أو عند آل هوهنزلرن حكام المانيا حتى هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1981) و.. هيهات.


    القرم


    عام 1854 كان عمرها يقترب من الرابعة والثلاثين.. اسمها فلورنس.. واشتهرت بين الناس باسم سستر - الأخت فلورنس.. وهبت حياتها وشبابها لخدمة مهنة التمريض التي لم يكن معترفا بقيمتها وجدواها في ذلك الحين.. منتصف القرن التاسع عشر.. إلا أن عام 1854 جاء ليؤكد على أهمية التمريض بوصفه مهنة عظيمة الجدوى ورسالة إنسانية بالغة الاحترام.. كان المكان هو شبه جزيرة القرم.. على الساحل الشمالي للبحر الأسود.. عند تخوم مشتركة بين قارتي آسيا وأوروبا.


    وبحكم وقوع المنطقة عند هذه المعابر أو المفاصل القارية.. كان طبيعيا أن تتناوب على غزوها والسيطرة عليها شعوب وجحافل وممالك وحكام من مختلف الأمم والأصول.. وهكذا دخلت بلاد القرم تحت حكم ممالك قديمة مثل مملكة بوسفور القرم، وجاء اليونان من بعدهم في القرن الخامس قبل الميلاد ثم الإمبراطورية الرومانية.. أما في الفترات الطويلة الواقعة بين القرنين الثالث والثالث عشر للميلاد فقد داهمت شبه جزيرة القرم غزوات قبائل أوروبا البربرية مثل الهون والقوط والخزر.


    وجاء من بعدهم المغول فرسان آسيا الوسطى إلى أن أصبحت القرم مملكة مستقلة في القرن الخامس عشر تحت حكم «خانات» التتار وبعدها قررت روسيا ضمها في عام 1783 إلى حكم الإمبراطورية كاثرين الثانية (حكمت في الفترة 1762 - 0971).. ومن ثم انقطعت الصلة بين القرم وسلاطين بني عثمان الأتراك وكانوا بمثابة المتبوع الأعظم لخانات التتار الذين كانت عاصمتهم بختشي سراي تدين بنوع من الولاء لعاصمة الخلافة التركية في اسطنبول.


    ظلت هذه السيطرة الروسية محل رفض واستياء وترصد من جانب تركيا العثمانية التي استطاعت أن تحشد حلفاءها لخوض الصراع ضد روسيا.. وجاءت الفرصة سانحة في منتصف القرن التاسع عشر وكانت فرصة غريبة حقا إذ نشب نزاع بين روسيا وفرنسا بشأن من تكون له رعاية الأماكن المقدسة في .. فلسطين! هذا النزاع السياسي المتشح بستار عقائدي تحوّل إلى نذر حرب ضروس نشبت أساسا بين روسيا من جهة وبين تركيا وحلفائها الروس والانجليز من جهة أخرى..


    ويسجل التاريخ مشاركة باسلة من جانب قوات عربية من مصر في هذه الحرب بعد أن طلب العاهل التركي وقتها - السلطان عبد المجيد من عباس باشا والي مصر وحفيد محمد علي الكبير أن يمده بالجند والأساطيل.. وسارت الحملة من القاهرة بقيادة القومندان سليم باشا فتحي وكان بدوره من أركان حرب الفاتح الشهير إبراهيم باشا ابن محمد علي، كما شارك في نفس حملة القرم ناظر مدرسة المهندسخانة علي مبارك وهو رائد التعليم الحديث في مصر.


    ونالت هذه القوات العربية - كما يؤكد الأستاذ عبدالرحمن الرافعي في تأريخه - ثناء مستطابا من المؤرخين والعسكريين الفرنسيين الذين تابعوا وقائع حرب القرم التي انتهت عام 1856 بفوز تركيا وحلفائها وتداعِي نفوذ روسيا على شبه جزيرة القرم التي قُيض لها أن تشهد - كما ألمحنا - مولد فن ومهنة التمريض الحديثة على يد فلورنس نايتنجيل.. الانجليزية التي عمدت إلى إنشاء وحدة تمريض داخل مستشفى ميداني وسط لهيب الصراع في القرم..


    وكان المستشفى نموذجيا في نظافته وحسن إدارته التي كانت هذه الرائدة تسهر على أمرها.. ولا تتوانى عن تفقد ساحات المعارك ومسارح العمليات الحربية بكل كثافة دخانها وستور الظلام المسدلة عليها.. مما كان يضطرها إلى حمل مصباح صغير تكشف به الطريق وتميز به الجرحى والمصابين، ومن هنا جاء لقبها التاريخي (حاملة المصباح) وكانت أول سيدة تنال وسام الاستحقاق الانجليزي من الدرجة الأولى.. كيف لا وقد أنفقت كل مكافآتها عن حرب القرم على إنشاء أول مدرسة داخلية في لندن لتدريب الممرضات وكان ذلك عام 1860.


    قسطنطين


    اسم لأكثر من عاهل وأكثر من حاكم في مملكتي روما وبيزنطة وقد حمل كل منهم لقب الإمبراطور.. عاش أولهم - قسطنطين الأول في الفترة بين عامي 288 و337 للميلاد.. وينسب إليه أنه أصدر في أواخر حياته منشورا يحض على التسامح مع المؤمنين بالعقيدة المسيحية وبلغ من اهتمامه بأمر هذه الديانة السماوية الجديدة في زمانه الحد الذي دفعه إلى السماح بانعقاد المجامع الفكرية التي كان الرهبان وعلماء اللاهوت يناقشون فيها قضايا العقيدة ومشاكل معتنقيها.


    بيد أن أهم ما سجله التاريخ لهذا الإمبراطور هو بناؤه مدينة جميلة باذخة عند مفصل اللقاء بين قارتي أوروبا وآسيا مطلّة في ذلك على مضايق البوسفور والدردنيل.. وقد خلع عليها اسمه فأصبحت كما هو معروف مدينة القسطنطينية. وكان بناؤها في عام 320 للميلاد.. ثم جاء من بعده عدد من خلفائه ابتداء من قسطنطين الثاني الذي فتح بلاد البريتون - السكسون (بريطانيا) وبلاد الغال (فرنسا) وشبه جزيرة ايبيريا (اسبانيا والبرتغال)..


    ورغم أن قسطنطين الرابع قاوم هجمات المسلمين على عاصمته إذ حاولوا الاستيلاء عليها مستخدمين سلاح النار الإغريقية (قاذفات اللهب في عصرنا الحديث) وكان ذلك قبل وفاته عام 685 للميلاد.. إلا أن عهد قسطنطين الحادي عشر هو الذي شهد دخول السلطان التركي المسلم محمد الثاني فاتحا مدينة القسطنطينية في نصر مؤزر سجلته كل صحائف التاريخ وكان ذلك في عام 1453 للميلاد. والطريف أن هذه الصحائف سجلت عدة أسماء متباينة لنفس المدينة الجميلة ما بين القسطنطينية كما أسلفنا إلى إسلام بول (حاضرة الإسلام بعد فتحها) إلى الآستانة أيام مجد إمبراطورية آل عثمان.. إلى أن تبلورت معالم نطقها في زماننا فأصبحت استانبول أو اسطنبول.


    يكتبها : محمد الخولي

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •