«نانوبيديا»
شاي.. شانتي.. شوفيني
دائرة معارف مصغرة في 30 حلقة عن مصطلحات ومسميات عاشت في زماننا، من هنا نقدم سبيكة معرفية نحكي فيها عن أصول الكلمات والمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمونها في حياتنا الراهنة.. من الانجليزية الى العربية.
ومن خلال هذا الجهد الذي استغرق مراحل زمنية مطولة وعمد الى استشارة مراجع متخصصة شتى.. آثرنا أن نعرضه على شكل موسوعة عربية مصغرة نانو موسوعة رتبناها على حروف الأبجدية العربية من الألف الى الياء بحيث نخّص كل حرف منها بثلاثة مصطلحات يطالعها القارئ الكريم على امتداد أيام رمضان المعظم.
شاي: في عام 2005 صدر في أميركا كتاب من تأليف توم ستانداج، وهو المحرر العلمي لمجلة الايكونومست البريطانية.. وبين سطوره حاول المؤلف أن يتابع تاريخ الحضارة الإنسانية على مدار عصور شتى، لا من خلال تطور المعمار مثلا ولا من خلال الحروب والغزوات أو حتى تقدم العلم والفكر أو الفلسفة..
لقد اختار أن يتابع حضارة البشر من خلال المشروب الذي كانوا يفضلون احتساءه من زمن إلى آخر.. ومن بلد أو ثقافة إلى أخرى ولهذا جاء عنوان الكتاب على النحو التالي: .. تاريخ للعالم في ستة أقداح من بين هذه الأقداح كان طبيعيا أن يتوقف الكاتب الصحفي الانجليزي عند فنجان الشاي..
هناك من يربط بين اسم الشاي وبين «تشاينا» الاسم الذي تعرف به الصين في لغات كثيرة.. وثمة أساطير صينية تقول أن أول من احتسى «كاسة شاي» في العالم كان الامبراطور الصيني شن نونغ في الفترة 2737 - 7972 قبل الميلاد.
وفي كل حال فأساتذة علم النبات يصنفون شجيرة الشاي ضمن الفصيلة الكاميلية (كاميلا سبينانسيس) وترجع أهمية أوراق هذه الشجيرة إلى أنها ارتبطت - لا بمجرد كونها شرابا لطيفا ومنعشا فقط - ولكن ايضا إلى أنها أنشأت ما يمكن أن يوصف بأنه ثقافة «الشاي» بمعنى أساليب قطفه وخلطه وتحضيره واحتسائه.. الخ.
وعلى خلاف مرطبات الكولا التي ذاع صيتها عند الأميركان ومن خلالهم، فإن الشاي مشروب له تاريخ طويل لأنه ارتبط بالتطور الحضاري وأحيانا بالصراعات والمشكلات الدولية التي شهدتها حقب شتى من مراحل العصر الحديث.
ورغم أن الشاي يرتبط من حيث الأصل بالصين إلا أنه من حيث الثقافة وربما الاقتصاد ارتبط بالانجليز.. وعلى وجه التحديد بالمد الامبريالي الانجليزي الذي بدأ بعد حركة الكشوف الجغرافية التي حملت أساطيل بريطانيا إلى ما وراء بحار الشرق الأوسط ثم الشرق الآسيوي البعيد.
وفيما أطلق الحاكم الإداري البريطاني سير جورج ماكارتني مقولته الشهيرة عام 1773 بأن «هذه الامبراطورية (البريطانية) لا تغرب عن ارضها الشمس» - فإن كاتبا انجليزيا هو سير سوثي سميت (1771- 1845) وجّه شكره إلى مولاه لأنه منح البشر مشروب الشاي وماذا كانت الدنيا ستصنع بغير هذا المشروب العجيب..
الذي بلغ من أهميته خلال سنوات السيطرة البريطانية على أجزاء آسيا وأفريقيا.. وخاصة منذ أيام شركة الهند الشرقية في القرن 18 - الحد الذي جعل مؤرخين كثيرين يصفون لندن بأنها كانت «عاصمة امبراطورية الشاي».
وإذا تأملت مسميات هذا المشروب الشهير في لغات وثقافات العالم لأدركت على الفور أن ثمة تسميتين هما الغالبتان.. أولهما «تي» في الانجليزية والفرنسية والإيطالية والاسبانية والألمانية ولغات اسكندافيا الشمالية (حتى الأندونيسية..) والثانية هي «شاي» ومشتقاتها الصوتية من التركية إلى العربية إلى التشيكية إلى الروسية..
إلى سواحيلية شرق أفريقيا وحتى اليابان. وربما يكون الاستثناء، الذي لم نفهمه، عند أهل بولندا الذين لم يعجبهم فيما يبدو لا كلمة تي ولا كلمة شاي فإذا بالفرد فيهم يسأل ضيفه في مقاهي وارسو مثلا قائلا: - تحب تشرب هرباتو؟.. يعني شاي.
ينمو نبات الشاي في المناخ الدافئ وخاصة في قارتي آسيا وافريقيا.. وقد استوردته شركة الهند الشرقية الهولندية إلى أوروبا نحو سنة 1600 للميلاد. وشرع الانجليز في استعماله منذ عصر اعادة النظام الملكي، وربما ابتهاجا بانهاء نظام جمهورية كرومويل في عام 1660 وبعدها احتكرته شركة الهند الشرقية البريطانية وبواسطتها دخل إلى المستعمرات الأميركية.
ورغم أن مرطبات الكولا الأميركية التصنيع تعد من أشهر الأسماء شيوعا في العالم المعاصر إلا أن مشروب الشاي يعد أكثر المشروبات (المشاريب كما يقول عمال المقاهي في القاهرة) شيوعا في تاريخ العالم وحاضره لا يسبقه في الأهمية الحيوية سوى الماء بجلالة قدره في حياة البشرية.
ليس صدفة إذن أن يختار الكاتب توم ستانداج الذي أشرنا إليه عنوانا للفصل الذي كتبه عن هذا المشروب العبارة التالية: .. قوة.. (أو سلطة) الشاي وبحكم جنسيته فهو يتوقف بقدر كبير من التأمل وربما من الاستعبار إزاء الصلة التي ربطت بين قدح الشاي وبين إزدهار الامبراطورية،
وهو ينهي سطوره بالتأكيد على أن حكاية الشاي تعكس الجاه والسلطان اللذين تمتعت بهما امبراطورية بريطانيا حيث كان يتساوى في شرب الشاي القادة والجنود والوزراء والدهماء.. ومن يومها اصبح يصدق على الانجليز حتى الآن صفة أنهم شعب من شاربي الشاي..
شانتي: كلمة تنازعتها ثقافات كثيرة رغم أنها تصدق على أوضاع من التعاسة والمشْغبة وقلة الحيلة وسوء الأحوال.. شانتي هو أساسا الكوخ البسيط لا بمعنى عدم التعقيد ولا بمعنى الرغبة في عناق الطبيعة أو الالتحام المباشر بمجاليها..
إنها بساطة الفقر المدقع الذي يحتال فيه المرء على سوء الأوضاع فيذهب إلى الغابة إن وجدها.. كي يحتطب أو إلى مستودع النفايات يجمع خشبة من هنا ولوحا من هناك وبعدها يحاول أن يصطنع كوخا يفتقر إلى أبسط مقومات المرافق ولكنه في كل حال سقف..
مجرد سقف يغني البشر عن التحاف السماء بمعنى أنه يسترهم عن عيون الآخرين (وهي الجحيم كما قالها يوما الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر) وقد يقيهم أنواء الطقس الذي لا يرحم قيظا في منطقة هنا أو زمهريرا في إقليم هناك..
لأمر ما ارتبطت أكواخ شانتي بالمهاجرين الأيرلنديين إلى الأصقاع الأميركية وهناك من ذهب إلى أن الكلمة مشتقة من مقطعين في لغة هؤلاء الأيرلنديين وهما «شن» بمعنى قديم و«تيج» بمعنى بيت ولم يكن الأمر غريبا لأن الكوخ ما هو إلا بيت قديم أو مثوى متهالك إلى حد التداعي والتهافت.
لكن البحث اللغوي الحديث عمد إلى متابعة أصل الكلمة فإذا بها وقد دخلت عمود الانجليزية - الأميركية ـ من اصل فرنسي وعن طريق الحدود الكندية.. يعني من الأقاليم الناطقة بالفرنسية الواقعة في كندا شمالي الولايات المتحدة ومنها بالذات إقليم كيبيك وعاصمته مونتريال ـ مونريال كما يحب أهلها أن ينطقونها في إيقاعها الفرنسي.
الكلمة الفرنسية هي شانتييه ومعناها مستودع الأخشاب وهي بدورها مأخوذة من اللاتينية الأم «كانثيروس» التي تشير إلى دواب الحمل مثل الحمير أو الخيول التي تحمل الحطب فوق ظهورها آية على أنها من الطبقة الدنيا، طبقة الشغيلة من فصائل الأنعام. ويرجع أصل الكلمة بنفس نطقها اللاتيني إلى اللغة اليونانية وكلها تحيل إلى الأخشاب الرخيصة
ومن ثم إلى الأكواخ الفقيرة التي يراها الناظرون أو الزائرون متراصة يتساند بعضها إلى بعض خوف التداعي والوقوع - ومن ثم فهي تشكل في مجموعها شانتي تاون أي أحياء الشقاء التي عادة ما توجد على أطراف المدن الكبرى بسبب الهجرات المرتجلة المتدفقة إليها من فقراء الأرياف والبوادي
وأحيانا تكون هذه الأحياء الفقيرة موجودة في قلب العواصم والحواضر موروثة عن أوضاع عتيقة لم تمتد إليها بعد أيادي التمدين أو التطوير أو العمران ومن ثم فهي تحمل اسما دالا على أصلها وهو يرادف معنى «الأحياء ـ أو التجمعات الداخلية».
شوفيني: في ذروة مجد بونابرت ارتفعت شعارات نابليون وخفقت راياته وذاعت انتصاراته فاتحا وغازيا وقنصلا وامبراطورا وبطلا تاريخيا.. وكان طبيعيا أن يحتشد من حول اسمه وأمجاده معجبون ومؤيدون كثيرون..
ومن هؤلاء المعجبين عاش الجندي الفرنسي البسيط «نيكولاس شوفيني» أسيرا لكاريزما الامبراطور الذي كان يرى فيه البطل المغوار والإنسان العظيم.. وكان ذلك طبيعيا بحكم نجومية الامبراطور، وتواضع العسكري «شوفيني».
لكن الذي لم يكن طبيعيا هو أن يظل المسيو شوفيني يردد شعارات الامبراطورية بعد سقوطها ويعلن اعجابه وولاءه لجلالة امبراطور فرنسا وزين رجالاتها وتاج رأسها نابوليون بونابرت.. رغم أن الأخير كان قد تحوّل من امبراطور في قصر ؟رساي في باريس إلى مجرد أسير مهزوم ومنفي في جزيرة سانت هيلانة في قلب البحر المحيط.
راحت أيام الامبراطورية، وغربت شمس بونابرت.. وسكتت كل الأصوات وضمدت كل نوازع الحماس إلا عند نيكولاس شوفيني المذكور أعلاه الذي ظل حتى آخر أيام حياته، ورغم أن الدنيا تغيرت، يعلن عن ولائه للامبراطور..
ويحتفل بمناسبات الامبراطور ويردد أمام القاصي والداني شعارات وخطب وأقوال الامبراطور.. وهكذا تحولت المسألة من وهج الشعور الوطني إلى حالة أقرب إلى الدروشة التي كانت مثار إشفاق البعض وسخرية البعض الآخر.. لكن فريقا ثالثا ما لبث أن اشتق معاني مهمة من اسم الجندي البونابرتي الساذج فكان أن بقي ذِكره في التاريخ..
بعد أن تحول اسمه من «شوفين» إلى صفة شوفيني والى مذهب أو اتجاه سلوكي بل وسياسي وهو «شوفينية».. وكل هذه المسميات تصدق على المبالغة في التمسك المذهبي إلى درجة التعصب المرفوض بل والأحمق المأفون في بعض الأحيان..
في النصف الأول من القرن 19 كان الشوفيني هو الوطني المتعصب لدرجة الانغلاق.. ودخل هذا المعنى إلى الثقافة الانجليزية مع أواخر ذلك القرن ليعني التعصب الأعمى لكل مبدأ أو مذهب أو فكرة أو نظرية. ومع تنامي الحركات النسائية المطالبة بحقوق المرأة..
استعاروا ـ بالأدق استعرن ـ نفس المصطلح ليصدق على تعصب الرجل لذكورته وعلى حساب حقوق النصف الآخر من المجتمع. ومن هنا جاء تعبير شوفينية الذكورة.. ترى أليس هناك مرادف للمرأة التي تتعصب إلى حد الغلو لبنات جنسها؟ المشكلة أنه لم يصح لنا حتى تاريخه أن نصادف التعبير المرادف أو المقابل الذي يصف مثل هذه السيدة أو الآنسة بأنها فيميل شوفينست بمعنى «الأنثى المتعصبة» إلى حد خطير.
يكتبها : محمد الخولي