منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 11 من 13 الأولىالأولى ... 910111213 الأخيرةالأخيرة
النتائج 101 إلى 110 من 121
  1. #101
    السلام عليكم
    أستاذ أسامه حفظه الله:
    مازلنا ندور في رحى البحث فربما وجدنا مخرجا لبعض إشكالات:
    رؤية الهلال بين الشرع وعلم الفلك وضرورة وضع حدا للنزاعات حوله:
    http://www.omferas.com/vb/showthread.php?33221-رصد-الهلال-بين-علم-الفلك-ورئيته-شرعا&p=138336#post138336
    كيف يمكننا هنا وضع الحكم العدل في هذه القضية الهامة؟
    1 - صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين .
    أبو هريرة المحدث:
    البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 1909
    خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
    والأحاديث كثيرة في هذا المجال وصحيحة:
    http://www.dorar.net/enc/hadith?skeys=%D9%84%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%AA%D9%87& xclude=&degree_cat0=1
    ولك الشكر.
    رغد قصاب

    ...................................
    السلام عليكم ومن جديد:
    الصهيونية المسيحية..ومايحدث من حوادث عالمية تؤكد نجاح أسلوبها الماكر..
    ومانقرأ من تحذيرات نخشى ان تتجه للاتجاه الأخر...
    رابط داعم:
    http://www.omferas.com/vb/showthread.php?33158-خطاب-الرئيس-الراحل-الأمريكي-الأخير-قبل-اغتياله
    اتمنى ان تكون مطلعا على كتابي الاستاذ محمد السماك/الصهيونية المسيحية
    والحرب السابعة /منصور عبد الحكيم

    كيف ترى الامور من منظارك الشخصي باختصار؟
    *******
    وبالنسبة لردك على التقريب إلى الىن هل ترى ان كل الجهود التقريبية نجحت في اجتيازحاجز عدم التفاهم؟ خاصة ان مانرى ونسمع ونقرأ يجعلنا نخشى فعلا ألا يكون لها مسار قد أفلح يوما!
    رابط داعم:
    http://www.omferas.com/vb/showthread.php?30187-الخطوط-العريضة-محب-الدين-الخطيب
    مع التحية

    .................................................. ............



    سؤال مشرقة القسم الأسري الأستاذة رغد قصاب
    مازلنا ندور في رحى البحث، فربما وجدنا مخرجا لبعض إشكالات: رؤية الهلال بين الشرع وعلم الفلك وضرورة وضع حد للنزاعات حوله: كيف يمكننا هنا وضع الحكم العدل في هذه القضية الهامة؟
    الإجابة
    بداية أعتذر منك كل الاعتذار، فلست أراها قضية هامة كما ترينها يا "رغد". فلم نسمع عبر مئات السنين من تاريخ المسلمين حتى في عصور انحطاطهم - عندما كانوا يتساءلون عن "جواز أو عدم جواز الصلاة على سجادة مصنوعة من جلد البقِّ"، الذي لم تصنع منه سجادة ولن تصنع إلى يوم القيامة - أنها شكلت عقدة ذات أهمية، إلا عندنا نحن في هذا العصر الموبوء بانشغالنا بصغائر الأمور وتركنا لعظائمها.. أما بعد..
    هذه مسألة يحسمها الفقهاء وينفذها بعد ذلك السياسيون على ما أتصور. فإن قرروا أن يكون علم الفلك هو مرجعيتنا في رؤية الهلال، فليكن وهو اجتهاد. وإن رأوا أن تبقى الرؤية بالعين المجردة هي المعيار، وأن لكل بلد رؤيته الخاصة به، فليكن، فذاك اجتهاد. وإن اتفقوا على أن تكون الرؤية بالعين المجردة، مع تحديد أن رؤية أي مسلم في العالم تلزم جميع المسلمين، فليكن، وهذا أيضا اجتهاد. وإن رأوا توحيد الرؤية وتكليف جهة إسلامية محددة تتولى الرؤية وإعلام المسلمين بها، فليكن، وربما يكون هذا أنسب الاجتهاد.
    لست ممن يعطون الأمور أكبر من حجمها، فالموضوع بسيط وليس بذي أهمية، بالقدر الذي شعرت به في تساؤلك يا "رغد"، فليست هناك لا إشكالات ولا نزاعات. وأظن أن هذه المسألة رافقت المسلمين منذ بدايات الحياة الإسلامية، وما أظنها شغلتهم على هذا النحو. وعلى ما أعلم – والله أعلم – لم يردنا من تراثنا وتاريخنا أي رواية تعرض لنا أن نزاعا أو خلافا نشب في الماضي بين مسلم هنا ومسلم هناك بسبب عدم توحيد رؤية الهلال.
    ولك أن تتصوري يا سيدة "رغد"، أن مسلما في أندونيسيا رأى الهلال – والرؤية تكون بعد المغرب بقليل – بينما المسلمون في المغرب وفي أقصى غرب أوربا ما يزالون في وقت الصباح الباكر بعد السحور بقليل. هل معنى هذا – إذا أردنا أن نوحد مبدأ الرؤية – أن يعلم المسلم المغربي أن أول أيام عيد الفطر سيكون في اليوم التالي، وهو ما يزال قد خرج لتوه من سحور اليوم قبل الأخير؟!
    أتصور – والله أعلم – أن توحيد الرؤية قد تكون لها قيمة فعلية إذا كانت أماكن إقامة المسلمين متقاربة. ضمن الدولة نفسها مثلا. أما في حال تباعد أماكن السكن والإقامة على النحو الراهن الذي يجعل مسلما يتسحَّر في الوقت الذي يجعل آخر يُفطر في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، فلا قيمة فعلية لفكرة التوحيد!! وأتمنى ألا تنشغلي كثيرا بهذا الأمر.
    وإذا شئت أن تسمعي رأيا أكثر تساهلا، ونظرا لأن الحدود بين الدول العربية في الأساس هي حدود مصطنعة ولا أهمية لها، فلست ممن يتمسكون بالرؤية من الدولة التي يقيم فيها نفسها. فهل مثلا لو أن "درعا" السورية كانت جزءا من الأردن – بحسب خريطة سايكس بيكو المشؤومة – وأن الأردنيين رأوا الهلال قبل السوريين بيوم، اختلف الوضع، وأصبح لزاما على أهل درعا أن يفطروا تبعا للأردنيين؟! لو صح هذا لكان له معنى واحد هو أن بريطانيا وفرنسا هما صاحبتا القرار الشرعي في تحديد مواعيد إفطارنا وصيامنا، لأنهما هما من حدد الحدود ورسم الخرائط، وجعل درعا هنا والرمثا هنا.. إلخ. هل تتصورين أن هذه الخلافات المحتملة والتي ليست خلافات في بنية وتركيبة الواقع، لها قيمة عند الله سبحانه وتعالى؟!
    من هنا فأنا أظن – والله أعلم – أن لكل مسلم أن يقرر بمفرده اتباع رؤية من يشاء واعتمادها معيارا لإفطاره وصومه إن هو رأى ذلك مناسبا له. فحتى لو شئت أن أفطر وأصوم على رؤية أول مسلم يخبر بالرؤية فلست أدري ما الذي يمنع؟! المسألة في النهاية اتفاقية وتنظيمية ليس أكثر. وقد اتفق أهل كل بلد على أن يكونوا ملزمين برؤية أحدهم، وهذا شأنهم. لن تقوم الدنيا أو تقعد، ولن تنشب الحروب والصراعات لأجل تأخر يوم في الصيام وتقدم آخر في الإطار!!!
    أما إذا كانت الوحدة العربية وتحرير الأرض المحتلة ونهضة الأمة مربوطة بتوحيد رؤية هلال الإفطار والصيام فسوف أكون أول من يحارب ويقدم حياته ثمنا لتوحيد الرؤية!! صدقيني سأفعل ذلك، وستفعلين أنت أيضا ذلك، وسيفعل ذلك كل مسلم.
    ولك سيدتي بالغ التحية والتكريم والتقدير
    أسامة عكنان
    .............................
    أسئلة الأديبة والشاعرة ريمة الخاني
    الصهيونية المسيحية وما يحدث من حوادث عالمية تؤكد نجاح أسلوبها الماكر. وما نقرأ من تحذيرات نخشى أن تتجه للاتجاه الأخر. كيف ترى الأمور من منظارك الشخصي باختصار؟
    وبالنسبة لردك على التقريب إلى الىن هل ترى أن كل الجهود التقريبية نجحت في اجتياز حاجز عدم التفاهم؟ خاصة أن ما نرى ونسمع ونقرأ يجعلنا نخشى فعلا ألا يكون لها مسار قد أفلح يوما؟
    الإجابة
    بالنسبة للسؤال الأول المتعلق بالصهيونية المسيحية، أود بداية أن أسجل اعتذاري بسبب عدم فهمي لـعبارة "الاتجاه الآخر" الذي أشرتِ إليه في عبارتك "وما نقرأ من تحذيرات نخشى أن تتجه للاتجاه الآخر"، راجيا التوضيح إن أمكن!! أما بعد..
    فلقد أتيحت لي قراءة عدة كتب تتحدث عن "الصهيونية المسيحية" إما بشكل مباشر، وإما بشكل ضمني. من ذلك، كتاب "الصهيونية غير اليهودية" لريجينا الشريف، وكتاب "يد الله" لغريس هارسل، كاتبة خطابات الرئيس الأميركي السابق "جونسون"، فضلا عن ما تناثر من شذرات هنا وهناك في الموسوعة المميزة التي ألفها الأستاذ الكبير المرحوم "عبد الوهاب المسيري" حول الصهيونية واليهودية. أما الكتاب الذي أشرتِ إليه فلم يتح لي شرف الاطلاع عليه، لكني سأفعل إن كان فيه ما يضيف إلى ما لدي.
    والتزاما بالاختصار الذي أشرت إليه سيدتي أقول، إن الصهيونية القائمة من الناحية المعتقدية على التنفيذ البشري لمقولتي "أرض الميعاد، و"العصر الألفي السعيد"، هي فكرة مسيحية في الأساس، نادت بها الحركات الإصلاحية الدينية في أوربا مع نهاية القرون الوسطى، بزعامة كل من "مارت لوثر" و"كالفن" وغيرهما من دعاة الإصلاح والتجديد، وهما ما أصبح لاحقا جزءا لا يتجزأ من معتقدات المذهب "البروتستانتي" ومشتقاته اللاحقة كـ "الإنجيلية" التي ينتشر أتباعها بكثرة في الولايات المتحدة في هذا الزمن، والذين منهم "المحافظون الجدد" في السياسة وفي الدين على حد سواء.
    الفكرة الأساس التي حركت اللاوعي المسيحي الأوربي كي يتجه في دعواته الإصلاحية هذه الوجهة ذات الطبيعية السياسية الصرف – التنفيذ البشري بدل انتظار عودة المسيح لينفذها كما ينص على ذلك العهد القديم – هو – في تصوري – فشل الحروب الصليبية في الإبقاء على التواجد الاستعماري الأوربي في قلب المشرق العربي. فكان لابد من البحث عن آلية تُحَوِّل الحالة الاستعمارية الفجة غير المبررة ولا المؤصلة دينيا، وهي الحالة الصليبية، إلى حالة استيطانية دائمة تنشئ دولة وأمة مبررة ومؤصلة دينيا، هي الحالة اليهودية. والتبرير والتأصيل الذي أعنيه هو من وجهة النظر الديانات الأوربية تحديدا.
    وللعلم فإن اليهود رفضوا هذه الفكرة، واعتبروها تجديفا في الديانة اليهودية، وتنكرا لتعاليم أنبيائهم، وخروجا عن التوراة، وحاربوها ما استطاعوا. ولقد كان جانبا من جوانب معاناتهم في أوربا على مدى القرون اللاحقة بسبب هذا الرفض، هو بهدف إيصالهم إلى مرحلة الاقتناع بألا مخرج لهم من هذه المعاناة إلا بقبول هذه الفكرة التي واجهوها قرونا ثلاثة، ولم يستجيبوا لها إلا في منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأ المفكر اليهودي "أحدهاعام" ينشر مقالاته في الصحافة الأوربية تحت عنوان "الطريق إلى القدس". ليتحول هذا المد الثقافي الخافت، إلى دعوة سياسية واضحة تحالفت مع الاستعمار الأوربي صاحب الفكرة في الأساس، يوم أن قرر "تيودر هيرتزل" تأسيس "الحركة الصهيونية العملية"، لتكون المنظمة التي ستنشئ دولة اليهود تنفيذا لهذه الصهيونية التي بدأت مسيحية لتنتهي يهودية.
    التفاصيل في هذا الأمر كثيرة، لكن السياق لا يتيح أكثر من هذا، مع ضرورة التذكير بأن مناجزة الصهيونية ليست مناجزة لليهود، فليس كل اليهود صهاينة، فهناك مثلا حركة يهودية تدعى "ناتولي كارتا" تعتبر دولة إسرائيل بدعة وخروجا عن الدين اليهودي وأنها يجب أن تزول وتتعاطف مع حق الفلسطينيين والعرب في فلسيطين أكثر من بعض العرب. كما أن هناك آلاف وربما عشرات الآلاف من اليهود على الصعيد الفردي يقولون الشيء نفسه، ممن ليسوا في هذه الحركة لأسباب أخلاقية أو أيديولوجية. وفي الوقت ذاته فإن ملايين الرأسماليين والصليبيين من المحافظين والإنجيليين في العالم، هم من دعاة الصهيونية إما اعتقادا دينيا، وإما تزاوجا سياسيا.
    وبالتالي فمناجزة الصهيونية يجب أن تنصب باتجاه مناجزة كل من يساند هذا المشروع الاستعماري "إسرائيل" ولا يقاومه ويعمل على حمايته ورعايته، أيا كان دينه وأيا كانت ملته، حتى لو قرأ القرآن وصلى صلاة المسلمين واستقبل قبلتهم. وأنا إذ أقول ذلك، فلأنني موقن كل اليقين بأن الصهيونية إذا كانت قد نشأت في "الكنيسة" برعاية "قس لوثري بروتستانتي"، انضم إليه لاحقا "قس بابوي كاثوليكي"، لتدخل الهيكل "الكنيس اليهودي" بعد ثلاثة قرون برعاية "حاخام"، فإنها – مع الأسف – بدأت تدخل المسجد "بيت عبادة المسلمين" برعاية "مفتي وإمام"!! أرجو أن يكون كلامي واضحا، وإن لم يكن فأخبروني كي أتولى الشرح والتوضيح، فالأمر – فعلا – يستحق!!
    مع خالص الشكر والتقدير
    أسامة عكنان





  2. #102
    الشكر الجزيل لتفضلكم بمتابعة نقاشنا الذي نتمنى ان نفيد من خلاله...واعذر طمعنا بكرمك وفكرك:
    أظن أستاذنا الكريم ان الموضوع له بقية ولم يشف غليلنا بعد ماورد بصدق واحترام..فما قصدته ان الدعاية الصهيونية في القناة المسيحية وخاصة البرتستانتية
    نجحت في جعلها ضمنا تتماشى مع أهدافهم وهل جل الرؤساء الجدد في امريكا إلا منها؟لذا أتمنى عليك ان تبين لنا إلى أي مدى استطاعت اللعب بالأفكار والعقول, وهل فعلا امتدت امتدادا سرطانيا؟
    في حركة تضليلية لخدمة غاياتها وما السبيل لإعادة البوصلة لاتجاهها الصحيح الآن, والإعلام في جله يخدمهم؟ هذا اولا اما عن كلمة الاتجاه الآخر فقصدت به ان جل الكتاب الذي كتبوا عن الصهيونية وخاصة المسيحية الصهيونية:
    حذراو ونبهوا منها ومن ذيولها واهدافها العميقة والتي تكرس الحروب بدعوى تحقيق الفوز عندما يحين نزول المسيح ليكونوا ظاهرا مسيحين وضمنا اسرائليين.او يهود.
    لكنهم بذات الوقت وربما بدون قصد منهم,كانوا يهولون من تأثيرها في حين كانوا يقصدون التحذير من سلوكها العالمي الذي يكرس الحروب لإبادة جمهور المسلمين, وغيرهم ممن يعتقدون بعدائهم!.
    وشكرا
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #103
    أسئلة الأستاذة ريمة الخاني
    أظن أن الموضوع له بقية ولم يشف غليلنا بعد ما ورد، بصدق واحترام. فما قصدته أن الدعاية الصهيونية في القناة المسيحية، وخاصة البرتستانتية نجحت في جعلها ضمنا تتماشى مع أهدافهم، وهل جل الرؤساء الجدد في أمريكا إلا منها؟ لذا أتمنى عليك أن تبين لنا إلى أي مدى استطاعت اللعب بالأفكار والعقول, وهل فعلا امتدت امتدادا سرطانيا، في حركة تضليلية لخدمة غاياتها. وما السبيل لإعادة البوصلة لاتجاهها الصحيح الآن, والإعلام في جله يخدمهم؟ هذا أولا. أما عن كلمة الاتجاه الآخر فقصدت به أن جل الكتاب الذي كتبوا عن الصهيونية وخاصة المسيحية الصهيونية: حذروا ونبهوا منها ومن ذيولها وأهدافها العميقة التي تكرس الحروب بدعوى تحقيق الفوز عندما يحين نزول المسيح ليكونوا ظاهرا مسيحيين وضمنا إسرائليين أو يهودا، لكنهم بذات الوقت وربما بدون قصد منهم, كانوا يهولون من تأثيرها في حين كانوا يقصدون التحذير من سلوكها العالمي الذي يكرس الحروب لإبادة جمهور المسلمين, وغيرهم ممن يعتقدون بعدائهم!
    السؤال الأول
    1 - إن الدعاية الصهيونية في القناة المسيحية، وخاصة البرتستانتية نجحت في جعلها ضمنا تتماشى مع أهدافهم، وهل جل الرؤساء الجدد في أمريكا إلا منها؟ لذا أتمنى عليك أن تبين لنا إلى أي مدى استطاعت اللعب بالأفكار والعقول, وهل فعلا امتدت امتدادا سرطانيا، في حركة تضليلية لخدمة غاياتها. وما السبيل لإعادة البوصلة لاتجاهها الصحيح الآن, والإعلام في جله يخدمهم؟
    الإجابة
    بداية، دعينا نصحح الفكرة التي بدت لي وكأنها مقلوبة في سؤالك!
    فالصهيونية ليست بحاجة لأن تمارس الدعاية في القناة المسيحية البروتستانتية، كي تستدرجَها إلى جانبها وإلى جانب مشاريعها، ولا هي بحاجة لجرها كي تجعلها تتماشى مع أهدافها، سياسية كانت هذه المشاريع والأهداف أم دينية. لأن هذه الأخيرة – أي البروتستانتية – هي صانعتُها وخالقتُها وموجدتُها، وهي التي بذلت ثلاثة قرون كاملة من الدعاية والترويج وسط اليهود، حتى استطاعت أن توجِدَ الصهيونية اليهودية التي غدت مع الوقت أداة الصهيونية المسيحية البروتستانتية، بشقيها السياسي والديني.
    كما أن البروتستانتية الدينية والسياسية، هي التي لها أهداف جعلت اليهود يتماشون معها، بأن أقنعتهم بعد جهد جهيد بتبني الفكر الصهيوني. وعندما تم نشر الفكر الصهيوني – المسيحي الأصل والمنبع – وسط اليهود، ليتم تبنيه واتباعه من قبلهم، اكتمل الضلعان الأساسيان في الصهيونية، وهما الضلع المسيحي والضلع اليهودي، وبقي الضلع الثالث من المثلث، وهو الضلع الإسلامي، أي "الصهيونية الإسلامية".
    هذا الكلام غريب وخطير، لكنه يمثل الحقيقة والواقع. نعم هناك ضلع ثالث تكوَّن واكتمل تقريبا مع منتصف هذا القرن، هو "الصهيونية الإسلامية" بجناحيها الاعتقادي والسياسي، بعد أن اكتمل الضلع المسيحي من الصهيونية مع نهايات القرن السادس عشر، وبعد أن اكتمل الضلع اليهودي منها مع نهايات القرن التاسع عشر. وهو ما سأحاول التطرق إليه بتركيز واختصار، بعد أن استكملَ إجابتي على باقي جوانب السؤال.
    الرؤساء الأميركيون من الناحية الدينية معظمهم بروتستانت، ولا علم لي برئيس أميركي كاثوليكي أو أرثوذوكسي، وإن وجد فليست لذلك أهمية من الناحية السياسية، لأن الصهيونية هي مشروع سياسي بالدرجة الأولى. إذن فمعظم الرؤساء الأميركيين صهاينة – قطعا - في السياق الديني للصهيونية، وإن كان بعضهم متطرف دينيا، وبعضهم ليس متطرفا. ومن باب التفريق بينهم في هذا الشأن، قد يكون من المناسب أن نقول أن الإنجيليين الجدد الذين هم في معظمهم "جمهوريون" هم الأشد تشددا وتطرفا من الناحية الدينية. ولكن الصهيونية في جوهرها ليست مشروعا دينيا – كما قلنا – حتى نكتفي بهذه الإشارة، بل هي مشروع سياسي محض، اختبأ وراء الدين وتدثر بعباءته. من هنا فكل الرؤساء الأميركيين صهاينة سياسيا ماداموا – في المحصلة – يمارسون سياساتهم داخل الحاضنة الصهيونية.
    الصهيونية بضلعيها المسيحي البروتستانتي واليهودي، عملت على صهينة العالم سياسيا، بدءا بالمسيحيين الكاثوليك والأرثوذوكس، ومرورا بالمسلمين، وانتهاء بأتباع الديانات الشرقية. ولأن معظم أهل الأرض باستثناء المسيحيين والمسلمين واليهود – بصفتهم أتباع ديانات سماوية ذات مصدر واحد – ليست لديهم أي مرجعيات ذات طبيعة دينية، يمكنها أن تمثل أرضا خصبة للترويج للصهيونية الدينية، فقد كان من الطبيعي أن ينصب الجهد هناك في جانبه السياسي، فيما انصب الجهد هنا في جانبه الديني تمهيدا لبلورة جانبه السياسي.
    فالمسيحيون والمسلمون واليهود على حد سواء، لديهم معتقدات متشابهة للغاية فيما يتعلق بمعارك وأحداث ما يطلق عليه آخر الزمان – وهي المعتقدات التي تمثل بيت القصيد في مآل الديانات الثلاث – فمعركة "مرج دابق" عند المسلمين، هي نفسها معركة "هرمجدون" عن المسيحيين واليهود، وستحدث في فلسطين عند "باب لد" قرب "الرملة". و"المسيح" الذي سيغير وجه العالم، ويحكم بالعدل، ويتخلص من الشر والكفر والوثنية، سوف يأتي ليحقق ذلك، سواء في المعتقدات اليهودية أو الإسلامية أو المسيحية، وإن كان سيأتي عند اليهود ليخلصهم من المسلمين والمسيحيين، وسيأتي عند المسيحيين ليخلصهم من اليهود والمسلمين، فيما سيأتي عند المسلمين ليخلص الأرض من اليهود والمسيحيين!!!
    إنها عقيدة واحدة عنصرية وبغيضة، قائمة على إقصاء الآخر، وعدم الاعتراف بمشروعية شراكته في الحياة الآمنة، ولا بحقه في النعيم الدنيوي والأخروي، عندما يقاس النعيم بمعايير استحقاق دينية لاهوتية. ومع الأسف فإننا نحن المسلمين استنسخنا هذه العقيدة من الإسرائيليات ومن معتقدات المخلصين في الديانات الوثنية، ونسبناها إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، لأن الوضاعين والكذابين لم يكونوا قادرين على نسبة ذلك إلى القرآن الكريم ذاته، وهو الكتاب الذي خلى خلوا تاما وقاطعا من أي إرهاصات أو إشارات لمثل هذه المعتقدات "الآخر زمانية".
    في واقع الأمر إن الصهيونية تمكنت من الانتشار السرطاني سياسيا على مستوى العالم، لأن البطش والجبروت الأنجلوساكسوني البروتستانتي "الرأسمالي الاحتكاري"، امتلك كل الأدوات – منذ الهيمنة البريطانية وحتى الهيمنة الأميركية – التي تمكنه من السطوة السياسية الشاملة. وعندما نقول "الصهيونية" لا نقصد اليهود، لأن اليهود بصفتهم الدينية الصرف، ليست لهم سطوة ولا قيمة ولا أهمية، خارج الحاضنة الصهيونية الرأسمالية الاحتكارية. وإنما نقصد عندما نذكر الصهيونية، الإمبراطورية الرأسمالية الأميركية، التي جعلت من اليهود، وبالتالي من الصهيونية اليهودية، الواجهة الأمامية لممارسة كل شرورها في العالم عبر منطقتنا العربية.
    منذ أن تزاوجت الرأسمالية العالمية بالصهيونية البروتستانتية وحصل التلاقح، وُلِدَت الصهيونية اليهودية كقناع يخفي حقيقة الرحم الذي ولدت منه، وذلك بغرض إخفاء جوهر المعركة وجوهر الصراع وجوهر التناقض، ليصبح تناقضا عربيا / يهوديا – مادامت الصهيونية قد تجلت عبر يهوديتها – بدل أن يكون تناقضا عربيا / إمبرياليا رأسماليا احتكاريا، وبالتالي أميركيا – في الوقت الراهن – من منطلق أن التناقض إذا كان بين العرب والصهيونية، فجوهر الصهيونية ومصدرها ومُخَلِّقُها هناك في قلب تلك الرأسمالية الإمبريالية الاحتكارية الأميركية.
    بناء على ما سبق يمكننا القول بأن الغايات الصهيونية تبقى مخدومة، وخنادقها تبقى آمنة، مادامت قد نجحت في إقناعنا عبر الإعلام والثقافة، وعبر عشرات الكتب والمؤلفات، وعبر الأغاني والأفلام والبرامج التلفزيونية، بأن معركتنا هي مع اليهود بالدرجة الأولى، بصفة الصهيونية صهيونيتهم، لأنها تمثل اليهود وتعبر عنهم وعن حقوقهم الدينية والتاريخية، وأنها ليست شيئا آخر غير ذلك.
    ولن تبدأ كفة الميزان في الاعتدال لصالحنا، إلا إذا بدأت كفة ميزان المعرفة في الاعتدال لصالح الحقيقة، التي تؤكد على أن معركتنا ليست مع هؤلاء، بل هي مع كل من يقف في خندق الظلم العالمي، الذي تمثله وتقوده الإمبريالية الرأسمالية الاحتكارية البروتستانتية الأنجلوساكسونية بالدرجة الأولى، بصرف النظر عن لون أو جنس أو عرق أو دين و هوية عابرة.
    وإلى كل من تخدعه أساطير الهيمنة اليهودية على الإعلام والمال والثقافة، أتوجه بالسؤال التالي: ترى هل يُعَدُّ "الوليد بن طلال" بثرائه الفاحش الذي لا يخدم سوى الشيطان ورأس المال العالمي، وبقنواته التلفزيونية الماسخة لكل عناصر الثقافة العربية والإسلامية، وقبله عدنان خاشقجي في الثمانينيات، ومثلهما معظم أباطرة النفط من سفهاء هذا العصر، نماذج لرؤوس المال والثراء الإسلامية؟ بمعنى هل أن هذا النوع من أصحاب المال والنفوذ، هم أصحاب مال ونفوذ مسلمون يخدمون الإسلام ويحسبون عليه ويصنفون في خندق وفي خندق العرب والعروبة؟ أم أن مالهم لا دين له؟!
    إن الإجابة واضحة وقاطعة، ومثل هؤلاء كل أثرياء ومليارديرات وأساطين المال والإعلام والثقافة اليهود في العالم، لا يصح النظر إليهم بصفتهم يهودا، وإلى النفوذ والمال الذي يمتلكونه بصفته نفوذا ومالا يهوديين، بل يجب النظر إلى كل ذلك من زاوية "أين يصب وماذا يخدم"؟!! ومن هذا المنطلق، فإن الكل، بمن فيهم "الوليد بن طلال" وأثرياء "آل سعود" وغيرهم من أمراء نفط الخليج، يصبون في خندق الإمبريالية الاحتكارية الرأسمالية العالمية. وبالتالي فاليهودي والمسيحي والمسلم الذين يخدمون الهدف الإمبريالي نفسه، لا يمكن النظر إلى أيٍّ منهم من حيث دينه ومن زاوية هويته الدينية، بل من زاوية الأيديولوجية التي يحملها ماله، وتلك التي يخدمها ثراؤه، ويوَظف لأجلها نفوذه.
    أما بخصوص "ما السبيل لإعادة البوصلة لاتجاهها الصحيح؟"
    فالمسألة مسألة صراع بين معسكرين، يبدأ بأن نعرف الحقيقة، ونقف عند حدودها، ونتسلح بما تمليه علينا الضرورة من أسلحة، ثم نخوض معركتنا. والنصر في النهاية للمثابر والصابر وصاحب الحق. المهم أن نعرف كيف نبدأ ومن أين نبدأ. فثلاثة أرباع النصر في المعركة، فهمٌ خرائطها، وسبرٌ أغوار خنادقها، ووعيٌ بأنماط الكر والفر في ميادينها. وعندما تكون الخرائط والخنادق والميادين، ساحات ثقافة ووعي ومعرفة وإعلام بالدرجة الأولى، وقبل أن تكون ساحات منازلة عسكرية، يغدو الصراع صعبا، لأن معارك العقول أصعب دوما من معارك السيوف، والله قد اختار للأولى أنبياءَه وحواريي وأتباع أنبيائِه، فيما اختار للثانية جندا وفرسانا ومقاتلين!!
    إن ظاهرة خطيرة بدأت تتكشف في واقعنا العربي تتمثل في بزوغ عهد "الصهيونية العربية"، وهي اختزال لمفهوم "الصهيونية الإسلامية"، لأن هذه الأخيرة تتجلى أكثر ما تتجلى عند العرب تحديدا. وفي حقيقة الأمر فإن هذه الظاهرة كانت موجودة منذ زمن بعيد في موروثنا الثقافي وتراثنا المعتقدي، ولكنها كانت ظاهرة كامنةً وغيرَ مُفَعَّلَة. ولأننا حين نتحدث عن ظاهرة نطلق عليها اسم "الصهيونية العربية" إنما نكون بصدد عرض مسألة غاية في الخطورة، فمن الضروري أن نعيد التذكير في هذا السياق بأن الفكر الصهيوني الذي انبثقت عنه "الصهيونية العملية" ذات الامتدادات العالمية، ليس فكرا يهوديا في الأساس، بل هو فكر مسيحي ظهر في قلب المسيحية الأوربية.
    لا بل إن اليهود في أوربا قد حاربوا هذا الفكر عشية ظهوره في قلب حركة الإصلاحات الدينية التي شهدتها أوربا عقب انقضاء ظلمة القرون الوسطى وبدء معالم عصر النهضة، ووقفوا ضده وفي مواجهته قرونا طويلة، ولم يستسلموا له أو يتجاوبوا مع متطلباته الاستعمارية الأوربية إلا مع منتصف القرن التاسع عشر على مستوى بعض النخب الثقافية، ولم يصبحوا أداة من أدواته السياسية إلا مع انعقاد مؤتمر "بازل" في أواخر القرن التاسع عشر، عندما حصل ذلك التزاوج بين الخطط والإستراتيجيات الاستعمارية الأوربية عامة والبريطانية منها خاصة، وبين طموحات النُّخب اليهودية التي رأت في هذا الفكر تعبيرا عن ولائها للرأسمالية العالمية بالدرجة الأولى.
    وإذا كان الفكر الصهيوني إنجازا رأسماليا مسيحيا صِرفا، تحرك به اللاوعي الأوربي عشية وصول العثمانيين إلى "فيينا" ومحاصرتها مرتين، في سياق إعادة إنتاج الذهنية الدينية الأوربية بشكل يتيح لها تجاوز المهانة التاريخية التي شعر بها الأوربيون الصليبيون عقب اندحار آخر الحملات الصليبية عن المشرق العربي بعد مائتي عام من التواجد الاستيطاني الاستعماري هناك، فلن نكون مجانبين للصواب إن أكدنا على أن كل ما من شأنه رفد المشروع الصهيوني الراهن بمقومات البقاء والاستمرار، ومساعدته على استكمال مهمته الاستعمارية في المنطقة بوصفه المُكَمِّلَ الإمبريالي له، هو قطعا وجه آخر لصهيونيته.
    فإذا كانت الصهيونية في الأساس مسيحيةً أوربيةً منشأً وصيرورةً وتطوراً، لأنها تخلَّقت في قلب الكنيسة الأوربية، وقامت على "إعادة صياغة فكرتي أرض الميعاد والعصر الألفي السعيد"، في العهدين القديم والجديد على حدٍّ سواء، على أيدي مصلحين دينيين مسيحيين أوربيين، بشكل مَهَّدَ لإعادة استعمار المشرق العربي بعد عدة قرون من ذلك، فإن نجاح المسيحية الأوربية في التأصيل لها – أي للصهيونية – لتكون مطلبا ومعتقدا يهوديا تُحسنُ الرأسمالية الاختباء وراءه في حملاتها الاستعمارية، وهي تروِّج للمعتقدات المسيحية واليهودية الجديدة، لا يقل أهمية عن نجاحها في إعادة إنتاج المنطقة العربية المشرقية سياسيا واقتصاديا وثقافيا بعد صبِّ "المسألة الشرقية" – كما كانت الأدبيات الدبلوماسية والسياسية لدى النُخب الأوربية تطلق عليها – في قوالب جديدة ساعد عليها انهيار "الرجل المريض"، وذلك على قاعدة تَقَبُّل الصهيونية والتعامل معها، باعتبارها أمرا طبيعيا يمكن التعايش معه وقبوله بل والدفاع عنه إذا تطلب الأمر ذلك.
    لا قيمة لأي محتوى ديني للفكرة الصهيونية، فمثل هذا المحتوى ليس أكثر من أكذوبة تهدف للتجييش البشري للفكرة وإخفاء مضمونها السياسي الإمبريالي، لأنها في الأساس فكرة استعمارية أوربية استخدمت الدينين المسيحي أولا واليهودي ثانيا، وهي تحاول الآن وبمساعدة قوى السَّفَة والتَّصَهْيُن العربية استخدام الدين الإسلامي، للتغطية على المشاريع الاستعمارية الأوربية في المنطقة العربية. فقيمة الفكرة إذن هي قيمة سياسية أولا وآخرا. وبالتالي فصفةُ "صهيوني" إذ انطبقت على أولئك الذين قبلوا سواء من اليهود أو من المسيحيين، أن يكونوا أداةً للفكرة الصهيونية في جوهرها الاستعماري، موافقين من ثمَّ على تجيير معتقداتهم الدينية من جهة، ومستعدين دوما للتخندق في الخندق السياسي المتماهي مع تلك المعتقدات من جهة أخرى..
    نقول.. إن صفة "صهيوني" إذ انطبقت على أمثال هؤلاء، فلا معنى إطلاقا – مادمنا نتحدث عن أطر ومقدمات ونتائج سياسية في الجوهر – لِتَجَنُّب وصف الإنسان العربي ذي المرجعية الدينية الإسلامية أو غير الإسلامية، والذي يتبنى تلك المعتقدات وإن يكن من منظوره الخاص، أو ذلك الذي يقبل التخندق في الخندق السياسي المتماهي مع الأهداف والإستراتيجيات التي ما خُلِقَت الصهيونية ولا وُجِدَت "إسرائيل" إلا لتحقيقها، بأنه عربي صهيوني، أو بأنه يمثل ما نطلق عليه "الصهيونية العربية".
    لا يوجد هناك أي مُسَوِّغ علمي أو منطقي يُلْزِمنا بقبول التفريق بين "إسرائيل" والدول القطرية الوظيفية بقيادة "أنظمة التجزئة"، بالقول بأن الأولى "صهيونية" في حين نتجنب وصف الثانية بأنها "صهيونية"، رغم أن الاثنتين تمارسان الدورَ نفسَه، وتؤديان المهمة نفسَها، خدمة لتمرير العلاقات نفسِها، ودفاعا عن المنظومات السياسية والاقتصادية نفسِها، في المنطقة نفسِها، مستهدفين المجموعات البشرية العربية نفسِها.
    فمادامت الصهيونية ليست دينا، بل مشروعا سياسيا تستر وراء الدين، وجيَّش لنفسه بشريا في حاضنة الدين، فإن كل من يسهم بدوره ومن موقعه السياسي في تمرير الإستراتيجيات التي نشأ لأجلها ذلك المشروع، هو حتما وبالضرورة جزءٌ لا يتجزأ منه. وإنه على هذا الأساس ومن هذا المنطلق يجب التعامل مع منظومات التجزئة القطرية الوظيفية العربية التي لا تتعارض سياساتها وبرامجها ورؤاها مع سياسات وبرامج ورؤى الإمبريالية العالمية التي تستخدم الصهيونية لتمرير تلك الرؤى والإستراتيجيات والبرامج، باعتبارها منظوماتٍ صهيونيةً بكل ما لهذه الكلمة من معاني ودلالات، والتعامل معها من ثَمَّ على هذا الأساس، وإلا فإن هناك خللا في التصور، وانحرافا في مسار الصراع، وخطأ مستفحلا في تشخيص جوهر التناقض الناشئ في المنطقة منذ رُسِمَت بقلمي "سايكس" و"بيكو".
    السؤال الثاني
    2 - إن جل الكتاب الذي كتبوا عن الصهيونية وخاصة المسيحية الصهيونية: حذروا ونبهوا منها ومن ذيولها وأهدافها العميقة التي تكرس الحروب بدعوى تحقيق الفوز عندما يحين نزول المسيح ليكونوا ظاهرا مسيحيين وضمنا إسرائليين أو يهودا، لكنهم بذات الوقت وربما بدون قصد منهم, كانوا يهولون من تأثيرها في حين كانوا يقصدون التحذير من سلوكها العالمي الذي يكرس الحروب لإبادة جمهور المسلمين, وغيرهم ممن يعتقدون بعدائهم!
    الإجابة
    أظن أن الإجابة على هذا السؤال منطواة في الإجابة السابقة.
    ولكني أحب أن أذكر هنا مرة أخرى، بأن المسيحيين البروتستانت الإنجلييين، لا يختبئون بإسرائيليتهم ويهوديتهم الباطنية – كما يتصور الواهمون - وراء دعوى مسيحيتهم، فهذا خطأ وغير صحيح البتَّة. فهم يؤمنون بأن الثلث الذي سيبقى من اليهود على قيد الحياة بعد معركة "هرمجدون"، سيبققون لأنهم سيؤمنون بالمسيح وسيصبحون مسيحيين. إنهم لا يؤمنون ببقاء غير المسيحي على قيد الحياة في ذلك العصر الألفي السعيد. أما بخصوص التهويل والتضخيم من شأن اليهود، فقد أوضحنا الغاية منه في إجابتنا على السؤال السابق.
    وأخيرا فلن يعرفَ الحقيقة من ينتظر "مهديا" و"مسيحا" ليخلصاه وينقذاه. ولن يُحررَ وطنا ولن يحقق نهضة ولن يوحد أمة وأرضا، من يبنى مصيره على انتظار الأساطير. فليعتبر كل واحد منا نفسَه "مسيحا" و"مهديا منتظرا"، وليمارس بنفسه ما ينتظر منهما أن يمارساه نيابة عنه، عندئذ سيكتشف أن الروايات التي تحدثت عنهما إن صحت، إنما كانت تتحدث عن يقظتهما في قلبه وفي عقله، أي أنها كانت تتحدث عنه عندما يتقمص صفاتهما النبيلة والعظيمة التي أشارت إليها تلك الروايات.
    ولك سيدتي بالغ التقدير والاحترام ومع رجاء أن أكون قد أشفيت بعضا من الغليل
    أسامة عكنان

  4. #104
    السلام عليكم
    أبقى ممتنة لك ولمتابعتك الدقيقة لمسار الأسئلة واتمنى ألا أكون قد أثقلت عليك:
    (وإذا كان الفكر الصهيوني إنجازا رأسماليا مسيحيا صِرفا، )

    **********
    حقيقة أشك بالعكس بناء على قراءاتي التي أتمنى أن تكون موثوقة:
    يقول محمد السماك في كتابه الصهيونية المسيحية ص 11
    أمرنا عددا من أبائنا بالدخول في جسم الكاثوليكية مع تعليمات صريحة بوجوب العمل الدقيق والنشاط الكفيل بتخريب الكنيسة من قبلها عن طريق اختلاق فضائح داخلية ونكون بذلك قد عملنا بنصيحة
    أمير اليهود الذي أوصانابكمة بالغة:
    دعوا أبناءكم كهنة ورعاة ابرشيات فيهدمون كنائسهم...فخان كثير العهد لكن الآخرين حافظوا على عهدهم ونفذوا مهماتهم بشرف وأمانة.
    ص 12
    يقول الاستاذ منصور عبد الحكيم في كتابه الحرب السابعة ص 22-23
    ممن روج لعودة المسيح وقتل ثلثى المسلمين ونشر الفجور والفساد قبل عودة اليهود لارض الميعاد الراهب الانجيلي الايرلندي الاصل جون نلسون الذي كان من تلاميذ الزعيم البروتستنتي القس تيم لاهاي الامريكي الذي تجاوز الثمانين
    صاحب رواية المخلفون.
    *********
    كيف نقارن هذين النصين معا؟وكيف يمكن الاقتناع ببداية الصهيونية من قلب البروتستانتية ولماذا؟
    يتبادر في ذهننا إضافة:
    سؤالين هنا كنا طرحناه على الدكتور قبيسي قبلا:
    من هم الذي ضموا التوراة للانجيل وماكان الامر مطوحا كفكرة بداية؟ انما لربط المسيحيين باليهود .وهم ضمنا لايعترفون به وهناك أدلة يضيق المقام لذكر ذلك.

    *********
    لقد خدم ادبهم هدفهم تماما فماذا عن أدبنا؟
    أخيرا ماهو تعريف الصهيونية الإسلامية؟
    ***********
    (فمادامت الصهيونية ليست دينا، بل مشروعا سياسيا تستر وراء الدين، وجيَّش لنفسه بشريا في حاضنة الدين،
    فإن كل من يسهم بدوره ومن موقعه السياسي في تمرير الإستراتيجيات التي نشأ لأجلها ذلك المشروع،
    هو حتما وبالضرورة جزءٌ لا يتجزأ منه.
    وإنه على هذا الأساس ومن هذا المنطلق يجب التعامل مع منظومات التجزئة القطرية الوظيفية العربية التي لا تتعارض سياساتها وبرامجها ورؤاها مع سياسات وبرامج ورؤى الإمبريالية العالمية التي تستخدم الصهيونية لتمرير تلك الرؤى والإستراتيجيات والبرامج،
    باعتبارها منظوماتٍ صهيونيةً بكل ما لهذه الكلمة من معاني ودلالات، والتعامل معها من ثَمَّ على هذا الأساس، وإلا فإن هناك خللا في التصور، وانحرافا في مسار الصراع، وخطأ مستفحلا في تشخيص جوهر التناقض الناشئ في المنطقة منذ رُسِمَت بقلمي "سايكس" و"بيكو".)

    ******
    هنا يتبادر لذهننا سؤال مؤلم مانراه تاريخيا هو تراكمي يعيش في غماره جيلا كاملا ليبنى عليه بناء منزاحا آخر دون ان نستطيع إزاحة ما وصلنا إليه فلاشعارات ولا أفكار انقذتنا مما نحن فيه لامتداد أذرعتهم في صلب الاجهزة المتحكمة حولنا وماذا بعد؟
    ***********

    وسامح فضولي.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  5. #105
    تعقيبات وأسئلة الأستاذة ريمة الخاني
    "وإذا كان الفكر الصهيوني إنجازا رأسماليا مسيحيا صِرفا"،
    حقيقة أشك، بالعكس بناء على قراءاتي التي أتمنى أن تكونموثوقة: يقول محمد السماك في كتابه الصهيونية المسيحية ص 11:
    أمرنا عددا منأبائنا بالدخول في جسم الكاثوليكية مع تعليمات صريحة بوجوب العمل الدقيق والنشاطالكفيل بتخريب الكنيسة من قبلها عن طريق اختلاق فضائح داخلية ونكون بذلك قد عملنابنصيحة أمير اليهود الذي أوصانا بحكمة بالغة: دعوا أبناءكم كهنة ورعاة أبرشياتفيهدمون كنائسهم. فخان كثير العهد لكن الآخرين حافظوا على عهدهم ونفذوا مهماتهمبشرف وأمانة.
    يقول الاستاذ منصور عبد الحكيم في كتابه الحرب السابعة ص 22 – 23:
    ممن روج لعودة المسيح وقتل ثلثى المسلمين ونشر الفجور والفساد قبل عودةاليهود لأرض الميعاد الراهب الإنجيلي الإيرلندي الأصل "جون نلسون" الذي كان من تلاميذالزعيم البروتستنتي القس "تيم لاهاي" الأمريكي الذي تجاوز الثمانين. صاحب روايةالمخلفون.
    1 - كيف نقارن هذين النصين معا؟
    2 - وكيف يمكن الاقتناع ببدايةالصهيونية من قلب البروتستانتية ولماذا؟
    3 - من هم الذي ضموا التوراة للإنجيل وما كانالأمر مطروحا كفكرة بداية؟ إنما لربط المسيحيين باليهود. وهم ضمنا لا يعترفون به،وهناك أدلة يضيق المقام لذكر ذلك؟
    4 - لقد خدم أدبهم هدفهم تماما فماذا عنأدبنا؟
    5 - أخيرا ما هو تعريف الصهيونية الإسلامية؟
    "فمادامتالصهيونية ليست دينا، بل مشروعا سياسيا تستر وراء الدين، وجيَّش لنفسه بشريا فيحاضنة الدين،
    فإن كل من يسهم بدوره ومن موقعه السياسي في تمرير الإستراتيجياتالتي نشأ لأجلها ذلك المشروع،
    هو حتما وبالضرورة جزءٌ لا يتجزأ منه. وإنهعلى هذا الأساس ومن هذا المنطلق يجب التعامل مع منظومات التجزئة القطرية الوظيفيةالعربية التي لا تتعارض سياساتها وبرامجها ورؤاها مع سياسات وبرامج ورؤىالإمبريالية العالمية التي تستخدم الصهيونية لتمرير تلك الرؤى والإستراتيجياتوالبرامج. باعتبارها منظوماتٍ صهيونيةً بكل ما لهذه الكلمة من معاني ودلالات،والتعامل معها من ثَمَّ على هذا الأساس، وإلا فإن هناك خللا في التصور، وانحرافا فيمسار الصراع، وخطأ مستفحلا في تشخيص جوهر التناقض الناشئ في المنطقة منذ رُسِمَتبقلمي "سايكس" و"بيكو".
    6 - هنا يتبادر لذهننا سؤال مؤلم، ما نراه تاريخياهو تراكمي يعيش في غماره جيل كامل ليبنى عليه بناء منزاحا آخر دون أن نستطيعإزاحة ما وصلنا إليه فلا شعارات ولا أفكار أنقذتنا مما نحن فيه لامتداد أذرعتهم فيصلب الأجهزة المتحكمة حولنا وماذا بعد؟
    الإجابات
    على السؤال الأول
    1 - كيف نقارن هذين النصين معا؟
    بداية أحب أن أشير إلى أنني فهمت من تعقيباتك التي أحببتُ تمييزَها باللونين الأزرق والأحمر، أنها بمثابة دليل على مبررات الشك الذي أشرتِ إليه على فكرتي التي تركتُها في البداية باللون الأسود، والتي هي "وإذا كان الفكر الصهيوني إنجازا رأسماليا مسيحيا صِرفا". وكأني فهمت منك أنك تستدلين بتلك الفقرات المقتبسة من كتابي الأستاذين "محمد السماك" و"منصور عبد الحكيم"، على أن الفكرة التي تقول "أن الصهيونية هي إنجاز رأسمالي مسيحي صرف"، ليست صحيحة، أو أنها على الأقل موضعُ شك.
    وسوف أرد بناء على أن فهمي الذي أوردتُه هنا لتعقيباتك صحيح، راجيا تصويبي إن كنت مخطئا في فهمِكِ سيدتي!!
    أولا.. لست ممن يرتاحون لفكرة المؤامرة، ولا للتسليم السهل بصحة النصوص التي تحيل الكثير من الأحداث إلى المؤامرات والدسائس. فأنا أؤمن بالنواميس وبقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ، وأصدق مع ذلك بأن هناك من يحاولون الاستفادة من تلك النواميس لتمرير أجنداتهم الخاصة التي قد تكون شريرة، وقد ينجحون وقد يفشلون بقدر ما يكونون قادرين على توظيف الناموس في تمرير تلك الأجندات. فالناموس لا يهزمه إلا ناموس مضاد، ولا تهزمه هرطقة أو تجديف أو وهم. هذه هي حدود الحركة والتطور كما أفهمها، وليست أكثر من ذلك. ومن الواضح أن النص الأول ينضح بروح المؤامرة، حيث نفهم منه أن هناك استهدافا للجسم المسيحي الكاثوليكي بإدخال يهود يظهرون اعتناق الديانة الكاثوليكية بهدف التخريب ونشر الفضائح.. إلخ. ومع ذلك فقد يصح أن هناك من خطط لمثل هذا الاستهداف من اليهود. وإن كان قد تحقق له نجاح جزئي، فأين هي مظاهره؟ وماذا ترتب عليه؟ وإلى ماذا أدى؟ وماذا كان الهدف البعيد والنهائي منه؟ وإلى أي مدى تم تحقيق ذلك؟! وما علاقته – وهذا هو الأهم – بموضوعنا الذي نحن بصدده؟ أي كيف يمكن لنص يتحدث عن أن يهودا حاولوا الإساءة للديانة الكاثوليكية باختراق كنيستها ونشر بعض الفضائح فيها، أن يدل على أن الصهيونية لم تنشأ في حاضنة رأسمالية مسيحية؟!!!
    ثانيا.. تنتشر هذه الأفكار المُكَرِّسَة للنزعة التآمرية في دراسة "اليهود"، في آلاف الكتب التي تتحدث عن "اليهودية العالمية"، و"الماسونية المجهولة"، و"حكومات العالم اليهودية"، وعن أن الدول والشعوب والثورات والقوى المحركة للتاريخ ما هي إلا "أحجار على رقعة شطرنج" يحركها هؤلاء "اليهود"، وعن مؤامرات تجلت في كتب خطيرة أحيطت بهالات من الغموض والغرائبية، مثل "بروتوكولات حكماء صهيون".. إلخ. ولقد أتيحت لي فرصة قراءة عدة مئات من هذه الكتب، إلى درجة يمكنني أن أزعم معها أنني ما تركت كتابا ذا شأن في المسألة يقع بين يدي إلا واطلعت عليه وعرفت ما فيه وما يريد قوله. ولقد توصلت في نهاية المطاف وبعد كل هذه الرحلة الطويلة في هذا العالم الغامض إلى النتائج التالية..
    1 – نسبة توثيق المعلومات في تلك المصادر كلها وبلا استثناء تكاد تكون معدومة، إذا ما قيست بالتوثيق في مناهج البحث العلمي، وبالتالي فهي جميعها كتب لا يعتد بها علميا، ويعتبر الباحث الذي يستند إليها وهو يعرف أسلوبها في تناقل المعلومات، باحثا مشكوكا في قدرته، ومطعونا في نزاهته، وينظر إليه على أنه يبحث عما يثبت أمانيه ورغباته، أكثر من بحثه عن إثبات الحقيقة العلمية. فكل تلك الكتب يأخذ بعضها عن البعض الآخر، فقد تجدين كتابا منها مليئا بالهوامش والمراجع إلى درجة تندهشين مما تعتبرينه توثيقا ومرجعيات. ولكنك لو رجعت إلى كل واحد منها على حده لوجدته يعتمد على باقي المراجع نفسها. وبشيء من التحليل والتمحيص وبذل الجهد العلمي، ستكتشفين أن كل هذه المراجع تتركك تدورين في حلقة مفرغة من انعدام التوازن العلمي والمعرفي، ليتبين لك في نهاية المطاف، أن أوثق المعلومات وأكثرها يقينا من بين كل ما ستجدينه فيها، هي تلك المنسوبة فقط إلى الكتب السماوية "القرآن" و"التوراة" و"الإنجيل". ولأوضح لك المسألة أكثر أضرب لك مثالا بسيطا يصور لك الحالة على حقيقتها، وما عليك إلا أن تسحبيها عليها لتتصوري حجم التيه في المسألة. فلنفترض أن لدينا ستة كتب هي "أ" و"ب" و"ج" و"د" و"ه" و"ك". عندما نقرأ الكتاب "أ" نجده يرجع إلى الكتب "ب" و"ج" و"د" و"ه" و"ك"، حسن وجميل. فلنتجه إلى الكتاب "ب"، سنجده يرجع إلى الكتب "أ" و"ج" و"د" و"ه" و"ك". وهنا نجد أن "أ" عاد ليصبح مرجعا لـ "ب" بعد أن كان "ب" مرجعا له. فإذا ذهبنا إلى الكتاب "ج" سنجده يرجع إلى الكتب الخمسة الأخرى، ليصبح الكتابان "أ" و"ب" مرجعين لـ "ج" بعد أن كان هو مرجعا لهما.. وهكذا دواليك. ولك أن تتخيلي تعقيد الشبكة وصعوبة تبين وجه الحق من الباطل فيها، عندما نتحدث عن آلاف الكتب التي انتشرت عبر مئات السنين مستغلة عنصر الإشاعة والأسطورة والتلفيق والتنافس والصراع وتدني مستويات الرقابة العلمية والافتقار إلى وسائل الحماية الفكرية والعلمية.. إلخ.
    2 – كل ما يمكن لتلك الكتب أن تكرسه من مفاهيم ومعتقدات وتصورات حول "اليهود" ومؤسساتهم ومنظماتهم ونفوذهم وقدراتهم وماضيهم ومستقبلهم ومشاريعهم.. إلخ، يتعارض تعارضا شبه كامل مع القراءة المتأنية والعقلانية للقرآن الكريم، الذي يمكن اعتباره أدق وأعمق وأصدق مرجع تحدث عن اليهود في العالم، على أن تكون القراءة معتمدة على "اللغة" و"العقل" أولا وآخرا، وبعيدة عن كل "الإسرائيليات" التي أصبحت هي مصدر قراءتنا لهذا الكتاب حتى لو اضطررنا للي عنق آياته ومعانيه مع الأسف الشديد.
    3 – كل ما يمكن لتلك الكتب أن توصلنا إليه من فهم للحركة الاجتماعية ولصيرورة التاريخ، يتعارض أشد ما يكون التعارض مع قواعد علمي الاجتماع والتاريخ ومع نواميس الطبيعة ومبادئ علم الأنثربولوجيا.. إلخ. فنحن بإزاء هذا الكم المهول من الخرافات والأساطير التي تحاصرنا بها تلك الكتب حول اليهود وما يتعلق بهم، أمام واحد من خيارين، فإما أن نسقط علوم الاجتماع والتاريخ والأنثربولوجيا، فضلا عن الفلسفة وعلم النفس، لنقبل بتلك الأساطير، وإما أن نحترم عقولنا ومعارفنا وعلومنا وننسف تلك الخرافات عن بكرة أبيها.
    4 – كل تلك الكتابات أو لنقل معظمها، وهي تلك التي تحتوي على أهم عناصر الرؤية التآمرية عن اليهود، وخاصة ما يتحدث منها عن اليهودية والماسونية والصهيونية ومنظمات اليهود المختلفة ومشاركتهم في تفجير الثورات وفي صناعة التاريخ والكوارث.. إلخ، تنضح منها الروح الأيديولوجية حينا، والاستخبارية حينا آخر. فهي إما أنها تعكس تصورات سياسية ذات طبيعة أيديولوجية من الواضح أنها تخدم سياسة هنا لتضر بسياسة هناك، أو أنها ذات طبيعة مخابراتية، تريد تمرير معلومات مكذوبة هنا بشكل ما لغرض ما، ومعلومات هناك بشكل آخر لغرض آخر. فكتاب مثل "بروتوكولات حكماء صهيون"، لا يمكن لمثقف عاقل ألا يشتم في كل كلمة من كلماته نَفَسَ الاستخبارات الروسية القيصرية التي كانت تلاحق الشيوعيين وتحاول بث كراهيتهم في قلوب الروس من خلال ربطهم باليهود الذين كان الروس يكرهونهم. وكتاب مثل كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج"، لا يمكن لمثقف عاقل أن يقرأه دون أن يقتنع بأن المخابرات الأميركية هي التي كانت وراء كتابته ونشره. ولا أظن أن كون مؤلفه أميرالا في البحرية الأميركية، هو الأميرال "غاي كار"، خال من الدلالة!! ومن يقرا كتابا مثل "الماسونية ذلك العالم المجهول"، يندهش من حجم الاستهتار بالعقل الإنساني، ومن حجم الأسطورة المستخدمة في الحديث عن تاريخ الماسونية التي يراد لنا ان نصدق أنها كما يقال عنها، ومؤلف الكتاب يسافر بها ويسافر بنا معها من لبنان إلى البرازيل إلى أميركا إلى فرنسا.. إلى.. إلى.. إلى أن يصل بها وبنا معها، إلى نبي الله سليمان عليه السلام؟! وقلما نجد كتابا أو مرجعا منها يبدو متحررا من هاتين النزعتين، وإذا وجد مثل ذلك المرجع، سنجده أميل إلى الموضوعية التي ننادي بها نحن، منه إلى النهج الأسطوري الذي ترسخه وتكرسه تلك المنظومة من المراجع والكتب.
    ثالثا.. لا خلاف على أن حركة الإصلاح الديني في أوربا هي التي أحيت فكرة "الجهد البشري المباشر في تجسيد أرض الميعاد تمهيدا لحضور المسيح وإحيائه للعصر الألفي السعيد"!! وقد ترسخت هذه العقيدة أول ما ترسخت فيما عرف بالمذهب البروتستانتي. وعندما نقول أن الفكر الصهيوني هو فكر رأسمالي مسيحي صرف، فليس في هذا ما يتعارض مع هذه الواقعة. فحركة الإصلاح الديني لم تكن تدعو إلى الصهيونية بمعناها السياسي الذي نعرفه ونتحدث عنه، ولا كانت الرأسمالية بمعناها الاقتصادي قد ظهرت بعد. هذه الحركة الإصلاحية الدينية تحركت بفعل العديد من العناصر لإحياء هذه الفكرة التي اتخذت لاحقا صفة "الفكرة الصهيونية" والتي تبنتها الرأسمالية الأوربية وحولتها إلى إطار سياسي وحرصت على دفع اليهود باتجاهها ليتبنوها ويصبحوا أداة تنفيذها، وهو ما قضت قرابة ثلاثة قرون وهي تسعى إليه، إلى أن وفقت مع نهايات القرن التاسع عشر، مع تكامل هذه الفكرة في الذهن اليهودي الذي أرهقه قمع الروس خصوصا، واضطهاد المسيحية الأرثوذوكسية في شرق أوربا عموما. الإصلاحات الدينية كانت حركة تاريخية استمرت عقودا طويلة، ولم تحدث بقرار وبكبسة زر!! والرأسمالية أيضا نشأت بهذه الطريقة عبر تحولات اجتماعية خلقت علاقات إنتاج جديدة في المجتمعات الإقطاعية الأوربية التيب تحولت على عصر القوميات بسبب تغير علاقات الإنتاج تلك، وهي أيضا لم تحدث بقرار وبكبسة زر!! وبالتالي فهذا المنجز الرأسمالي المسيحي الذي هو الفكرة الصهيونية، حدث وتشكل وتكون على النحو نفسه عبر عشرات السنين، وتطور عبر مئات السنين، ولم يحدث بقرار ولا بكبسة زر!! وعندما نقول بأنه منجز رأيمالي مسيحي صرف فننا نعني أنه يؤول في مبرراته وفي مكوناته إلى هذين العنصرين الرأسمالي والمسيحي!!
    رابعا.. في ظل صيرورة تاريخية قوية المستندات، وقاطعة الدلالات، تؤكد على أن الأوربيين بمسيحيتهم وبرأسماليتهم، عانوا الأمرَّين قبل أن يتمكنوا من إنتاج العقل اليهودي على النحو الصهيوني المستهدف، إلى درجة أن ما بدأوه في نهايات القرن السادس عشر، لم يثمر إلا في نهايات القرن التاسع عشر.. نقول.. في ظل صيرورة تاريخية كتلك، يغدو مما لا علاقة له بالعلم لا من قريب ولا من بعيد، التوقف عند كل تلك المؤشرات الدالة على ما نقوله، وتحييدها والتشكيك فيها رغم وضوحها وصحتها، والقبول بخرافة وأسطورة أن هناك من يقول بأن اليهود بناء على أوامر أميرهم، كانوا يتآمرون على الكنيسة الكاثوليكية بهدف تخريبها ونشر الفضائح فيها، واعتماد هذه الأقاويل ظنية الثبوت في مواجهة التاريخ القاطع الذي لم نعايش أحداثه الماضية فقط، بل نحن نعايش أحداثة الراهنة ساعة بساعة ولحظة بلحظة في واقعنا المُعاش!!
    على السؤال الثاني
    2 - وكيف يمكن الاقتناع ببدايةالصهيونية من قلب البروتستانتية ولماذا؟
    كي نقتنع بذلك يجب أن نفهم ما معنى قولنا "الصهيونية بدأت من قلب البروتستانتية". ومع أن إجابتنا على السؤال الأول انطوت على الإجابة المطلوبة، إلا أننا نضيف هنا قولنا، أن الأفكار التي نادت بها الصهيونية اليهودية عندما نشأت في نهايات القرن التاسع عشر، كانت موجودة في قلب البروتستانتية التي نشأت في منتصف القرن السادس عشر، وبالتالي فهي امتداد لها، ولا يتطلب الأمر منا أكثر من الاطلاع على المعتقدات المسيحية البروتستانتية، والمعتقدات الصهيونية اليهودية، لنتأكد من هذا الأمر!! أما كي نقتنع بأن الصهيونية اليهودية في جانبها السياسي هي منتج أوربي "رأسمالي – مسيحي عموما، وبروتستانتي خصوصا"، فعلينا أن نقرأ التاريخ الأوربي الحديث، بأدوات قراءة التاريخ وليس بأدوات قراءة الفقه، ولا بقراءة الرغبات والآمال. وعلينا تتبع تاريخ اليهود في القارة الأوربية في الفترة محل الدراسة، كي نكتشف بكل سهولة أن كل السياسات الأوربية تجاه اليهود، كانت تدفع باتجاه وضعهم في أتون واقع مجتمعي سياسي واقتصادي وثقافي، يمكنهم من قبول فكرة "التصهين اليهودي"، امتدادا للتصهين الأوربي المسيحي الرأسمالي. وهذا الموضوع طويل وشائك ومعقد، وبحاجة إلى قراءة ومطالعة ومتابعة وتمحيص، ولعل في كتابنا "سايكولوجيا المحارب الإسرائيلي" على تواضعه وصغر حجمه ما يمكنه أن يفيد في هذا الشأن، فقد ركز على هذه النقطة كثيرا.
    على السؤال الثالث
    3 - من هم الذي ضموا التوراة للإنجيل وما كانالأمر مطروحا كفكرة بداية؟ إنما لربط المسيحيين باليهود. وهم ضمنا لا يعترفون به،وهناك أدلة يضيق المقام لذكر ذلك؟
    لا أوافق على ما فهمتُه من هذا السؤال إذا كان ما فهمته صحيحا.
    فاليهودية كتاريخ وكأنبياء وكماضٍ لعلاقة السماء بالأرض، وبالتالي فالعهد القديم "التوراة"، كسِجل يجسد هذا التواصل، ويوثق لهذا التاريخ، هو جزء من عقيدة المسيحيين، ولا أظن أنه جاء على المسيحيين يوم لم يكونوا يؤمنون بأنبياء بني إسرائيل وسيرهم، وبالتالي بوصاياهم وكتبهم وصحفهم.. إلخ. الذين لا يؤمنون بالمسيح وبما جاء به المسيح هم اليهود "بنو إسرائيل"، أما المسيحيون وبحكم أن المسيح هو مرجعهم، فإنهم يؤمنون بما جاء به، وهو جاء مكملا ومتمما لأسلافه، ونحن هنا نتجاوز التحريفات التي جعلت المسيح في المسيحية يقفز من مستوى بشر رسول هو كلمة الله أوحى بها إلى مريم وروح منه، لأن صبح ربا وإلها واينا وروحا قدسا، كما تنص على ذلك العقائد المسيحية، فليس هذا موضوعنا. ومن هنا فلا مكان في تصوري للسؤال الذي يستفسر عن ضم التوراة للإنجيل. ولكن وبالنظر لما يؤمن به المسيحيون من أن اليهود هم من تسببوا في صلب السيد المسيح، فإن منازعات سياسية ومعتقدية سادت بينهم عبر التاريخ. ومن هنا يمكننا أن نطرح التساؤل الوارد على النحو التالي: متى وكيف ولماذا بدأ المسيحيون يكفون عن إدانة اليهود بالتورط في دم المسيح؟ وما هو الدور الذي لعبته الاصلاحات الدينية في التقريب بين أتباع الديانتين؟ وما هو أثر ذلك في استكمال الدمج بين العهدين القديم والجديد؟ وعندما تتحول الأسئلة لتغدو على هذا النحو فنحن بإزاء موضوع مختلف تماما ليس هنا مجاله على ما أظن!!
    على السؤال الرابع
    4 - لقد خدم أدبهم هدفهم تماما فماذا عنأدبنا؟
    نحن أمة ما يزال أدبها يحبو وبالأحرى ما يزال فنها يحبو. والأدب كي يتمكن من خدمة فلسفات أمة وتجسيدها، فإن على تلك الأمة أن تكون قد استكملت صياغة مناهجها وفلسفاتها، وبالتالي فمادمنا في طور التكوين على الصعيد الفلسفي، فنحن من باب أولى في طور التكوين الأدنى مرتبة على الصعيد الأدبي. فلا داعي لتحميل أدبنا أكثر من طاقته، ولنلتفت إلى الفلسفات والمناهج والأفكار والرؤى الأيديولوجية النهضوية، فتلك تأتي بالقراءة الناقدة لواقعنا، أما الأدب فيأتي لوحده وبصورة تلقائية، لأنه فن، والفن استجابة تلقائية للواقع بمختلف أنماط المحاكاة، نقدا أو تمجيدا.. إلخ.
    على السؤال الخامس
    5 - ما هو تعريف الصهيونية الإسلامية؟
    أظن أنني قدمت تعريفا مختصرا للصهيونية الإسلامية في إجابتي السابقة. وأنا أدرك أنها مختصرة وأن الأمر أكبر من الاختصار ويتطلب المزيد. ولكني أستطيع في هذا المقام أن أضيف شيئا بسيطا يساعد الشخص نفسه على الاكتشاف بنفسه.
    فمادمنا نتحدث عن صهيونية نعتبرها "إسلامية" من الناحية الدينية، فهذا يعني أننا نتحدث عن الصهيونية في جانبها الديني كما عرفناها في اليهودية وفي المسيحية البروتستانتية، لنجد لها امتدادات دينية في "الإسلام" أو بتعبير أدق في فهم المسلمين للإسلام. ومادمنا بالتالي نتحدث عن صهيونية نعتبرها "إسلامية" أو "عربية" من الناحية السياسية، فهذا يعني أننا نتحدث عن الصهيونية في جانبها السياسي كما عرفناها في "الرأسمالية الاحتكارية الإمبريالية"، لنجد لها امتدادات سياسية واقتصادية الطابع لدى المسلمين.
    ولأن الصهيونية الدينية والسياسية سواء اليهودية منهما أو المسيحية، محددة ومعروفة لدينا، فإننا عندما نتحدث عن الصهيونية الإسلامية، فإننا إنما نسقط ما نعرفه من يهودية ومسيحية الصهيونية على إسلاميتها، ليحدث التطابق، وإن يكن بروح الدين الإسلامي وبمفاهيمه ومصطلحاته. فمن الناحية الدينية قلنا سابقا أن رؤية المسلمين تتطابق مع رؤية اليهود والمسيحيين الصهاينة فيما يتعلق بآخر الزمان ومعاركه وعودة المسيح والدجال ويأجوج ومأجوج وفناء البشرية ثم إقصاء الكفار المخالفين.. إلخ. وبالتالي فنحن – ضمن هذا الفهم الضيق والإقصائي للإسلام – صهاينة دينيا منذ زمن طويل، وربما أننا كذلك قبل المسيحيين الذين لم يتصهينوا إلا بعد الإصلاحات الدينية. وفي هذا الصدد يجب أن نعترف بأن أساطير وخرافات اليهود وإسرائيلياتهم، أثرت فينا نحن المسلمين وجعلتنا نقرأ حتى قرآننا في الكثير من جوانبه قراءة توراتية يهودية أسطورية، قبل أن يتأثر المسيحيون بهؤلاء اليهود وبأساطيرهم. وبالتالي فلنكف عن العيش في وهم أن اليهود أثروا على المسيحية وقلبوها وزوروها ونبذل الجهد في تعقب مؤامراتهم ضد المسيحية، متجاهلين ما فعلناه بأنفسنا، ونحن نتقبل ثقافتهم بطيب خاطر منكلقا لتفسير ديننا وقرآننا، مع أننا كنا أقوى أمم الأرض وأولى الناس بألا نتأثر ثقافيا بأكثر الثقافات بعدا عن العقلانية والمنطق والعلم ألا وهي ثقافة اليهود التوراتية.
    أما من الناحية السياسية وبالتالي الاقتصادية والمجتمعية عموما، فعلينا أن نفهم أن كل قراءة للإسلام تجعله يتجسد سياسيا واقتصاديا بشكل رأسمالي معادي للعدالة ولحقوق الإنسان وللحريات ومكرسا للعنصرية والاستعلاء الطبقي، تعني أنه قُرِئ على أرضية صهيونية. وأن كل منتسب للإسلام يتحرك سياسيا واقتصاديا وثقافيا ومجتمعيا بشكل يخدم فيه الرأسمالية الاحتكارية الإمبريالية العالمية، هو مجسد لأبشع أنواع الصهيونية ألا وهي الصهيونية الإسلامية. ونحن نعتبرها أبشع أنواع الصهيونية، لأننا نعتبرها مزورة لأنصع صورة من صور الأديان السماوية، ومشوهة لأجمل لوحة رسمتها السماء في علاقتها بالأرض، عندما ختمتها بالوحي المنزل على ابن مكة البار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
    على السؤال السادس
    6 - هنا يتبادر لذهننا سؤال مؤلم، ما نراه تاريخياهو تراكمي يعيش في غماره جيل كامل ليبنى عليه بناء منزاحا آخر دون أن نستطيعإزاحة ما وصلنا إليه فلا شعارات ولا أفكار أنقذتنا مما نحن فيه لامتداد أذرعتهم فيصلب الأجهزة المتحكمة حولنا وماذا بعد؟
    الشعار وبال على صاحبه وعلى حامله والمتشدق به، والفكرة حجة على معتنقها وناقلها والمجعجع بها، إذا لم يتحول كل ذلك إلى عمل. ونحن أمة بالكاد بدأت تعمل بمقتضى شعارانها وأفكارها. هذا إذا تجاوزنا حقيقة أننا ما نزال لم نستكمل منظوماتنا الفكرية التي تتطلبها نهضتنا بعد!! وبالمناسبة سنكرر دائما الإجابة نفسها.. "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"!! هذا هو واقع معظم الأمة.. فماذا تتوقعين سيدتي غير ما نحن فيه حتى الآن؟!
    مع خالص الشكر
    أسامة عكنان



  6. #106


    حضرة الأستاذ الباحث أسامة عكنان المحترم
    السلام عليكم ورحمة الله

    لك جزيل شكري على تفضلك بالإجابة على أسئلتي الأولى التي طرحتها.
    تعقيباً على إجابتك على سؤالي الأول، لا بد لي من الاعتذار إلى حضرتكم لأن صيغة السؤال كانت على قدر من الإيجاز بحيث قصرت عن أداء المراد من السؤال؛ فعلى الرغم من أن الإيجاز سمة -مربٍكة لي كما حصل الآن- في كتاباتي وكان عليَّ البسط أكثر وخصوصاً أنها أول مشاركة لي في هذا المنتدى الكريم، إلا أن ما أغراني بالاستمرار على هذا النهج هو ملاحظتي تحليلاتك المنطقية للأسئلة التي تطرح عليك.

    إن أهمية مثل هذه اللقاءات الحوارية تنبع من كونها تعطي فرصة للمحاوِر بالتعرف على جوانب في شخصية المحاوَر لا تتيحها قراءة كتاب أو بحث له، خصوصاً الجوانب التي لها صلة بتخصصه وصفته الأبرز التي تميِّزه، فقد يُعجَب ويستمتع المحاوِر بطريقة تناول ومعالجة السؤال أو الموضوع المطروح بغض النظر عن نتائج المعالجة، ولا أقصد طبعاً "شخصنة" الموضوع وأثره على تقبُّل الفكر المطروح؛ فالأبحاث التي تتناولها رسائل الدكتوراة -على سبيل المثال- تأخذ قيمتها الأساس من طريقة تناول البحث ومعالجة المشاكل والإشكالات فيه لا من النتائج التي يُتوصَّل إليها.

    ألا تعتقد معي أستاذي القدير أسامة أن الفكر"الأصلح" لنا كأمَّة، والذي ننشده ونسعى لوضع الأسس له، يجب أن يكون صالحاً أيضاً لغيرنا من الأمم؟ ألسنا نتحدث عن فكرٍ إنسانيّ؟
    لازلت أطمع –كباحثٍ عن معرفة- في إجابة إضافية على نفس السؤال من أستاذٍ أثق بقدرته على ذلك، مع رجاء الأخذ في الاعتبار أن مقدمة السؤال هي جزء منه.
    وتقبل مني خالص مودتي مع شكري وتقديري.
    وطني... محلُّ تكليفي، ومختبر صلاحي

  7. #107
    سؤال الباحث توحيد مصطفى عثمان:
    ألا تعتقد معي أن الفكر"الأصلح" لنا كأمَّة، والذي ننشده ونسعى لوضع الأسس له، يجب أن يكون صالحاً أيضاً لغيرنا من الأمم؟ ألسنا نتحدث عن فكرٍ إنسانيّ؟.
    .................................................. ............
    الإجابةأظن أننا في حاجة للتفريق بين "الفكر" و"الفلسفة" كي يتسنى لنا أن نجيب على سؤالكم الإجابة الشافية. فالفلسفة هي "تفسيرٌ للوجود"، بينما الفكر هو "إسقاط لذلك التفسير على واقع موضوعي ذي سمات زمانية ومكانية محددة"، أو على الأقل، هذا ما أفهمه أنا شخصيا من مصطلحي "الفكر" و"الفلسفة". من هنا فالفكر ينتج في إطار فلسفة معينة ليعالجَ واقعا، بالاستناد إلى تلك الفلسفة كمرجعية. ومن ثمَّ فإن الحديث عن "فكر إنساني" يجب ألا يتجاوز في معناه، البعد "الوجداني" لكلمة إنساني، وليس بعدها "الموضوعي" الذي يعني "الشمول والعموم لكل الإنسانية"!!فلو تناولنا "المادية بشقيها التاريخي والدياليكتيكي"، فنحن بصدد تناول فلسفة نفسر بها العالم، لأنها فلسفة تطرح تصورا للعالم ككل، وتضع تصوراتها للحركة المادية والتاريخية في كل مجالاتها، من هنا نستطيع الحديث عن بعدها الإنساني بمعنى "الشمول والعموم". ولكننا لا نستطيع أن نتعامل مع "الماركسية اللينينية" أو مع "الماركسية الماوية"، أو مع "الماركسية التروتسكية"، أو مع "الاشتراكيات الديمقراطية"، أو مع "الاشتراكيات العربية"، أو مع "الاشتراكية الهندية"، باعتبارها فلسفاتٍ نبحث في إنسانيتها أو لا إنسانيتها، لأن تلك المشتقات "الدياليكتيكية" ليست فلسفات، بل هي أفكار ومنظومات فكرية فقط، أسقطت الفلسفة المادية، كلٌّ على واقعٍ موضوعي محدد، بخصوصيات زمانية ومكانية محددة.فعندما رأى "تروتسكي" أن القفز التام على مرحلة الرأسمالية وتجاوزها، من خلال الانتقال من الإقطاع الذي كان السمة الأبرز للمجتمع الروسي القيصري، مباشرة إلى الاشتراكية العلمية التي تحدث عنها الدياليكتيك الماركسي، قد يهدد مستقبلَ الاشتراكية ذاتها، ابتدع أفكاره التي رآها أنسب ما تكون للواقع السوفييتي. وعندما رأى "ماو تسي تونغ" أن الصين دولة تفتقر إلى طبقة بروليتارية بالمفهوم الدياليكتيكي الماركسي للبروليتاريا كما نشأت وتكونت في المجتمعات الرأسمالية الأوربية، حيث الثقل العمالي بسبب ازدهار وانتشار الصناعة، فإنه قام بتطوير الدياليكتيك بما يناسب الوضع في الصين، معطيا طبقة الفلاحين كل المزايا الأيديولوجية لطبقة البروليتاريا العمالية التي كانت سائدة في أوربا.. وهكذا دواليك.فالأفكار بطبيعتها والمنظومات الفكرية في جوهرها، تعمل في نطاقها الضَّيِّق فقط، ولا مكان للحديث عن عالميتها. العالمية هي فقط للفلسفات. ولأن الأديان السماوية هي بطبيعتها وبسبب مرجعيتها ومصدرها تطرح نفسها عالمية وإنسانية بمعنى الشمول والعموم لكل زمان ومكان. فقد كان من الطبيعي أن تختمر لدى أتباعها أجنة الحديث عن العالمية والإنسانية. ولكن..حتى الفلسفة التي تطرح نفسَها مفسرة للوجود ككل، فإنها لا تكتسب صفة عالميتها فقط من هذا الباب. فتفسير الوجود نفسه، إذا كان عاجزا عن تقديم رؤية للحركة التاريخية والطبيعية والمجتمعية، رؤية تستطيع دفع كل تناقضات الوجود المتحرك ليندفع نحو مستقبله بشكل إيجابي وغير إقصائي ولا انتقائي بصورة تعسفية. أي عندما تكون فلسفة مفسرة، وعاجزة عن أن تكون فلسفة مُغَيِّرَة، فإنها ستُحْرَم من صفة العالمية ومن نكهة الإنسانية بمعنى العموم والشمول، وستبقى فلسفة "صالونات" تعبر عن هرطقات فلاسفة.فهي صحيح أنها فلسفة، لأنها قدمت تفسيرا للوجود، لكنها فلسفة غارفة في الانطواء والانكماش، لأنها فشلت في تحويل التفسير الذي قدمته، من مجرد نزهة عقلية وشطحة ذهنية، إلى مُحَفِّز ومُفَعِّل للحركة والارتقاء والسمو بالواقع الإنساني!! أي بكلمة أكثر وضوحا: فشلت من الانتقال من مستوى التفسير إلى مستوى التغيير.. فالفلسفة الإنسانية بقدر ما تفسر الوجود بشكل إنساني، بقدر ما تستطيع أيضا أن تضع أسس تغييره لصالح الإنسانية.ولهذا السبب فعلينا أن نستوفي عنصرين هامين في أي رؤية فلسفية تُقَدَّم، كي نمنحَها صفة "الإنسانية" التي أشار إليها سؤالكم، الأول: عنصر تفسير الوجود ككل، وتقديم إيضاحات لكل جوانبه التي تتطلب الإيضاح، والإجابة على كل أسئلته التي تحتاج إلى إجابة. الثاني: عنصر الفاعلية الحركية المنتجة للتقدم والمؤدية إلى الحلول، أي عنصر التغيير.فالفلسفة المثالية، هي عبارة عن فلسفة، وأجابت على الأسئلة الأساسية التي تشغل العقل الإنساني منذ القدم، ولكنها أجابت عليها بشكل جعلها عاجزة عن تقديم فعل بَناَّء على صعيد تغيير الكون. لأن الأساس الذي يعطي للفلسفة قيمتَها هو قدرتُها على التغيير وفق رؤيتها في التفسير، ومن فَسَّرَ ولم يُغَيِّر، فقد انطوى وانكمش، ومن غَيَّرَ بدون أن يُفَسِّر، فقد دَمَّرَ وأَهْلَك!!وإذن فإن الرؤية الدينية الإسلامية التي يمكنها أن تُشَكِّلَ إطارا فلسفيا إنساني الطابع، بالمعنى العمومي والشمولي للفظة "إنساني"، هي تلك التي تستطيع أن تُؤَمِّنَ العنصرين السابقين. فهي معنية بأن تفسر الوجود تفسيرا إنسانيا، ومعنية بأن تغيِّرَه لصالح الإنسانية. وفي حال عَجِزْنا عن أن نُؤَمِّنَ هذين العنصرين في أيِّ رؤية إسلامية نطرحها، فنحن في الواقع نُعَبِّرُ عن عجزنا عن تأمين الدَّفْعَة الإنسانية، والدَّفَقَ العالمي المنشود في تلك الرؤية. وبالتالي فليس من حقنا أن نتحدث عن إنسانية وعالمية طرحنا.نحن إذن نمر بمرحلة من تاريخ تخلُّقِنا وتكوُّنِنا الحضاري والنهضوي، تدفعنا إلى البحث في مكوناتنا الثقافية، وفي احتياجات نهضتنا الموضوعية، وفي واقعنا السياسي والاقتصادي، وفي شكل ماضينا، وملامح مستقبلنا، عن بذور فلسفة نستطيع بها أن نفسر العالم، ونتمكن بعد ذلك من إسقاطها على واقعنا الموضوعي بمختلف مكوناته الزمانية والمكانية، لإحداث الحركة التغييرية المطلوبة في الاتجاه المنشود.ولأن ديننا الإسلامي – على ما يبدو – كان وسيبقى أهم عنصر من العناصر التي ستصنع تلك الفلسفة، فعلينا أن ندرك أننا بحاجة إلى ثورة ثقافية حقيقية تطال دينَنا نفسَه، فنحن في غير حاجة إلى استعادة الماضي في فلسفتنا الجديدة، بل نحن في حاجة إلى تقمص المستقبل فيها.لا توجد نهضة قامت على الماضي مهما كان شكل استحضاره، إذا كان هذا الاستحضار جاء في سياقٍ هيمَني وإلزامي وتقريري لشكل المستقبل!! النهضة تقوم على استحضار المستقبل في ضوء مُكَوِّنات الواقع، وليأخذ الماضي بعد ذلك في هذه التركيبة، الصورة التي يرتئيها هذا الحاضر وذاك المستقبل، لأنها في مثل هذه الحالة ستكون صورة مقبولة، مادام الحاضر والمستقبل هما اللذان استحضراها بحسب حاجتهما إليها، وليس هذا الماضي هو الذي فرض نفسه عليهما ليصوغا نفسيهما في ضوء مُكَوِّناته وعناصره وحقائقه!!ولا داعي للخوف والقلق، فما توفر على عنصري العالمية السابقين، سيفرض عالميته وإن حاول الجميع تغييبها، ومن افتقر إليها لن يستطيع أن يكون عالميا، وإن حاول الجميع تقديمه ليحتل الصدارة. إن هذا ناموس من نواميس الوجود، وسنة من سنن الكون، فلا نقلقَنَّ بشأنه، لن نكون أقدر على حماية ناموسيته من قوة هذه الناموسية ذاتها.ترى عندما نضع الماء على النار، هل يستطيع أيٌّ كان أن يمنعه من الغليان عند وصول درجة حرارته إلى المائة؟! ولو أننا وضعناه في ثلاجة، هل يستطيع أيٌّ كان جعلَه يغلي غليانه الذي يغليه عندما تكون حرارته مائة؟! لا أحد يستطيع ذلك، لأن معاندة الناموس الطبيعي مستحيلة. وكذلك ناموس عالمية الفلسفة إذا توفرت فيها عناصر العالمية، لا أحد يمكنه معاندَته.
    مع بالغ شكري وتحياتي
    أسامة عكنان

  8. #108
    السلام عليكم
    ومن جديد نقوم بجولة اخرى في رحاب معارفك وفكرك المنطقي أستاذ أسامة وبعد:
    مرج دابق/مرج التلول/هرمجدون...
    كيف تقدم لنا صورة نموذجية منطقية عما تقاذفته الكتب- وكل كتب حسب منطقه الخاص -عن نهاية الكون ولو بصورة تقريبية حسب ما تراه من منطلق المعطيات من حولنا ولاعلم إلا الله طبعا ولكن كرؤية موضوعية مستعينين بالادلة الرافدة بقدر الإمكان.
    ***********
    القسم الثاني من الأسئلة:
    سفر النبي أرميا وماذكر عن طرد نبوخذ نصر لليهود من مملكتهم التي هي للكلدانيين أصلا , وتحذير أرميا لليهود كي يخرجوا منهاورفضهم لنصحه الخ..
    ما هو سبيل المقارنة مع الحقائق التاريخية وقد ذكر لنا الدكتور بهجت قبيسي في لقائه السابق أن نبوخذ نصر لم يخرجهم بدموية بل لعربات ملكية! هذا اولا وكيف يمكننا تصديق كل مافيه والأسفار الحقيقية خمسة فقط ناهيك عن تحريفها.وكيف مازال حقدهم إلى هذا اليوم حول هذا الأمر ونحن نعلم تمام العلم ان يهود الأمس ليسوا يهود اليوم إنما بقيت الامور سياسية صرفة؟

    مع التقديرسلفا وشكرا لسعة الصدر
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  9. #109
    أسئلة الأستاذة ريمة الخاني


    السؤال الأول


    مرج دابق/مرج التلول/هرمجدون.. كيف تقدم لنا صورة نموذجية منطقية عما تقاذفته الكتب- وكل كتاب حسب منطقه الخاص - عن نهاية الكون ولو بصورة تقريبية حسب ما تراه من منطلق المعطيات من حولنا ولاعلم إلا الله طبعا ولكن كرؤية موضوعية مستعينين بالادلة الرافدة بقدر الإمكان.


    الإجابة


    من الواضح من صياغتك للسؤال الأول، أنك ممن يؤمنون بما أطلقتِ عليه "نهاية الكون"!!


    ومن المؤكد أن معتقدات مثل "آخر الزمان، مرج دابق، هرمجيدون، عودة المسيح، ظهور الدجال، ظهور يأجوج ومأجوج والدابة الأهلب، ما يسميه المسلمون الملاحم، الآيات الصغرى والكبرى للقيامة، المهدي المنتظر.. إلخ، تنطلق كلها من فكرة أساس آمن بها على نحوٍ مضطرب ومتباين، كافة أتباع الديانات السماوية الثلاث، وهي أن للكون نهاية تبدأ بها "الحياة الآخرة"، وبالتالي فلابد لهذه النهاية من أن تكون تراجيدية، ولابد لتراجيديتها بالتالي من أن ترتبط بأحداثٍ غرائبية!!


    وهنا مكمن الخلل والخطورة والمأساة!!


    فالكون ليست له نهاية، إنما النهاية للحياة الإنسانية بشكلها الراهن لتنتقل إلى شكل مختلف، داخل هذا الكون، وضمن حدوده، ووفق نواميسه.. هذا أولا.


    ونهاية الحياة بشكلها الراهن، وانتقالها إلى شكلها اللاحق، لن يحصلا بصورة تراجيدية ومأساوية كما يفهم الجميع، بل بأكثر صور الانتهاء والانتقال رقيا وسموا.. وهذا ثانيا.


    أما أسباب انتهاء الحياة بشكلها الراهن، وانتقالها إلى شكلها المرتقب، فليست ناجمة عن قرار إلهي مفاجئ محاط بالطلسمية والغرائبية والرعب، ولا بمظاهر الدمار والكوارث التي سيشهدها الكون كما تؤكد على ذلك معتقدات آخر الزمان في الأديان الثلاثة، بل بسبب تطور إنساني في سلم المعرفة، يُمَكِّنُ الإنسان من إحداث هذه النقلة التي ستجعل منه سيدا للكون ضمن سياقات محددة، هي في ذاتها جزء لا يتجزأ من نواميس الكون.. وهذا ثالثا.


    لذلك فإن مربط الفرس في هذه النقلة النوعية الفارقة التي سوف تفتح الباب الكوني واسعا أمام هذا التغيير الجذري في نظام الكون، هو انتصار الإنسان في رحلة تقدمه المعرفية والعلمية، على ما تمكن تسميته بـ "قانون الموت" أو "ناموس الموت".. وهذا رابعا.


    وهذا يعني، أن الإنسان نفسُه هو من سيُخَلِّد نفسَه بهذا الانتصار، قاضيا من ثم على كل العناصر المرتبطة بهذه الظاهرة المرهقة، ألا وهي ظاهرة "الموت". وليس لله رب العالمين دخل مباشر في إحداث هذه النقلة، ودوره إنما هو من حيث أنه هو من خلق كل النواميس والقوانين والسنن التي بثها في هذا الكون، وهو من أتاح للإنسان من ثم القدرةَ على النمو والارتقاء في استخدامها، إلى أن يصل بها ومعها إلى هذه النقطة الفارقة العظيمة.. وهذا خامسا.


    من الواضح والجلي أن الخلاف بين ما أقول به هنا، وبين ما هو سائد ومنتشر من معتقدات دينية – لدى أتباع الديانات الثلاثة - لها علاقة بآخر الزمان، ليس خلافا بسيطا ولا خلافا ثانويا، لأنه خلاف يؤول إلى خلافات أعمق في تصور ورؤية وفهم الإله سبحانه وتعالى، وفهم غايته وصفاته وذاته وإرادته، وبالتالي إلى خلاف حتمي – نتيجة هذا الخلاف الأول – في فهم مهمة الدين والنبوة وغاياتهما. وبالتالي فالخلاف في أصول المعرفة والفهم، وليس في دلالة نصوص هنا ونصوص هناك فقط!!


    ولقد تجلت هذه الخلافات على صفحات هذا اللقاء الشيق، عبر قضايا اجتماعية وتشريعية كانت أقل خطورة مما تثيره المسألة الراهنة، التي يبدو أنها ستجرنا – رغما عنا – إلى البدء من نقطة الصفر "الانطلاق" المعرفية، كي نبني هرمنا المعرفي بشكل واضح ومتكامل، وذلك بهدف أن يكون الحوار مؤسسا لا فوضويا، وبناءً لا هداما، ومنتجا للمعرفة لا طفيليا عليها، ومؤديا إلى الحقيقة لا مبعدا عنها.


    ولكني أجد نفسي مضطرا لشرح المضمون المعتقدي للنقاط الخمس سالفة الذكر، بما يتيحه لي الاختصار، وبحسب المنهج الذي ثبَّتُّه في كتابي "تجديد فهم الإسلام"، فقط كي أعطي بعض المؤشرات على الوجهة العامة لمنهجي في مقولة "القيامة والبعث وآخر الزمان.. إلخ". فالرد على كل المعتقدات السائدة سيكون منطوى حتما في هذا المنهج، ولن يكون باللجوء إلى كل نقطة على حده.


    فإذا كان الكون لن ينتهي على النحو التراجيدي المذكور، وإذا كان البعث وبالتالي الانتقال إلى الحياة الأخرى لن يتم على النحو المتعارف عليه، فإن كل تلك القصص والحكايا التي تزخر بها الأديان الثلاثة لن تخرج عن إطار "المسحة أسطورية"، هذا إذا تجاوزنا عن التوظيف السياسي الخطير وغير البريء والمضلل والكارثي، لتلك الأساطير!!


    فلنتابع..


    أولا.. تحليل منطقي لسؤال: هل هناك حياة قادمة بعد الموت؟


    إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي إعادةَ صياغته، لأنه بما هو عليه مُبْهَمٌ وغير واضح الدلالة، ومثيرٌ لِلَّبْس والغموض. فمنذ أن نشأت علاقات وقوانين الحياة في المادة وراحت تُطَوِّرُها منتقلة بها من مادة حية غير حاسة "نبات" إلى مادة حية حاسة "حيوان" إلى مادة حية حاسة واعية "إنسان"، والحياة ذاتها وفي كل مستوى من مستوياتها الثلاثة النباتي والحيواني والإنساني، تتواصل من خلال عَيِّناتٍ حية منفصلة بعضها عن البعض الآخر، تتفكك وتتحلل بموجب قوانين محددة عائدةً إلى المستويين الذري وما قبل الذري للمادة، إماَّ لتبقى على هذا الشكل، وإما ليُقَدَّر لذراتها ولجسيماتها ما قبل الذرية، ولجزيئاتها ما بعد الذرية، أن تسهم من جديد في بناء "حيواتٍ" جديدة في عينات حية جديدة، بصرف النظر عن نوع أو صنف العين المُسْهَم في بنائها، مادام تواصل النوع قد تحقق وفق قوانين التناسل والتكاثر بمختلف أشكالها.


    وإذن فإذا كان المقصود من وراء طرح سؤال.. "هل هناك حياة بعد الموت؟"، هو التَّعَرُّف على ما يَحدث للكائن الحي بعد تَفَكُّكِ علاقات وقوانين الحياة فيه. أي – وبكلمة أخرى – ما يَحدث للمادة الحية بكل مستوياتها بعد أن يتحطم البناء الحيوي فيها، فمن الواضح أن الإجابة ستكون غاية في السهولة في ضوء الواقع المشاهد المحاط بدوائر حواسنا وتجاربنا، وهو على وجه التحديد ما ذكرناه في الفقرة السابقة. فمن ذا الذي يستطيع أن يَجزم أن إحدى الذرات المُكَوِّنَة لأنف الملكة إيليزابت الثانية، لم تكن قبل ستين مليون سنة، هي ذاتها إحدى الذرات المُكَوِّنَة لطُحلب إسكندنافي، لتغدو بعد ذلك بمليون سنة، ذرةً في براز قرد إفريقي منقرض؟!


    وهل من غير الممكن أن تكون إحدى الذرات المُكَوِّنَة للحِبْر الذي طُبِعَت به رواية "الجريمة والعقاب" في ترجمتها الصينية الأولى، قد جاءت عبر رحلة طويلة في الزمان والمكان "التاريخ"، كانت فيها قبل مائة مليون عام، ذرة في أحد النيازك التي اصطدمت بالأرض في منطقة أستراليا، بعد أن أصبحت فيما بعد ذرة في وبر دب قطبي، ثم ذرة في سمكة سلمون اصطادها دب آخر، لتنتقل إلى ذرة في كبدِ أحد رجال "الإسكيمو" الذين غزوا آلاسكا، فكان وجبة دسمة لذئب مفترس أوصله الترحال إلى أن يموت في هضاب الأريزونا، لتستقر هذه الذرة في أحد مناجم الفحم، قبل أن تصل على شكل أحبار في رحلة تصنيعٍ طويلة، إلى المطبعة التي تولت طبع الكتاب المذكور؟!


    هذا هو على وجه التحديد ما نعنيه بالتَّحَلُّل، وبحالة المادة التي كانت حية بعد أن تخضع لقوانينه، أي لقوانين التحلُل. إنها تعود إلى طبيعتها ما قبل الحية لتخضع من جديد إلى قوانين الطبيعة التي قد تذروها إلى حيث لا يتوقع أحد.. أما إذا كان المقصود من طرح السؤال، هو معرفة ما إذا كانت علاقات الحياة تعود لتُبْنَى من جديد، مُرْجِعَةً إلينا لا حياة جديدة عبر آلية التوالد والتناسل النوعي، بل الحياة التي تَفَكَّكَت بعينها بالموت، فنحن بالفعل أمام قضية تتطلب التحليل الدقيق.


    كي تعودَ عَيِّنَةٌ حية بذاتها إلى الحياة بعد التَّحَلُّل يجب أن تكون عينةً على قدرٍ من الأهمية بحيث لا يستقيم الأمر بمجرد استمرارها في عَيِّناتٍ أخرى لاحقة تظهر إلى حيز الوجود بالتوالد والتناسل. وهذا بدوره يعني أنه كي تكتسب عينةٌ حية بذاتها أهمية البحث عن عودتها ذاتها إلى الحياة بعد أن تموت وتتحلل، يجب أن تكون هذه العينة مُتَّصِفَةً بصفة أساسية، كشرط موضوعي بدونه لا يغدو لطرح السؤال أي معنى على الإطلاق. وهذه الصفة الشرطية هي أن "تعيَ هذه العينة الحية ذاتَها" وأن "تعيَ أهمية هذه الذات"، وأن "تعيَ بالتالي الفروقات الماهية بينها كذاتٍ مُحدَّدَةٍ وبين غيرها من الذوات، سواء كانت ذواتٍ من نفس صنفها ونوعها أو من أصناف وأنواع أخرى". أي أن تستشعرَ هذه العينة الحية "أناها"، أي "الأنا" الخاصة بها.


    إن هذا يعني قطعا أن يكون السؤال.. "هل هناك حياة قادمة بعد الموت؟" مطروحا من حيث المبدأ من قِبَلِ العيِّنَة المبحوثَ عن إمكان حياتها بعد الموت ذاتِها، وهي تستفسر عن حياتها هي بالذات بعد أن تَموت.


    وإذا لم يتحقق هذا الشرط فلا معنى لهذا السؤال على الإطلاق.


    إذ ما معنى البحث عن حياةٍ قادمةٍ بعد الموت لعَيِّنَةٍ حية لا تعي ذاتها، ولا تعرف إن كانت موجودة أو غير موجودة، ولا تُفَرِّقُ أدنى تفريق بين نفسها وبين أَيِّ عَيِّنَةٍ حيَّة أخرى سواء من جنسها أو من أي جنس أو نوع آخر من الأنواع الحية؟ بل ما معنى ذلك لعينة حية لا تعرف أن هناك ظاهرة اسمها الموت بكل دلالاتها التي نعرفها؟ أي ما الفرق بين زهرة نرجس وأخرى، أو بين شجرة بلوط وأخرى، أو بين قط وآخر، أو بين بعوضة وأخرى، من حيث أهمية العودة إلى الحياة بعد الموت بالمعنى الذي قصده السؤال، مادامت كل أزهار النرجس متشابهة ومتساوية في كل شيء ضمن دائرة تقع بالكامل خارج حدود الوعي والإرادة، وخارج دائرة الإحساس بالأنا والوعي بها، ومادامت أيُّ بعوضة منذ لحظة وجودها كعينٍ حيَّة ولغاية تفككها بالموت، لا تعي من وجودها ومن وجود ما حولها شيئا على الإطلاق، ومادام كل أدائها الحركي في الحياة، هو أداء تلقائي لا مكان للإرادة والوعي فيه، وبالتالي فلا مكان فيه للهوية من حيث المبدأ؟


    إن تجاوز مسألة "الأنا" و"الهوية" في موضوع "عودة الحياة بعد الموت"، يؤدي قطعا إلى اعتبار تاريخ التطور المديد مجردَ لغوٍ، لا قيمة ولا معنى ولا هدف له سوى العبث.


    فحيث لا وجود لـ "الأنا"، لا قيمة للموجود الحي، خارج حدود حياته المشاهدة، وخارج حدود دوره غير الواعي المنوط به في السياق التاريخي للمادة.


    فإذا كان كل قط مشابه في تكوينه وفي أدائه لأي قط آخر دون أدنى فروقات، فما معنى أن يعود قط بعينه بعد تَفَكُّكِهِ بالموت إلى الحياة؟ هل هناك فرق بين أن يُعاد بناء الذرات التي تفككت لتصبح قطا هو ذاته القط الذي تفكك، وبين أن يولد قط من قط آخر بظاهرة التناسل وآلياتها وعلاقاتها وقوانينها، مركب بنفس طريقة تركيب القط الذي مات؟! إن إعادة بناء ذرات القط الذي مات تغدو لها قيمة ودلالة، إذا كان هذا البناء سيعيد قطاًّ يختلف – إن في الكثير أو في القليل – عن قط آخر مات أو عن قط آخر على قيد الحياة، اختلافا يدركه ويعيه القط العائد ذاتُه وتعيه القطط الموجودة الأخرى ذاتُها.


    لكن مادام القط الذي مات مستمر بكامل مواصفاته في قط آخر، فإن الحديثَ عن إعادة البناء للعين نفسها هو حديث عابث لا معنى له. إن الفروقات بين الأعيان المادية تبدأ معانيها ودلالاتِها بالتَّشَكُّلِ عندما يكون مُكونُها الأساس قائماً على الفروق "الأنوية"، المرتكزة إلى فكرة "الأنا" والوعي بها، وفي غير هذه الحالة فالفروق عديمة الأهمية وبلا أدنى قيمة.


    ثانيا.. الفرق بين الإحساس باللذة والوعي بها، هو مربط الفرس في حتمية البعث


    إن الطبيعة تعيد الحياة باستمرار للنرجس وللقطط وللفئران وللبعوض وللطحالب وللديدان وللأزهار المختلفة، من خلال استمرار وتواصل دورة التفكك والترابط، لاستمرار النوع المؤدي لوظيفة مُحددة اقتضتها طبيعة المادة وقوانينها المودعة فيها. وإذن فلن يوقفنا إطلاقا مفهوم العين بذاتها، لأن أهمية النرجس تغدو أهمية نوع وليست أهمية عَيِّناتٍ بذاتها من هذا النوع. وكذلك كل أهمية لأي نوعٍ حي، باستثناء "الإنسان".


    إن كل نوع من تلك الأنواع موجود ومستمر بالتكاثر لأداء دوره من غير وعي ولا إرادة ولا إدراك. وربما ينقرض هذا النوع إذا انتفت حاجة الطبيعة إليه، ولكن لا مكان لأعيان ذلك النوع في سُلَّم الأهمية القائمة على الوعي بالأنا، وعلى استشعار الهوية الذاتية، ليس داخل منظومات الكائنات ككل فقط، بل وداخل منظومة النوع الذي تنتمي إليه العينة ذاتها بالدرجة الأولى. أما بالنسبة للإنسان فإن الوضع مختلف اختلافا كُلَّياً، لأن الشرط المطلوب لتحقق أهمية السؤال ومعناه، متوفر ومتحقق توفراً وتَحققاً كاملين.. فكيف ذلك؟


    إن كل عينٍ إنسانية هي عينٌ واعية بذاتها وبأهمية هذه الذات، كما أنها واعية أيضا بغيرها من الأعيان الإنسانية وغير الإنسانية، ومستشعرة للفروق بينها كذات وبين باقي ذوات نوعها من جهة، وبين ذوات نوعها وباقي الأنواع من جهة أخرى. إن "الأنا" إذن متحققة وتستغرق هذه المادة الحية المُسَمَّاة "إنسان"..


    أليس كل إنسان يطرح سؤال.. "هل هناك حياة قادمة بعد الموت؟". وأن أي إنسان عندما يطرحه إنما يطرحه باحثا ومستفسرا عن مستقبله هو بالذات بعد الموت بالدرجة الأولى. أي أن لطرح السؤال بُعْدًا عينيا. بمعنى أنه يطرحه ليتعرف إذا كانت هناك حياة بعد الموت له هو ذاته بعيدا عن معاني تواصل الجنس البشري بالتناسل والتوالد.


    وإذن فالإجابة على هذا السؤال يَجب أن تكون عليه بهذا المعنى، أي هل هناك حياة قادمة بعد الموت لكل عين إنسانية ماتت؟ هل تعود هذه العين بذاتها كي تُمارسَ الحياة بعد أن تموت؟ إن هذا يتطلب منا أن نتقدم خطوة في التحليل للتعرف على مدى ضرورة وأهمية الحياة بعد الموت..


    فهل هناك حاجة وضرورة لأن تكون هناك حياة قادمة بعد الموت؟


    لكي نجيب على هذا السؤال دعونا نتصور الحالة التي تخلو من الحياة بعد الموت.


    وقبل ذلك فلنحدد ماهية الحياة قبل الموت.


    إن المادة المُتَأَنْسِنَة قبل الموت، أي قبل تَحَلُّلِ الحياة الحاسة الواعية "المتروحنة" تمتاز عن الحيوات الحيوانية والنباتية التي لا معنى لعودة أعينها بعد الموت, بحقيقة بالغة الأهمية هي بيت القصيد في الموضوع كله. إنها "الوعي باللذة". وبالتالي بنقيضها أو بضدها "الوعي بالألم". إن الحيوانات وهي المرحلة المادية التي تحس باللذة ومن ثم بالألم خلافا للنباتات التي لا تحس باللذة وبالألم أساسا، فإنها تحسها دون أن تعيَها. والإحساس باللذة أو بالألم مهمة غير وعيوية. ولهذا السبب فإن تَحَلُّلَ الحياة وحدوث الموت في الحيوانات والنباتات ليس أكثر من تفكك وتحلل علاقات مادية قائمة بدون أن تكون هذه العلاقات واعية بذاتها على الإطلاق. فسواء كانت أو لم تكن فهي عند ذاتها سِياَّن. إن كينونتها لم تُضِفْ أيَّ شيء غير حسي أو غير حيوي إلى ذاتها، خلافا للإنسان الذي أضيفت إلى كينونته المادية الحية الحاسة حقيقة وعيها بذاتها، وهي المهمة المضافة بإسباغ صفة الألوهية عليها.


    إن الفرق بين "الإحساس باللذة والألم" وبين "الوعي بهما"، هو أن الوعي مرحلة متقدمة على الإحساس. فلا يمكنه أن يعي اللذة إلاَّ كائن أحسها ابتداء. لكن ليس كل كائن أحسها فهو واع بها بالضرورة. إن مفهوم اللذة يتضح أكثر من خلال تصور الحرمان. فكائن ما واع باللذة، هو كذلك إذا كان قادرا على تَخَيُّل انعدامها. وهو بالفعل قادر على ذلك. الأمر الذي يَجعله قادرا من ثم على إجراء المقارنات بين الحالتين. أما إذا لم يكن الكائن قادرا على ذلك، فهو كائن غير واع بها, ولا تتجاوز علاقته باللذة عندئذ مُجرد الإحساس بها فور حدوثها أو فور إحساسه بالحاجة إليها وبشكل تلقائي وغريزي.


    إضافة إلى ذلك، فإن هنالك أمورا هي عند الكائن الواعي عبارة عن لَذاَّتٍ، بينما هي عند الكائن غير الواعي ليست لَذاَّتٍ يحس بها أساسا، لأن هذا النوع من اللذات لا يتم الإحساس به إلاَّ إذا تم الوعي به أولا، كلذة الوجود والحياة، وكلذة المعرفة والوعي، وكلذة التفكير، وكلذة الوعي بالأنا وبالهوية، وكلذة إدراك الله والتأمل فيه وفي مطلقيته.. إلخ. إن هذه اللذات لا يمكن أن يُحِسَّ بها في الأساس إلا كائن واع بوجوده وبالوجود من حوله. والحيوان لا يعي شيئا من ذلك، فهو محروم قطعا من الإحساس بهذا النوع من اللذات.


    إن الكائن غير الواعي باللذة هو كائن تنعدم لديه ملكة التخطيط للحصول عليها أو تطويرها أو العمل على تَجَنُّبِ انعدامها وفقدانها.. إلخ. وبالتالي فوجودُها في حياته أو عدم وجودِها سِياَّن لديه. وهي – أي اللذة – لا تعنيه إلاَّ عند الإحساس بضدها أي بالألم، أي عندما تضغط وتلح عليه، فيندفع نحو البحث عن إشباعها بغير وعي، وتنقطع كل ظلالها في حياته حال تَحقق هذا الإشباع، خلافا للواعي بها، فهو لا يفتأ يخطط ويفكر ويعمل لأجلها، بحيث أنه رغم إشباعه لها، فإنه يستمر في التفكير في كيفية معاودة إشباعها عندما تعود لتُلِحَّ عليه، لأنه يعي جيدا أنها ستعاود الإلحاح عليه. الوعي باللذة يترتب عليه القلق والخوف من انعدامها ومن فقدانها أو من عدم القدرة على الحصول عليها أو إشباعها.


    هل من الصعب أن ننتبه إلى أن كل إنسان يصاب بالرعب إذا تَخيل أنه قد يعيش بدون الإحساس باللذة الجنسية بعد أن أحسها ووعاها. كما أنه يصاب برعب شبيه إذا عانى من تَخيل عدم القدرة على إشباعها وهو يحس بوقعها عليه. إن هذه الأحاسيس طبيعية وضرورية لدى الكائن الواعي باللذة.


    إن اللذة ترتبط لدى الكائن الواعي بها بالحياة نفسها، وبهذه العلاقات التي منحته الحياة والإحساس، وانعدامها بالتالي يرتبط بانعدام الحياة وتفكك علاقاتها وعلاقات الإحساس من ثم. الخوف من الموت لدى الإنسان راجع إلى هذه النقطة بالذات. ليس في الموت ما يبعث على التفكير والقلق والخوف لدى هذا الكائن الواعي أكثر من فكرة "مستقبل اللذة"، التي ارتبطت في ذهنه بالحياة نفسها، باعتبار هذه الحياة الحاسة الواعية نفسها هي أكبر اللذات التي يعيها الإنسان. ونحن هنا نتحدث عن اللذة بأوسع معانيها.


    إن الوعي باللذة مفهوم واسع سِعَة مفهومِ اللذة ذاتِها. فالوعي بالواقع والوعي بالحياة والوعي بالذات والوعي بالجمال والوعي بالله والوعي بالوعي ذاته، كل ذلك عبارة عن مظاهر وعي بأشكال مختلفة من اللذة. كذلك الوعي بالأحاسيس الغريزية هو أحد أهم أنواع الوعي باللذة الناتج عن الإحساس بأهمية لذة إشباع تلك الأحاسيس.


    إن الوعي باللذة إذن يغطي كل نشاط الذهن الإنساني. وعندما ترتبط ظاهرة الموت بضياع هذه اللذة التي هي جوهر الحياة بالصورة التي يعيها الإنسان، فمن الطبيعي أن يصبح الموت بشعا ومخيفا ومقلقا ومرعبا ومثيرا لأقسى أنواع الرهبة والوحشة. إن فقدان اللذة التي تم الوعي بها وبروعتها وبجمالها وبأهميتها وضرورتها في حياتنا، والوقوع في دائرة الحرمان، هو أمر مؤلم ومخيف، مادام هناك وعي باللذة وبمعنى الحرمان منها. وهو ما ينطبق على الإنسان بكل تأكيد.


    يُرْوى أن "محمد على باشا الأرناؤوطي" مؤسس مصر الحديثة في منتصف القرن التاسع عشر، كان يَمر في موكب له في وسط مدينة القاهرة، فإذا برجل من العامة تبدو عليه علامات الصَّعْلَكَة والفقر المدقع يشتمه ويسبه بأقذع المسبات وبأنبى الكلمات، ويتهمه بإهمال شعبه وإفقاره من أجل إشباع طموحاته العسكرية. فما كان من "محمد على باشا" إلاَّ أن حال بينه وبين حرسه الذين حاولوا قتله، وأحضره إلى قصره، وبدأ في رفع مكانته وقدره، وراح يغرقه في ملذات الحياة من مال ونساء ونفوذ وجاه. وما هي إلاَّ سنة أو اثنتان حتى غدا هذا الرجل من أهم رجالات البلد وأغناهم وأكثرهم مالا وجاها وامتلاكا لمتع الحياة. عندئذ أحضره "محمد على" وقال له.. "الآن سأقتلك عقابا لك على شتمك لي قبل سنتين". فما كان من الرجل إلاَّ أن انهار وبدأ يرجو مولاه أن يعفوَ عنه. لن نكمل القصة فنهايتها لا تهمنا.


    إن كل الذي يستوقفنا في هذه الرواية – إن صحت – أن محمد على باشا أدرك أن هذا الرجل المِشْتام ما كان ليحس بأنه خسر شيئا لو أنه قتله فور شتمه له وهو على فقره وصعلكته. بل ربما أنه كان يتوقع الموت في تلك اللحظة غير مبال به، إذ ما الذي سيخسره بهذا الموت. ولكي يجعل من قرار قتله مصدر ألم له، أحياه اللذة بكل أشكالها. ولهذا السبب فإن الرجل قد شعر بعد أن عاش اللذة ووعاها – إن صح التعبير – أن الموت خسارة حقيقية لشيء كبير ومُحَبَّب يَحرص على ألاَّ يفقده، وكان لفقدانه له معنى موحشا ووقعا مؤلما. إنه مجرد مثال لتقريب الصورة التي من المؤكد أنها اتضحت.


    إن التطور الذي وصلت إليه المادة بأن أصبحت كلُّ عين إنسانية واعية باللذة، هو تطورٌ باتجاه "الفردانية". ولا يُرَدُ على ذلك بالقول باستمرار الوعي باللذة في أعيانٍ أخرى، لأن الأعيان الأخرى تعي لَذاَّتِها هي ولا تعي لَذاَّتِ الأعيان الميتة، وإن كانت تعي أن لتلك الأعيان لَذاَّتِهاَ أيضا. وبكلمة أخرى فإن الإحساس بالأنا والوعي بها هو قضية فردية لا تتحول بأي شكل من الأشكال إلى قضية جماعية، ولا يُغْني وعيٌ بـ "أنا" عن الوعي بـ "أنا" أخرى أبدا. إن الوعي باللذة إذن هو مُعْطىً فرديٌّ وليس معطىً جماعياًّ. ليست هناك روح جماعية – على وجه الحقيقة – تعي اللذة في سياق جماعي. حتى الإحساسُ بِمتعة التَّجَمُّعِ وبلذة التَّجَمْهُرِ وبضرورة التَّكَتُّلِ، هو إحساسٌ فردي يستغرق الأفرادَ واحداً واحداً، ولا معنى للقول بأنه إحساسٌ جمعي.


    ففكرة "الجَمْعِيَّة" هي فكرةُ قراءةٍ في تراكمِ النشاطات الفردية ضمن ما يَحكمها من قوانين كاشفةٍ لآليات تراكمها. وبالتالي فمن الخطأ القول بأنه مادامت الجماعة مستمرة في جماعة أخرى لاحقة، ومادام كل فرد لاحق سوف يعي لَذَّتَه، فليست هناك مشكلة في موت الأفراد السابقين موتا نهائيا لا رجعة لهم بعده. نعم، إن هذا القولَ خطأٌ، لأن المهم في حادثة الموت هو الفرد الذي مات من حيث وعيه هو بلذته بصورة فردانية مَحض. فإذا لم تستمر حالة الوعي باللذة، أو إذا لم تعد مرة أخرى في كل فرد على حِدَه، فإن هناك معضلةً أخلاقيةً حقيقيةً. ولن يكفي وجود واعين آخرين بِلَذاَّتِهم جاءوا بعد الميت الذي انقطع وعيُه بِلَذاَّتِه لحظة موته كي نعتبر أن المعضلة قد حُلَّت.


    إن الوعي باللذة في المحصلة ليس كيانا مستقلا موجودا داخل الجماعة بانفصالٍ تام عن كل الذوات والأعيان الواعية. إنه ليس مؤسسة جماعية لا يهمنا فيها إلاَّ وجودُها في قلب الجماعة. بل هو كينونة فردية متأصلة ومتجذرة في أعماق كل فرد وفي "أناه". وبالتالي فإذا كان هذا هو حال الوعي باللذة وهذه هي حقيقته، فإن حرمان الإنسان منه ومنها – أي من الوعي باللذة ومن اللذة نفسها مادام الوعي بها قد تَحقق – بصورةٍ عينيةٍ فرديةٍ، ظلمٌ يتعارض منذ البدء مع مفهوم العدل الإلهي.


    قد يقول قائل إنه بعد الموت وتفكك علاقات وقوانين الحياة والإحساس فلا وجود للوعي باللذة ولا للذة أساسا، لأن الذات الواعية "المتروحنة" لم يعد لها وجود. فلا توجد لذة إذن كي يتم الوعي بها، ولا يوجد وعي ولا توجد أداة وعي كي يتم هذا الوعي. وبالتالي فليس هناك إحساس بالحرمان أو وعي بهذا الحرمان المتحقق بالموت. وإذن فليست هناك مشكلة في عدم عودة الحياة بعد الموت على المستوى الفردي العيني، لأن معنى الظلم غير متحقق في فعل الخلق الإلهي. وليس في ذلك ما يتعارض مع مفهوم العدل الذي هو مقتضى ذلك الفعل.


    إن هذا القول غير صحيح البَتَّة، وهو يغفل عن حقيقةٍ غايةٍ في الأهمية. فلو كان الإنسان أثناء الحياة وخلال وعيه بلَذَّتِه يعرف يقينا أنه سيُحْرَم من هذه اللذة بعد الموت حرمانا نهائيا بعدم عودة الحياة إليه، حتى وإن كان يعي أيضا – وهو بالفعل يعي – أنه لن يُحسَّ بالحرمان ولن يعيَه بسبب فقدان الإحساس والوعي به بعد الموت، فإنه سيتألم في حياته رغم ذلك، وسيعتبر أن هناك مؤامرة تُحاكُ ضده مستغلةً عجزَه عن مواجهتها، ومستغلةً طبيعته المفروضة عليه، وذلك للتلاعب بمستقبله وبِمشاعره وأحاسيسه ووعيه، غير مباليةٍ بآلامه وعذاباته، كل ذلك في مستوىً من الاستهتار واللامسؤولية يعصى على الفهم ويَمتنع في حق الخالق العادل.


    إن الإنسان يرى أن من حقه ألاَّ يتنازل عن المستوى الذي وصل إليه في سُلَّمِ التطور. فإذا كانت ملذاته وإذا كان الوعي بها هما هذا المستوى، فإنه يستشعر بالتالي أن من حقه المحافظة على هذه الملذات وعدم حرمانه منها حرمانا أبديا بعد أن عاشها وأحسها ووعاها. إنه يفهم جيدا وبصورة حاسمة قاطعة أن حرمانه منها ظلم. إن المعاناة التي سيعانيها لمجرد هذا التصور، هي نوع من التعذيب والإيذاء لا يتصف بهما فعل الله لأنهما يجعلانه متعارضا على الفور مع مقتضاه العادل بالضرورة.


    إن قبول الإنسان بفكرة السُّبات بعد الحياة من خلال ظاهرة الموت استعدادا لحياة أخرى قادمة في زمن ما، لا يعني أنه قبل الحرمان بمعناه المطلق الذي تفرضه معادلة "لا حياة قادمة بعد الموت"، لأنه كما يقبل أن ينام فيحرم من اللذات مؤقتا كل يوم لتحقيق لذة أخرى قد تكون هي الراحة من متاعب ذلك اليوم، فإنه لن يعجز عن النظر إلى مرحلة السُّبات بعد الموت وما قبل الحياة الأخرى باعتبارها مُجرد فترةِ راحةٍ من عناء المتاعب والهرم الذي قُدِّرَ له أن يكون رفيقا للمادة الحية الحاسة الواعية لحقبٍ طويلة من الأزمنة وهي تتطور نحو الخلود والبقاء والديمومة، ليعود يوما ما إلى حياةٍ لا هرم فيها ولا موت.


    إن حقيقة فقدان الوعي المؤقت خلال فترة سبات الموت، بكل ما يعنيه ذلك من حرمان مؤقت أيضا، لا تتعارض مع حقيقة أخرى تنطوي على طموح الإنسان بحكم طبيعته المقررة لحظة الخلق الأولى إلى العودة إلى نوع من الحياة الدائمة الخالدة تتيح له التَّمَرُّغ في لذاته وفي وعيه بها، شأنه في ذلك شأن قبوله بالنوم أثناء حياته كل يوم كي يعاود الانطلاق من جديد إلى عالم اللذة والوعي بها.


    أما إذا كان الله سَيُفْهِم الإنسان بشكل من الأشكال، سواء بالتحليل المنطقي العقلاني كالذي نقوم به هنا، أو من خلال الاتصال المباشر كما نصت على ذلك النبوات، أنه سيعيده إلى الحياة بعد الموت، كي يُخففَ عنه عبء القلق من الموت، ثم لا يعيده إلى الحياة مرة أخرى رهانا منه – أي الله – على أنه أحيى الإنسان بعيدا عن القلق والخوف والوحشة ثم أماته على هذه الحالة الآمنة، وأفقده وعيه، وبالتالي فليست هناك عذابات عانى منها. فهو – أي الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا – ليس في واقع الأمر سوى مُخادع كبير، وهو صورة طبق الأصل عن "محمد علي باشا الأرناؤوطي" في مثالنا السابق. ولن نعيي أنفسنا في إثبات أن هذا التصور أبعد ما يكون عن الحقيقة لتعارضه أشد التعارض مع ألوهيته.


    هذا إذا تجاوزنا عن حقيقة هامة ينبض بها الوجود في كل لحظة، وهي أن الإنسان في كل مرحلة من مراحل حياته هو أكثر رقيا وتقدما واستمتاعا بالحياة وبِملذاتها من الإنسان في مراحل سابقة، بِما في ذلك أن الإنسان في يوم من الأيام سيحقق لنفسه الخلود منتصرا على الموت، وهو ما يعني قطعا أن الكون كله مركب بطريقة خاطئة قوامُها الظلم والأنانية والمحاباة والاستعباد. إذ ماذا يمكننا أن نسمي ظاهرةً مفادها أن يُسْهِمَ عشرات المليارات من الناس بجهودهم المتواصلة عبر التاريخ في القضاء على الموت وتَحقيق الخلود لهذا الكائن الواعي، في الوقت الذي لن تُتاَحَ لأيٍّ من أولئك الضحايا في هذه الرحلة الطويلة والمريرة، فرصةَ الاستمتاع بهذا الإنجاز الذي لن يستحوذ عليه إلاَّ جيل محظوظ وحيد هو الجيل الذي تم حقنه بِحُقَنِ الخلود، والذي تم بالصدفة المحضة أن تواجد في الزمن الذي اسْتُكْمِلَ فيه هذا الإنجاز؟؟!!


    من جهة أخرى، لست أدري لماذا يَجب أن أحترم القوانين الناظمة لحياة الإنسان الاجتماعي، ولا لماذا عليَّ أن ألتزم بالحصول على الملذات في حدود ما تتيحه تلك القوانين فقط. لا بل ليس مِماَّ بوسعي أن أفهمَه، تنازلي عن حَقٍّ أفترضه لنفسي تُعَسُّفاً وبدون استشارة أحد أو النظر في مصلحة أحد أو مراعاتِها، وهو حقي في استعباد كل البشر وامتلاك كل النساء والتحكم في كل شيء في هذا العالم لملذاتي ونزواتي ومنافعي الخاصة، حتى لو كان ثَمن ذلك موت ملايين البشر مسحوقين تحت أقدامي جوعا وعطشا وقهرا. أي أنني لست أدري لماذا لا أكون مركز العالم وإلهه وربه الأعلى الذي لا يُرَدُّ له طلب، حين يطلب والذي لا يسأل عما يفعل عندما يفعل مهما فعل، مادمت لن أعيش سوى فترةٍ محدودة من الزمن سأُحْرَمُ بعدها من كل الملذات التي أحبها وأشتهيها، مُتحولا فجأة إلى ذراتٍ لا تحس ولا تعي ولا تنتظر لا بعثا ولا حسابا ولا عقابا على فعلٍ اقترفته، وينتهي الأمر؟ هل يستطيع عاقل أن يتصور شكلَ العالم لو أن كلَّ إنسانٍ علم أنه لن يعود ليعيش بعد الموت، وفكر مثلما فكرت أنا هنا؟ إنني أترك ذلك لخيال القارئ.


    إن الأخلاقَ وكلَّ ما ينبثق عنها من مفاهيم ونظم وآليات، تقتضي حتما وجودَ حياةٍ قادمة بعد الموت. وتفقد هذه الأخلاقُ وكاملُ حيثياتِها قيمتَها وأهمِيتَها وضرورتَها لولا ارتباطها السحري الغامض – بالشكل الذي ارتآه الله عندما قال للمادة كوني فكانت – بِحَبْلٍ سِرِّيٍّ من المعاني الغامضة واللامرئية بهذه الرغبة العارمة والشوق الشَّبقي إلى تلك الحياة. ولقد أشبعت فكرة دور الأخلاق في إقرار فكرة الخلود بحثا على مدى التاريخ، فلن نطيل فيها الحديث.


    نعم.. إنه لا يوجد سوى حلٍّ وحيد لفك كل هذه التعارضات ولحلِّ كل هذه التناقضات، ولكي تستقيم الأمور بصورة موزونة ومنسجمة مع الله وصفته وفعله ومقتضى فعله، وهذا الحل هو أن يعود الإنسان الميت إلى الحياة بعد الموت واعيا باللذة وحاسا بِها بطبيعة الحال، مادام لن يعيها دون أن يُحس بها، ومادامت أناهُ لن تتحقق حتى بعودته حيا لو فقد ذاكرته ونسي ماضيه. فتاريخ الإنسان العيني والفردي جزء لا يتجزأ من تركيبة ذهنه ووعيه عندما يعود إلى الحياة مُجددا، إلاَّ فيما يُعتبر نسيانه وشطبه من الذاكرة تَحقيقا لمصلحته وإكراما لشخصه ولذاته وحفاظا على كرامته.


    تُرَى ما هو إحساس إنسان عودناه على الدفء وغمرناه به إلى أن بات الدفء في حياته واقعا لا ينفصل عنها ولا يتصور لها استمرارا بدونه، لكنه يعلم مع ذلك وخلال فترةِ تَمَتُّعِه بِهذا الدفء الغامر أنه سينتقل حتما بعد برهة من الزمن إلى مكان سيبقى فيه على الدوام وسط صقيع قاتل؟ ألا يشبه هذا الإحساسُ إحساسَ الإنسان وهو يعي لَذاَّتِه التي يُحسها ويعيشها ويفهم مع ذلك أن نهايتَه عدمٌ وفناءٌ بارد كالزمهرير، لا إحساس فيه ولا حياة ولا وعي؟


    خلاصة القول إذن أن الاعتقاد بعدم وجود حياة قادمةٍ بعد الموت للأفراد بأعيانهم هو اعتقاد غير عقلاني، وفيه مخالفة قاطعة وصريحة لنظام الكون ولصفة الله "الألوهية". فلابد لكل إنسان من أن يعيش مرة أخرى بعد الموت. أما كيف سيكون ذلك، وما هي طبيعة تلك الحياة، ومتى ستكون، فهذا موضوع آخر مختلف سنتطرق إليه فيما يلي..


    فما هي أولاًّ طبيعة الحياة بعد الموت؟


    ثالثا.. فكرة تخليد الحياة ودور الإنسان فيها


    لو كانت الحياة التي سيعيشها الإنسان بعد الموت تأتي في التوقيت الزمني بعد الموت مباشرة، لما كان هناك داعٍ لأن يَموت أساسا. لأنه كي يعيش ويُحس باللذة ويعيها وفق مستوى العلاقات والقوانين المادية الحية الحاسة الواعية، وجبَ أن يعاد تركيبه من جديد وعلى الفور وبنفس طريقة تركيبه في الحياة، أي إعادته إليها فور خروجه منها، وعندئذ فلماذا حصل الموت إذن من حيث المبدأ؟ في ضوء هذه الحقيقة فلا حياة بعد الموت مباشرة. فبعد تَحَطُّمِ علاقات الحياة في الإنسان وتَحَلُّلِ وتفكك المادة المُتَأَنْسِنَة لتعود إلى أصلها الذري وما قبل الذري، يبقى الحال – حال المادة الميتة – على ما هو عليه إلى إشعارٍ آخر. وإذن فمتى سيبعث الإنسان الميت إلى الحياة مرة أخرى؟


    فلنتابع مرة أخرى حياة الإنسان..


    الإنسان – العين – يبدأ بالتكون عبر التواصل الطبيعي بين الذكر والأنثى. وهو خلال حياته يستخدم وعيه "ألوهيته الصغيرة" في تطوير ذاته وواقعه باتجاه الكمال سواء على مستواه العياني أو على مستواه النوعي. إن في وعي الإنسان نزعة طبيعية بِحكم ألوهية هذا الوعي للتَّطَلُّع إلى الألوهية ذاتها. وبما أن الوعي مسألة فردية عيانية، فإن نزعة الألوهية "التَّأَلُّه" لديه هي نزعة فردية في الأصل وفي الغاية. فالإنسان – العين – ينزع إلى أن يكون "إلها" بذاته وبعينه كفرد، دون الاكتفاء بأن تَتَّصِفَ الجماعة الإنسانية بذلك. إن الصفة الجماعية في حياة الإنسان هي لحظة مؤقتة مهما طالت، اقتضتها وتطلبتها طبيعة السياق التطوري الدافع باتجاه الألوهية الفردانية "التأله الفردي".. ماذا يعني هذا؟


    إنه يعني حقيقة مهمة، هي أن الحالة المجتمعية هي حاجة فردية في الأساس. أي أن المجتمع الإنساني هو في الأساس دفعة تاريخية باتجاه خدمة "الفردانية العيانية" وهي تصبو إلى الكمال، إلى التَّأَلُّه، إلى تخليد الحياة الحاسة المتأنسنة وإنقاذها من الخضوع المرعب - الذي رافقها منذ بدأت - للموت والتَّحَلُّل. وعندما يتحقق ذلك – أي الانتصار على الموت – تنتفي الحاجة إلى المجتمع، أو على الأقل تبدأ مسيرة العد التنازلي المتسارعة في عمر اللحظة الاجتماعية من عمر الإنسان "النوع". أو بتعبير آخر تكون اللحظة الاجتماعية في تاريخ تطور المادة قد أدت الغرض منها وانتهت الحاجة إليها، فيزول المجتمع من الواقع ويغدو البشر أفرادا "آلهة صغيرة" خالدين لا يموتون وفي غير حاجة إلى أكثر من الوعي باللذة التي يحيونها ويُحسون بها والتي ستترتب على هذا الخلود شكلا ومضمونا.


    أليس مِماَّ يساعدنا على تخيل هذه الحقيقة استحضار تلك الصور التي تطرحها الأديان عن الحياة في الجنة؟ الخلود لكل فرد، الحديث كله عن الإنسان الفرد. لا حاجة للجماعة كبناء مَصْلَحي. وإذا كان الأفراد يتواجدون متجاورين، فإن تَعاَيُشَهم على هذا النحو من التجاور ليس أكثر من أمرٍ واقع لا ينطوي على معنى حاجة أي منهم إلى الآخرين، إلاَّ في حدود طبيعة الملذات وطريقة إشباعها. فإن كانت هناك لذة جنسية بمعناها الحالي، فربما كانت هناك حاجة لأن تتولد أشكال من العلاقات بين الرجال والنساء تعبر عن الحاجة المتبادلة.


    مع مرور الوقت سيتوصل الإنسان إلى حالة "عدم الموت"، وذلك بتخليص الكائن الواعي "الإنسان" من مُسَبِّبات الموت الثلاثة الشهيرة والمعروفة، وهي "الهرم" و"المرض" و"الحوادث" وهي "الإرتطام والاحتراق والاختناق والتبخر والذوبان والتمزُّق.. إلخ". أي أنه سيتمكن من القضاء على كل الأسباب الداعية إلى تَحطم قوانين الحياة والتي تُحَلِّل وتُفَكٍّك المادة الحية الحاسة الواعية، في هذه الدورة الرتيبة من الولادة والموت، أو في تلك المعركة الأبدية مع المرض، أو في مواجهة كل أنواع الحوادث التي اعتبرت ولا زالت أكبر من قدرة المادة الحية على مقاومة هجمة الموت المفاجئة.


    وبهذا فإن الإنسان يُحقق لها – أي للحياة – بالتالي الخلود "البقاء". والخلود أو البقاء هو بتعبير أكثر دقة ودلالة، تحريرٌ للمادة من الخضوع للقانون المضاد. فقانون الجاذبية مثلا يقضي بسقوط الأجسام نَحو الأسفل. فإذا كان الموت بالنسبة للأجسام في إطار ظاهرة الجاذبية يتمثل في سقوطها نحو الأسفل، وهو ما يُمكن اعتباره بمثابة قانون موتها الخاص. فإن تَحَرُّرَها من هذا القانون وعدم انجذابِها نحو الأسفل – أو عدم موتِها الموت الخاص بها – إن صح التعبير، هو تخليد لها، لأنها انعتقت في الواقع من مُسَبِّبِ الموت الخاص هذا.


    إن اكتشاف أي قانون طبيعي عندما يعني توظيفَه والاستفادةَ منه، فهو إنما يعني التحرر من أَسْرِه ووطأته علينا، وبالتالي من تأثيره في حياتنا. إن سيطرةَ الإنسان على المادة تنمو، ما يعني أن تَحرره من وطأة قوانينها وعلاقاتها ينمو كلما اكتشف تلك القوانين والعلاقات وفهمها. وبالتالي فكما أن الإنسان حرَّرَ ذاتَه من أَسْرِ الجاذبية، أي حرَّرَ مادته من أسر هذا الموت الخاص وهو الانجذاب إلى الأرض، فليس هناك ما يَمنع من حيث المبدأ من أن تستمر عملية تحرير المادة الواعية من القوانين التي تَخضع لها، إلى أن تصل إلى التحرر من كل القوانين، فتصبح مادة فوق القانون، أي مادة مُتَأَلِّهَةً قادرة على خلق القوانين بعد أن كانت فيما مضى خاضعة لها.


    إن آخر ما يمكن للإنسان أن يتحرر منه من بين مَجموعة القوانين التي تَحكم حياته هي قوانين الموت، لأنها أكثر القوانين تعقيدا وسطوة وقهرا. لذلك كان الخلود، أو تخليد الحياة الواعية، مرحلةً متقدمة جدا في حياة الإنسان وفي سُلَّمِ تطوره. إنَّها مرحلة لا نستطيع تَخيل شكل الواقع المحيط بالإنسان لحظة وصوله إليها.


    إن حالة عدم الموت ستتلاقى قطعا مع مجموعة علاقات هامة ذات صلة مباشرة بها. فحيث الخلود واللاموت مثلا، فلا معنى لوجود ظاهرة الولادة والتناسل والتكاثر، ولا معنى من ثم لوجود المؤسسات التي ابتكرها الإنسان مما له علاقة بالحياة والموت والولادة، وعلى رأسها بطبيعة الحال مؤسسة الأسرة. إن تصور حالة انتفاء الموت وبقاء واستمرار عملية التوالد والتناسل هو تصور مفعم بالتناقضات. فهذه العمليات وما ارتبط بها من مؤسسات كانت أداء طبيعيا للمادة المتطورة وهي تصبو بالحياة إلى هذه المرحلة، مُحَافِظَةً من خلالها على النوع الإنساني الذي من غير المحافظة عليه كنوع ما كانت لتحققَ الغاية من وجوده أساسا، بل لما وُجِد هو في الأساس.


    وإن انتفاء الموت في واقع الحياة يعني وصول المادة الحية الحاسة الواعية إلى درجات متقدمة جدا في مسيرة الكمال في طبيعة الحياة، وليس في مستوى الوعي فقط. ويعني من ثم تَحررها من وطأة قانون النمو الذي ينطوي الخاضع له على نقص يتعارض منذ البدء مع مستوى الكمال الحياتي المفترض في حالة الخلود. وبالتالي فلا يمكن أن تجتمع ظاهرة خلود المادة الحية وتحررها من وطأة الموت، مع ظاهرة التناسل والتوالد والنمو في واقع واحد، فهذا مستحيل وغير منسجم مع طبيعة الأمور. وإذا كان الموت بطبيعته هو نتاج واقع تهيمن عليه ظاهرة النمو في المادة الحية، فإن حالة اللاموت ستتحقق، وما كانت إلاَّ لتتحقق في واقع تحرر من علاقات النمو المعروفة بالكامل، وإن كان من الممكن أن تَحكمه علاقات نُمُوِّ من نوع مختلف لا تخطر لنا على بال، تجعله ينمو ضمن معادلة الخلود ذاتها، مع اعترافنا بعدم أهمية وجدوى البحث في هذه المسألة حاليا.


    وإذن فإن العمليات الحيوية التي ترتبط بالنمو سوف تؤول قطعا إلى زوال، كالتغذية والتنفس وإفراز الفضلات الزائدة من الجسم. ولن تكون هناك أمراض ولن تكون شيخوخة ولا هرم. ألا يُذَكِّرُنا هذا الوضع المُبْهِرُ للحياة، بطبيعة الحياة في الجنة كما ذكرتْها الأديان، وكما تحدث عنها الأنبياء؟! حيث تتحول الملذات المرتبطة بظاهرتي النمو والتوالد من متع وملذات متعلقة بغيرها إلى ملذات مطلوبة لذاتها، وإن كنا لا نستطيع أن نتصور كيف سيكون حال تلبيتها واستشعارها وتَحقيقها في حياة الإنسان آنذاك. ناهيك عن أننا لا نستطيع أن نجزم بعدم ظهور حشد جديد من المتع والملذات ترتبط بطبيعة وكينونة الحياة والإحساس والوعي الذي سيكون قد وصل إليه الإنسان في ذلك الوقت.


    إن هذا المستوى من التطور – تخليد المادة الحية الحاسة الواعية – هو في الواقع نتاجٌ لدرجة عالية من الوعي وهو يعمل في المادة حفرا ونَحتا وتجميلا باتجاه الكمال. هذا يعني قطعا أن الإنسان عندما يصل إلى هذا المستوى من التطور سيكون قد قطع أشواطا كبيرة جدا من التطور في مجال السيطرة على الطبيعة واستخدامها لملذاته. وسيكون بتخليده لحياته قد استغنى أيضا عن القانون "التشريع" أساسا، لأن الحاجة إليه ستنتفي. لن يكون هناك قاتل ومقتول، ولا سارق ولا مسروق، ولا مُغْتَصِب ولا مُغْتَصَب، ولا معتدٍ ولا معتدىً عليه. حتى اللذة الجنسية سيكون التطور قد نظمها ونَما بِها إلى صيغة يُقْضَى فيها على كل معاني ومفاهيم الاعتداء الممكنة والمتصورة، بحيث تنعدم فيها الأحاسيس المؤلمة كالغيرة، ولن تكون هناك حالة اسمها الخيانة الزوجية أو الخيانة الجنسية عموما.


    أما كيف سيكون ذلك وكيف يُمكنه أن يتحقق فهو مِماَّ يخرج عن موضوعنا هنا، بل هو مِماَّ يخرج عن حدود إدراكاتنا الحالية. يكفينا أن نقرر في هذا الصدد أن ظاهرة الموت هي أساس كل النواقص التي تعتري حياة البشر. وبالتالي فحيث لا وجود لظاهرة الموت فلا وجود حتما لكل ما يعانيه البشر بسببها من تعادٍ واقتتال وتصادم وخوف وقلق.. إلخ. فنحن نَختلف ونتصارع ونقتتل ونتنافس لسبب بسيط هو أننا نَموت، ولو لم نكن نَموت لما كان هناك من داعٍ لأيِّ شكل من أشكال الصراع. فالخلود الذي هو نقيض الموت عُلُوٌّ وسُمُوٌّ على كل قوانين الحياة المرتبطة بظاهرة الموت.


    الخلود تَحَرُّرٌ، والتحرر انعتاق من القانون المُقَيِّد للحركة، وإن كل إحساس مقيد للحركة وللانطلاق هو نتاج حالة أو علاقة سيكون الخالد قد تَحرر منها حتما. أما كيف سيكون ذلك، فهذا ما لا نعرفه حاليا وما لا نعتبر أن معرفتنا به وبتفاصيله بمستوى وعينا وتطورنا الحالي ذات أهمية. فتصورنا للعالم كيف سيكون بعد ألف عام يعتبر ضربا من ضروب العبث ويُعتبر عملية مرهقة للذهن، وهو مع ذلك بلا معنى وعديم الفائدة على الإطلاق. فكيف بتخيل حالته وصورته بعد مليون سنة أو بعد مليار سنة مثلا؟!


    في ضوء ما سبق من تَصَوُّرٍ كُلِّيٍّ للمستقبل الإنساني، تغدو الحياة بعد الموت عملية استعادة لأولئك الذين ماتوا قبل أن يتوصل الإنسان إلى هذا المستوى من التقدم، وهو تخليد حياته. وهذا حقهم بمقتضى صفة العدل في فعل الخلق. فمنذ اللحظة التي ظهرت فيها أول حياة حاسة واعية "أول إنسان" ولغاية اللحظة التي سيموت فيها آخر إنسان، هناك عدد كبير من البشر عاشوا وماتوا وأسهموا بشكل أو بآخر في النتيجة "الخلود". الحياة بعد الموت تَخصهم هم على وجه التحديد. إن ما تسميه الأديان بـ "البعث" أو ما تسميه بـ "يوم القيامة" أو بـ "اليوم الآخر" أو "النشور".. إلخ، إنما يعنيهم هم ولا يعني أحداً غيرهم.


    وهكذا فعندما يصل الإنسان إلى الخلود، سنكون بصدد واقع فيه عدد من أعيان الناس على قيد الحياة لا يعتريهم الفناء والموت وهم خالدون، وعدد آخر مِمَّن ماتوا عبر مسيرة التطور المديدة، وهم يَملكون حق العودة إلى الحياة كي يستمتعوا إلى جانب الأحياء بِمميزات الحضارة والتطور التي أسهموا فيها فيما كانوا بِحكم طبائع الأمور محرومين من أعظم نتيجة لها "الخلود". لتبدأ بعد ذلك ومنذ البعث مرحلة جديدة من تاريخ الوعي الإنساني، قائمة على خلود المادة الحية الحاسة الواعية، وهي المرحلة التي سينشغل فيها هذا الوعي بقضايا مختلفة وجديدة بعد أن يكون فد تحرر من أهم وأخطر حلقات القوانين المادية، مُسَرِّعاً خطاه في رحلة لا تنتهي نحو الله الذي لن يُدْرَك أبدا.


    وختاما لهذا الموضوع – البعث – نجد لزاما علينا أن نتطرق لمسألة هامة ذات علاقة وثيقة به، ألا وهي مسألة مستويات التطور التي سيخضع لها الوعي والتي ستخضع لها المادة الواعية بعد تخليد الحياة والقضاء على الموت.


    إذا كان تخليد المادة الحية الحاسة الواعية هو بِمثابة تدشينٍ لمرحلةٍ من تاريخ هذه المادة تعتبر أهم سِمَةٍ من سِماتِها الفردانية على حساب الجماعية، ودخول الإنسان مرحلة الخلق بعد مرحلة الاكتشاف والسيطرة على القانون والانتفاع به فقط. فهل هناك آفاق لتصورِ بعضِ ما يمكنه أن يحدث للوعي وللإنسان خلال هذه المسيرة الأبدية؟


    بكل تأكيد – كما اتضح لنا سابقا – إن إرادة الله قد وقعت على خلقِ إرادةٍ تشبه إرادته، اقتضت طبيعة القدرة الإلهية أن يتحقق كمالها بنموها فيه وصوبَه إلى الأبد، في رحلة سرمدية لا تنتهي. وإذن فإن جوهر الوجود هو النمو والتطور في المطلق صوب المطلق. وإذا كنا نقف مبهورين أمام حجم ما اعترى الكون والوجود من تطور خلال عدة مليارات من السنين أدت بالمادة العجماء في نهاية المطاف إلى أن تعي ذاتها في الإنسان. وإذا كنا نصاب بالدوار لحجم التغير الذي اعترى الوعي في عدة آلاف من السنين، بما انعكس على الواقع بمستويات مختلفة من النمو في تلك الرحلة السرمدية. فهل يمكننا أن نحافظ على توازننا إذا أطلقنا لخيالنا العنان كي يتصور جزءا ولو يسيرا مِما يمكنه أن يحدث خلال عدة ملايين من السنين قادمة من نُمو الوعي؟!


    إن ملاحظةً خاطفة نلقيها على معادلة التطور والنمو التي خضعت لها المادة منذ ما قبل أن تكون حية، بل ومنذ ما قبل أن تكون ذرية، تكشف لنا عن هوية هذه المعادلة المرعبة في كونها تعكس تسارعا مهولا في التطور كلما حدث تطور. إن هناك علاقة طلسمية غريبة يؤثر بها قانون التطور على نفسه. فهو يطور المادة بسرعة "س" لتصل إلى مستوىً "أ"، وعندما تصل إلى هذا المستوى، فإن تطورَها نحو المستوى الذي يليه وهو "ب" يتسارع بحيث تغدو سرعة التطور نحوه أكثر بكثير من "س"، وتستمر عملية التسارع وسوف تستمر، بحيث أن حجم التطور الذي قد يعتري الإنسان في جزء واحد فقط من مليون جزء من الثانية بعد مليون مليون سنة من الآن، قد يكافئ حجم التطور الذي سيكون قد حصل خلال عشر مليارات كاملة من السنوات من عصور التكنولوجيا المتطورة جدا.


    وهنا نتساءل ذلك التساؤل المثير. هل سيبقى الإنسان إنسانا؟!


    في الحقيقة لن تَهمنا التسمية الاصطلاحية هذه، لأننا في الواقع إنما نتحدث عن تطور في المادة الحية الحاسة الواعية نحو التَّأَلُّه. وهي وإن سميت في مرحلة معينة نباتا، وفي مرحلة أخرى حيوانا، ثم في مرحلة ثالثة إنسانا، لغايات الاصطلاح وتيسير لغات التخاطب، فهذا لا يعني أن الفواصل بين تلك المراحل جدارية، بل هي طيفية ومتداخلة "يراجع فصل الروح من كتابنا تجديد فهم الإسلام". ولأن لفظة إنسان ارتبطت بالوعي الذي استوطن المادة، ولأن التطور اللانهائي الذي نتحدث عنه سيعتري المادة الواعية هذه، فربما كان هذا هو السبب في غلبة مصطلح "إنسان" علينا ونحن نتحدث عن ذلك الوجود المتَأَلِّه الذي سيتواجد بعد ألف مليار سنة مثلا. أما إذا افترض الواقع آنذاك أن تتغير المصطلحات والمفاهيم وهي لا شك ستتغير، فهذا مما يتم التعامل معه آنذاك، وآنذاك فقط. وكل الذي علينا أن نعرفه الآن، هو أن المادة ومنذ أن وعت ذاتها فينا ككيانات مُتَأَنْسِنَة وإلى الأبد ستتغير وستبقى تتغير داخل دائرة التغير الذي تخضع له المادة الحية الحاسة الواعية، أيا كانت الأشكال التي ستصل إليها هذه المادة.


    وإذن وفي ضوء التحليل السابق لدلالة البعث والخلود ولكيفية تحققهما في الواقع، هل تغدو هناك أي عقلانية في افتراض تلك النهايات المرعبة والتراجيدية للكون؟!


    هل يعقل أن يتطور الإنسان نحو التألُّه ليدمر الله به كونه العظيم، وليقضي به على الحياة التي تعتبر أعظم ما خلق الله؟!


    أي عبثية أكبر من افتراض تلك النهايات "النيرونية" لهذا الوجود، وبلا منطق ولا مبرر ولا داعي ولا هدف غير القتل والإبادة والتدمير ونشر الكوارث!!!


    أيخلق الله مادة بمنتهى قدرته وقوته وحكمته وعلمه، ويدفعها إلى التطور المبهر عبر نواميس وسنن وقوانين هي من تجليات إبداعه، عبر مليارات السنوات، لتنجز هذه الحضارة التي ستواصل تطورها واكتشافها ونماءها، ثم ينهيها بكل هذا البطش، وبأيدي سفاء، طوروا العالم لينهوه ويبيدوه باسم الله وخدمة للسماء؟!


    ما هي الحكمة التي يمكن أن نجدها في نهاية عبثية لكون نتشدق ليل نهار بأنه عظيم ومبهر، وفي نهاية تراجيدية دموية لحياة نتشدق كل لحظة بأنها أنبل وأعظم ما خلق الله؟!


    هل يحتاج الله الذي تجلت قدرته وعظمته في هذا الخلق المدهش المبهر، أن يؤكد لنا قدرته تلك بالتدمير وبالقتل وسفك الدماء؟!


    هل يحتاج الله الذي أرسل كل أنبيائه ليقيموا العدالة وليحرروا البشر، لأن يجعل نهاية خلقه في معركة صنعتها خيالات موبوءة بالحقد على الإنسانية؟!


    كيف يكون محبا لله أو صادعا باسمه أو محققا لإرادته، من يقول أن الله اختاره ليقتل به مئات الملايين من البشر الذين ستملأ دماؤهم الأنهار والسهول والجبال، كي يحقق النشوة والسعادة، لفئة باقية تعتبر نفسها هي من تستحق ذلك، لمجرد أنها كانت أداته – أي أداة الله - في هذا القتل المروع؟!


    اللهم كلما أبحرت في هذا الكون وفيك، وكلما اكتشفتك فيه واكتشفته فيك، أدركت أن عقلا واحدا لا يمكنه أن يخلق ويبدع ثم يهلك ويدمر!! فإذا كان الخلق والإبداع منك وهو قطعا منك، فلا شك في أن الإهلاك والتدمير في معتقدات من يريدونك أداة يرتكبون بها جرائمهم في ما يسمونه آخر الزمان، هو من هؤلاء ومن وحي شياطينهم، وإني أبرئ صورتك المشرقة، من أن يخدشها شيء من ذلك الباطل والضلال!!!


    السؤال الثاني


    سفر النبي أرميا وما ذكر عن طرد نبوخذ نصر لليهود من مملكتهم التي هي للكلدانيين أصلا, وتحذير أرميا لليهود كي يخرجوا منهاورفضهم لنصحه الخ.. ما هو سبيل المقارنة مع الحقائق التاريخية. وقد ذكر لنا الدكتور بهجت قبيسي في لقائه السابق أن نبوخذ نصر لم يخرجهم بدموية بل لعربات ملكية! هذا أولا وكيف يمكننا تصديق كل مافيه والأسفار الحقيقية خمسة فقط ناهيك عن تحريفها. وكيف مازال حقدهم إلى هذا اليوم حول هذا الأمر ونحن نعلم تمام العلم ان يهود الأمس ليسوا يهود اليوم إنما بقيت الامور سياسية صرفة؟


    الإجابة


    الموضوع شائك وطويل، ويحتاج منا إلى وقت وجهد كي نوصله بكامل حيثياته إلى القارئ، لأنه مرتبط بعناصر كثيرة. ولأن الأمر يحتاج إلى دقة، فإنني أرجو إعطائي الوقت الكافي لعرضه عبر هذا اللقاء، خاصة وأنه من الموضوعات التي تشغلني كثيرا وأتابعها باستمرار، وأتابع كل جديد فيها. من هنا فسوف أشير في إجابتي هنا إلى المحاور الرئيسة التي يتطلب حسم الموضوع أن تبحث فقط، ليصار إلى بحثها بعد ذلك موضوعا موضوعا وبهدوء وتؤدة وروية، بعد أن نأخذ وقتنا الكافي، خاصة وأن وقتنا الحالي لا يسمح بالتفرغ الكامل لها. والله الموفق..


    المحور الأول.. سقوط المقولة السامية "التوراتية" بمقتضى نصوص القرآن الكريم. وسقوط كل ما يقوم عليها بالتالي. فالقرآن يؤكد على أن "موسى" عليه السلام، ليس من ذرية نوح، وبالتالي فإبراهيم وإسحاق ويعقوب وكل بني إسرائيل بل وبني إسماعيل أيضا، لا علاقة لهم بنوح عليه السلام، وكل روايتهم بهذا الشأن ليست سوى أكاذيب وأضاليل. فضلا عن أن نوح لم يكن له سوى ولد واحد هو الذي غرق في الطوفان. وبالتالي لا مجال للحديث عن ذرية لنوح من صلبه يمكن لرواية السامية أن تستقيم معها.


    المحور الثاني.. "بنو إسرائيل" قبيلة عربية عاشت في غرب الجزيرة العربية شمالي اليمن وجنوبي الطائف. وقد انقرضت بعد أن كانت لها سلطة لمدة معينة وبعد أن دمر ملكها وسقط سلطانها، ولم يبق لها أثر. وفي القرآن الكريم ما يؤكد ذلك، سواء عند التدقيق في الخطاب القرآني الذي يفرق بين "بني إسرائيل" و"أهل الكتاب" حين الحديث عن هؤلاء. فضلا عن متابعة التفاصيل القرآنية حول قصتي "داوود" و"سليمان".


    المحور الثالث.. القراءة الجغرافية للتوراة وللعهد القديم تثبت ألا علاقة تاريخية لبني إسرائيل لا بفلسطين ولا بمصر النيل. وما مصر التي ذكرها القرآن، إلا بلدة تقع في غرب الجزيرة العربية. وليس فرعون المذكور في قصة بني إسرائيل سوى حاكم عربي مستبد لبلدة "مصر" البائدة تلك. ولم يثبت في تاريخ مصر القديمة – مصر النيل – أن حكامها كانوا يُسمون الفراعنة، فهذه تسمية مستحدثة، بعد أن تم الربط بين فرعون مصر بني إسرائيل، ومصر النيل، في القراءات التاريخية الحديثة نسبيا. وكل الأسر المالكة لـ "مصر النيل" القديمة كانت تسمى بأرقام، فيقال الأسرة العاشرة والأسرة الخامسة عشرة.. إلخ. ولا توجد حفرية أو بردية مصرية احتوت على كلمة "فرعون"، أو على كلمة "عزيز مصر" أو على كلمة "يوسف" أو على كلمة "موسى"، مع أن هؤلاء كانوا من أهم الشخصيات التي حركت تاريخ المكان المسمى في القرآن "مصر".


    المحور الرابع.. حتى التصورات الدينية الإسلامية والمسيحية حول القدس والمسيح وفلسطين.. إلخ، لا أساس قاطعا وثابتا بخصوصها في المرجعيات القرآنية والإنجيلية الأصيلة، والكل معتمد بخصوصها على قراءة توراتية، هي في محصلتها تزوير للتاريخ وتشويه للحقيقة، وبالتالي فلا يقين بخصوصها مما نعرفه عنها في الوقت الراهن.


    المحور الخامس.. القراءة المعاصرة للتوراة بدأت مع بدايات القرن الثالث عشر تقريبا على أصح التقديرات، مترافقة مع التغيرات التي بدأت تجتاح أوربا عقب فشل الحروب الصليبية، وبالتالي فلا يمكن فصل تلك القراءة عما شهدته القارة من تغيرات سياسية وثقافية، وعما ستشهده لاحقا من تغيرات في كل الاتجاهات. ومن هنا فنحن أمام حالة معقدة ومتشابكة من القراءات لا ينفصل بعضها عن البعض الآخر، عند محاولة التعرف على أي شيء يتعلق باليهود وبالإصلاح الديني وبالصهيونية وبالأطماع السياسية في المشرق العربي.. إلخ. وأي قراءة مجتزأة سوف تؤدي إلى الخطأ والتضليل.


    المحور السادس.. الأصوليات المسيحية واليهودية والإسلامية متشابهة من حيث أنها تؤدي إلى تصوير نهاية كارثية للعالم، وإن كانت كل أصولية تنسب المجد ووقوف الله إلى جانبها ضد الآخرين. وكلما كان الصراع الحالي في المشرق العربي مصبوبا في قالب ديني، كلما كان الأمر كارثيا. ومن المؤكد أن الصهيونية اليهودية التي أنتجتها الصهيونية المسيحية، تتحالف معها الآن لاستكمال بلورة الصهيونية الإسلامية في بعدها الديني تحديدا، بهدف إخراج الصراع عن سياقه السياسي الاقتصادي، وصبه في قالب ديني أصولي قائم على تحييد البعد الحقيقي والجوهري للصراع، من أجل نجاح الأطراف كلها في الحشد والتعبئة الدينية لأجل خوضه، بكل ما في ذلك من كوارث على الإنسانية كلها. وفي المحصلة لا فرق بين الأصوليات الثلاث التي تؤمن بالنهاية نفسها للعالم، من حيث أنها جميعها ضد الإنسانية في نهاية المطاف.


    ربما تكون هذه هي المحاور الأساسية التي يثيرها سؤالك سيدتي، لكن ما لا شك فيه أن طبيعة الموضوع قد تستثير وتستحضر قضايا جانبية كثيرة، تندرج في إطار هذا المحور أو ذاك، وربما تشكل محورا جديدا قائما بذاته.


    أرجو أن أكون أوضحت بذكري للمحاور، خطورة وصعوبة وتشابك الموضوع، آملا قبول اعتذاري بإرجاء الموضوع إلى أن يتسنى لي عرضه بالهدوء المطلوب وعبر المدى الزمني المطلوب للأسباب التي ذكرتها.


    ولكم بالك الشكر والتقدير.


    أسامة عكنان

  10. #110
    مثقفة فلسطينية خريجة لغة انكليزية
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    المشاركات
    1,213
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
    واهلا بكم ومرحبا فارسا نحترمه ونقدر علمه ومعارفه وبعد:
    يهمني ردك أستاذ أسامة حول هذا الموضوع الهام بصرف النظر عما ورد سابقا وبدقة:
    http://www.omferas.com/vb/showthread.php?33357-هل-في-صحيح-البخاري-أحاديث-موضوعة؟!&p=138841#post138841

صفحة 11 من 13 الأولىالأولى ... 910111213 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. لقاء الفرسان مع الباحث/محمد عيد خربوطلي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-21-2013, 12:24 PM
  2. لقاء "مصر المحروسة" مع أسامة عكنان
    بواسطة أسامة عكنان في المنتدى تسجيلات الفرسان المسموعة والمرئية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-13-2013, 06:54 AM
  3. لقاء الفرسان مع الباحث/مصطفى إنشاصي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 37
    آخر مشاركة: 02-13-2013, 03:23 PM
  4. لقاء الفرسان مع الباحث/خليل حلاوجي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى لقاءات الفرسان
    مشاركات: 38
    آخر مشاركة: 09-29-2011, 09:46 PM
  5. نرحب بالأستاذ الباحث/ أسامة عكنان
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-29-2011, 08:21 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •