لغة اليوم.. مسخ لا أم له ولا أب..!!
* بقلم – أميمه العبادلة:
لطالما رثينا احتضار اللغة العربية واندثارها بين جيل الشباب واعتبارها موضة قديمة لا تتناسب مع العصر.. ولست أدري من ذا الذي يحق له تحديد مميزات كل عصر وما قد يصلح وما لا يصلح له..؟!! ومع أن هذا الأمر أقدم من التهمة الحالية، والمنسوبة بشدة لوسائل الإعلام الحديثة، والمختلفة، والتي تفتح عبر جدرانها قنوات ترسل إشارات الصوت والصورة بكل أبعادها الممكنة.. فاختلط علينا بها حابل المغرب مع نابل الشام.. وتوحدت لغة الخطاب العامي بدلا من الفصحى التي كان من السهل وصولها للجميع على اختلاف اللهجات حينا وصعوبتها حينا آخر.. فصارت العامية سهلة سلسة والفصحى لا يفهمها سوى المثقفين جدا أو المتدينين جدا.. وفقط..
ما زلت حتى اليوم اذكر دروس اللغة العربية عندما كنت في المرحلة الإعدادية وكيف أن المدَّرسة وهي متثاقلة على كرسيها وتتثاءب، والتي كانت بدورها تنقل لنا بذلك عدوى النعاس، كيف أنها كانت تشرح لنا بملل لا يضاهيه ملل أن مجمع اللغة العربية في مصر شن هجوما على اختلاط العامية بالفصحى، خوفا من تولد هجين الفصحى المودرن السلسلة، القريبة من العامية وكيف أنها بدأت تتسلل عبر أسطر في كتب الأدب..
كان الخوف آن ذاك من انقلاب ثقافي لتلك "العامية" اللقيطة على سيدتها ربة الصون والعفاف والدين "الفصحى"، واستبدادها عليها بشراسة.. لم يكن رفض مجمع اللغة العربية للأمر حينها لمجرد بعد قومي، وإنما تعداه لبعد ديني أيضا.. فتلك العربية الأصيلة سليلة الحسب والنسب لغة القرآن الذي إن ضاع ضعنا معه جميعا..
لكن لم يقف الأمر ها هنا للأسف الشديد، بل تعداه لما لا يحمد عقباه.. وهنا لب الموضوع الذي أتمنى أن يعيره الجميع كثيرا من الاهتمام..
لست أنوي بمقالي هذا، أبداً، أن أكرر ما يركز عليه أهل اللغة، وأولئك الغيورين عليها مرارا وتكرارا من اختلاط انساب اللهجات، واللغات.. وتغولها في صميم حياتنا اليومية بأشكالها المتعددة: سياسيا، واجتماعيا، ودينيا، وفنيا، وعلميا، وثقافيا.. والخ.. حتى أننا تعودنا نحيبهم هذا، وما عاد يجدي أو يغير من واقع الحال شيئا.. بل أنه ما زاد إلا من تجاهل الجهلة أكثر.. واستفحال عناد ذوي الأهداف الخبيثة، وإصرارهم على بث المزيد، كلما تأكدوا من خلال تلك الولولة أنهم يقومون بواجبهم على أكمل وجه.. وأن جهودهم تؤتي أكلها بخصاب تام..
هناك أمر آخر للأسف أغفله كثيرون.. وهو أن اللغة الفصحى، والعامية، واللكنات الدخيلة، وحتى اللغات الأجنبية التي باتت تمثل جزأ أصيلا في قواميسنا دون أن نشعر، تبقى مقبولة جداً مادام استخدامنا للكلمات ومدلولاتها، ومعانيها صحيحا دون أي تشويه.. فعلى سبيل المثال: عندما أعمد أن أصف أمرا طيبا أو حسنا فلا بأس إن قلت عنه بالفصحى بأنه رائع.. أو بالعامية أنه حلو.. أو باهي.. أو زين.. أو حتىgood .. وnice.. فكلها كلمات تدل على جمال الشيء وحسنه.. بغض النظر عن حقيقة كينونته.. لكن الكارثة والمصيبة أن نستخدم كلمات معاكسة تماما فنحرف بها المعنى، ونشوه الجمال بالقبح.. فهذا ما لست أدري كيف يطيقه أهل اللغة ويسكتون عنه..؟!! فكروا معي كيف أننا أصبحنا بين عشية وضحاها نصور الجمال بكلمات على شاكلة: فظيع.. أو رهيب.. أو دمار.. أو قلق.. أو terrible.. فهو أمر أجده مثيرا للدهشة.. بل ويستحق منا وقفة طويلة في البحث والاستقصاء عن سبب تكون تلك الطفرة الجينية لحروف اللغة، ونواة المعاني.. وليس للأمر أبدا أي علاقة بطفل هجين لزواج مختلط بين بغل وفرس.. بل هو مسخ لا يعرف أم له، ولا أب.. ومهما كان السبب من باب تغير إن دل فإنه يدل على عصر قلبت فيه المعاير والأخلاقيات كلها.. أو محاولة لدخول التاريخ بغوغائية نكراء كنوع من رفض على نار هادئة لكل ما يجري حولنا.. فلا مبرر لقلب لغة ومعانٍ توجع القلب على أطفالنا الجالسين بصمت خلف ضباب مستقبل ينتظر بشغف أن نرسل عربات الحاضر محملة بما لذ وطاب علما وعملا.. ويل لأهل المستقبل.. أي حاضر ينتظرون..!! اللهم أصلح الحال.. اللهم آمين..
* كاتبة صحافية- فلسطين- قطاع غزة