قراءة في كتاب «الأدب الإسلامي: بين النظرية والتطبيق»
للدكتور صابر عبد الدّايم
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
ظهرت في ربع القرن الأخير بعض الدراسات عن الأدب الإسلامي، ولكنها مازالت محدودة يدفعها الطموح إلى ارتياد عوالم وآفاق جديدة، حتى لا تظل تدور في دائرة محكمة لا تتعدّاها، وهذه الدراسات سُطِّرت بأقلام الأساتذة والدكاترة: عبد الرحمن الباشا، وعماد الدين خليل، ومحمد قطب، ونجيب الكيلاني، وحسين علي محمد، وحلمي القاعود، وعبده زايد، ومحمد الحسناوي .. وغيرهم.
وتجيء دراسة "الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق" للدكتور صابر عبد الدايم في هذا الإطار، مُتضمنة عدة بحوث يجمعها خيط فكري واحد هو البحث عن نبض الإسلام في الآثار الأدبية شعراً كان أم نثراً، قديمةً كانت أم مُعاصرة.
والكتاب يضم قسمين: قسماً بعنوان: "من معالم التأصيل"، وآخر بعنوان "من ثمار التطبيق".
والقسم الأول "من معالم التأصيل" يتضمّن ثلاث دراسات تنظيرية تطمح إلى تأصيل معالم الأدب في ظل الإسلام اتكاءً على القيم الإسلامية، وموقف الإسلام من الكون والإنسان والحياة. واتجه جهد الباحث إلى استكشاف الأبعاد الفنية والجمالية في النص الأدبي، فالمضمون الجيد لا بُد أن يُقَدَّم في إطار فني جميل ومؤثر.
*والدراسة الأولى عنوانها "معالم التجربة الأدبية في ظل خصائص التصوُّر الإسلامي"، وتتجه هذه الدراسة إلى تأصيل معالم التجربة الأدبية وفلسفتها في ظل خصائص التصور الإسلامي؛ فالأديب المسلم في ظل هذا التصور تنطلق تجاربه من نبع إيمانه الفيّاض بالتسليم المُطلَق لخالق الكون جلَّ وعلا، وهو يمزج هذه الانطلاقة الإيمانية بالتأمُّل في مشاهد الكون، والنظر في ملكوت السماء والأرض، واستجلاء معالم القدرة الإلهية في صُنع هذا الكون البديع المُتناسق، وهو في غمرة تجاربه الإيمانية والتأملية لا يكون بمعزل عن واقع الحياة، ومشاغل الإنسان، وآماله وأحلامه، فهو في إيمانه يتأمل ما خفي من أسرار الكون، وهو في تأملاته يستجلي أسرار الحياة.
وفي معرض إرساء هذه الخصائص في حقل التجارب الأدبية، ناقش المؤلف الدكتور صابر عبد الدايم كثيراً من المواقف والآراء التي شاعت في حقل النقد الأدبي قديماً وحديثاً، وكشف كذلك عن زيف بعض القيم الفنية والموضوعية التي خلّفتها المذاهب الأدبية والنقدية في العصر الحديث.
وفي هذا القسم قراءة أدبية لكتاب "خصائص التصور الإسلامي" لسيد قطب، مع الاسترشاد ببعض الكتب الأخرى مثل "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" لأبي الحسن الندوي، و"رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" لمحمود محمد شاكر، و"جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب، و"العلمانية" لسفر بن عبد الرحمن الحوالي .. وغيرها.
ومن ثم فنحن نرى أن هذا القسم له طبيعة تنظيرية خاصة، اكتفى فيها المؤلف بأن يكون شارحاً لآراء سيد قطب، وواصلاً إلى نتائج الخصائص نفسها التي تُؤسس لمعالم التجربة الأدبية في ظل التصور الإسلامي رؤيةً ومضموناً، وهي: الربانية، والثبات، والشمولية، والتوازن، والواقعية، والتوحيد" وقد أشار بجلاء (ص45) حينما قال في ذيل هذا القسم: "هذه الدراسة قراءة أدبية لكتاب سيد قطب "خصائص التصور الإسلامي" ..". ورغم أهمية هذه الدراسة التي تحتل حوالي ربع الكتاب، فإنها تظل جزءاً غريباً على الكتاب، وليتها تسلّلت بين ثنايا التطبيق، كأن يسترشد بها في دراسته للأدب الإسلامي، أما بهذا الشكل فهي تظل جسماً غريباً في ثنايا كتاب له دوره ـ الذي نطمع أن يكون مؤثراً وهاما ـ في توجيه الدراسات الأدبية والإسلامية توجيهاً جديداً.
*وأما الدراسة الثانية من القسم الأول فترصد أربعة أبعاد للرؤية الإسلامية في الشعر المُعاصر:
1-البُعد الأول يكشف عن تأثر الشعراء المُعاصرين بالبيان القرآني، وجاء هذا التأثر مختلفاً في الرؤية، مُتعدِّداً في الاتجاه:
أ-فبعض الشعراء جاء تأثره بالبيان القرآني تأثراً كليا شموليا صياغةً وفكراً وشعوراً والتزاماً بمنهج التصور الإسلامي، ومنهم محمد بنعمارة في ديوانه "مملكة الروح"، وصابر عبد الدايم في ديوانيه "المسافر في سُنبلات الزمن" و"المرايا وزهرة النار"، وأحمد فضل شبلول في ديوانه "مُسافر إلى الله"، وعبد العليم القباني في ديوانه "للّه والرسول".
ب-وفريق ثان من الشعراء جاء تأثره شكليا أدائيا.. بعيداً عن نسيج الرؤية الإسلامية الطامحة إلى فعالية الوجود الحضاري المسلم، فالتأثر جاء صدىً للمُعجم القرآني، وللأساليب الموجودة في النصوص القرآنية، وكذلك في القصص القرآني، ولم يتعدَّ هذا التأثر الأسلوبي هذه الدائرة إلى النفاذ إلى أعماق معالم التجربة الإسلامية، وتوضح ذلك بعض قصائد ديوان "السفر في أنهار الظمأ" لمحمد أبي دومة.
ج-والفريق الثالث جاء تأثره سلبيا مضادا، وذلك لأن شعراء هذا الاتجاه استخدموا الألفاظ والتراكيب والمعاني القرآنية ولكنهم أساءوا إليها، ويقصد المؤلف الدكتور صابر عبد الدايم بالإساءة "أن يضعها في غير مكانها اللائق، أو أن يسوقها في معرض السخرية والتهكم، أو أن يُحاول ـ جهلاً وغروراً وادِّعاءً ـ مُحاكاة أسلوب القرآن الكريم، ظنا منه أنه قادر على إبداع بيان يكافئ القرآن العظيم، ومثل هذه المُحاولات تبوء بالفشل الذريع، ولا تحظى إلا بالرفض الكامل شكلاً ومضمونا" (ص70). ويُوضِّح الباحث ذلك المنهاج الخاطئ من خلال مُناقشة لبعض قصائد خليل حاوي، ومحمد أبي دومة.
2-والبُعد الثاني من أبعاد الرؤية الإسلامية يرصد تأثير التراث الإسلامي في تشكيل التجربة الشعرية، ويكشف عن بعض محاور ذلك التأثير، ومنها:
أ-استدعاء الشخصيات التراثية الإسلامية: فالشخصية التُراثية في النسيج الشعري ليست تاريخاً يُروى، وليست سيرة يحكيها الشاعر، وإنما استدعاؤها يكون في إطار شعري غير مُحدَّد بأسوار التاريخ، وقد يقتصر هذا الاستدعاء على رصد بُعد واحد من أبعاد الشخصية، مثل البُعد السياسي أو الاجتماعي، وقد يتجاوز هذا البُعد إلى الرؤية الشمولية للشخصية كلها، وقد يُخاطب الشاعر الشخصية من الخارج ولا يتوغَّل في أعماقها، وقد يحصر استدعاءه للشخصية في قالب مذهبي، ويصوغ رؤيته لملامح هذه الشخصية انطلاقاً من تصوره المذهبي، وقد تناول المؤلف هذه الملامح من خلال قصائد لمحمود حسن إسماعيل، وصابر عبد الدايم، وحسين علي محمد، ومحمد المنتصر الريسوني، ومحمد أبي دومة، وأدونيس.
ب-الأمكنة الإسلامية وأثرها في تشكيل النسيج الشعري: والأمكنة متعددة، والوجدان الإسلامي يتعلق بها تعلق المحب العاشق، ومن هذه الأماكن: دار الأرقم، المدينة، أحد، بدر، حراء، ثور، جبل النور، الصفا والمروة، عرفات، الكعبة، وكلها معالم ناطقة بالهدى، مُوشَّاة بالضياء واليقين، وتحمل ذروة الشعور في الوجدان المسلم، وتُسيطر على دوائر التوهج في مدارات الإبداع. وقد تناول الباحث هذا الملمح من خلال قصائد للشعراء: محمد علي الرباوي، وحسين علي محمد، وجميل محمود عبد الرحمن، ومحمد عبد المنعم خفاجي، وصابر عبد الدايم، وعبد العليم القباني، وعمر أبي ريشة، ومحمد بنعمارة.
3-البعد الثالث من أبعاد الرؤية الإسلامية في الشعر المُعاصر هو (السفر إلى الماضي لبعث الحاضر وإحيائه): فالشاعر المسلم حينما يحس بتصادمه مع حركة الحياة المُعاصرة "يفزع إلى الماضي، ويتجول في دروبه وزواياه باحثاً عن المواقف المُضيئة في مسيرة التاريخ ليعود بقبس منها إلى الحاضر الآسن، لعله من لهوه يفيق، ومن عثرته ينهض، ومن علله يبرأ" (ص95). ويتناول المؤلف ذلك الملمح من خلال أشعار محمد بنعمارة، ومحمد علي الرباوي، ومحمد أبي دومة، وحسين علي محمد، وصابر عبد الدايم، وعمر أبي ريشة.
4-البعد الرابع من أبعاد الرؤية الإسلامية في الشعر المُعاصر يتمثل في (دور الطبيعة في تشكيل التجارب الإسلامية في الشعر): والطبيعة حين تُوظف في تشكيل الرؤية الشعرية في ظلال الإسلام لا تُمثِّل مصدراً خارجيا، ولا تُمثل حالة نفسية كابية، ولا رمزاَ واقعيا مُنفِّراً، وإنما تُعدُّ الطبيعة رافداً أساسيا في حقل التجربة الشعرية، وتُعدُّ نسيجاً يدفع بالتجربة خارج دائرة الرصد المُباشر، والتقريرية النثرية، وتُعطي للتجربة مذاقاً تأمليا إيمانيا، وتدفع بها إلى رحاب الشمولية بعيداً عن التقوقع داخل أسوار الذات، وقد رصد المؤلف لهذا البُعد تجربة ثلاثة شعراء لهم نتاجهم الممثل لهذه الظاهرة، وهذه التجارب هي:
أ-تجربة عبد العليم القباني في ديوانه "لله والرسول".
ب-تجربة محمد بنعمارة في ديوان "مملكة الروح".
ج-تجربة أحمد فضل شبلول في ديوانه "مُسافر إلى الله".
*والدراسة الثالثة من القسم الأول تدرس "ملامح الواقعية المُحزنة" التي وَفَدت إلينا من الغرب فكراً وسلوكاً وتعبيراً، ولا تتفق مع منهجنا في الحياة، ويرفضها التصور الإسلامي؛ فواقعية الإسلام تقوم على أساس من العدالة، والتقوى والتسامح، والعمل الصالح وليست قائمة على أُسس العقد النفسية، ومحاولة التكفير عن الخطيئة كما يشيع في الأسس الفكرية والفنية للواقعية الوافدة.
ولا تقوم واقعية الإسلام على محاربة القيم الروحية ورفض الغيبيات كما تُنادي بذلك الواقعية المُحزنة بكل اتجاهاتها (الأوربية والاشتراكية والطبيعية).
وهذه الدراسة الموجزة نُشِرت في "المجلة العربية" بالسعودية، عدد ربيع الثاني 1406هـ (وهي بيان موجز يستغرق خمس صفحات) تُشير إلى معالم الشخصية الإسلامية والعربية وبصماتها في أعمالنا الأدبية من رواية ومسرح وقصة وشعر، وتدعونا إلى صياغة فكرنا وأدبنا بما يتفق مع ملامح هذه الشخصية حتى لا تفترسنا الواقعية المريضة المُحزنة.
***
(يتبع)