(21) الحلم المناضل في ديوان «شجرة الحلم» للشاعر حسين علي محمد
بقلم: أ.د. علي عشري زايد
..................................
يحدد لنا الشاعر حسين علي محمد الإطار العام لرؤيته الشعرية في هذه المجموعة منذ المقطع الأول من القصيدة الأولى من مجموعته هذه، بل إنه يُحدِّد لنا هذا الإطار منذ عنوان المجموعة ذاته «شجرة الحلم» .. ولذلك فلم يكن مُصادفة أن يكون هذا العنوان هو عنوان القصيدة الأولى، وهو في الوقت نفسه عنوان مقطعها الأول. هذا الإطار الذي يحدده لنا الشاعر ـ بوسائله الفنية الخاصة ـ هو "الحلم".
ولكن حلم شاعرنا ليس هو الحلم ـ الخدر والغيبوبة، وإنما هو الحلم المناضل، الحلم الذي يُدرك بوعي فادح مدى جهامة الواقع واربداده، ولكنه يصر ـ مع هذا الوعي ـ على أن يرسل أشعته، تخترق ظُلمات الجهامة، لتعانق توق الوجود إلى الحلم بواقع أكثر وضاءة، ولتحفز هذا التوق إلى العمل والنضال في سبيل تحقيق هذا الحلم. ولهذا فإن الشاعر يُجسِّد لنا حلمه في رمز من رموز العطاء والخصب والحياة، وهو "الشجرة". بل إنه يحرص على أن يكشف لنا منذ البدء ـ في مُفارقة تصويرية رائعة ـ عن تميز حلمه المناضل عن أحلام الحذر والغيبوبة التي تمتص كل حوافز العمل والنضال لدى الآخرين، فيقول في مقطع "شجرة الحلم" من القصيدة الأولى، في المجموعة التي تحمل نفس الاسم:
يشربُ غيري منقوعَ الكلماتِ الشافيةِ من الأدواءْ
ويبيعُ الفجر الآتي ذات صباحٍ أبيضَ للضُّعفاءْ
أقفُ وأصرُخُ في الأمواتِ: أفيقوا
هذا زمنُ الحجرِ الصَّنَمِ الرابضِ في الأبْهاءْ !
فلتخرُجْ كلُّ شجيراتِ الأحلامْ
ولتنفضْ عن عاتِقِها ظلَّ غُبارِ الأيَّامْ !
كي تحمينا ـ نحنُ الإخوة والأبناء ـ
من هذي الشَّمسِ الحارقةِ الصَّمَّاءْ
فالحلم الذي يتبنّاه الشاعر ويدعو إليه، ليس ذلك الحلم / الغيبوبة والوهم، الذي يسقي الحالمين منقوع الكلمات المعسولة، ويبيع لهم وهم فجر قادم لن يأتي في الحقيقة أبداً، وإنما هو الحلم / اليقظة، الحلم / الثورة، الحلم / الشجيرات الفتية، التي تنفض عن عاتقها كل رماد الغيبوبة، وتبسط ظلَّها العظيم لتحمي الأخوة والأبناء من هجير الشمس الحارقة الصماء.
وحتى في إطار هذا الحلم المناضل العام الذي يدعو إليه الشاعر، والذي يجسده شعريا في هذه الشجيرات الفتية، لا يفوته أن يصور تميز حلمه بين هذه الأحلام عن طريق مفارقة تصويرية جزئية أخرى، يستغل فيها وعيه اللغوي المرهف، وإدراكه للفروق الدلالية والإيحائية بين الصيغ اللغوية المختلفة، حيث يستخدم للتعبير عن حلمه الخاص الصيغة المكبرة للشجرة، بينما يستخدم للتعبير عن الأحلام الأخرى الصيغة المصغرة "شجيرات"، وعلى حين ينحصر العطاء المأمول من هذه الشجيرات في مجرد الظل والحماية من الهجير، فإن شجرة حلمه تتجاوز هذا ـ فيما يُشبه أن يكون صوتاً داخليا ـ إلى عطاء أكثر سخاءً، فتملأ سمعه بالأنغام الصدّاحة، وتُحيل أيّامه إلى ربيع:
(هذي شجرةُ أحلامي
بينَ شُجيراتِ الواحَهْ
تقصدُها كلُّ عصافيرِ الوادي
تملأُ أُذني بالأنغامِ الصَّدَّاحَهْ
وحبيبةُ روحي تبدو في فَرَحٍ غامِرْ
وأنا أحيا أيَّامَ ربيعي)
وسيظل الحلم بهذا المفهوم الإيجابي الخلاق إطاراً عاما لرؤية الشاعر في هذه المجموعة، تتعانق في نطاقه الأبعاد المختلفة لهذه الرؤية وتتفاعل وتتصارع، ومن خلال تعانقها وتصارعها ينمو العالم الشعري الغني عبر القصائد.
وفي إطار هذا الحلم يتصارع الأمل المزدهر مع كل عوامل الإحباط التي تُحيط به وتترصّده، هذه العوامل التي لا تغيب لحظة عن وعي الشاعر، والتي يكتسب حلم الشاعر كل قيمته الإيجابية من وعيه بها. وقد تلون هذه العوامل رؤيا الشاعر بظلال يأس كابية، ولكنه لا يلبث أن يبدد هذه الظلال بوهج حلمه الثائر، فهو حين يرى ـ في مقطع "الكلمات المفقودة" من قصيدة "شجرة الحلم" ذاتها ـ محبوبته الحلوة تتلفّت بين الجدران فاتنة غجرية، تتدحرج فوق تراب الخوف وأحجار الأحزان قمراً طفلاً، تكفهر رؤياه، وتربد بظلال يأس حزين:
يصعدُ في حلقي الشَّجَنُ فأمْضي
(في طُرقاتِ اليأْسِ وحيداً)
أبحثُ عنْ بارِقَةِ أَمانْ!
لكن حلمه المناضل لا يلبث ـ فيما يشبه مرة أخرى أن يكون صوتاً داخليا ـ أن يبدد ظلمات اليأس .. ويُرشد خُطاه إلى طريق الثورة:
(النَّارُ بأعراقي مُسْتَعِرَهْ
أوردتي الثلْجِيَّةُ صارتْ ورْدَهْ
أهدابُ الليلِ أراها تتفتَّحُ
.. عنْ أكمامِ الصُّبحِ المُمتدَّهْ)
والصراع بين الحلم وعوامل الإحباط ليس صراعاً مسطحاً، ينتهي دائماً نهاية سعيدة بانتصار رموز الأمل المضيئة على ظلال اليأس والقنوط، فقد تُحقق عوامل اليأس والإحباط انتصاراً مرحليا في بعض أبعاد الرؤية الشعرية في الديوان، بحيث تنتهي هذه القصيدة أو تلك من قصائد المجموعة، ولا تزال ظلال يأس قانط ترين على أفق الرؤيا لدى الشاعر، كما في قصيدة «متى تجيء المعجزة»، التي تنتهي وملامح تضرج وتبرم ضجر بطول الانتظار لتحقق الحلم والمعجزة، والصبر على فساد الواقع ورداءته تلون أفق الرؤيا:
فَسَدَ الحليبْ
وتقولُ لي :
"هذا أوانُ المعجزهْ"
قدْ ضِقتُ مثلَكَ بالأغاريدِ القديمةِ
والسُّعارْ
والليلُ طالَ .. الليْلُ طالْ
.. ومتى تجيء المعجزهْ ؟!
فلقدْ مللْنا الانتظارْ !
بل إن قصيدة "شجرة الحلم" ذاتها التي يحدد فيها الشاعر ملامح حلمه المناضل تنتهي بمقطع تغلب عليه ظلال اليأس والقنوط، متمثلة في ذلك الوعي الفادح الأليم بقوة عوامل الإحباط وعتوها. يجسد الشاعر هذا الوعي في مجموعة من الصور والرموز الشعرية البارعة: فذرات الطمي العالقة بحبات الرمل تصرخ باحثة عن جذر أخضر في الصحراء، وتتوق لقطرة ماء، وهجير الواقع القاسي الجهم لا يبسم للأحلام العجفاء، والأرض تغص بأشجار الكذب والزيف، وتُجهض أشجار الحلم، وتُشعِل في الجمع الغائب نار السكرة:
… والأُجراءْ
يبكونَ صباحَ مساءْ
والعرقُ الغامرُ أجسادَهم النَّاحِلَةَ السَّمراءْ
يحكي عن سادةِ "طِيبَهْ"
وقصورِهِم الشاهقةِ الشَّهباءْ
فطوبى .. طوبى للتُّعَساءْ!
ولكن هذا الوعي ذاته بقوة عوامل الإحباط، ومهما كانت درجة فداحته، هو الذي يُكسِب حلم الشاعر إيجابيته وفعاليته، ويميزه عن الأحلام السكرى البلهاء التي تُغمض عينيها عن جهامة الواقع، وما يغص به من معوقات للأحلام، وتحاول أن تبني فوق هذا الواقع قصوراً من وهم، فأي حلم يضع في اعتباره قوة هذه العوامل التي تُجهض أشجار الحلم لا بد أن يكون حلماً راسخاً واثقاً مناضلاً، لأنه يُدرك جهامة الواقع بوعي، ويُصر مع ذلك على أن يتجاوزها، ويُبددها، ويبني على أنقاضها في ثقة أركان عالم أكثر وضاءةً وعدلاً، وهو في نفس الوقت الذي يدرك مدى قسوة المعركة التي عليه أن يخوضها بكل هذا الوضوح والوعي، يُدرك بنفس الدرجة من اليقين مدى مضاءة أسلحته ونفاذها، وليس هذا الوعي بقسوة المعركة، وعتو العقبات، وطول المسيرة، إلا سلاحاً من أمضى الأسلحة، كما أن اليقين الواثق من النصر ـ المبني على تمثل واع لأبعاد الصراع ـ سلاح آخر، وأخيراً فإن اليقين من عدالة هذا الحلم ونبالته، سلاح ثالث، يجعل من أي تضحية تُبذل في سبيله ملمحاً من ملامح النصر، حتى لو لم تُحقق عائداً ملموساً.
في مقطع «الوجه الأخضر» من قصيدة "سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق"، يكشف الشاعر عن وعيه العميق بأبعاد الصراع، ومعرفته بأسراره مما يبعث فيه يقيناً واثقاً من النصر والوصول إلى الحلم؛ فذات الوجه الأخضر تستبطئ تحقق الحلم، ولا ترى حولها إلا عوامل الإحباط ومظاهر الجدب، ولكن الشاعر يُدرك مواقيت كل شيء، ويعرف أسرار الخصب وموعده، نفس معرفته بأسرار الجدب وبواعثه:
أعرِفُ أَنَّكِ مُتَعَجِّلةٌ ...
سوفَ يقولُ الوجهُ الأخضرُ:
إنَّ الخيْرَ بعيدٌ
إنَّ النَّهرَ ضنينٌ
فانْتظريني..
إنِّي أعرفُ كيْفَ يغيضُ النَّهرُ …،
وكيفَ يفيضْ
وانطلاقاً من هذا اليقين الراسخ، فإن الشاعر يدعو ذات الوجه الأخضر أن تبدأ معه الرحلة المنتصرة إلى الحلم، إلى المدن المفتوحة، فقد أعدّ الشاعر للرحلة ـ رغم طولها ومشقتها ـ كل عدتها:
عودي .. إنِّي أصدُقُكِ الحبَّ، وأعرِفُ
أنَّ الشَّوْطَ طويلٌ
عودي .. كيْ نبدَأَ رحلتَنا نحوَ المُدُنِ المفتوحةِ
عودي ..إنِّي أنتظِرُكِ قُدَّامَ البيْتِ،
وقدْ أسرجْتُ حِصاني
وإذا كان "الحلم" هو الإطار العام لرؤية الشاعر
… والعصفورُ يُحاورُني:
ـ خنتَ صباحاً ، وتراجعَ خَطْوُكَ!
ـ لم أتراجعْ
ـ لا تُنْكِرْ …
ـ لا أُنْكِرُ .. لكنَّ الفَرَسَ هزيلْ !
*صمَتَ العصفورُ ، أدارَ الوجْهَ وقالَ بصوْتِ اليائسِ : هذا أنتَ تُجيدُ الكلماتِ المحفوظةَ ! وانطلقَ العصفورُ يُغَرِّدُ لجزيرتِهِ الواعدِةِ ، ويحلمُ حلماً يعصِفُ بالوجْدانْ
ولم يضع هذا الحوار العاصف بين شطري ذات الشاعر هباء، حيث لم يلبث الشطران أن توحَّدا في كل واحد هو «الشاعر الثائر»، أو العصفور الذي يُدحرج كرة النار فوق أودية الأحزان: «مع نسماتِ الفجرِ أراني أولدُ ثانيةً في تغريدةِ عصفورٍ دحْرجَ كرةَ النّارِ على أوديةِ الأحزانْ». وليس هذا التوحد سوى تجسد من تجسدات «الحلم المناضل» الذي يتجسّد في شتى الصور والأشكال الشعرية.
(يتبع)
</i>