( 20 ) قراءة نقدية في ديوان «حدائق الصوت»
للشاعر حسين علي محمد
بقلم: عبد الرحمن شلش
............................
يطرح الشعر العربي المعاصر أسئلته النابعة من رؤية المشهد العربي الراهن، والمعبرة عنه .. فتتوازى وتتقاطع ـ في الوقت نفسه ـ مع أسئلة الواقع الثقافي لدينا، بإشكالياته وقضاياه وتحدياته.
وتبدو رحلة الشاعر حسين علي محمد ـ ولمّا تزل ـ سفراً مديداً بين المكان والزمان، بين الفعل ورد الفعل، بين السهم والوتر، بين المد والجزر.
إنها رحلة غوص في أعماق الإنسان، والمكان، والتراث، واللغة، بحثاً عن الجميل، وتنقيباً عن الكوامن واللآلئ، وكشفاً عن أسرار الكلمة المموسقة، والمتوهجة بإشراقة الأمل، والمعبرة عن نبض القلب الخافق بعشق كبير.
هذه الرحلة التي بدأت في مصر قبل أكثر من ربع قرن بشعر العامية، ثم لم يلبث الشاعر أن هجَرَه ـ بلا عودة ـ إلى الشعر الفصيح، فن العربية الأول الذي برَعَ فيه فرسان كثيرون، قدامى ومحدثون ومعاصرون، وكأنهم في سباق للمسافات الطويلة، كان الفوز فيه للأقدر، والأوفر عطاءً، وإثراءً، وتأصيلاً، وتجديداً، وتمايُزاً، ليُسهم في دفع مسيرة الشعر العربي إلى الأمام، نحو مسارات جديدة، ونحو منطلقات يتداخل فيها الخاص بالعام، والمحلِّي بالعربي، والصوتي بالمرئي، والوعي باللاوعْي.
فشاعرنا يعزف ألحانه منذ حقبة السبعينيات الميلادية، مع مجايليه في الوطن العربي، منهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد فهمي سند، وأحمد سويلم، وأحمد عنتر مصطفى، ومصطفى النجار، وعصام ترشحاني، وخليفة الوقيَّان، وسعاد الصبّاح، وسعد الحميدين، وغيرهم كثير.
أصدر حسين علي محمد المجموعات الشعرية التالية: "السقوط في الليل"،(1977م)، و"حوار الأبعاد الثلاثة(مشترك)" (1977م)، و"ثلاثة وجوه على حوائط المدينة" (1979م)، و"شجرة الحلم" (1980م)، و"الحلم والأسوار" (1984م)، و"الرحيل على جواد النار" (1985م)، و"حدائق الصوت" (1993م)، و"مذكرات فيل مغرور (شعر قصصي للأطفال)" (1993م).
وله مسرحيتان شعريتان، هما: "الرجل الذي قال"(1983م)، و"الباحث عن النور"(1985م).
كما أصدر الدراسات الأدبية التالية: "عوض قشطة: حياته وشعره"(1976م)، و"القرآن .. ونظرية الفن" (1979م)، و"دراسات معاصرة في المسرح الشعري" (1980م)، و"البطل في المسرح الشعري المعاصر" (1991م)، و"شعر محمد العلائي: جمعا ودراسة" (1993م).
وواضح من هذا العرض تنوع عطاء الشاعر حسين علي محمد بين الشعر والمسرحية والدراسات الأدبية، سواء في موضوع القرآن ونظرية الفن، أو المسرح الشعري، أو تناول بعض الشعراء: حياتهم وأشعارهم.
وفي قراءتنا هذه في مجموعته الشعرية "حدائق الصوت" بوصفها أحدث ما ظهر للشاعر من أعمال شعرية سنركز على أبرز الملامح أو المحاور في تجربة الشاعر من خلال رؤاه وأدواته، فضلا على رصد السمات المشتركة التي تتسم بها تجربته.
الاغتراب النفسي والمكاني
لعل محور الوطن في تجربة حسين علي محمد الشعرية يُشكِّل المحور الرئيس في رؤاه؛ فالوطن يعني: العشق والجذور، الأرض والإنسان، والانتماء والكرامة، والحق في الحياة الحرة، والأزمنة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فالوطن: هو الحياة، والهواء الطليق، وحضن الأمن، والشموخ والأمل، ولو سافر الشاعر بعيداً عن وطنه رآه أكثر وأقترب منه أكثر، فالغربة لا تُباعد بين الشاعر ووطنه، بل تجعله دوما قريباً منه، يحيا في ذاكرته وفي مخيلته وفي قلبه، لكن ما أقسى إحساس الإنسان بأنه يعيش غريباً في وطنه وبين أهله، إنه أشد أنواع الإحساس بالغربة النفسية والمكانية.
ويبدو شاعرنا واقعا في أتون هذا الإحساس مكتوياً بنار الغربة، وهو داخل وطنه، وهو مسافر بعيداً عنه في بغداد، وفي صنعاء، وفي الرياض. فالعشق يُحرِّك أوتار القلب، فتتَفجَّر ينابيع الرؤى وأشجان النفس، وينصهر الشعر في بوتقة الحزن والخيال المسافر عبر الزمان والمكان.
يتحدث الشاعر على لسان المتنبي في قصيدة "سطور من مواجيد أبي الطيب المتنبي" فاتحاً نافذةً يُطلُّ منها على الحاضر:
أفتحُ شبّاكي قلقاً
أخشى مجهولاً
يأتي
(هلْ يقتلُني كافورُ الليلةَ ؟)
أنهضُ مختنِقاً
أسترجعُ ذكرى الأيامَ الخضراءِ
وأفتحُ بابي للقمرِ الصيْفيِّ النشوانِ
فيُغمِضُ عينيْهِ ، ويزْورُّ يميناً عنِّي
وأظلُّ وحيداً
فوقَ السطحِ شريداً
وأٌقلِّبُ في ذاكرتي صفْحاتِ الرحلةِ :
أحببْتُ ديارَكِ يا مصرُ ، ونيلَكِ
والشعبَ الطيِّبَ ،
والشمسَ ،
وظلَّ الأيامِ المعطاءِ
وهذا كافورُ الخيْرِ يُحاورُني
يُغريني بالدّارِ الفخْمةِ
والراقصةِ المكتنزةِ
لكنِّي لا أُبصِرُ غيرَ الخوْفِ بداري
يجلسُ ، وأُحاورُهُ :
هلْ يأتي من أعماقِ القطْرِ الطيِّبِ
منْ ينشُرُ فوقَ الوجْهِ الخائفِ
ثوبَ الأمْنِ
ومنْ يُرجِعُ لي صفْوَ الأيامِ الأولى ؟
وفي هذا المقطع يستحضر الشاعر شخصية المتنبي كي تُصبح قناعاً، يُسقط من خلاله ما يريد أن يقوله ليس عن عصر المتنبي، بل عصرنا الراهن، ويأتي ذلك عبر عملية إسقاط واعية على حاضر الوطن، من أجل أن يعود الأمان والأمن، ويتراجع الخوف.
ويعبر الشاعر عن مناخ النكسة والهزيمة عام 1967م حيث تكسّرت النصال على النصال في رباعية "نكسة":
كانَ يوْماً ليسَ كالأيَّـــامِ ، إنِّي .:. قدْ خَشِيتُ الرِّيحَ ، والخوْفُ لجامْ
لا تلُمْني قدْ مَضَتْ في الفجْرِ سُفْـني .:. ثُمَّ عـادتْ لي مع الظُّهْرِ حُطـامْ
ويسجل الشاعر نقوشاً على ذراع الوطن في قصيدته "وشم على ذراع مصر":
أكتبُ عنكِ وعنْ أبنائكْ
كلِّ الفقراءِ الشرفاءْ
منْ زرعوا أرضَكِ،
وامتزجوا في ذرّاتِ ترابكْ
منْ ذابوا عشقاً فيكْ
منْ عرفوا طعمَ العرقِ ـ الملحْ
أكتبُ عنهمْ
فأنا أعرفهمْ فرْداً .. فردا
لمْ أخلعْ جذري منْ تربتهمْ
في البرْدِ القارسِ لا أتركُهمْ
في الصيفِ القائظِ أبقى معهمْ
وعلى ما في هذه الكلمات من ميل إلى النثرية فهي تُعبر عن إحساس صادق بالانتماء إلى الوطن: الأرض والناس، ويخاطب الشاعر واحداً من رفقة دربه في قصيدته "الحلم المسافر .. أو صابر عبد الدايم" حيث يتداخل فيها الخاص بالعام:
كانَ العالمُ مبتعِداً فتلاقيْنا ، لنُفجِّرَ في الأعماقِ قنابلَ حيْرتِنا ، فجَّرْنا الشعرَ منابعَ ضوْءٍ فتهامستِ الأنداءُ على الأعوادِ ، قطفْنا أشعارَ جزائرِنا المهجورةِ ، غامرْنا رغمَ القيْظِ / الأنواءِ / جفافِ الزمنِ / الخوْفِ .. كشفْنا سرَّ النَّبْضْ
وهذه الرؤية نثرية مثل سابقتها، لكنها تعبر عن المناخ أو الجو الخاص والعام الذي عاشه الشاعر وصديقه في الثمانينيات (1983م).
تداخل الخاص بالعام
وفي إطار تداخل الخاص بالعام ـ بشكل عام ـ يبدو الشاعر مؤرقا بهموم الناس الطيبين الشرفاء وأوجاعهم ومعاناتهم، فهو لا يكف عن التغني بعشق الوطن وحريته وأمنه وأمانه، كي يسمو شامخاً في علياء المجد والقوة في عصر لا يعترف إلا بالأقوياء.
وتتسع الرؤية في تجربة حسين علي محمد شاملة الوطن الكبير، بعطاء أبنائه المخلصين، وسعيهم الحثيث لاستعادة مجد الآباء والأجداد، وعبور مرحلة الانكسار والانقسام، فالشاعر في كثير من قصائد المجموعة يهمس مستصرخاً بني قومه حتى يفيقوا من سباتهم العميق، ويستردوا موقعهم ومكانهم على خريطة العالم، وتحت وهج الشمس، شمس الحقيقة، وهو يعبر عن ذلك في قصيدة "من أوراد الفتح"، ومنها قوله:
.. قدْ أَشرقتِ الشمسُ
صباحاً
منْ مكَّهْ
فلماذا يرْحلُ هذا العُصفورُ
إلى شُرفةَ قيْصَرْ
ومنازلِ كسْرى
يُلقي بالنَّفسِ القَلِقَهْ
في جوْفِ الشَّبَكَهْ ؟!
ويرسم الشاعر صورة لإنسان هذا الوطن في قصيدته "فواصل من سورة الموت" معبِّراً في أحد مقاطعها عن الخروج إلى التيه، ثم نرى الشاعر في قصيدته "من إشراقات عمرو بن العاص .. أو التحديق في وجه الشمس" يستدعي الماضي كي يُحاكمَ زمانَنا:
تُوشوشُني في المساءِ العنادلُ
إذْ أمتطي في براريكِ صهوةَ هذا الجوادِ المُخاتلِ
أركضٌ في صحَراءِ العيونْ
وأبحثُ عنْ إخوةِ الصَّيْدِ
إذْ أبعدتْهمْ أيادي المنونْ
ـ تقدَّمْ فقدْ آذنَ البحرُ بالوصْلِ
مدّتْ خيولُ تهامةَ أعناقَها ،
وتمطّتْ
بجوفِ الصحارى رجالٌ يسيمونَ
ينطلقونَ
يغنونَ
فكيفَ نصيدُ الصقورَ ونحنُ نُصادْ ؟
وتشتعلُ النارُ تحتَ الرّمادْ
وخوفي محيطٌ من الرّملِ
ظلِّي دوائرُ حولي
( أتروي الرمالُ عيوناً
من السَّيْلِ فرَّتْ
أتطوي الضلوعُ جبالاً
بها الحسَراتُ استبدَّتْ ؟)
ويطرح الشاعر رؤية أخرى في قصيدته "القناص تصطاده طريدته"، وقد كتبها في نوفمبر 1990م، معبراً فيها عن الغزو الصّدّامي الغاشم للكويت، وممّا جاء فيها:
مازالَ مرتحلاً بطائفِهِ
يُطاردُ ظبيةً تختالُ في أَلَقِ القصيدهْ
*
مدَّتْ ضفائرَها إليْهِ عشيَّةً
فارتاعَ في فَرَقٍ
ليُغلِقَ بابَهُ
ويفِرُّ منْ شَرَكِ الطّريدهْ
*
مدَّتْ شرارتها المباغتةَ الجريئةَ
فاستطارَ اللبُّ ،
وانكفأتْ تُجاذبُهُ
مرايا الشوقِ
تستدْني خُطاهُ إلى حْماها
منْ يُداجيها
بطلْقاتٍ
مُراوِغةٍ
شهيدهْ ؟!
وهكذا يضع الشاعر يده على جروح وطنه الكبير وأمته العربية، موقناً أنَّ ما حدث هو ابتلاء حلّ بالعرب، ومؤمناً أنَّ الفجر آت حتى ولو طال ليل الفرقة والانقسام.
من الملاحظ أن قراءة قصائد هذه المجموعة تقودنا إلى حدائق الكلمة الشعرية حيث يهمس صوت الشاعر في مواجهة لحظات الصمت والخوف والعتمة. وهنا تتجاور الصورة مع الصوت في لوحة تجمع بين البصري والمسموع أو الصوتي، وتشي بجمالية الرؤية والتعبير.
وإذا كان الشاعر يبدو معانياً الاغتراب النفسي والمكاني، فمرد ذلك إلى إحساسه الرهيف بالغربة التي يُعانيها الإنسان العربي المعاصر، وإن بدا الشاعر متمرداً على هذا الاغتراب، رافضاً للغربة.
الحنين إلى الماضي
ويعكس تعبير الشاعر عن الماضي العربي والإسلامي صوراً لحنينه إلى ماضينا، تعبر عن نزعة رومانسية في تجربته أو عالمه الشعري. ولعل ميل الشاعر إلى استخدام الرموز التاريخية، يدل على الرغبة في رفد رؤاه برموز مستلهمة من تاريخنا، ترد في النص الشعري بشكل لا يُكسيها غموضاً، بل تُسهم في تعميق الرؤية. ومن أمثلة ذلك رموز قيصر، كسرى، التيه، الفتح، عدن، البقرات السبع، عمرو بن العاص. وفي بعض قصائد الشاعر صوتان يتحاوران، مثل صوت المتنبي وصوت الشاعر، كما في قصيدة "سطور من مواجيد أبي الطيب المتنبي"، ونلمس في قصائد أخرى حسا دراميا، وميلا إلى التركيز على المفارقات سواء في رسم الشخصيات أو التعبير عن المواقف المتباينة، ناهيك عن العناية بالشعر المسرحي، مثلما في قصيدته "أوراد الفتح".
إنها مفردات تتناثر في نصوصه الشعرية وقد لا تكون لها أهمية بحد ذاتها، ولكن عندما توجد في سياق بنية النص تزيد الرؤية إلفاً ودلالة. فالشاعر يحمل في قلبه هموماً موجعةً؛ هموم الذات وهموم الآخرين من أبناء وطنه وأمته، وهو بذلك لا ينفصل عن المشهد العربي الراهن، ولا عن أحداث عصره وقضاياه، بل يتفاعل معها معايشاً لها، ومعبرا عن موقفه منها، برؤى تثير سؤال الشعر.
غير أن ثمة قصائد نجد فيها الفكر طاغياً إلى حد كبير على الشعر، كما في قصيدته "وشم على ذراع مصر" لأن الشاعر فيما يبدو، يصوغ رؤياه وهو واقع تحت تأثير الذهنية، التي جعلت النصَّ بعيداً عن التحليق في آفاق العاطفة، ممّا أدّى إلى طغيان الجانب الذهني على الجانب العاطفي، فجاء هذا النص أقرب إلى المباشرة، ويميل إلى التقريرية، وكاد يخلو من روح الشعر وتجلياته.
الرؤية وعمق الصورة
وبطبيعة الحال فإن الذهنية تُفقِد الشعر خصوصيته ومقوماته. وإن مالت بعض نصوص الشاعر إلى إعمال الذهن، فإن معظم نصوصه تميَّزت بشعرية التعبير، وعمق الرؤية النابعة من عمق الصورة ومعطياتها. إننا نراه شاعراً يمتلكُ أدواته، مهيمناً على المفردة التي تومئ وتُشير .. مثلما يمتلك إحساساً رهيفاً في تحديد المكان الذي يتعامل معه بحنوٍّ، مطلا على عالم الحلم وعالم الواقع.
ولدى الشاعر حضور خاص في رسم صورة جديدة تعبِّر عن رؤيته للواقع، بشكل ربما كان غير مألوف من قبل، إذ ينتقي كلماته ومفرداته بعناية، ليُشكِّل منها عزفاً شعريا، يُسهم في إثراء رؤاه، كما نجد حضوراً للتضاد في الصور والمعاني لدى الشاعر، وهنا تكمن مقدرته وشاعريته، فهو شاعر مؤرَّقٌ بالوجع الإنساني؛ وجع الناس الذين يُحسُّ بوجودهم، معبراً عن معاناتهم وهمومهم.
ويؤكد الشاعر بهذا الإحساس شاعرية ملتزمة بقضايا المُتعَبين، تُدافع عن حقهم في الحياة الحرة الكريمة، كي يعيشوا في ظل الأمان المفقود.
وعلى ما في كثير من أشعاره من مسحة حزن مقيم ونغمة تشاؤم، فإن شعره بصفة عامة يفتح أبواباً أو آفاقاً على التفاؤل وأسئلة الشعر.
.................................................. ...
*نشرت بعنوان «قراءة في المجموعة الشعرية «حدائق الصوت» للشاعر حسين علي محمد»، في مجلة «الحرس الوطني»، الرياض 1994م.
</i>