( 17 ) وجوه الحرية الخضراء
قراءة في ملحمة عنترة بن شداد المصري
بقلم: د. إبراهيم بن محمد الشتوي
........................................
(الحلم والأسوار) مجموعة شعرية للشاعر الدكتور حسين علي محمد، تأتي هذه المجموعة بعد عدد من المجموعات، وهو ما يعني أن الشاعر قد استفاد في هذه التجربة من تجارب سابقة، وأن آلامه، وآماله التي كانت توقد مرجل الشعر لديه بعيدة الغور في نفسه شديدة الأثر فيه، ومن هنا فالداء قد استحكم ولا أمل في الشفاء منه وإنما التوصيف والمداواة بالشعر، فهو له وجاء.
استعار الشاعر عنوان المجموعة من قصيدة أخرى ليست موضوع القراءة، والشاعر حين انتخب هذا العنوان كان يدرك أنه يمثل نبضاً يشيع في أوردة المجموعة كلها، فيبعث الحياة في الجسد، ويحرك الدم في العروق، ولذا فهو يتصل بالقصيدة اتصالا كبيراً.
القصيدة موضوع القراءة (تضاريس الفقد) وبالرغم من أن هذا العنوان دقيق ودال فإن الشاعر قد اتخذ عنواناً بديلا، أو مصاحباً (خمسة مقاطع من ملحمة عنترة)، وهو هنا يحيل مباشرة إلى الملحمة المشهورة التي امتزج فيها الحب بالفروسية، مع السعي للحرية. إنها قضية واحدة متشابكة: الحب قرار، وإرادة واختيار ولا يكون إلا للحر، وهو أيضاً من صفات الفارس النبيل، ومن هنا فإن هذه القصيدة هي مقاطع من الملحمة التي تتشابك بها هذه المكونات الثلاثة، وتتداخل بشكل جدلي، لا ندري أين نقطة البداية فيها وأين النهاية، فهي تصلح لأن تكون البداية وتصلح أن تكون النهاية. وقد ظلت هذه الملحمة تشتمل على الألم اللانهائي المنبعث من السؤال المفتوح كجرح ينز بالصديد لا يكاد يندمل حتى يعي مرة أخرى: هل نال عنترة حريته وأدرك مراده، أم ظل الحلم يغيب كلما حاول أن يقترب منه، ويبتعد كلما أراد أن يدنو منه. المقولة: (كر يا عنتر وأنت حر) مشهورة، لكن المؤرخين لا يتفقون على مسألة زواج عنترة من حبيبته عبلة، وهو ما يعني في الوقت نفسه أن الحرية لم تنفعه، ولم تحقق ما كان يريدها من أجله (فهي حرية مع وقف التنفيذ)، ومن هنا فمأساة العبد لم تنته، والحرية لم تكتمل، فما هو إلا مدافع عن القبيلة، وحرماتها في وقت الشدة، وعبد يرعى البهم. هو في العبيد وعليه ما على الأحرار، وهنا ظلت صرخة عنترة تدوي في عقبه من الشعراء.
في هذا النص لا تختلف القضية ولا المأساة عن تلك المأساة، ومن هنا جاء التخفي وراء دال له فضاءاته التي يحيل إليها، الأمر الذي يكشف مقدار الأسى والحزن الذي تحمله القصيدة، وتسعى للإفصاح عنه في مقاطعها الخمسة. هذه المقاطع تأخذ في ترتيبها نوعاً من الترتيب الزمني المماثل لعمر الإنسان: الطفولة، الشباب، الكهولة، مما ألقى بظلاله على المعاني المطروحة والمتناولة في القصيدة، وعلى موقف الشاعر / عنترة.
هنا تواشج كبير بين مكونات النص، وثراء كبير فيما يريد أن يقوله، تواشج بين المقاطع بعضها ببعض، وتواشج بين هذه الملحمة، والملحمة الأصل، وتواشج بين اللغة الموظفة، والصور المستخدمة والهم الذي يطبخ في كبد الناص، وأخيراً تواشج بين القصيدة وما آلت إليه وعنوان المجموعة.
المقطع الأول عنترة مع محبوبته / عبلة يشغلهم ما يشغل الأطفال: اللعب ليس غير، والمفردات التي تعبر في النص عن هذا اللعب لا تكشف أية نظرة حب أو إعجاب أو بدايتهما لدى عبلة تجاه هذا العبد الأفطس، وكل ما نجده قضاء وقت جميل في العبث، واكتشاف هذا المخلوق الغريب الذي يختلف عن شباب القبيلة (تحلم أن تغلبني...تقرص أطرافي) الذي لا يلبث أن ينتهي بانتهاء وقته، وهذا بخلاف ما يجده عنترة حيث يمتد هذا الوقت إلى ما بعد الفراق ليتحول أفكاراً تصيبه بالسهد تبعثها ذكريات أحاديثها الجميلة، وصورة أصابعها الرخصة التي لا تشبه أصابعه التي قرحها شد الحبل وجر الدلاء.
يبدأ المقطع الثاني وقد استحكم الحب من قلب العبد الأفطس أو الذباب الأزرق كما سماه سيده، وبدأت مرحلة جديدة من تاريخ الوطن / القبيلة والعلاقة بينهما، طبول الحرب تدق من حولهما، هي في نومتها الرعناء لا تبالي به، وهو يطارح السوداء ذات العينين الخضراوين الحب، السوداء هي المقدور عليها، وعينا حبيبته المشتهاة ويقتات الحلم بدحر العدو ونيل الجائزة الكبرى.
أصبح العبد الأفطس فارس القبيلة في المقطع الثالث، دحر العدو، ونافح عن شرف القبيلة، وهللت أمه بابنها الفحل، وبدأت رحلة البحث عن المرأة التي تليق به، لم تصبح المحبوبة بعيدة المنال، لكن القضية لم تنته، فأمه تحول بينه وبين ما يشتهي، فهي لا تليق بالفارس، هي غانية تعبث..تبحث عن الشهرة، والمال، تريد أن تحصد كفاح الآخرين، لا تستحقه، ولا تستحق حبه، وكفاحه لتحقيق مراده ، فهي التي لم تأبه به زمن الطفولة، ولا زمن الحرب والطعان حين كانت في نومتها الرعناء تكشف عن ساقيها غير مبالية في أن يتعورها عبد الحلاب والصر.
في المقطع الرابع يصبح العبد الأفطس حلم الفتيات، يطمحن في الاقتران به، وما كان يحلم به تحقق، ولن يعود ليراوده آناء الليل وأطراف النهار، فعبلة تتشبث بفارسها، تلح عليه للزواج بها، وتسوق الحجج، ولكنه لم يعد الحالم الأول، ولا الفقير الكسير الذي يحلم بمعاشرة بنات الأشراف الساكنات في العمق, أصبح عنترة الفوارس المنافح عن القبيلة. والعزة والكرامة هي قضيته، والوطن ليس وطن العسكر، فما عاد حلم الحرية يراوده لأجل أن يحصل على عبلة، أصبحت الحرية هدفا مستقلا، معنى قائما بذاته تبذل لأجلها الروح ويُهجَر الحبيب، فما بقي من الأول شيء كبير، ولا عادت عبلة تلهب أشواقه، ولا رماحها في صدره أشد من رماح الأعداء.
لكنه برغم ذلك كله لم ينسها، وصورتها تراوده في المقطع الخامس قصيدة حب بيضاء، أو تفاحة تقطر عطراً، فرغم بعده، وصده لا يزال يتذكر صورتها الجميلة الأولى، يتذكر موقفها في زمن الذل، فلم تكن تسقيه الملح, أو تستأسد عليه، ولا يزال يحسها في الأشياء من حوله، يشعر بألمها ويأسى لها، ومن هنا فهو لم يتحرر منها، ومن الحلم بها، ما زال في أسرها، والمعاني التي انحفرت في داخله التي كانت تدل عليها فلم يقض عليها في داخله، ويتغلب عليها حتى ولو قتل الفرسان ومثل بالأجساد، فهو مقيد أسير فيها وفي المعاني التي تحيل إليها: السيادة، وزمن العبودية الأولى، فهاهو يقع في العبودية من جديد ومن هنا فحريته مؤجلة، وتحرره ناقص خديج.
ومن هنا فإن الشاعر / العبد / عنترة يبحث عن طرق أخرى يحصل فيها على حريته، أو يتحرر عن طريقها، ويخلص من ألمه، وذلك أن يمارس الحرية، في حياته، وأن يرفع صوته بمأساته، ويعلنها أمام الناس، ويقدمها، ويعبر عنها كما يحس بها، وكما ينبغي أن يحس بها الآخرون، وهنا يكون خرج من ألمه، ومارس الحرية بفعله حين عبر عن رأيه بحرية وصدق.
وهو ما حققه هذا النص حين حطم القيد / السور المحيط بالناص، وتجاوزه، ليبلغ الحلم، بالتعبير عنه، وفي التعبير عنه بحيوية كبيرة تحقيق له، لأن التعبير عن النفس والقضية وإيصالها للآخرين جزء من الحلم. وفي هذه النقطة بالذات تتم التشاكل بين عنترة العبسي، وعنترة المصري فكلاهما يشعران بالألم من قيد العبودية والتسلط، وهما معاً يحلمان بتحقيق حريتهما على أكثر من مستوى. هذه الحرية لا تتحقق إلا عن طريق الشعر / اللغة، حيث يتخذانها طريقاً للتعبير عن آرائهما وما يحسان به، ومن هنا فهما يمارسان حريتهما بالتعبير، وهنا ـ بالتحديد ـ يحسان بحريتهما المفقودة.
الرياض 5/3/1426هـ.
...................................
*الجزيرة الثقافية: ملحق «الجزيرة»، العدد (105)، غرة ربيع الآخر 1426هـ- 9 مايو 2005م.
</i>