(14 ) «الشجن» ملاحظةً وشرحاً في ديوان
«النائي ينفجر بوحاً» لحسين علي محمد

بقلم: بـدر بـــــــــــديـر
..........................

هذا الديوان الجديد للشاعر حسين علي محمد نافذة واسعة نطل منها على عالم هذا الشاعر المتعدد السمات والاتجاهات، كما لاحظ ذلك النقاد الذين تناولوا دواوينه السابقة بالنظر والتحليل، والذين تناولوا هذا الديوان الجديد بالدراسة السريعة، ومنهم الدكتور أحمد زلط الذي ألحقت دراسته بآخر هذا الديوان، وضَمّنها حديثه عن الشاعر مؤسس سلسلة "أصوات معاصرة"، مع بعض أصدقائه المعاصرين، كما ضمّنها نظرته التحليلية لقصائد هذا الديوان، وجعل عنوانها "أبعاد التجربة الإنسانية في ديوان النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة".
ولقد كان لقرب الناقد الدكتور أحمد زلط من الشاعر أثر واضح في فهمه لصاحبه، وفك بعض رموزه، والوقوف على أسراره التعبيرية ومذهبه الفني. وهذا أسلوب معروف في النقد الأدبي منذ القدم؛ فكلما كان الناقد على صلة بظروف المبدع الحياتية، وأطوار نموه اجتماعيا وثقافيا كان هذا الناقد أقدر على تقديم التحليل النقدي الأنسب لإبداع الشاعر.
ورغم أني قريب أيضاً إلى الشاعر موطناً وصداقة وصحبة إلا أني سأعتمد في رصدي لسمة وجدانية وحيدة تبدو واضحة في هذا الديوان على التعبير الشعري المجرد فقط، وهي سمة التعبير الشجني في قصائد هذا الديوان.
ومنذ البداية يبدو الشجن عنصراً شعوريا أساسيا في أكثر القصائد، وحتى في العنوان، فكلمات العنوان الثلاث تشع بشدة هذا الإحساس بالشجن، فالنائي الذي يُفارق أسرته زوجةً وأولاداً وأحباباً وأصحاباً، ماذا تتوقّع أن يكون لون الشعور الذي تفيض به نفسه؟؟
هذا النائي الذي تفصله عن رؤية أهله الشهور الطويلة الثقيلة كل عام. ورغم أنه في نهاية القرن العشرين يستطيع النائي أن يحدث أحبابه مهاتفة، ليرش بعض الندى على القلب المتحرق شوقاً، إلا أن برد الضمة إلى الصدر وروعة نظرة العين إلى العين، وبلاغة البسمة المعبرة عن الحب، وسكر اليد النائمة في أحضان اليد الأخرى .. كل ذلك شيء آخر غير مجرد سماع الصوت من خلل الهاتف.
وتأتي الكلمة الثانية "ينفجر لتُشير إلى الكم الهائل من المشاعر التي ضاق بها هذا القلب، وهل ينفجر القلب بمشاعره إلا إن كانت هذه المشاعر ساخنة متجددة؟
والبوح إفضاء وتعبير، لكن هذا الإفضاء والتعبير يأتي نتيجة انفجار شعوري. وهكذا يأتي عنوان الديوان معبراً ومبشراً بكم كبير من العواطف السيالة، والشجن الذي عرف طريقه إلى خارج النفس بعد مدة، يبدو أنها طالت من الحبس الإرادي لهذا الشجن.
ويظن كاتب هذه السطور أن حبس هذه المشاعر الممتزجة من الحزن والحنين لدى شاعرنا إنما كان بسبب الحياء الذي يرثه الرجل الشرقي من تراثه وتربيته، إلى الحد الذي يجعلنا لا نرى شيئاً يُذكر من الغزل بالزوجة، والتعبير عن حب صاحبها إيّاها، والحنين إلى لقياها، والتلميح إلى ملامح جمالها النفسي والجسدي، ورقة عشرتها، وحدبها، وحنانها. أقول: إن الحياء الذي لا يجعل الرجل الشرقي يعبر عن ذلك، حرمنا من ممارسة هذا اللون الغزلي من الشعر مبدعين ومتلقين على امتداد تاريخ الأدب العربي.
فلقد تغزل الشاعر العربي القديم بالمعشوقة، بل وصَرَّح بما لا يجوز التصريح به ـ كما نجد عند امرئ القيس ـ ولكن أن يبوح الشاعر بعاطفته تجاه زوجته وصاحبته وشريكته، فهذا الذي لم يحدث إلا حديثاً، عند القليلين الذين منهم كاتب هذه السطور.
ومن هنا كان هذا الحبس عند شاعرنا الذي أدّى إلى الانفجار بوحاً، ولكنه ـ وهذه ملاحظة هامة ـ لم يكن انفجاراً مدمراً، أو حتى انفجاراً حقيقيا يحمل سمات الثورة على الموروث، وإنما جاء "انفجاراً" فقط ـ من وجهة نظر صاحبه، الذي مازال مرتبطاً ومشدوداً إلى تراثه الحضاري الذي لا يُعطي للرجل حرية الحديث عن أسرته وشريكته، كما يتحدث الرجل الغربي. لكنه على كل حال محاولة للبوح في حدود العرف والقيم الشرقية، بنسبة محددة.
وتبدو صورة شاعرنا شَجِناً حتى في لحظات العطاء الدافئة، لنقرأ المقطع الثاني من قصيدة "فراشات زرقاء":
في صُبْحٍ آخَرْ
ـ وصهيلي في الآفاقِ يُردِّدُ أُغنيةَ البدْءِ
أراني قُدَّامَكِ
تتفتَّحُ أزْهارُكِ
ويُمازِجُني عِطْرُكِ
وتُفاجِئُني أطيارُكِ إذْ تخْرُجُ
في كَفَّيَّ لآلئَ خضْراءْ
تنفَتِحُ على القلْبِ
أماكِنَ
ومجالاتٍ
ورُؤى
تتجدَّدُ ، أوْتُخْصِبُ باللذَّةِ
(هذا النَّصُّ يُغايِرُ
ما ألِفتْهُ العيْنُ قديما
في آفاقِ الشُّعراءْ !)
...
فلماذا يقْبَعُ حسْنُكِ
في الطَّلَلِ الباكي
إيقاعاً
خاصًّا
يتَنَزَّى في شريانِ القلْبِ
صباحاً
ومساءْ!
فوْقَ رُخامِ الحسَدِ الجنَّةِ
فوقَ النَّهْدِ
وتحتَ الخَصْرِ
وحوْلَ العيْنيْنِ
وفَوْقَ جبينٍ
كاللؤلؤةِ يُضِيءُ
فتكْشِفُ عنْ ليلِ غوايَتِها الصَّبْوَةُ
وتُفَكِّكُ في الفجْرِ عناصِرَها
تتحرَّرُ في الصُّبحِ إشاراتُكِ
والأصْداءْ !!
في قمة صورة السعادة "يقْبَعُ حسْنُكِ في الطلل الباكي" يصرح الشاعر بين قوسين أنه يأتي في هذه القصيدة بما لم يتعوده الشعراء قديماً من البوح، فهو يكسر القاعدة، ويبوح في جرأة ـ من وجهة نظره ـ بما لم يتعود القارئ أن يجده في قصائد القدماء.
ومع ذلك فاللفظ عفيف رغم روعة الصورة "فوْقَ رُخامِ الحسَدِ الجنَّةِ، فوقَ النَّهْدِ، وتحتَ الخَصْرِ".
حتى عندما يُخاطب الوليدة فاطمة ابنة صديقه العظيم حلمي القاعود بهدف تهنئته، فإنه ـ أي شاعرنا ـ لا يُضيع الفرصة، فيعبر شجناً، ذاكراً همومه:
فهلْ يَسْعَدُ القلبُ حيناً
بإشراقةِ الموْجِ .. وهوَ رهينُ القَلَقْ؟

وقولي لعمِّكِ: يا كمْ تعِبْتَ منَ السُّهْدِ
.. والمَشْيِ في المُنتصَفْ
وفي قصيدة "عرس أمينة" نراه في لحظات السعادة التي تعلن فيها أمينة (وأظنها الأم) عن فرحتها، وتطلب من البنات أن يزغردن لأن حسيناً قد نجح، حتى في هذه اللحظات السعيدة يختار حسين علي محمد أن يلتقط الصورة النقيضة، فعلي (وأظنه الوالد) تلمع عيناه بالدموع، وتصرخ النساء معلنات عن موت أمينة!:
زنابِقُ الربيعِ تحتضرْ
والسيِّدُ الكبيرُ ..
أُبصرُ الدُّموعَ في عينيْهِ تنْفَجِرْ
.. وتصرُخُ النِّساءُ :
يا أمينَهْ !
يا دُرَّةً مكنونَهْ
إلى آخر الصورة التي يتذكرها الشاعر الذي آثر أن يضع الفرحة والسعادة، والبكاء والحزن لقطتين متجاورتين متضادتين، تبرز كل منهما الأخرى في موكب الحياة العجيب.
*
هذا هو الشجن حزناً ممتزجاً بالحنين في أكثر قصائد هذا الديوان، فما بالنا بالرثاء الذي لا يحتاج القارئ إلى جهد يذكر في اكتشافه أيضاً، إلى جوار اللقطات السعيدة؛ فبضدها تتميّز الأشياء.
فعبد الله السيد شرف الذي كان يقف مفجراً شعره الجميل الأخضر، وحوله الأصحاب يحلمون .. قد غاب إلى الأبد، صورة سردية خبرية بسيطة، ومن بساطتها جاءت عبقريتها:
ما عادَ عبدُ اللهِ غاضِبا
من الغزالةِ الشقراءِ فوقَ العُشْبْ
وقُرْصُ شمسِهِ البعيدْ
يغرُبُ في السَّماءْ
ما عادَ يسْألُ السؤالَ ، أوْ يُعِيدْ
قدْ سافرَ الأحبابْ
فمنْ تراهُ باكِياً صبيحةَ الغِيابْ ؟!
هكذا ينتهي الشاعر حسين علي محمد من قصيدته التي اعتمدت على الجملة الخبرية البسيطة في أغلب تشكيلاتها، راثياً صديقه عبد الله السيد شرف.
هكذا ينتهي بهذه الجملة الخبرية، كآخر خبر في السياق "قدْ سافرَ الأحباب" ثم يأتي فجأة بالسؤال: "فمنْ تراهُ باكِياً صبيحةَ الغِياب ؟!".
وفي قصيدة "انكسار" يبدو الشجن غالباً، فالصور والألفاظ كلها نتاج طبيعي لهذا الشجن؛ فالمدن تنكسر بقلبه، وأقلامه جفّت، وحتى تعبيراته تكسّرت خطوطها على الورق، ونراه يبصر نفسه كهفاً مهجوراً، يذكر موت الأم (وهو صغير في العاشرة) لدرجة أن صاحبته التي يتحدث إليها، تطلب إليه أن يمتنع عن الحديث عن الأموات:
أَكْرهُ قِصصَ الأمواتِ ،
فحدِّثني عنْ نفسي الآنْ !
...
...
ألْقَتْ فوقَ الرملِ النَّعْشَ
نظَرْتُ إليْها ..
كانتْ تمشي كالبحْرِ ..
وساقاها يصطفِقانْ !
وهكذا لو أمعنا النظر إلى أغلب القصائد لطالعنا هذا الشجن والحنين، لكن ذلك لا يعفينا من إمعان النظر إلى تلك القصيدة الفريدة الخريدة "دموع الحاسوب"، والتي صبّت في الحاسوب نوعاً فذا من الحياة التي جعلت الحاسوب نفسه حزيناً، ولم يكتف بحزن الحاسوب، وإنما في هذا الحوار الذي دار بينه وبين حاسوبه الحزين نرى الحاسوب يوجه للشاعر الأسئلة، التي يبوح فيها الأول بشجنه، ويلحظ شجن صاحبه:
هذا الحاسوبُ يُحدِّقُ فيَّ ..
يُحادِثُني صبحاً ومساءْ
لمَ لمْ تُبصرْ
دمعي المتخثِّرَ .. والأنْواءْ ؟
في أوراقِ الأمسْ ؟
لِمَ لَمْ تبصرْ طابعتي ..
وهْيَ تُنادِمُ نافذتي ..
بحروفِ الهمسْ ؟
لِمَ لَمْ تأكلْ طبقَكَ ،
لمْ تشربْ قهوتَكَ
ونايكَ مُرْتَهَنٌ للحزنِ
وفُقْدانِ الأُنسْ .. ؟
*
يا حاسوبي الساهرَ في أحنائي
والحالِمَ بالضَّوْءِ وبالسَّعْدْ
سافرَ أحبابي ..
تركوني في دائرةِ الوجْدْ
وانفضُّوا منْ حوْلي ..
تركوني في سِردابَ الفقْدْ
انفضُّوا .. فرداً .. فرداَ
وبقِيتُ أُعاني ..
من وطْأةِ أحزاني
في مَجْمَرةِ البُعْدْ !
*
هذا شايٌ باردْ
لنْ التفِتَ إليْهْ
لنْ أُبعِدَهُ عنْ طاوِلَتي
في هذا الصُّبْحْ
فالحاسوبُ يُراقِبُ بادِرتي
هلْ يُمليني شيئا من حكْمتِهِ
ويُداوي الجُرْحْ ؟
وهكذا نرى الشجن بوضوح، كما نلمح بعض أسبابه في معظم قصائد الديوان. وإذا كانت هذه الدراسة تنصب على ملمح فني ونفسي واحد من ملامح كثيرة لتجربة حسين علي محمد فإني أكتفي بهذه الأمثلة التي قدمتها من ديوانه الجديد "النائي ينفجر بوحاً".
ولعلي بذلك أكون قد قدّمت ملمحاً أصيلاً في قصائد هذا الديوان، وهو الشجن أو الحزن الممزوج بالحنين، مشيراً إلى أسبابه الاجتماعية والنفسية، حيث الغربة عن الوطن الأصلي مصر، والصاحبة النقية التقية والذرية، والغربة عن مراتع الصبا والشباب، والحنين إلى الأصدقاء الراحلين عن عالمنا أو الذين لم يزالوا يقيمون، ولكن بعيداً عن العين.:
وما وطنُ الإنسان إلا الذي له به سَـــكَنٌ يشتاقُهُ وحبيبُ
أدعو الله سبحانه أن يُذهب عن شاعرنا الحساس كل حَزن، وأن يملأ حياته سروراً ونشوةً، والله المستعان، وعليه قصد السبيل.
بدر بديــر


</i>